عبـدالرحمن بن عـوف رضي الله عنه

” …فَأَقْبَلـتِ الدُّنْيا عَلَيَّ حَتَّى رَأَيْتُـنِي لو رَفَعْتُ حَجَراً لَتَوَقُعْتُ أَنْ أَجِدَ تَحْتَـه ذَهَباً أَو فِضَّـة “
عبـدالرحمن بن عـوف رضي الله عنه.

كـان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له :”بارَكَ اللهُ لَكَ فيما أَعْطَيتَ، وبارك اللهُ لكَ فيما أَمْسَكت”
هو أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام . وأَحَدُ العَشَرَةِ المُبَشِّرين بالجنة .
وأَحَدُ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشورى يوم اختيار الخليفة بعد الفاروق …
وأحَدُ النَّفَرِ الذين كانوا يفتون في المدينة ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه حي قائِمٌ بَيْنَ ظهراني المسلمين .
كان اسمه في الجاهِلِيَّةِ عبدَ عَمْرٍو، فلما أَسْلَمَ دعاه الرسول الكريم عَبْدَ الرَّحمن .
ذلِكُم هو عبد الرحمن بن عَوْفٍ رَضِيَ الله عنه وأرضاه .
أسلم عبد الرحمن بنُ عَوْفٍ قبلَ أنْ يَدْخُلَ الرسول الكريم دار الأرقم.
وذلك بعد إسلام الصديق بيومين اثنين ولَقِي من العَذَاب في سبيلِ اللهِ ما لَقِيَهُ المسلمون الأولون فَصَبَرَ وَصَبَرُوا، وثَبَتَ وثَبتوا، وَصدَقَ وَصَدَقوا، وفَرَّ بدينه إلى الحَبَشَةِ كما فَرَّ كثير منهم بِدِينه .
ولما أذن للرسول وأصْحَابِه بالهِجْرَةِ إلى المدينة كان في طليعة المهاجرين الذين هاجروا الله ورسوله .
ولما أَخَذَ الرسول صلوات الله عليه يُؤَاخِي بين المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ آخَى بينه وبين سعدِ بنِ الرَّبيع الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ الله عنه، فقال سعد لأخيه عبد الرحمن بن عوف أي أخيَّ! أنا أَكْثَرُ أَهْلِ المدينةِ مالاً، وعِنْدِي بُسْتَانَانَ، ولي امرأتان؛ فانْظُرْ أَي بُسْتَانَي أَحَبُّ إليك حتى أخْرُجَ لك عنه، وأي امرأتي أَرْضَى عِنْدَك حتى حتى أطلقها لك .
فقال عبد الرحمن لأخيه الأنصاري: بارك الله لك في أَهْلِك ومالك . ولكن دلني على السُّوق … فدلَّه عليه فَجَعَلَ يَتَّجِرُ، وطَفِقَ يَشْتَرِي ويبيعُ، ويربَحُ ويَدْخِر .
وما هو إلا قليل حتى اجتمع لديه مَهْرُ امْرَأَة فَتَزَوَّجَ، وجاءَ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعليه طيب فقال له الرسولُ صَلواتُ الله عليه: (مَهْيَم ) يا عبد الرحمن (وهي كلمة يَمَانِيةٌ تفيدُ التَّعَجُب).
فقال: تَزَوَّجْتُ .
فقال: “وما أعطيتَ زَوجَتَكَ مِن المَهْرِ ؟!” .
قال: وزن نواة من ذهب
قال: “أولم، ولو بِشَاةٍ ، بارك الله لك في مالك …” .
قال عبد الرحمنِ: فَأَقْبَلَتِ الدُّنْيا عَلَيَّ حَتَّى رَأَيْتُنِي لو رَفَعْتُ حَجَراً لَتَوَقُعْتُ أَنْ أَجِدَ تَحْتَه ذَهَباً أَو فِضَّة .
وفي يوم بَدْرٍ جَاهَدَ عبد الرحمن بن عوف في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ فَأَرْدَى عَدُوَّ اللَّهِ عُمَيْرَ بنَ عثمانَ بنِ كَعْبِ التَّيْمِيُّ .
وفي يوم أحدٍ ثَبَتَ حين زُلْزِلَتِ الأقدامُ، وصَمَدَ حين فَرَّ المنهزمون، وخرج من المعركة وفيه بِضْعَةٌ وعشرون جرحاً، بعضُها عميق تَدْخُلُ فيه يدُ الرجل.

ولكنَّ جِهَادَ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ بِنَفْسِهِ أَصْبَحَ يُعَدُّ قليلًا إِذا قيس بِجَهَادِهِ بماله.
فَهَا هُوَ ذَا َرسولُ الله صلوات الله وسلامه عليه يريدُ أَنْ يُجَهْزَ سَرِيَّةٌ، فَوَقَفَ
في أَصْحَابِه وقال: “تَصَدَّقُوا فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثاً “.
فبادر عبد الرحمن بن عوف إلى مَنْزِلِهِ وعادَ مُسْرِعاً وقال: يا رسولَ اللهِ عِندي أَرْبَعَةُ آلافٍ :
ألفان مِنْها أَقْرَضْتُهُما رَبِّي وَأَلْفَانِ تَرَكْتُهُما لِعِيالي .
فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه :
“بارَكَ اللهُ لَكَ فيما أَعْطَيْتَ
وبارك الله لك فيما أَمْسَكت “.
ولما عَزَمَ الرَّسولُ عليه الصلاة والسلامُ على غَزْوَة تَبُوكَ ـ وهي آخِرُ غَزْوَةٍ غزاها في حياته – كانَتِ الحاجَةُ إلى المال لا تقل عن الحاجة إلى الرجال؛ فَجَيْشُ الروم وافِرُ العَدَدِ كثيرُ العُدَدِ، والعَامُ في المدينةِ عامُ جَدْبِ، والسَّفَرُ طويل، والمؤونَةُ قليلة، والرَّواحِلَ أَقَلُّ حَتَّى إِنَّ نَفَراً من المُؤْمِنِين جاؤوا إلى الرسول يسألونه في حُرْقَةٍ أَنْ يأخُذَهم معه فَرَدّهِمْ لأَنَّه لم يَجِدْ عِنْدَه ما يحملُهم عليه، فَتَوَلَّوْا وأَعْيُنُهم تفيضُ من الدَّمع حزناً أَلَّا يَجِدوا ما يُنْفِقُونَ، فَسُمُوا بالبكائين، وأطلق على الجيش اسم جيش العُسرة .
عند ذلك أمَرَ الرسولُ عليه الصلاة والسَّلامُ أَصْحَابَه بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ واحتساب ذلك عِنْدَ اللهِ، فَهَبَّ المسلمون يَستَجيبُونَ لِدَعْوَةِ النبي عليه الصلاة والسلام، وكان في طليعةِ المُتَصَدِّقينَ عبد الرحمن بن عَوْفٍ ؛ فقد تَصَدَّق بمائتي أوقِيَّةٍ من الذَّهَب، فقال عمر بن الخطاب للنبي عليه السلام: إني لا أرى عبد الرحمن إِلَّا مُرْتَكِباً إثماً؛ فما تَركَ لِأَهْلِهِ شيئاً .

فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: “هل تركت لأهْلِكَ شيئاً يا عبد الرحمن ؟ ” .
فقال: نعم … تَرَكْتُ لهم أَكْثَرَ مِمَّا أَنْفَقْتُ وأَطْيَبَ .
قال: “كم ؟!” .
قال: ما وعد الله ورسوله من الرِّزْقِ والخير والأجْرِ .
ومضي الجيش إلى تبوك. وهناك أكْرَمَ اللهُ عبد الرحمن بن عوف بما لم يُكرم به أحداً من المسلمين، فقد دَخلَ وقت الصلاة، ورسولُ الله صلوات الله عليه غائب فأمَّ المسلمين عبد الرحمن بن عوف، وما كادت تتم الركعة الأولى حتَّى لَحِقَ رسولُ اللهِ ﷺ بالمصلين، واقتدى بعبد الرحمن بن عوف وصلى خلفه .
فهل هنالك أكرَمُ كرامةً وأفضلُ فضلاً من أَن يَعْدُوَ أَحدٌ إماماً لِسَيِّدِ الخَلْقِ وإمام الانبياء محمدِ بنِ عبدِ الله ؟!!
**
ولما لحق الرسولُ عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى جَعلَ عبد الرحمن بن عوف يقوم بمصالِحَ أُمَّهَاتِ المؤمنين، فكان ينهض بحاجاتهنَّ فيخرج مَعَهُنَّ إذا خَرَجْنَ ، ويَحجُ مَعَهُنَّ إِذا حَجَجْنَ وَيَجْعَلُ على هوادِجِهِنَّ الطَّيَالِسَةَ، ويَنزِلُ بهنَّ في الأماكن التي تَسُرُّهُنَّ، وتلك منقبةٌ من نقائب عبد الرحمن بن عوف، وثِقَةٌ من أُمَّهاتِ المؤمنين به يَحقُّ له أَن يَعْتَرُّ بها ويَفْخَرَ.
ولَقَدْ بَلَغَ من بِرِّ عبدِ الرحمن بنِ عَوْفٍ بالمسلمين وأمهات المؤمنين أنه باغ
أرضاً له بأربعين ألف دينارٍ فَقَسَمَهَا كُلَّها في بني زُهْرَةَ وفقراء المسلمين والمهاجرين، وأزواج النبي عليه الصلاة والسلام فلما بَعث إلى أم المؤمنينَ عائِشَةَ رِضْوانُ اللهِ عليها بما خَصَّها من ذلك المال؛ قالت: من بَعَثَ هذا المال ؟ فقيل : عبد الرحمن بن عوف، فقالت: قال رسول الله ﷺ: “لا يَحْنُو عليكُنَّ من بَعْدِي إِلَّا الصَّابِرون ” .
بَقِيَتْ دَعْوَةُ الرسول عليه الصلاة والسلامُ لِعَبْدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ بأن يبارك الله له تُظلله ما امْتَدَّتْ به الحياةُ، حتى غدا أغنى الصحابة غِنى وأكثرهم ثراءً، فقد أخَذَتْ تِجارَتُه تنمو وتَزْدَادُ، وطَفِقَتْ عِيرُه تَتَرَدَّدُ ذاهِبَةً من المدينة أو آيبة إليها تحْمِلُ لأهْلِها البُرَّ ، والدقيق، والدُّهْنَ، والثَّيَابَ والآنِيَةَ، والطيب، وكُلَّ ما يَحْتاجون إليه .
وتَنْقُلُ ما يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِمْ مِمَّا يُنتجونَه .
وفي ذات يَوْمٍ قَدِمت عِيرُ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ على المدينة. وكانت
مُؤلَّفَةٌ من سَبْعِمائَةِ رَاحِلَةٍ… نعم سبعمائة راحلة …. وهي تَحْمِلُ على ظهورِهَا المِيرة، والمَتَاعَ، وكُلُّ ما يَحْتاجُ إليه الناس .
فما إن دَخَلَتِ المدينةَ حَتَّى رُجّتِ الأَرْضُ بها رَجاً، وسُمِعَ لها دَوِيُّ وَضَجَّة، فقالت عائِشَةُ رضوان الله عليها :
ما هذه الرَّجة؟ فقيل لها: عير لعبد الرحمن بن عوف. سَبْعمائة ناقة تحمل البر والدقيق والطعام .
فقالت عائِشَةُ رِضْوانُ الله عليها :
بَارَكَ اللهُ لَهُ فيما أعطاه في الدنيا، ولَثَوَابُ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ، فلقد سَمِعْتُ
رسول الله ﷺ يقول: “يَدْخُلُ عبدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الجَنَّةَ حَبْوا “

وقَبْلَ أَن تَبْرُكَ النُّوقُ، كان البشيرُ يَنْقُلُ إِلى عَبْدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ مَقَالَةَ أَمِّ المؤمنين ويُبَشِّره بالجنة .
فما إِنْ لامَسَتْ هذِهِ البِشَارَةَ سَمْعَه حَتَّى طَارَ مُسْرِعاً إِلَى عَائِشَةَ وقال: يا أمَّهُ ، أَنْتِ سَمِعْتِ ذلك من رسول الله ﷺ ؟!
فقالت: نعم .
فاستطار فرحاً وقال: لَيْنِ استطَعْتُ لأدْخُلَنَّهَا قائماً … أُشْهِدُكِ يا أُمَّهُ أَنَّ هذه العِير جميعها بِأحْمَالها وأقتابها وأخلاسها في سبيل الله. ومنذ ذلك اليَوْمِ الأبْلَجَ الأغرَّ الذي بُشِّرَ فيه عبد الرحمن بن عوف بدخول الجنَّة تَعَاظَمَ إقْبَالُه على إغداق المالِ وبَذْلِه .
فَجَعَلَ يُنْفِقُه بِكِلْتَا يَدَيْهِ يَميناً وشمالاً، وسِراً وإعلاناً حيث تَصَدَّقَ بأربعينَ
ألفَ دِرْهَم من الْفِضَّةِ، ثم أَتْبَعَها بأربعينَ أَلْفَ دينارٍ ذَهَباً .
ثم تَصَدَّقَ بمائتي أوقية من الذَّهَبِ .
ثم حَمَلَ مجاهدين في سَبِيلِ اللهِ على خمسمائة فرس، ثم حَمَلَ مجاهدين آخرين على ألف وخمسمائة راحِلَة .
ولما حَضَرَتْ عبد الرحمن بن عوف الوفاة أعتَقَ خلقاً كثيراً من مماليكه .
وأَوْصَى لِكُلِّ رَجُل بَقي من أَهْلِ بَدْر بأربعمائة دينار ذهباً، فأخذوها جميعاً، وكان عددهم مائة .
وأَوْصَى لِكُلِّ واحِدَةٍ من أمهات المؤمنين بِمَـال جـزيـل؛ حَتَّى إِن أُمَّ
المؤمنين عائشة – رضوان الله عليها – كثيراً ما كانت تدعو له فتقول :
“سقاه الله من ماء السَلْسَبِيل”.
ثم إنه بعد ذلك كله خَلَّفَ لِوَرثَتِه مالاً لا يكادُ يُحْصِيه العَدُّ … حيث تَرَكَ
ألف بـبعير، ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاةٍ، وكانت نساؤه أربعاً فَبَلَغَ رُبُعُ الثُّمُنِ الذِي خَصَّ كُلَّ واحِدَةٍ منهُنَّ ثمانين ألفا.
وترك من الذَّهَبِ والفِضَّة ما قُسِّمَ بين وَرَثَتِه بالفُؤُوسِ حَتَّى تأثرت أيدي
الرجال من تقطيعه كُلُّ ذلك بفضل دعوة رسول الله ﷺ بأن يُبَارَكَ له في ماله.
لكن ذلك المالَ كُلَّه لم يَفْتِنُ عبد الرحمن بن عَوْفٍ، ولم يُغَيِّرُهُ؛ فكان النَّاسُ إِذا رَأَوْه بين مَمَالِيكه لم يُفَرِّقوا بينه وبينهم .
وقد أتي ذات يوم بطعام – وهو صائم – فنظر إليه ثم قال :
لقد قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ – وهو خيرٌ مِنِّي – فما وَجَدْنَا لَه إِلَّا كفنا إِنْ غَطَّى رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاه، وإِنْ غَطَّى رِجْلَيْهِ بدا رَأْسُه .
ثمَّ بَسَطَ اللَّهُ لنا من الدُّنيا ما بَسَطَ .
وإنِّي لأخْشَى أَنْ يكونَ ثوابُنا قَدْ عُجِّل لَنا ثم جَعَل يبكي ويَنْشِجُ حَتَّى عاف الطعام.
طوبی لعبد الرحمن بن عوف وأَلْفُ غِبْطَة .
فقد بَشَّرَه بالجنَّة الصادِق المصدوق محمدُ بنُ عبد الله .
وحَمَلَ جنازته إلى مثواه الأخير خال رسول اللهِ سعد بن أبي وقاص .
وصلى عليه ذو النورين عثمانُ بنُ عَفَّان
وشيعه أمير المؤمنين المكرَّمُ الوَجْهِ علي بن أبي طالب، وهو يقول :
لقد أدركت صَفْوَها، وسَبَقْتَ زَيْفَها يَرْحَمُكَ الله.

صور من حياة الصحابة | عبد الرحمن رأفت الباشا

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة