قال رسـول الله ﷺ “أعلَمُ أمـتي بالحـلالِ وَالحَرَامِ مُـعادُ بنُ جَبَـل”

فتيـةٌ صغار آمن على يدهم أشرافٌ وسـادات!

لما أَشْرَقَتْ جزيرة العرب بنور الهُدَى والحقِّ، كان الغلامُ اليَثْرِبيُّ مُعَاذُ ابن جبل فتى يافعاً.
وكان يمتاز من أترابه بِحِدَّة الذَّكاء، وقُوَّةِ العارِضَةِ، ورَوْعَةِ البَيَانِ، وعلو الهمة.
وكان إلى ذلك، قسيماً وسيماً أكْحل العينِ جَعْدَ الشَّعْرِ بَراقَ الثنايا، يَمْلا عين مُجْتَلِيه ويملك عليه فؤادَه .
أسْلَمَ الفَتَى مُعاذ بنُ جَبَل على يَدَي الداعيةِ المَكِّيُّ مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ. وفي ليلةِ العَقَبَةِ امْتَدَّت يدُهُ الفَتِيَّةُ فَصافَحَتْ يَدَ النبي الكريم وبايعته فَقَدْ كانَ مُعاذ مَعَ الرَّهْطِ الاثْنَيْنِ والسَّبعين الذين فَصَدُوا مَكَّةَ، لِيَسْعَدوا بلقاء رسول الله، ويَشْرُفوا ببيعته، وليَخطُوا في سفر التاريخ أروعَ صَفْحة وأزهاها..
وما إن عادَ الفَتى من مَكَةَ إلى المدينَةِ حَتَّى كَوَّنَ هُو وَنَفَرٌ صَغِيرٌ مِن لِدَاتِهِ جماعةً لِكَسْرِ الأَوْثَانِ، وانْتِزاعِها من بُيُوتِ المُشرِكين في يَثْرِبَ في السرِّ أَو في العَلَنِ. وكان من أثرِ حَرَكَةِ هؤلاء الفتيانِ الصغار أنْ أَسْلَمَ رَجُلٌ كبير من رجالات يثرب، هو عمرو بن الجموح.
كان عمرُو بنُ الجَموح سَيِّداً من سادات بني سَلَمَةَ، وشــريفـاً من أشرافهم .
وكان قد اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ صَنَماً من نفيس الخَشَبِ كما كان يَصْنَعُ الأَشْرَافُ. وكان شَيْخُ بَنِي سَلَمَةَ يُعْنَى بِصَنَمِه هَذا أَشَدَّ العِنَايَةِ فَيُجلله بالحريرِ، ويُضَمِّخُه كُلَّ
صباح بالطيب.
فقام الفتيانُ الصَّغَارُ إلى صَنَمِه تَحْتَ جُنح الظلام وحَمَلوه مِنْ مَكَانِه. وخَرَجوا بهِ إِلى خَلْفِ مَنازِل بنِي سَلَمَةَ، وأَلْقَوْهُ في حُفْرَةٍ كَانَتْ تُجْمَعُ فيها الأقذار . .
فلما أَصْبَحَ الشَّيخُ افتقد صَنَمَه فلم يجده، وَبَحَثَ عَنْهُ فِي كُلِّ مكانٍ حَتَّى ألفاهُ مُكِبًا على وَجْهِهِ في الحُفْرَةِ غارقاً في الأقذار فقال: وَيْلَكُمْ من عَدا على إلهنا في هذه اللَّيْلِةِ ؟! .
ثم أخْرَجَهُ وغَسَله، وطَهُرَه، وطيبه، وأعاده إلى مكانه، وقال له: أي « مناة »، والله لو أني أَعْلَمُ من صَنَعَ بِكَ هذا الأخْزَيْتُه.
فلمَّا أَمْسَى الشيخُ ونامَ تسلَّل الفِتْيَةُ إلى صنمه وفعلوا به ما فعلوه في اللَّيْلَةِ
السَّابِقَةِ .
فما زالَ يَبْحَثُ عَنْهُ حَتَّى وَجَدَه في حُفْرَةٍ أَخْرَى من تلك الحُفَر. فأَخْرَجَهُ وغَسَلَه وطَهَّرَه وعَطَّرَه وَتَوَعَدَ من عَدَوْا عليه أَشَدَّ الوعيد فلما تكرر ذلك مِنْهُمْ اسْتَخْرِجَه من حَيْثُ الْقَوْه، وغَسَلَه ثُمَّ جاء بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَه عليه وقال يخاطِبُه: واللَّهِ إني ما أَعْلَمُ من يَفْعَلُ بِكَ هذا الذي تراه فإن كان فيك خير ـ يا مناة ـ فادْفَع عن نَفْسِك
وهذا السَّيْفُ مَعَك.
فلما أَمْسَى الشَّيْخُ ونام، عَذا الفتْيَةُ على الصنم، وأخذوا السَّيْفَ المُعَلَّقَ وربطوه بِعُنُقِ كَلْبِ مَيِّت وأَلْقَوْهما في حُفْرَةٍ مِن تِلكَ الحُفَرِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الشيخ جد في طلبِ صَنَمِهِ حَتى وَجَدَه مُلْقى بين الأقْدَارِ مقروناً بكلبٍ مَيِّتٍ مُنَكَساً على وجهه.
عند ذلك نظر إليه وقال :

تالله لو كُنتَ إلهاً لم تَكُنْ
أنتَ وكَلْبُ وَسُطَ بِئرٍ في قَرَن
ثم أسلم شيخُ بني سلمةَ وحَسُنَ إسلامه.

تلميـذ المدرسة المحمديّة وعلوم المعرفـة الغزيرة.

ولما قَدِمَ الرسولُ الكريم على المدينة مهاجراً، لَزِمَهُ الفَتَى معادُ بنُ جَبَلٍ مُلازَمَةَ الظِلَّ لِصَاحِبِهِ، فَأَخَذَ عنه القُرآنَ، وتَلَقَّى عليه شَرَائِعَ الإِسْلام، حَتَّى غَدا من أَقْرَأ الصَّحَابَةِ لِكِتاب اللَّهِ، وأَعْلَمِهِم بِشَرْعِه
حَدَّثَ يَزيدُ بنُ قُطَيْب قال: دَخَلْتُ مَسْجِدَ حِمْصَ فإذا أنا بِفَتَى جَعْدِ الشعر، قد اجتمعَ حَوْلَه النَّاسِ.
فإذا تكلَّم كأَنَّما يَخْرُجُ من فيه نورٌ ولُؤلؤ .
فقلت: من هذا؟! فقالوا: معاذ بن جبل .
وروى أبو مسلم الخَوْلانِيُّ قال: أَتيتُ مسجد دِمَشْقَ؛ فإذا حَلْقَةٌ فيها کهول من أَصْحَابِ محمد صلى الله عليه وسلم .
وإذا شاب فيهم أَكْحَلُ العَيْنِ بَرَّاق الثنايا، كلَّما اخْتَلَفُوا في شيءٍ ردُّوه إلى الفتى؛ فقلت لجليس لي : من هذا ؟!
فقال: معاذ بن جبل .
ولا غَرْو فمعاذُ رُبِّيَ في مَدْرَسَةِ الرسول صلواتُ الله وسلامه عليه مُنْذُ نعومة الأظفارِ وتَخَرَّج على يَدَيْهِ فنهل العلم من ينابيعه الغزيرة .
وأَخَذَ المَعْرِفَةَ مِنْ مَعِينِها الأصيل، فكان خيرَ تِلْمِيذٍ لِخَيْرِ مُعَلَّم .
وحَسْبُ معاذ شهادَةً أن يقول عنه الرسول صلوات الله عليه: “أعْلَمُ أُمَّتِي بالحلال والحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ”، وَحَسْبُه فضلًا عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَان أَحَدَ النَّفَر السَّتَّةِ الذين جَمَعُوا القرآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ الله وسلامه عليه .
ولذا كان أَصْحَابُ الرَّسُول إذا تَحدَّثوا وفيهم مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ نَظَرُوا إِلَيْهِ هَيْبَةً له وتعظيماً لِعِلْمِهِ .

وقد وَضَعَ الرَّسولُ الكريم وصاحِبَاهُ من بَعْدِه هذه الطاقة العلمية الفريدة في خِدْمَةِ الإسلام والمُسْلِمين .
فهذا هُوَ النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلامُ يَرَى جُموعَ قُرَيْشٍ تَدْخُل فِي دِينِ اللَّهِ أفواجاً، بعد فتح مكة.
ويَشْعُرُ بِحَاجَةِ المُسْلِمِين الجُدُدِ إِلَى مُعَلِّم كبيرٍ يُعَلِّمُهُمُ الإسلام، ويُفَقَهُهُم بِشَرائِعِهِ، فَيَعْهَدُ بِخِلَافَتِهِ على مَكَّةَ لِعَتَّابِ بن أُسَيْدٍ، وَيَسْتَبْقِي مَعَهُ مَعَاذَ ابن جَبَل لِيُعَلَّمَ النَّاسَ القرآن ويفقههم في دِينِ اللهِ.
ولَمَّا جَاءَتْ رُسُلُ ملوكِ اليَمَنِ إلى رسولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه، تُعْلِنُ إِسْلامَها وإسْلامَ مَن ورائها، وتَسْأَلُه أَنْ يَبْعَثَ مَعَها من يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهم انتَدَب لهذه المُهمَّةِ نَفَراً من الدُّعاة الهداةِ من أصْحَابِه وأَمَّرَ عليهِم مُعَاذَ بَنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وقَدْ خَرَجَ النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه يودِّعُ بَعْثَةَ الهُدَى والنور وطَفِقَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَةِ مُعَادٍ … ومُعاذ راكِبٌ ….
وأطالَ الرَّسُولُ الكريمُ مَشْيَه مَعَه؛ حَتَّى لكأنَّه كان يريدُ أَنْ يَتَمَلَّى من ثم أوصاه وقال له: “يا مُعاذ إِنَّكَ عَسَى أَلَّا تَلْقانِي بَعْدَ عَامِي هذا ولعلك أنْ تَمُرُ بِمَسْجدي وقَبْرِي …”.
فَبَكَى معاذ جَزَعاً لفِراقِ نبيه وحبيبه محمدٍ صَلَواتُ اللهِ عليه، وبَكَى مَعَهُ المسلمون .
وصَدَقت نُبُوءَةُ الرسول الكريم فما اكتَحَلَتْ عَيْنَا مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرُؤْيَةِ
النبي عليه الصلاة والسلامُ بَعْدَ تلكَ السَّاعَةِ .. فَقَدْ فَارقَ الرسول الكريم الحياةَ قَبْلَ أَنْ يَعودَ مُعَاذُ مِنَ اليَمَنِ. ولا رَيْبَ فِي أَنَّ مُعَاذاً بَكَى لَمَّا عادَ إلى يَثْرِب فألفاها قد أَقْفَرَتْ من أُنْسِ حبيبه رسول الله.
ولما ولي الخِلافَةَ عمر بن الخطابِ رَضِيَ الله عنه؛ أَرْسَلَ مُعاذاً إلى بني كلاب ليقسم فيهم أعطياتهم، ويُوَزِّعَ على فقرائهم صدقات أغنيائهم، فقام بما عُهِدَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ، وعاد إلى زَوْجِه بِحِلْسِهِ الذي خَرَجَ بِهِ يَلُفه على رَقَبَتِهِ،
فقالت له امرأته: أين ما جِئْتَ بِهِ مِمَّا يأتي به الولاةُ من هَدِيَّةٍ لأهليهم؟!
فقال: لَقَدْ كان مَعِي رَقِيبٌ يَقِظُ يُحْصِي عَلي، فقالت قد كُنتَ أميناً عِندَ رَسول الله، وأبي بكرٍ، ثم جاء عمرُ فَبَعَثَ مَعَكَ رَقِيباً يُحْصِي عليك ؟!!.
وأَشَاعَتْ ذلك في نِسْوَة عُمَرَ، واشْتَكَتْه لَهُنَّ .. فَبلغ ذلك عُمَرَ؛ فَدَعَا مُعاذاً وقال: أنا بَعَثْتُ مَعَكَ رقيباً يُحْصى عليك ..؟! .
فقال: لا يا أمير المؤمنين، ولكنني لم أجد شيئاً أَعْتَذِرُ بِه إليها إلا ذلِك.
فَضَحِكَ عمرُ رضوان الله عليه، وأعطاه شيئاً وقال له: أرضها به.

زائِـرٌ جَاءَ بَعْدَ غِياب وحبيـبٌ وَفَدَ على شوق!

في أيام الفاروق أرْسَلَ إليه واليه على الشَّامِ يزيدُ بنُ أَبي سُفْيَانَ يقول: يا أمير المؤمنين، إن أَهْلَ الشَّامِ قد كَثَرُوا وملؤوا المَدَائِنَ، وَاحْتَاجُوا إِلَى من يُعَلِّمُهُم القُرآنَ ويفقهُهُم بالدين فَأَعِنِّي يا أمير المُؤْمِنِين برجال يُعَلِّمُونَهُمْ، فَدَعا عمر النَّفَرَ الخمْسَة الذينَ جَمَعوا القرآنَ في زَمَنِ النبي عليه الصلاة والسلام .وهم : معاذ بنُ جَبَلٍ وعُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ وأبو أيوب الأنصاري وأُبيُّ بنُ کعب وأبو الدرداء وقال لهم : إِنَّ إِخْوَانَكُمْ من أَهل الشَّامِ قد استعانونِي بِمَنْ يُعَلِّمُهُم القُرْآنَ ويفقهُهُمْ الدِّينِ فأعينوني – رَحِمَكُم الله – بثلاثة منكم ؛ فَإِنْ أَحْبَيْتُم فَاقْتَرِعوا وإِلَّا انْتَدَبْتُ ثلاثة منكم .
فقالوا : ولم نَقْتَرِعُ ؟
فأبو أيوب شيخ كبيرٌ، وأُبَيٍّ رَجُلٌ مَرِيضٌ، وبقينا نحنُ الثلاثة، فقـال إِبْدَوُوا بِحِمْصَ فإذا رضيتُمْ حالَ أَهْلِها؛ فَخَلَّفُوا أَحَدَكُمْ فِيهَا وَلْيَخْرُجْ وَاحِدٌ مِنْكُمْ إِلَى دِمَشْقَ ، والآخِرُ إِلى فِلَسْطِينَ . فقام أصحاب رسول الله الثلاثةُ بما أمرهم به الفاروق في حمص …. ثم تركوا فيها عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ، وذَهَبَ أبو الدرداء إلى دِمَشْقَ وَمَضَى مُعاذ بن جبل إلى فلسطين.
وهناك أصيب معاذ بالوَبَاءِ فلما حَضَرَتْه الوفاةُ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وجَعَلَ يردِّدُ هذا النشيد : مرحباً بالموت مرحباً . زائِر جَاءَ بَعْدَ غِياب وحبيب وَفَدَ على شوق ثم جعل ينظر إلى السماء ويقول : اللهم إنك كنتَ تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لطول البقاء، ولا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لصيام الهواجر، ومكابَدَةِ السَّاعات، ومزَاحَمَة العلماء بالرُّكَبِ عند حلَقِ الذّكر … اللهم فَتَقَبل نَفسِي بِخَيْر ما تتقبل به نَفْساً مُؤْمِنَةٌ، ثم فاضت روحه الطَّاهِرَةُ بعيداً عن الأهل والعشير داعياً إلى الله، مهاجراً في سبيله.

صور من حياة الصحابة | عبد الرحمن رأفت الباشا

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة