مَضَتْ عِشْرُونَ سَنَةً عَلَى دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَعَمُهُ الْعَبَّاسُ لَا يَزَالُ عَلَى الشِّرْكِ. وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ ؛ جَلَسَ مَعَ زَوْجِهِ أُمِّ الْفَضْلِ يُعَدِّدَانِ شَمَائِلَ الرَّسُولِ الكريمَةَ ، وَيَذْكُرَانِ صِفَاتِهِ النَّبِيلَةَ ، وَيَسْتَعِيدَانِ قِصَّةً مَعْرِفَتِهِ لِلْمَالِ الَّذِي أَوْدَعَهُ مَعَهَا فِي نَجْوَةٍ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا فَمَا لَبِثَ أَنْ وَجَدَ نَفْسَهُ يَقُولُ لِزَوْجِهِ :
مَا بَالُنَا يَا ثُمَّ الْفَضْلِ مَا لَنَا لَا تُسْلِمُ ؟!
فَهَشَّتْ أُمُّ الْفَضْلِ لِكَلِمَتِهِ هَذِهِ وَبَشَّتْ ، وَكَأَنَّمَا كَانَتْ تَنْتَظِرُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَفِي سَاعَاتٍ مَعْدُودَاتٍ ؛ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَعَدَّ رَاحِلَتَيْنِ لَهُ وَلِزَوْجِهِ ، وَمَضَيَا مَعًا نَحْوَ الْمَدِينَةِ ؛ مُهَاجِرَيْنِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﷺ.
تَنَاهَىٰ إِلَىٰ زَعِيمٍ قُرَيْشٍ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ؛ أَنَّ هُنَاكَ امْرَأَةٌ ذَاتَ عَقْلٍ وَجَمَالٍ مِنْ بَنَاتِ مُلُوكِ رَبِيعَةَ تُدْعَى ( نَتَيْلَةَ ) .
فَسَعَى إِلَيْهَا وَخَطَبَهَا لِنَفْسِهِ ، وَبَنَى بِهَا فَوَلَدَتْ لَهُ طِفْلًا قَسِيمًا وَسِيما ؛ بَهِيَّ الطَّلْعَةِ فَفَرِحَ بِهِ أَشَدَّ الْفَرَح ، ثُمَّ دَعَاهُ الْعَبَّاسَ .
وَلَمْ يَمْضِ عَلَى فَرْحَةٍ شَيْخ مَكَّةَ غَيْرُ سَنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ ؛ حَتَّى أُتِيحَ لِبَيْتِهِ أَنْ تَغْمُرَهُ الْفَرْحَةُ مِنْ جَدِيدٍ فَقَدْ وُلِدَ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ؛ مَوْلُودٌ يُضَارِعُ الْعَبَّاسَ فِي إِشْرَاقِ الْوَجْهِ وَرَوْعَةِ الْمُجْتَلَى ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَقَدْ كَانَ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا ؛ لِيُشَارِكَهُ الْفَرْحَةَ بِهِ ، ثُمَّ دَعَاهُ مُحَمَّدًا .
نَشَأَ مُحَمَّدٌ وَالْعَبَّاسُ فِي كَنَفِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ إِلَّا أَنَّهُمَا أَخَوَانِ ؛ يَغْدُوَانِ مَعًا وَيَرُوحَانِ مَعًا ، وَيَأْكُلَانِ مِنْ جَفْنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَيَلْعَبَانِ فِي مَلْعَبٍ وَاحِدٍ . وَلَمَّا بَلَغَ الْعَبَّاسُ الْعَاشِرَةَ مِنْ عُمُرِهِ ؛ تُوُفِّيَ أَبُوهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ :
فَفُجِعَتْ بِهِ مَكَّةُ كُلُّهَا وَجَزَعَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا
لَكِنَّ الْغُلَامَيْنِ الْعَبَّاسَ وَمُحَمَّدًا ؛ كَانَا أَشَدَّ النَّاسِ جَزَعًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا ذَاقَ طَعْمَ اليتم بِفَقْدِهِ .
وَلَمَّا قُسْمَتِ الْمَنَاصِبُ الْمَنُوطَةُ بِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى أَبْنَائِهِ ؛ جَعَلَتْ قُرَيْشُ لِابْنِهِ الْعَبَّاسِ سِقَايَةَ الْحَاجّ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ صِغَرِ سِنِّهِ ؛ وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يتوسمون فِيهِ مِنَ النَّجَابَةِ ، وَمَا يَتَوَقعُونَهُ لَهُ مِنَ السَّيَادَةِ وَطَفِقَ الْفَتَيَانِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَنْمُوَانِ ؛
فَإِذَا هُمَا شَابَّانِ مَوْفُورَا الشَّبَابِ ، وَإِذَا فَوَارِقُ السِّنِّ بَيْنَهُمَا تَزُولُ … حَتَّى إِنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهِمَا كَانَ يَحْسَبُهُمَا تَوْأَمَيْنِ … وَلَقَدْ سَأَلَ أَحَدُهُمُ الْعَبَّاسَ ذَاتَ مَرَّةٍ ؛ بَعْدَ إِسْلَامِهِ : أَأَنْتَ أَكْبَرُ ؟ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ : هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي ؛ وَلَكِنَّ سِنِّي تَزِيدُ عَلَى سِنِّهِ سَنَتَيْنِ . وَعَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ مِنَ الْعُمُرِ ؛ أَكْرَمَ اللَّهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّه بِالرَّسَالَةِ ، وَبَعَثَهُ بِدِينِ الْهُدَى وَالْحَقِّ ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ … وَمَنْ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَبَّاسِ ؟!
فَهْوَ تِرْبُهُ الْأَثِيرُ ، وَصَدِيقُهُ الْحَمِيمُ ، وَعَمُهُ أَخُو أَبِيهِ .
لَكِنَّ الْعَبَّاسَ الَّذِي وَرِثَ عَنْ أَبِيهِ السَّيَادَةَ فِي قَوْمِهِ ، وَأُنِيطَتْ بِهِ سِقَايَةُ الْحَاجِّ – وَهُوَ مَنْصِبٌ يَتَنَافَسُ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ – كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَتَنَكَّرَ لِقَوْمِهِ ، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَسْتَبْقِيَ زَعَامَتَهُ فِيهِمْ … فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِدَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ ظَلَّ يُنْزِلُ مُحَمَّدًا الله مِنْ نَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الْأَخِ مِنْ أَخِيهِ ، وَالْحَمِيمِ مِنْ حَمِيمِهِ ؛ فَيَدْفَعُ عَنْهُ الْأَذَى ، وَيَحْتَرِسُ لَهُ أَشَدَّ الْاِحْتِرَاسِ . مِنْ ذَلِكَ ؛ أَنَّهُ لَمَّا الْتَقَى الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ وُفُودِ الْأَنْصَارِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ ؛ كَانَ مَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ ، وَهُوَ مَا يَزَالُ عَلَى الشِّرْكِ . وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ ؛ فَقَالَ :
يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ ؛ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مَثلِ رَأْينَا فِيهِ … فَهُوَ فِي عِزَّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إِلَّا أَنْ يَنْحَازَ إِلَيْكُمْ وَيَلْحَقَ بِكُمْ … فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ ؛ فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ … وَإِن كُنتُم تَرَوْنَ أَنكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ؛ فَمِنَ الْآنَ فَدَعُوهُ ؛ فَإِنَّهُ فِي عِزّ وَمَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ . فَقَالَ الْأَنْصَارُ :
قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ يَا أَبَا الْفَضْلِ. ثُمَّ الْتَفَتُوا إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالُوا
يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ خُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مِنَ الْبَيْعَةِ مَا أَحْبَبْتَ
وَلَمَّا تَمَّتِ الْبَيْعَةُ ؛ عَادَ الرَّسُولُ على الله مَعَ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ إِلَى مَكَّةَ تَحْتَ جنح الظلام .
وَلَمَّا عَزَمَتْ قُرَيْضة عَلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ ؛ كَرِهَ الْعَبَّاسُ أَنْ يُشَارِكَهَا قِتَالَ ابْنِ اخيه
لَكِنَّ زَعَامَتَهُ فِي قَوْمِهِ حَمَلَتْهُ عَلَى مُشَارَكَتِهَا فِي ذَلِكَ حَمْلا ، وَجَعَلَتْهُ
أَحَدَ الرِّجَالِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ تَكَفَّلُوا بِإِطْعَامِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ خِلَالَ الْغَزْوَةِ .
لكنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْسَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ نُصْرَتَهُ لَهُ وَمُؤَازَرَتَهُ إِيَّاهُ ؛ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ :
( مَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشَامٍ فَلَا يَقْتُلُهُ ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ فَلَا يَقْتُلُهُ ؛ فَإِنَّهُمَا قَدْ خَرَجًا مُكْرَهَيْنِ ) .
وَلَمَّا كَتَبَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ النَّصْرَ فِي بَدْرٍ ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قُتِلَ ،
وَأُسِرَ مِنْهُمْ مَنْ أُسِرَ … كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى الَّذِينَ وَقَعُوا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ …
وَكَانَ الَّذِي أَسَرَهُ؛ رَجُلًا ضَئِيلَ الْجِسْمِ ضَعِيفَ الْبِنْيَةِ ؛ يُكْنَى بِأَبِي الْيُسْرِ أَمَّا الْعَبَّاسُ فَكَانَ ضَخمًا طِوَالًا كَالْجَمَلِ الْأَوْرَقِ وَلَمَّا عَادَ الْعَبَّاسُ إِلَى مَكَّةَ عَجِبَ أَوْلَادُهُ مِنْ أَمْرِ أَسْرِهِ ؛ فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ : أَبَانَا ؛ كَيْف أَسَرَكَ أَبُو الْيُسْرِ، وَأَنْتَ لَوْ شِئْتَ لَجَعَلْتَهُ فِي كُمّ قَمِيصِكَ ؟
فَقَالَ : وَاللَّهِ – يَا بَنِيَّ ؛ إِنَّهُ حِينَ وَثَبَ عَلَيَّ ؛ كَانَ فِي عَيْنِي أَعْظَمَ مِنَ الْفِيلِ . وَلَمَّا قَبَضَ عَلَى ذِرَاعِي بِكَفِّهِ الصَّغِيرَةِ الْمَعْرُوقَةِ ظَنَنْتَ أَنَّ الدَّمَ يُوشِكُ أَنْ يَقْطُرَ مِنْ أَظَافِرِي …
ثُمَّ إِنَّهُ لَوَى يَدِي ؛ فَجَعَلَهَا خَلْفَ ظَهْرِي …
ثُمَّ أَخَذَ الْأُخْرَى فَضَمَّهَا إِلَىٰ أُخْتِهَا ؛ وَشَدَّهُمَا بِحَبْلٍ …
وَأَنَا مُسْتَخْرٍ لَا أَمْنَعُ نَفْسِي مِنْهُ وَلَا أُقَاوِمُهُ .
بَات الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَيْلَتَهُ الْأُولَى فِي مُعْسكُرِ الْأَسْرَى قَرِيبًا مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَجَعَلَ يَئِنُ أَنِينًا عَمِيقا مُتَوَاصِلًا فَلَمَّا بَلَغَ أَنِينُهُ مَسَامِعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرِقَ ؛ وَبَدَتْ عَلَى وَجْهِهِ مَلَامِحُ الْحُزْنِ ؛ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ وَمَا يُحْزِنُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟! جُعِلْنَا فِدَاكَ .
فَقَالَ : ( أَنِينُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ) .
عِنْدَئِذٍ ؛ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ … فَوَجَدَ أَنَّ وِثَاقَهُ قَدْ شُدَّ عَلَيْهِ شَدًّا قاسيًا ؛ فَأَرْحَاهُ لَهُ ؛ فَسَكَتَ
فَأَثَارَ سُكُوتُهُ مَخَاوِفَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ :
(مَا لِي لَا أَسْمَعُ أَنِينَ الْعَبَّاسِ ؟! ) .
فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا أَرْخَيْتُ وِثَاقَهُ .
فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : ( فَافْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأَسْرَى كُلِّهِمْ) .
ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ يَأْخُذُ مِنَ الْأَسْرَى الْفِدَاءَ ؛ فَلَمَّا
أُتِيَ لَهُ بِعَمِّهِ ؛ جَعَلَ الْعَبَّاسُ يَعْتَذِرُ لَهُ بِأَنَّهُ لَا مَالَ عِنْدَهُ … فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
(فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي وَضَعْتَهُ عِنْدَ زَوْجَتِكَ أُمِّ الْفَضْلِ، وَقُلْتَ لَهَا إِنْ أُصِبْتُ فَلِلْفَضْلِ كَذَا ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ كَذَا ، وَلِعُبَيْدِ اللَّهِ كَذَا ؟! ) …
فبهت الْعَبَّاسُ ؛ لأن ذلِكَ أَمر لَمْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَبَدًا إِلَّا الله . وَفِي يَوْمٍ أُحَدٍ … أَبَى الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لِقِتَالِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، بَلْ إِنَّهُ أَرْسَلَ يُخْبِرُهُ بِعَزْمِ قُرَيْشٍ عَلَى الْخُرُوج إِلَيْهِ ..
فَكَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي اسْتِعْدَادِ النَّبِيِّ لا وَأَصْحَابِهِ ، وَتَأَهُبِهِمْ لِلقَاءِ مَضَتْ عِشْرُونَ سَنَةً عَلَى دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَعَمُهُ الْعَبَّاسُ لَا يَزَالُ عَلَى الشِّرْكِ . وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ ؛ جَلَسَ الْعَبَّاسُ مَعَ زَوْجِهِ أُمِّ الْفَضْلِ يُعَدِّدَانِ شَمَائِلَ الرَّسُولِ
الكريمَةَ ، وَيَذْكُرَانِ صِفَاتِهِ النَّبِيلَةَ ، وَيَسْتَعِيدَانِ قِصَّةً مَعْرِفَتِهِ لِلْمَالِ الَّذِي أَوْدَعَهُ مَعَهَا فِي نَجْوَةٍ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا …
فَمَا لَبِثَ أَنْ وَجَدَ نَفْسَهُ يَقُولُ لِزَوْجِهِ : مَا بَالُنَا يَا ثُمَّ الْفَضْلِ … مَا لَنَا لَا تُسْلِمُ ؟!
فَهَشَّتْ أُمُّ الْفَضْلِ لِكَلِمَتِهِ هَذِهِ وَبَشَّتْ ، وَكَأَنَّمَا كَانَتْ تَنْتَظِرُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ …. وَفِي سَاعَاتٍ مَعْدُودَاتٍ ؛ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَعَدَّ رَاحِلَتَيْنِ لَهُ وَلِزَوْجِهِ ، وَمَضَيَا مَعًا نَحْوَ الْمَدِينَةِ ؛ مُهَاجِرَيْنِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﷺ
وَلَمَّا بَلَغَ الْعَبَّاسُ وَزَوْجُهُ الْجَحْفَةَ فُوجِئا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُودُ جَيْشًا جَرَّارًا لِفَتْحِ مَكَّةَ …
وفوجئ بِهِمَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْضًا فَقَدْ كَانَ لِقَاء عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ .
وَبَادَرَ الرَّسُولُ الله عَمَّهُ قَائِلًا : ( مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ يَا عَمٌ ) ؟
فَقَالَ : الرَّغْبَةُ فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
وَأَعْلَنَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ كَلِمَةَ الْحَقِّ ، وَدَخَلَا فِي دِينِ اللَّهِ … فَمَا إِنْ سَمِعَ الرَّسُولُ الله عَمَّهُ يَشْهَدُ : أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللَّهِ ؛ حَتَّى فَاضَتْ دُمُوعُ الْفَرَحِ مِنْ عَيْنَيْهِ ، وَقَالَ :
( هِجْرَتُكَ يَا عَمِّ آخِرُ هِجْرَةٍ ، كَمَا أَنَّ نُبُوَّتِي آخِرُ نُبُوَّةٍ ) . مُنْذُ تِلْكَ اللَّحْظَةِ عَزَمَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَجْرِ ؛ فَوَضَعَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ ﷺ.
فَفِي يَوْمِ حُنَيْنٍ ؛ لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَتَخَلَّوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَقَفَ إِلَى جَانِبِهِ وَقْفَةَ الْأَسَدِ الْهَصُورِ
فَامْتَشَقَ السَّيْفَ بيَمِينِه وَأَمْسَكَ بِزِمَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَسَارِهِ ،
وَظَلَّ يُنَافِعُ عَنْهُ مَعَ نَفَرٍ قَلِيلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ؛ حَتَّى كَتَبَ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمُ النَّصْرَ. وَيَوْمَ عَزَمَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى إِنْفَاذِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ ؛ دَعَا أَصْحَابَهُ لِلْعَطَاءِ وَالْبَذْلِ ؛ فَجَاءَهُ الْعَبَّاسُ ، وَصَبَّ الْمَالَ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبا .
وَلَمَّا لَحِقَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى ، وَآلَ الْأَمْرُ إِلَى خَلِيفَتَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؛ ظَلَّ الْعَبَّاسُ لَهُمَا نِعْمَ الْمُشِيرُ وَالنَّصِيرُ .
وَظَلَّا هُمَا يُجِلَّانِهِ وَيُعَلِّمَانِهِ إِقْرَارًا بِفَضْلِهِ ، وَوَفَاء لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ .
مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ اشْتَدَّ الْقَحْطُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ فَجَفَّ الضَّرْعُ وَيَبِسَ الزَّرْعُ ، وَغَدَتِ السَّمَاءُ وَكَأَنَّهَا بُنِيَتْ مِنْ نَحَاسٍ ..
خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالْمُسْلِمِينَ ؛ فَاسْتَسْقَى لَهُمْ فَلَمْ يُسْقَوْا وَكَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّاتٍ ؛ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لَهُمْ …
فَقَالَ لِجَمْعِ مِنْ أَصْحَابِهِ :
لأَسْتَسْقِينَ غَدًا بِمَنْ يَسْقِينَا اللَّهُ بِهِ إِذَا شَاءَ . فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ ؛ مَضَى إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَقَدْ غَدَا شَيْخًا
كَبِيرًا ؛ فَقَالَ لَهُ :
يَا عَمِّ اخْرُجْ مَعَنَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا عَلَى يَدَيْكَ. خَرَجَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ؛ خَاشِعًا خَاضِعًا
مُحْيِتًا لِلَّهِ وَكَانَ أَمَامَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِب ، وَعَنْ يَمِينِهِ الْحَسَنُ ، وَعَنْ شمَالِهِ الْحُسَيْنُ ، وَمِنْ خَلْفِهِ جُمُوعُ الْمُسْلِمِينَ … فَصَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ عُمَرُ بِيَدَي عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُمُوعُهُ تُبَل
لِحْيَتَهُ ، وَقَالَ : ادْعُ لَنَا يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ الله فَرَفَعَ الْعَبَّاسُ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ .
وَأَخَذَ يَجْأَرُ إِلَى اللَّهِ بِصَالِحِ الدُّعَاءِ ، وَخَالِصِ الرَّجَاءِ … وَالنَّاسُ يُؤَمِّنُونَ مِنْ وَرَائِهِ ضَارِعِينَ مُنْتَجِبِينَ ..
فَمَا كَادَ يُتِمُّ دُعَاءَهُ … حَتَّى تَلَبَّدَتِ الْأَجْوَاءُ بِالْغُيُومِ الدُّكْنِ ، وَأَرْسَلَتِ السَّمَاءُ غَيْثًا عَلَى الْأَرْضِ مِدْرَارًا .
وَأَزَالَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ الْغُمَّةَ ، وَكَشَفَ عَنْهُمُ الْكَرْبَ …. وَسُقِيَ النَّاسُ عَلَى يَدَيْ سَاقِي الْحَجِيجِ؛ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ
كتاب | صور من حياة الصحابة