سلمان الفارسي رضي الله عنه

( سَلْمانُ مِنَّا أَهلَ البَيْتِ )
[محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم]

قِصَّتُنا هذه هي قِصَّةُ السَّاعي وراء الحقيقةِ ، الباحث عن اللهِ .
قِصَّةُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيٌّ رَضِيَ ا اللهُ عَنْهُ وأرضاه .
فَلْتَتْرُكْ لِسَلْمَانَ نَفْسِهِ المجالَ لِيَرْوِي لنا أَحْدَاثَ قِصَّتِه .
فَشُعُوره بها أَعْمَقُ ، وروايته لها أدَقُ وَأَصْدَقُ .
قال سَلْمانُ :
كنتُ فتى فارسياً من أَهْلِ أَصْبهَانَ ، من قريةٍ يقال لها : ( جَيَّانَ ) .
وكان أبي دُهْقَانَ القرية، وَأَغْنَى أَهْلِهَا غِنى وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً .
وكنتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِليه منذ وُلِدْتُ ، ثم ما زالَ حُبُّهُ لِي يَشْتَدُ وَيَزْدَادُ على الأيام حَتَّى حَبسني في البَيتِ خَشْيَةٌ عَلَيَّ كما تُحْبَسُ الفتيات .
وقد اجْتَهَدْتُ في المجوسية ، حتى غَدَوْتُ قَيمَ النَّارِ التي كُنَّا نَعْبُدُها ، وأنيط بي أَمْرُ إِضْرَامِها حَتَّى لا تَخْبُوَساعَةٌ في ليل أو نهارٍ .
وكان لأبي ضَيْعَةً عَظِيمَةٌ تَدِرُ علينا غَلَّةً كبيرةً ، وكان أبي يقومُ عَلَيْهَا ، وَيَجْنِي عَلَّتَهَا .
وفي ذاتِ مَرَّةٍ شَغَلَهُ عن الذهاب إلى القرية شاغل ، فقال : يا بُنَيَّ إني قد شُغِلْتُ عن الضيْعَةِ بِما تَرَى ، فَاذْهَبْ إِلَيْهَا وَتَوَلَّ اليومَ عَنِّي شَأْنها ، فَخَرَجْتُ أقْصُدُ ضَيْعَتَنا . وفيما أنا في بعض الطريقِ مَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ من النَّصَارَى فَسَمِعْتُ أصواتهم فيها وهم يُصَلُّونَ فَلفَتَ ذلك انْتِبَاهِي .

لم أكُنْ أعْرِفُ شيئاً من أَمْرِ النَّصَارَى أو أمر غيرهم من أصحاب الأديان لِطُولٍ مَا حَجَبَني أبي عنِ النَّاسِ في بيتنا ، فلما سمعتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عليهم لأَنْظُرَ ما يَصْنَعُونَ .
فلمَّا تَأَمَّلْتُهُمْ أَعْجَبَتْني صَلَاتُهُمْ وَرَغِبْتُ في دينهم وقلتُ : والله هذا خَيْرٌ من الذي نحنُ عليه ، فوالله ما تركتهم حَتَّى غَرَبَتِ
الشَّمْسُ ، ولم أَذْهَبْ إِلى ضيعة أبي . ثم إني سألتهم : أَينَ أَصْلُ هذا الدِّين ؟
قالوا : في بلاد الشام
ولما أَقْبَلَ اللَّيْلُ عُدْتُ إلى بيتنا فتلقاني أبي يسألني عَمَّا صَنَعْتُ ، فقلتُ : يا أَبَتِ إِنِّي مَرَرْتُ بِأَنَاسِ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لهم فأعجبني ما رأيتُ من دينهم ، وما زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غربتِ الشَّمْسُ ، فَذَعِرَ أبي مما صَنَعْتُ وقال :
أي بُنَيَّ ليس في ذلك الدينِ خَيْرٌ … دينك ودين آبائِك خير منه
قلت : كلا – والله – إِنَّ دينهم لخير من ديننا . فخاف أبي مما أقولُ ، وخَشِيَ أَنْ أَرتَدَّ عَنْ دِينِي ، وَحَبَسَنِي بالبيتِ ، وَوَضَعَ قَيْداً في رِجْلَيَّ .

ولما أتيحت لي الْفُرْضَةُ بَعَثْتُ إِلَى النَّصَارَى أَقولُ لهم : إِذا قَدِمَ عليكم رَكْبٌ يريدُ الذَّهَابَ إِلَى بِلادِ الشَّامِ فَأَعْلِمُونِي .
فما هُوَ إِلَّا قليلٌ حَتَّى قَدِمَ عليهم رَكْبٌ مُتَّجِهُ إِلَى الشَّامِ ، فأخبروني به فاختلتُ على قَيْدِي حَتَّى حَلَلْته ، وخرجتُ معهم مُتَخَفِّياً حتى بَلَغْنَا بلاد الشام .
فلما نَزَلْنَا فيها ، قلت : مَنْ أَفْضَلُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ ؟ قالوا : الأسقف راعي الكنيسة ، فجِئْتُه فقلت :
إنِّي قد رَغِبْتُ في النَّصْرَانِيَّةِ ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَلْزَمَكَ وَأَخْدِمَكَ وَأَتَعَلَّمَ مِنْكَ وَأَصَلِّي مَعَك .
فقال : ادْخُلُ ، فَدَخَلْتُ عِنْدَهُ وَجَعَلْتُ أَخْدِمُه .
ثم ما لَبِثْتُ أنْ عَرَفْتُ أنَّ الرِّجلَ رَجُلُ سُوءٍ ؛ فقد كان يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ بِالصَّدَقَةِ
وَيُرَغْبُهُمْ بِثَوَابِهَا ، فإذا أَعْطَوْه منها شيئاً لِيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، اكْتَتَرَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ
يُعْطِ الْفُقَرَاء والمساكين منه شيئاً ؛ حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلال مِن الذَّهَبِ .
فَأَبْغَضْتُهُ بُعْضاً شديداً لِمَا رَأَيْتُهُ مِنْهُ ، ثم ما لَبِثَ أَنْ ماتَ فَاجْتَمَعَتِ النَّصَارَى لِدَفْنِهِ ، فقلتُ لهم :
إِن صَاحِبَكُمْ كَانَ رَجُلَ سُوءٍ يَأْمُرُكُمْ بالصَّدَقَة وَيُرْغُبكم فيها ، فإذا قالوا : نَعَمْ دُلَّنا عليه ، فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَباً وَفِضَّةٌ ، فلما رأوها قالوا : والله لا نَدْقُتُهُ ، ثم صلبوه ورَجَموه بالحِجَارَةِ .
ثم إِنَّه لم يَمْضِ غَيْرُ قليل حتَّى نَصَّبوا رجلا آخَرَ مَكَانَهُ ، فَلَزِمْتُه ، فما رأيت رجلا أزهدَ منه في الدُّنيا ، ولا أَرْغَبَ منه في الآخرة ، ولا أدأب منه على العبادة ليلاً ونهاراً ، فأحببته حُبًّا جَمَّا وأقمتُ معه زماناً ، فلما حَضَرَتْهُ الوفاة
قلت له :
يا فلان إلى من توصي بي ومَعَ مَن تَنْصَحُنِي أَنْ أَكُونَ مِنْ بَعْدِكَ ؟
فقال : أي بني ، لا أعلم أحداً .
فلانٌ لَمْ يُحَرِّفْ وَلَمْ يُبَدِّلْ فَالْحَقِّ به فلما مات صاحبي ما كنتُ عليه إلا رجلاً بالموصل هو لحِقْتُ بالرجل في المَوْصِل ، فلما قَدِمْتُ عليه فقَصَصْتُ عليه خبري وقلت له :
إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أَنَّكَ مُسْتَمْسِكُ بما كان عليه من الحَقِّ .
فقال : أقم عندي .
فاقمتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلى خَيْرٍ حال .
ثم إنه لم يلبث أن ماتَ ، فلما حَضَرَتْهُ الْوَفاةُ قلتُ له :
يا فلانُ لَقَدْ جَاءَكَ من أَمْرِ اللهِ ما تَرَى وأَنتَ تعلمُ مِنْ أَمْرِي مَا تَعْلَمُ ، فإلى من توصي بي ؟ ومن تأمرني باللحاق به ؟
فقال : أَيْ بُنَيَّ ، واللهِ ما أَعْلَمُ أَنَّ رجلاً على مِثْلِ ما كُنَّا عليه إلا رجلاً بِنَصيبين وهو فلان فالحق به .
فلما غُيِّبَ الرّجُلُ في لَحْدِهِ لحقتُ بصاحِبِ نصيبينَ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي ومَا أمرني به صاحبي ، فقال لي :
أَقِمْ عِنْدَنَا . فأقمتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ على ما كان عليه صاحباه من الخَيْرِ ، فوالله ما لَبِثَ أَنْ نَزَلَ به الموتُ ، فلما حَضَرَتْهُ الْوَفاةُ قلت له :
لقد عَرَفْتَ من أَمْرِي مَا عَرَفْتَ فإلى من توصي بي ؟:
فقال : أَيْ بُنَيَّ واللهِ إِنِّي ما أَعْلَمُ أحداً بقي على أَمْرِنَا إِلَّا رجلًا بِعَمُورِيةً هو
فلان، فالحق به ، فَلَحِقْتُ بِهِ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي ، فقال :
أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ . عند رجل كان ـ والله ـ على هَدْي أَصْحَابِهِ ، وقَدِ اكْتَسَبْتُ وَأَنَا عِنْدَهُ بَقَرَاتٍ وَعُنَيْمَةً . ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ مَا نَزَلَ بِأَصْحَابِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةً قلت له :
إِنَّكَ تَعْلَمُ مِنْ أَمْرِي مَا تَعْلَمُ فَإِلَى مَن توصي بي ؟ وما تَأْمُرُنِي أَن أَفْعَلَ ؟ فقال : يا بني – والله – ما أَعْلَمُ أنَّ هناك أحداً من الناس بقي على ظهر مستمسكاً بما كنا عليه . ولكنه قد أَظَلَّ. زمانُ يَخْرُجُ فِيهِ بِأَرْضِ
الْعَرَبِ نَبِيُّ يُبْعَثُ .
بدين إبراهيم ثم يهاجر من أرضِهِ إِلى أَرض ذَاتِ نَخْل بين حرتين .
وله علامات لا تَخْفَى ، فهو يأكل الهَدِيَّةَ ، ولا يأكلُ الصَّدَقَةَ ، وبين كَتِفَيْهِ . خاتم النُّبُوَّةِ ، فَإِنِ اسْتَطَعْت أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ البلادِ فَافْعَلْ .
ثم وافاه الأجَلُ فَمَكَلْتُ بَعْدَهُ بعمورية زمناً إِلَى أَنْ مَرَّ بها نَفَرٌ مِن تُجَارِ العرب من قبيلة ( كَلْبِ )
فقلتُ لهم : إِنْ حَمَلْتُمُوني معكم إلى أرضِ الْعَرَبِ أَعْطَيْتُكُمْ بَقَرَانِي هَذه وَغُنيمتي ، فقالوا :
نَعَمْ نَحْمِلُك ، فأعطيتهم إيَّاها وحملوني مَعَهُمْ حَتَّى إِذا بَلَغَنَا وادي الْقُرَى غَدَروا بي وباعوني لِرَجُلٍ من اليهودِ ، فَالْتَحَفْتُ بِخِدْمَتِه ، ثم ما لَبِثَ ان زارَهُ ابنُ عَمَّ له من بني قُرَيْظَةَ فاشتراني . ، ونقلني مَعَهُ إِلَى يَثْرِبَ فرأيتُ منه ، النَّخْل الذي ذكره لي صاحبي بِعَمُورِيَّةً ، وَعَرَفْتُ المدينةُ بالوَصْفِ الذي : به ، فَأَقَمْتُ بها معه . نعتها وكان النبي حينَئِذٍ يدعو قَوْمَهُ في مَكَّةَ، لكني لم أَسْمَعْ له بِذِكْرٍ لانشغالي بما يوجِبُهُ عَلَيَّ الرّق .

ثم ما لَبِثَ أن هاجر الرسولُ إلى يَثْرِبَ ، فوالله إِنِّي لَفِي رَأْسِ نَحْلَةٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فيها بَعْضَ العمل ، وسيدي جالس تحتها إذ أقبل عليه ابنُ عَمَّ لَهُ وقال له :
قاتل الله بني « قَيْلَةَ ، ، واللهِ إِنَّهم الآن لَمجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ ، على رَجُلٍ قدم عليهم اليومَ من مَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبي .

فما إن سَمِعْتُ مَقَالَتَهُ حَتَّى مَسَّنِي مَا يُشْبِهُ الحُمَّى وَاضْطَرَبتُ اضْطِراباً شديداً حتى خَشِيتُ أَنْ أَسْقُط على سَيِّدِي ، وبادرت إلى النزول عن النخلة ، وجعلت أقولُ للرَّجُل :
ماذا تقول ؟! أعِدْ عَلَيَّ الخبر … فغضِبَ سَيِّدِي ولَكَمَني لَكُمةٌ شديدة ، وقال لي :
ما لك ولهذا ؟! عُدْ إلى ما كُنتَ فيه من عَمَلِك .

ولما كان المساءُ أَخَذْتُ شيئاً من تَمْرٍ كنتُ جَمَعْتُهُ ، وَتَوَجَّهْتُ بِهِ إِلَى حَيْثُ ينزِلُ الرسول ، فدخلت عليه ، وقلت :
إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لك غرباء ذوو حاجَةٍ ، وهذا شَيْءٌ كان عِندِي ! لِلصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقُّ بِهِ مِن غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ قَرَّبْتُهُ إِليه ، فقال لأصحابه :
( كلوا … ) وأَمْسَكَ يَدَهُ فلم يَأْكُلْ .
فقلتُ في نَفْسِي : هذه واحدة .
ثم انْصَرَفْتُ وَأَخَذْتُ أَجْمَعُ بَعْضَ التَّمْرِ ، فَلمَّا تَحَوَّلَ الرسولُ من قباءَ إِلَى المدينة جئته فقلت له :
إنِّي رَأَيْتُكَ لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وهذه هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِها . فَأَكَلَ مِنها وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فأكلوا معه . فقلت في نفسي: هذه الثانية.
ثم جِئتُ رسولَ اللَّهِ وهو ببقيع الغَرْقَدِ حَيْثُ كان يوارِي أَحَدَ أَصْحَابِهِ ،
فرأيته جالساً وعليه شَمْلَتَانِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ لَعَلِّي أَرَى الخاتم الَّذِي وَصَفَهُ لي صاحبي في عَمُورِيَّةَ .
فلما رآني النبيُّ أَنظُرُ إِلى ظَهْرِهِ عَرَفَ غَرَضِي فَأَلْقَى رِداءَه عن ظَهْرِه ، فنظرت فرأيت الخاتم ، فَعَرَفْتُهُ فَانْكَبَيْتُ عليه أقبله وأبكي . فقال رسولُ اللهِ ﷺ : ( ما خَبَرُك ؟! )

فَقَصَصْتُ عليه قِصَّتي ؛ فأَعْجِبَ بها ، وَسَرَّهُ أَنْ يَسمَعْهَا أَصْحَابُهُ مِنِّي ، فَأَسْمَعْتُهُمْ إِيَّاها ، فعجبوا مِنْها أَشَدَّ العَجَبِ ، وسُرُّوا بها أَعْظَمَ السرور .

فسلام على سلمان الفارسي يومَ قامَ يَبْحَثُ عن الحقِّ في كل مكان .
وسلام على سلمان الفارسي يومَ عَرفَ فَآمَنَ بِهِ أَوْثَقَ الإيمان .
وسلام عليه يومَ مات ويومَ يُبْعَثُ حَيَّا..

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة