عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه



«أَنتَ آمَنْتَ إِذْ كَفَرُوا ، وَعَرَفْتَ إِذْ أَنْكَرُوا، وَوَفَّيْتَ إِذْ غَدَرُوا ، وَأَقْبَلْتَ إِذْ أَدْبَرُوا »
[ عمر بن الخطاب رضي الله عنه]




في السِّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ دانَ للإسلام مَلِكٌ من ملوك العرب بعد نُفُورٍ ، ولان للإيمان بعدَ إِعْراضِ وَصَدَّ ، وَأعْطَى الطَّاعَةَ للرسول عليه الصلاة والسلام بعد إباء ذلِكُمْ هُوَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ الَّذِي يُضْرَبُ المَثَلُ بِجُودِ أبيه .
ورِثَ عَدِيُّ الرئاسة عن أبيه فَمَلَكَتْهُ طَيِّء عليها ، وفَرَضَتْ لَهُ الرُّبعَ في غنائمها ، وَأَسْلَمَتْ إِلَيْهِ الْقِيَادَ ولما صَدَعَ الرسولُ الكريمُ بِدَعْوَةِ الهُدَى والحقِّ ، وَدَانَتْ لَهُ العربُ حَيًّا بَعْدَ حَيٍّ ؛ رَأَى عَدِيٌّ في دعوة النبي عليه الصلاةُ والسلامُ زَعَامَةً تُوشِكُ أَنْ تَقْضِيَ على زَعَامَتِهِ ، ورِيَاسَةً ستُفْضِي إلى إزالة رياسته ، فعادى الرسول صلواتُ اللهِ عليه أَشَدَّ العَدَاوَةِ – وهو لا يَعْرِفُه – وَأَبْغَضَهُ أَعْظَمَ الْبَعْضِ قَبْلَ أَنْ يراه وظل على عَدَاوَتِهِ لِلإِسْلَام قريباً من عشرين عاماً حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صدرَهُ
لدعوةِ الهُدَى والحق.

***
وَلإِسْلَام عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قِصَّةٌ لا تُنسَى . فَلْتَتْرُكُ لِلرَّجُلِ نَفْسِهِ الحَدِيثَ عَنْ قِصَّتِهِ ؛ فهو بها أُوْلَى ، وَبِرِوَايَتِهَا أَجْدَر.
قال عَدِيُّ : ما مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدَّ مِنِّي كَرَاهَةً لرسولِ اللَّهِ ﷺ حين سمعت به ؛ فقد كنتُ أمراً شريفاً ، وكنتُ نَصْرَانِيًّا ، وكنتُ أَسِيرُ في قومي بالمرباع ؛ فأَخُذُ الرُّبعَ من غنائمهم كما كان يَفْعَلُ غيري من ملوك العرب فَلَمَّا سمعتُ برسولِ اللَّهِ ﷺ كَرِهْتُهُ وَلَمَّا عَظُمَ أَمْرُهُ وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ ، وَجَعَلَتْ جُيُوشُهُ وَسَرَايَاهُ تُشَرِّقُ وَتُغَرِّبُ في أَرْض العَرَبِ ؛ قلتُ لغلام لي يَرْعَى إِبلي :
لا أبا لك ! أعْدِدُ لي من إبلي نُوقاً سماناً سَهْلَةَ القِيَادِ واربطها قريباً بجيش لمحمد أو بسرية من سراياه ، فإذا سمعت بجيش لمحمد أو سرية قد وَطِئَتْ هذه البلاد فأعلمني .

وفي ذَاتِ غَدَاةٍ أَقْبَلَ عَلَيَّ غلامي وقال :
يا مولاي ، ما كُنْتَ تَنْوِي أَنْ تَصْنَعَهُ إِذا وَطِئَتْ أَرْضَكَ خِيلُ محمدٍ فَاصْنَعْهُ
فقلت : وَلِمَ ؟! ثَكِلَتْكَ أُمُّك !
فقال : إني قد رأيتُ راياتٍ تجوسُ خِلال الديار، فسألت عنها ، فقيل:
هذه جيوش محمد .
فقلت له : أعدد لي النوق التي أَمَرْتُكَ بِإِعْدَادِها وقربها مني.
ثم نَهَضْتُ لِسَاعَتي ؛ فَدَعَوْتُ أَهْلِي وأَوْلادِي إلى الرحيل عن الأرْضِ أحببناها، وجَعَلْتُ أُغذُ السَّيْرَ نحو بلاد الشام لألْحَقَ بأهْـل ديني من النَّصَارَى وَأَنْزِلَ بينَهم وقد أَعْجَلَنِي الأمرُ عنِ اسْتِقْصَاءِ أهلي كُلِّهِمْ فَلَمَّا اجْتَزْتُ مواضِعَ الخَطَرِ ، تَفَقَّدْتُ أهلي ، فإذا بي قد تَرَكْتُ أختاً لي في مَوَاطِننا في نَجْدٍ مع مَنْ بَقِي هناك من طيء ولم يكن لي من سبيل إلى الرجوع إليها فَمَضَيْتُ بِمَنْ معي حتَّى بَلَغْتُ الشَّامَ ، وأقمتُ فيها بين أبناء ديني أما أختي فقد نَزَلَ بها ما كنت اتوقعه وأخشاه.

**

لقد بلغني وأنا في ِديارِ الشَّامِ أَنَّ خيل محمدٍ أَغارَتْ على ديارنا وَأُخَذَتْ أختي في جُمْلَةِ مَنْ أَخَذَتْهُ من السَّبَايَا وَسِيقَتْ إِلَى يَثْرِب .
وهناكَ وُضِعَتْ مَعَ السَّبَايَا في حظيرَةٍ عِنْدَ بَابِ المَسْجِدِ ، فَمَرَّ بها النبيُّ عليه الصَّلاة والسلام فقامت إليه وقالت : يا رسولَ اللَّهِ ، هَلَكَ الْوَالِدُ ، وعَابَ الْوَافِدُ ؛ فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عليك

فقال : ( وَمَنْ وَافِدُكِ ؟)
فقالت : عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ .
فقال : ( الفار من الله ورسوله ؟!)
ثم مَضَى رَسولُ اللَّهِ ﷺ وَتَرَكَهَا
فلما كان الْغَدُ مَرَّ بها فقالت له مِثْلَ قَوْلِها بالأمس ، فقال لها مِثْلَ قوله.

فلما كان بعد الْغَدِ مَرَّ بها وقد يَئِسَتْ منه فلم تَقُلْ شيئاً ، فأشار لها رَجُلٌ مِنْ
خَلْفِهِ أنْ قومي إليه وكلميه فقامَتْ إليه فقالت :
يا رسول الله ، هَلَكَ الْوَالِدُ ، وغابَ الْوَافِدُ ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عليك .
فقال : ( قد فَعَلْتُ )
فقالت : إنِّي أُرِيدُ اللَّحَاقَ بأهلي في الشام .

فقال : ( ولكِنْ لا تَعْجَلِي بالخروج حتى تجدي مَنْ تَثقِينَ به من قومِـكِ لِيُبَلِّغَكِ بلاد الشام ، فإذا وَجَدْتِ الثَّقَةَ فأَعْلِميني) .

ولما انصرف الرسول عليه الصَّلاة والسلامُ سَأَلَتْ عن الرجُل الذي أشار عليها أن تكلّمهُ ، فقيل لها : إِنَّهُ عليُّ بن أبي طالب رِضوانُ اللَّهِ عليه ثم أقامَتْ حَتَّى قَدِمَ رَكْبٌ فيهم مَنْ تَثق به ، فجاءَت إلى رسول الله ﷺ
وقالت :
يا رسول الله ، لقد قدِمَ رَهْط من قَوْمي لي فيهم ثِقَةٌ وَبَلَاغُ ،

فكساها الرسول صلواتُ اللهِ عليهِ ، ومَنَحَها نَاقَةُ تَحْمِلُهَا ، وأعطاها نَفَقَةً تَكْفِيها ، فَخَرَجَتْ مع الرَّكْب قالَ عَدِيٌّ : ثم جَعَلْنَا بَعْدَ ذلِكَ نَتَنَسَّمُ أخبارها ، ونترقب قدومها ،
ونحن لا نكادُ نُصَدِّقُ ما رُوِيَ لنا من خَبَرِها مَعَ محمد وإحسانه إليها كُلَّ ذلِكَ الإحْسَانِ مع ما كان مِنِّي تِجَاهَهُ
فواللهِ إِنِّي لَقَاعِدٌ في أَهْلي إذ أبْصَرْتُ امْرَأَةٌ فِي هَوْدَجِهَا تَتَّجِهُ نَحْوَنَا ،
فقلت :
ابنَةُ حَاتِمٍ ، فَإذا هي هي فلما وَقَفَتْ علينا بَادَرَتْنِي بقولها :
القاطِع الظَّالِمُ
لقَدِ احْتَمَلْتَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ وَتَرَكْتَ بَقِيَّةَ وَالِدِكَ وَعَوْرَتكَ .
فقلت : أي أخَيَّة ، لا تقولي إلا خَيْراً . وَجَعَلْتُ أَسْتَرْضِيها حَتَّى رَضِيَتْ .
وَقَصَّتْ عَلَيَّ خَبَرَها ، فإذا هو كما تَنَاهَى إِلَيَّ ، فقلتُ لها ـ وكانت امرأةً حازمةً عاقلة – ::
ما تَرَيْنَ في أمرِ الرجل ( يعني محمداً عليه الصلاة والسلام ) ؟ فقالت:
أَرَى ـ والله ـ أن تَلْحَقَ به سريعاً ، فإِنْ يَكُنْ نَبِيّاً فللسَّابِقِ إليه فَضْلُه
وإِنْ يَكُنْ مَلِكاً فَلَنْ تُذَلُّ عِنْدَهُ وَأَنْتَ أَنْتَ.

***
قالَ عَدِيٌّ : فَهَيَّأْتُ جَهَازِي ومَضَيْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في المدينة ، من غير أمانٍ ولا كِتَابٍ ، وكان بَلَغَنِي أَنَّهُ قال :
لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ يَدَ عَدِيٍّ فِي يَدِي ، فَدَخَلْتُ عليه ـ وهو في المَسْجِدِ ـ فَسَلَّمْتُ عليه
فقال : ( مَن الرَّجُل ؟ ) .
فقلت : عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ ، فقام إليَّ ، وأَخَذَ بِيَدِي وَانْطَلَقَ بِي إِلَى بيته .
فواللهِ إِنَّهُ لَمَاضٍ بي إِلَى البيتِ إِذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضعيفةً كبيرةً ومعها صَبِيٌّ
على بعيرها حتّى تزور هذا البيت لا تخافُ أحداً إلا اللَّهَ .
ولَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ منَ الدُّخُول في هذا الدين أَنَّكَ تَرَى أَنَّ المُلْكَ وَالسُّلْطَانَ في غير المسلمين ، وأَيْمُ اللَّهِ لَيُوشِكُنَّ أَنْ تَسْمَعَ بالقُصُورِ الْبِيضِ من أرض بابل قد فُتِحَتْ عليهم ، وأن كنوز كِسْرَى بْن هُرْمُزَ قد صارَتْ إليهم.
فقلت : کنوز کسری بن هرمز ؟!
فقال : ( نعم كنوز كِسْرَى بن هرمز)
قال عدي : عند ذلك شَهِدْتُ شَهَادَةَ الحَقِّ وأسلمتُ.

عُمرَ عَدِيُّ بنُ حَاتِمٍ رضي الله عنه طويلاً ، وكان يقول : لقد تحقَّقَتِ
أثنتان وبقيت الثالثة ، وإنها والله لا بُدَّ كائنة.
فقد رأيتُ المرأةَ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بعيرها لا تخافُ شيئاً حتَّى تَبْلُغَ هذا البيت.
وكنتُ في أَوَّلِ خَيْل أَغَارَتْ على كنوز كِسْرَى وَأَخَذَتْها .
وأَحْلِفُ باللَّهِ لَتَجِيئَنَّ الثالثة.
وقد شاءَ اللَّهُ أَنْ يُحَقِّقَ قَوْلَ نَبِيِّهِ عليه أَفْضَلُ الصلاة وأَزْكَى السَّلامِ ؛
فجاءَتِ الثالثة في عهدِ الخليفةِ الزاهِدِ العابدِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيز ، حيث فاضَتِ
الأموال على المسلمين حَتَّى جَعَلَ مُنَادِيهِ يُنَادِي عَلَى مَنْ يَأْخُذُ أَمْوَالَ الزكاةِ من
فقراء المسلمين فلم يجد أحداً.
وَصَدَقَ رسولُ اللَّهِ صلوات الله عليه.
وَبَرَّ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ بِقَسَمِه .

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة