( سَيَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةٌ مُؤْمِناً مُهَاجِراً ، فَلَا تسبوا أباه ، فإِنَّ سَبَّ الميتِ يُؤْذِي الحَيَّ وَلا يبلغ الميِّتَ )
[ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ]
( مَرْحَباً بِالرَّاكِبِ المُهَاجِرِ )
من تحية النبي صلى الله عليه وسلم لعكرمة كان في أواخِرِ العِقْدِ الثالث من عُمُرِهِ ، يومَ صَدَعَ نَبِيُّ الرَّحْمةِ بِدَعُوةِ
الهُدَى والحقِّ .
وكان من أَكْرَمِ قُرَيْشٍ حَسَباً ، وأَكْثَرِهِمْ مالاً وأَعَزِّهِمْ نَسَباً . وكان جديراً به أَن يُسْلِمَ كما أَسْلَمَ نُظَرَاؤُه ، من أمثال سعد بن أبي وقاص شعَبِ بنِ عُمَيْرٍ وغيرِهما من أبناء البيوتات المرموقة في مكة لولا أبوه، فمن يكون هذا الأب يا تُرى ؟
إِنَّهُ جَبَّارُ مَكَّةَ الأكبر ، وزعيمُ الشِّرْكِ الأولُ ، وَصَاحِبُ النَّكال الذي امْتَحَنَ اللهُ بِبَطْشِهِ إيمان المؤمنين فثبتوا ، وَاخْتَبَرَ بِكَيْدِهِ صِدْقَ الموقِنِينَ فَصَدَقُوا ..
إِنَّه أَبو جَهْلٍ ، وَكَفَى .
هذا أبوه ، أما هو فَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبي جَهْل المخزومي ، أَحَدُ صناديد قريش المعدودين وَأَبْرَزُ فرسانِها المَرْمُوقِين
***
وَجَدَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبي جَهْلٍ نَفْسَهُ مدفوعاً بِحُكْمِ زَعَامَةِ أبيه إِلَى مُنَاوَأَةِ محمد عليه الصلاة والسلام ؛ فَعَادَى الرسولَ أشدَّ العِداءِ ، وَآذَى أَصْحَابَهُ أَفْدَحَ الإيذاء ، وَصَبَّ على الإسلام والمسلمين من النَّكالِ ما قَرَّتْ به عينُ أبيه ولما قاد أبوهُ مَعْرَكَةَ الشِّرْكِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَأَقْسَمَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى أَلَّا يَعُودَ إلى مَكَّةَ إِلَّا إِذا هَزَمَ محمداً ، ونَزَلَ بِبَدْرٍ وَأَقَامَ عليها ثلاثاً يَنْحُرَ الجَزُورَ ، وَيَشْرَبُ الخمور ، وَتَعْزِفُ له القيانُ بالمعازف لما قاد أبو جهل هذه المعركة كان ابنه عِكْرِمَةُ عَضُدَهُ الذي يعتمد عليه ،
ويده التي يبطش بها ولكِنَّ اللات والعُزَّى لَمْ يُلبيا نداءَ أبي جَهْلٍ لأَنَّهُما لا يسمعان ولم يَنصُرَاهُ فِي مَعْرَكَتِهِ لأَنَّهُما عاجِزَان
فَخَرَّ صريعاً دون بَدْرٍ ، ورآه ابنهُ عِكْرِمَةُ بِعَيْنَيْهِ ، ورِمَاحُ المسلمين تَنْهَلُ مِن دَمِهِ ، وَسَمِعَهُ بأذنيه وهو يُطْلِقُ آخِرَ صَرْخَةٍ أَنْفَرَجَتْ عنها شَفَتاه عادَ عِكْرِمَةُ إِلى مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ خَلَّفَ جُنَّةَ سَيِّدِ قريش في بَدْرٍ ؛ فقد أَعْجَزَتْهُ الهَزِيمَةُ عَنْ أَنْ يَظْفَرَ بها ليدفِنَها فى مكَّةَ ، وَأَرْغَمَهُ الفرارُ عَلَى تَرْكِها للمسلمين ؛ فَالْقَوْها في القَلِيبِ مَعَ العَشَرَاتِ من قتلى المشركين ، وأهالوا عليها الرما. وَمُنْذُ ذلك اليوم أَصْبَحَ لِعِكْرِمَةَ جَهْلِ مَعَ الإِسْلَامِ شَأَنْ آخَرُ فقد كان يُعاديه في بادِى الأَمْرِ حَمِيَّةً لِأَبِيهِ فَأَصْبَحَ يعادِيه اليومَ ثاراً له وَمِنْ هُنَا أَنْبَرَىٰ عِكْرَمَهُ وَنَفَرٌ مِمَّنْ قُتِلَ آبَاؤُهم في بَدْرٍ ، يُورثون نار العَداوَةِ في صدور المشركين على محمدٍ ، ويُضرِمُونَ جَذْوَةَ النَّارِ في قلوب المَوْتُورِينَ من قريش ، حَتَّى كانتْ وقعةُ أُحُدٍ.
***
خَرَجَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ إِلى أَحدٍ ، وَأَخْرَجَ مَعَه زوجه أُمَّ حكيم لِتَقِفَ النِّسْوَةِ المَوْتُورَاتِ في بدر وراءَ الصُّفوفِ ، وَتَضْرِبَ مَعَهُنَّ عَلَى الدُّفْوفِ ، تحريضاً لقريش على القتال ، وتثبيتاً لِفُرْسانِهَا إِذا حَدَّثَتْهُم أَنْفُسُهُم بِالفِرارِ.
***
وَجَعَلتْ قريش على مَيْمَنَةِ فُرْسانِها خالد بن الوليدِ ، وعلى مَيْسَرَتِهِم عِكْرِمَةَ بْنَ أَبي جَهْلٍ ، وَأَبْلَى الفَارِسانِ المُشْرِكان في ذلك اليوم بلاءً رَبَّحَ كَفَّةَ قُرَيْش على محمدٍ وَأَصْحَابِهِ ، وَحَقَّقَ لِلْمُشْرِكِينَ النَّصْرَ الكبير ؛ مِمَّا جَعَلَ
أبا سفيان يقول : هذا بيوم بدر .
***
وفي يوم الخَنْدَقِ ، حاصَرَ المشركون المدينة أياماً طويلةً فَنَفِدَ عِكْرِمَةَ ابْنِ أَبي جَهْلٍ ، وَضَاقَ ذَرْعاً بالحِصَارِ ، فَنَظَرَ إِلَى مَكَانٍ ضَيِّقٍ مِنَ الخَنْدَقِ وَأَقْحَمَ جواده فيه فاجْتَازَه ، ثم اجتازه وراءَه بِضْعَةٌ نَفَرٍ فِي أَجْرَأَ مُغَامَرَةٍ ذَهَبَ ضَحِيَّتَهَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدَّ الْعَامِرِيُّ أما هو فلم يُنَجِّهِ إِلَّا الفِرارُ .
وفي يوم الْفَتْح رأت قريش الا قبل لها بمحمدٍ وأَصْحَابِهِ ، فَأَزْمَعَتْ علَى أَنْ تُخَلّي لَهُ السبيل إلى مَكَّةَ ، وقد أعانها على اتِّخَاذِ قرارها هذا ما عَرَفَتْهُ مِنْ أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلامُ أمَرَ قُوَّادَهُ ألَّا يُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ قاتَلَهُم من أَهْل مَكَّةَ.
**
لَكِنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أبي جَهْلٍ ونفراً مَعَهُ خرجوا على إِجْمَاعِ قريش ، وَتَصَدُّوا للجيش الكبير ، فهزَمَهُمْ خالد بن الوليد في مَعْرَكَةٍ صغيرةٍ قُتِلَ فِيها مَنْ قُتِلَ منهم ولاذ بالفرار مَنْ أَمْكَنَهُ الفِرارُ ، وكان في جُمْلَةِ الفارين عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْل عند ذلك أُسْقِطَ في يَدِ عِكْرِمَةَ .
فَمَكَّةُ نَبَتْ به بعدَ أَنْ خَضَعَتْ للمسلمين الْكَعْبَةِ والرسول صلواتُ اللهِ عليه عَفَا عَمَّا سَلَفَ من قريش تِجَاهَهُ
لكِنه استثنى منهم نفراً سَمَّاهُمْ وَأَمَرَ بقتلهم وإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَـارِ وكان في طَلِيعَةِ هؤلاءِ النَّفَرِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْل ؛ لذا تَسَلَّلَ مُتَخَفِّياً مِنْ مَكَّةَ ، وَيَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ اليَمَنِ ، إِذْ لَمْ يَكُنْ له ملاذ إِلَّا هناك عندَ ذلك مَضَتْ أُمُّ حَكِيمٍ زَوْجُ أم حكيم زَوْجُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبي جَهْلٍ وهِندُ بِنتُ عُتْبَةَ إلى مَنْزِل رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ومعهما عَشْرُ نِسْوَةٍ لِيُبَايِعْنَ النبي عليه السَّلامُ ، فَدَخَلْنَ عليه ، وَعِنْدَهُ اثنتان من أزواجه وابنته فاطِمَةُ ونساء من نِساءِ بني عَبْدِ المُطَّلِبِ ، فَتَكَلَّمَتْ هِنْدُ وهي مُتَنَقِّبَةٌ وقالت :، يا رسولَ اللهِ ، الحمدُ للهِ الذي أَظْهَرَ الدين الذي اختاره لِنَفْسِه ، وإِنِّي لأسْأَلُكَ أنْ تَمَسَّنِي رَحِمُكَ بخير ، فإني امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ مُصَدِّقَةٌ ، ثُمَّ كَشَفَتْ عَنْ وجهها وقالت :
هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ يا رسولَ اللَّهِ . فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام :
( مَرْحَباً بكِ ) .
فقالت : والله يا رسولَ اللهِ ما كان علَى وَجْهِ الأَرضِ بيتُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّ من بيتك ، ولقد أصبحتُ وما عَلَى وجه الأرض بيتٌ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّ مِنْ بيتك فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ( وزِيَادَةً أيضاً ) .
ثم قامَتْ أُمُّ حكيم زوجُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فأسلمت وقالت :
يا رسولَ اللَّهِ ، قد هَرَبَ مِنْكَ عِكْرِمَةُ إلى اليمن خَوْفاً من أَنْ تَقْتُلَهُ فَأَمِّنْهُ
أَمَّنَكَ اللَّهُ ، فقال عليه السلام :
( هو آمن ) .
فخرجت من ساعتها في الطريق راوَدَها الغلامُ عن نَفْسِهِ ، فَجَعَلَتْ تُمَنِّيهِ وَتُمَاطِلُه حَتَّى قَدِمَتْ على طَلَبه ، ومَعَها غلام لها رومي ، فَاسْتَعَانَتهُم عليه فأوْثَقُوهُ وتَرَكوه عندهم . وَمَضَتْ هِيَ إِلَى سبيلها حَتَّى أَدْرَكَتْ عِكْرَمَةَ عِنْدَ سَاحِلِ الْبَحْرِ فِي مِنْطَقَةِ تِهَامَةَ ، وهو يُفَاوِضُ نوتِياً مُسْلِماً على نَقْلِهِ ، وَالنُّوتِيُّ يقول له :
أخْلِصْ حَتَّى انْقَلَكَ فقال له عِكْرِمَةُ وكيف أُخْلِصُ ؟.
قال : تقولُ أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلَّا الله وأنَّ محمداً رسولُ اللَّهِ .
فقال عِكْرَمَة : ما هَرَبْتُ إِلَّا مِنْ هذا وفيما هُما كذلك إذْ أَقْبَلَتْ أُمُّ حكيم على عِكْرِمَةَ وقالت :
يا ابنَ عَمِّ ، جِبْتُك من عِنْدِ أَفْضَلِ النَّاسِ ، وَأَبَرُ النَّاسِ ، وخيرهم من عِندِ محمد بن عبدِ اللَّهِ وقد استأمنْتُ لكَ مِنْهُ فَأَمَّنَكَ فَلا تُهْلِكُ نَفْسَكَ . فقال : أنتِ كَلَّمْتِه ؟
قالت : نعم ، أنا كَلَّمْتُهُ فَأَمُنَكَ . وَما زَالَتْ بِهِ تُؤَمِّنُهُ وَتُطَمْئِتُهُ حَتَّى عَادَ ثم حَدَّثَتْه حديث غُلامِهما الرومي فَمَرَّ به وقَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِم .
وفيما هما في مَنْزِل نَزَلا به في الطَّرِيقِ أرادَ عِكْرِمَةُ أَن يَخْلُوَ بِزَوجه ، فَأَبَتْ ذلك أَشَدَّ الإباء وقالت :
إنِّي مسلمة وأنت مُشْرِك فَتَمَلَّكَهُ الْعَجَبُ وقال : إِنَّ أَمْراً يحول دونَكِ ودونَ الخَلْوَةِ بي!
فلما دنا عِكْرِمَةُ من مَكَّةَ ، قال الرسولُ عليه الصلاة والسلام لأصحابه :
(سَيَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بنُ أَبي جَهْلٍ مُؤْمِناً مُهَاجِراً ، فَلا تَسُبُّوا أَبَاهُ ، فَإِنَّ سَبْ المَيِّتِ يُؤْذِي الحَيَّ وَلا يَبْلُغُ المَيِّتَ) .
وما هُوَ إِلَّا قليلٌ حَتَّى وصَلَ عِكْرِمَةُ وزوجه إلى حَيْثُ يَجلِسُ رسولُ اللهِ ، فَلَمَّا رآه النبيُّ صلوات الله عليهِ وَثَبَ إليه من غير رِداء (فَرَحاً به … ولما جَلَسَ رَسولُ اللَّهِ وَقَفَ عِكْرِمَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ وقال : يا محمد ، إِنَّ أُمَّ حكيم أَخْبَرَتْني أَنَّكَ أمنتني . فقال النبي عليه الصلاة والسلام :
( صَدَقَت ، فَأَنْتَ آمِنٌ) .
فقال عِكْرِمَة : إِلامَ تَدْعُو يا محمد ؟
قال : (أدْعُوكَ إلى أنْ تَشْهَدَ أن لا إله إلا الله وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ ورسوله ، وأن تُقيم الصلاة وأنْ تُؤْتي الزكاة … حتَّى عَدَّ أركان الإسلام كُلَّها .)
فقال عِكْرِمَة : واللَّهِ ما دَعَوْتَ إِلَّا إِلى حَقٌّ ، وَمَا أَمَرْتَ إِلَّا بِخيرٍ ، ثم أَرْدَفَ يقول :
قد كنت فينا – واللَّهِ – قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَ إلى ما دَعَوْتَ إليه وانتَ أَصْدَقْنَا حديثاً وَأَبَرنَا بُرا …
ثم قال :
ثم بسط يَدَهُ وقال : إنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله وأَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُه ، يا رسولَ اللَّهِ عَلَّمْنِي خَيْرَ شَيْءٍ أَقُولُه .
فقال : (تقول : أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله ، وَأَنَّ محمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه) فقال عِكْرِمَةُ : ثم ماذا ؟
قال رسول الله ﷺ: (تقول : أُشْهِدُ اللهَ ، وَأُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ أَنِّي مُسْلِمٌ مُجَاهِدٌ مُهاجِرٌ) .
فقالَ عِكْرِمَةُ ذلك .
عند هذا قال له الرسول صلوات الله عليه : (اليومَ لا تَسْأَلُني شيئاً أُعطيه أحَداً إِلَّا أَعْطَيْتُكَ إيَّاه) ، فقال عكرمة :
أَسْأَلُكَ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِي كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَيْتُكَها ، أَوْ مَقَامٍ لَقيتُكَ فِيهِ ، أَوْ أي كلام قلتَهُ فِي وَجْهِكَ أَوْ غَيْبَتِكَ .
فقال الرسولُ عليه الصلاة والسلام : (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ كُلَّ عداوة عادانيها ،
وَكُلُّ مَسيرٍ سارَ فيه إلى موضع يريدُ به إطفاء نورِك ، واغْفِرْ له ما نالَ من عِرْضِي في وَجْهِي أَوْ أَنا غائبٌ عَنْه)
فَتَهَلَّل وجهُ عِكْرِمَةَ بشراً وقال :
أما والله ، يا رسولَ اللهِ ، لا أدَعُ نَفَقَةً كنتُ أَنْفَقْتُها فِي صَدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا أَنفَقْتُ ضِعْفَها في سبيل الله ، ولا قتالاً قاتَلْتُهُ صَدًّا عن سبيلِ اللَّهِ إِلَّا قاتلتُ ضِعْفَهُ في سبيل الله .
***
ومنذ ذلك اليوم أنْضَمَّ إلى مَوْكِب الدعوة فارسًا باسلًا في ساحاتِ القِتالِ ، عَبَّادٌ قَوَّامُ قَرَّاءٌ لِكِتابِ اللهِ في المساجِدِ ؛ فقد كان يَضَعُ المُصْحَفَ على وَجْهِهِ ويقول :
كتاب ربِّي … كَلامُ رَبِّي … وهو يبكي من خَشْيَةِ اللَّهِ .
بَرَّ عِكْرِمَةُ بما قَطَعَه للرسول من عَهْدٍ ، فما خاض المسلمون مَعْرَكَةً بَعْدَ إسلامِه إِلَّا وخاصَها مَعَهُم ، ولا خَرَجوا فِي بَعْثٍ إِلَّا كَان طَلِيعَتَهُمْ.
وفي يوم الْيَرْمُوكِ أَقْبَلَ عِكْرِمَةُ على الْقِتَالِ إِقْبالَ الظَّامِيءِ على الماء الباردِ في اليوم القائظ .
ولَمَّا اشْتَدَّ الكربُ على المسلمين في أحَدِ المَواقِفِ ، نَزَلَ عَنْ جَوادِهِ وَكَسَرَ غِمْد سيفه ، وأَوْغَلَ في صفوف الروم ، فبادر إليه خالد بن الوليد وقال :
لا تَفْعَلْ يَا عِكْرِمَة فَإِنَّ قَتْلَكَ سَيَكُونُ شديداً على المسلمين ، فقال :
إليكَ عَنِّي يا خالد … فلقد كان لك مع رسولِ اللَّهِ ﷺ سَابِقَةٌ ، أَمَّا أنا وأبي فقد كُنَّا مِنْ أَشدَّ النَّاسِ عَلَى رسولِ اللَّهِ ، فَدَعْنِي أُكَفِّرْ عَمَّا سَلَفَ مِنِّي . ثم قال :
لَقَدْ قَاتَلْتُ رسولَ اللهِ ﷺ فِي مَوَاطِنَ كثيرةٍ وَأَفِرُّ من الروم اليوم ؟! .
إِنَّ هذا لن يكون أبداً .
ثم نادى في المسلمين : مَنْ يُبَايِعُ على الموتِ ؟ فَبَايَعَهُ عَمُّهُ الحارِثُ بنُ هشام ، وضرارُ بنُ الأَزْوَرِ في أربعمائة من المسلمين ، فقاتلوا دونَ فُسْطَاطِ خالدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أَشَدَّ الْقِتَالِ ، وذادوا عنه أَكْرَمَ النُّوْدِ.
ولما انْجَلَتْ مَعْرَكَةُ اليرموكِ عن ذلك النَّصْرِ المؤزّرِ للمسلمين ؛ كان على أَرْض اليَرْموكِ ثلاثة مجاهدين أتخنتهُمُ الجراح هم :
الحارث بن هشام ، وعَيَّاشُ بن أبي ربيعَةَ ، وعِكْرِمَةُ بنُ أَبي جَهْل فدَعَا الحارِثُ بماءٍ لِيَشْرَبَهُ فَلمَّا قُدِّمَ له نَظَر إليه عِكْرِمَةُ فقال :
ادفعوه إليه فلما قربوه مِنْهُ نَظَرَ إِليه عَيَّاش فقال :
ادفعوه إليه . فلما دَنَوْا مِن عَيَّاش وجدوه قد قَضَى فلما عادوا إلى صاحِبَيْه وجدوهما قد لَحِقَا به رضي الله عنهم أجمعين
وسقاهم من حَوْضِ الكَوْثَرِ شَرْبَةً لَا يَظْمَأُونَ بَعْدَهَا وحَبَاهُمْ خَضْرَاءَ الفِردوس يَرْتَعون فيها أبداً.
كتاب صور من حياة الصحابة | عبدالرحمن رأفت باشا