مصعب بن عمير رضي الله عنه

…أما راية الرسول ﷺ البيضاء، فعقدها لمصعب بن عمير، وسلمها له بيديه الشريفين، فتلقاها مصعبٌ حفيًّا بها، وسار بها في مقدمة الجيش مرفوع الرأس، ناصع الجبين، ونافح عنها منافحة الأبطال الميامين.

مصعب بن عمير رضي الله عنه


«أولُ مُبشِّرٍ بالإسلامِ على ظهرِ الأرضِ»

لما صدعَ الرسول الأعظم صلوات الله وسلامُه عليه بدعوة الحقِّ؛ أقبلَ عليه من شرحَ اللهُ صدورَهم للإيمان… وصدَّ عنه من طبعَ اللهُ على قلوبِهم الكفر والعصيان.

وكان في جملة الذين شرح الله صدورَهم لدينه القويم، وهدَاهم إلى صراطِه المستقيم؛ فتى موفور الشباب؛ مشدود الإهاب ووسيمُ الطلعة؛ رقيق الحاشية، وافر النعمة، مترف العيش يدعى مصعب بن عمير.

فلقد مضى الفتى النضيرُ ذاتَ يومٍ إلى دارِ الأرقم بن أبي الأرقم، وقد فاح الطّيب من أردانه، وبدت النعمة على وجهه، ونمَّت حُلَّتُهُ الثمينة على الثراء العريض الذي كان يتقلَّب في أكنافه.

طرق الفتى الوادع الناعم الباب طَرقًا خفيفًا؛ ففُتِحَ له.. فدخل إلى الدار على استحياءٍ، وحيا القومَ بأُنْس ووداعة، ثم جلس حيث انتهى به المجلس.

فتعلقت به أبصار القوم وهم لا يصدقون عيونهم… فلكم تمنوا أن يهدي الله هذا الفتى وأمثاله إلى ما هداهم إليه، وأن يجنب هذا الشاب النضير عذاب القبر، وأن يقيه فيح جهنم.

انطلق الرسول الكريم صلوات الله عليه يُنذر ويُبشّر؛ فإذا أنذر انخلعت قلوب أصحابه من هول النار وسعيرها، وإذا بشّر طارت أفئدتهم فرحًا بالجنة ونعيمها. وكان النبي الكريم ﷺ يتلو بين الحين والحين على أصحابه شيئًا من آيات الله البينات… فتسعد بها قلوبهم وتطمئن لها نفوسهم، ويسألون الله الفوز بنعيم الجنة والنجاة من عذاب النار.

وما إن فرغ الرسول الكريم ﷺ من موعظته، حتى نهض إليه الفتى القرشي في أناة، ودنا منه في رفق وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله…

ثم بسط يده إلى النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وبايعه على السمع والطاعة في المنشط والمكره.

كتم الفتى خبر إسلامه عن الناس؛ فما كان يريد أن يفجع أمه المشغوفة به بنبإٍ تركه لدينها؛ لما كان يعلم من شدة عنادها، ومدى إصرارها على الكفر. وما كان يريد أن تقف قريشٌ على أمرِ إسلامهِ؛ لما كان يعلم من عزمها على البطش بكل من تحدِّثُه نفسُهُ بنبذ آلهتها، وخاصة حين يكون فتىً مثله يقع في الذروة منها، وينتمي إلى أكابر مترفيها.

وقد ظلَّ الفتى يختلفُ إلى رسول الله صلوات الله عليه سرًا؛ فيسعدُ بلقائه، ويتملَّى من مواعظه… حتى رآه عثمان بن طلحة يصلي ذات يوم؛ فأذاعَ خبرَهُ بين الناس.

منذ ذلك اليوم بدأت محنة مصعب بن عمير. فلقد تنكَّر له أبواهُ بعد أن عجزا عن ردهِ إلى دين آبائه وأجداده؛ فقطعَا رفدهما عنهُ؛ حتى غدا أشدَّ فقراً من الفقراء، وأعنف بؤسًا من البؤساء.. وقريش تصدَّت له؛ فسجنتهُ وأطالَت سجنهُ وقهَرتْهُ ولجَّتْ في قهره، وكانت تظنُّ أنها تستطيعُ بذلك أن تصده عن دينه… ولكن أنّى يتمَّ لها ذلك، والفتى قد ذاق حلاوة الإيمان.

ولمّا هاجر المسلمون إلى الحبشة تخلُّصًا من أذى قريش؛ كان الفتى القرشيُّ في زمرةِ المهاجرين.

فلقد فرَّ مصعب بدينه إلى الحبشة، وخلّف وراءه مراتع الطفولة ومغانيَ الشباب، وعزَّة النسب… واستبدل بذلك كله؛ بُعدَ الدار ووحشةَ الغربة، وضنك الفقر، ولكنَّ ذلك كله كان قليلًا هينًا عنده؛ في جنب مرضاة الله ومرضاة رسوله ﷺ.

ولما عاد مصعبٌ من هجرته الأولى؛ أنكره الناس؛ حتى كادوا لا يعرفونه… فالفتى الطرير النضير؛ قد مسَّه الضرُّ، فرثت ثيابه؛ بعد أن كانت زاهية، وخشن جلده؛ بعد أن كان غضًّا بضًّا، وتخدَّد وجهه؛ بعد أن كان أسيلًا مُشرقًا.

لقد رآه الرسول الكريم ﷺ مقبلًا وعليه جلد كبش ممزقٌ؛ قد تَمنطقَ به، فقال لأصحابه:

«انظروا إلى هذا الفتى الذي قد نوّر الله قلبه. لقد رأيته بين أبوين يغذُوانه بأطيب الطعام والشراب… فدعاه حبُّ الله ورسوله إلى ما ترون.»

ثم ضاقت الأرض على المسلمين مرةً أخرى، ونالهم من أذى قريش ما لا قبل لهم به؛ فهاجروا إلى الحبشة هجرتهم الثانية، وكان مصعب بن عميرٍ في جملة المهاجرين أيضًا. لكن مصعبًا لم يُطق صبرًا على فراق النبي الكريم ﷺ؛ فآثر العودة إلى مكة وتحمل أذى قريشٍ على فراق النبي عليه السلام.

ولزم مصعبٌ نبيه ﷺ لزوم الظل لصاحبه، ونهل ما شاء الله أن ينهل من هديه؛ فإذا هو من أحفظ الصحابة الكرام لكتاب الله، وأفقههم بشرع الله، وأجمعهم لحديث رسول الله ﷺ.

ثم تمت بيعة العقبة الأولى، وعاد المبايعون المبرورون إلى قومهم في المدينة؛ يدعونهم إلى دين الهدى والحق. لكنهم ما لبثوا أن شعروا أنهم بحاجة إلى مبشِّر؛ أعلم منهم بالكتاب والسنة، وأدرى منهم بتعاليم الإسلام.

فبعثوا يسألون الرسول الكريم ﷺ أن يُرسل إليهم رجلًا يُعلِّمهم دينهم. فأرسل إليهم مصعبًا رضي الله عنه، فكان أول مُبشِّرٍ بالإسلام على ظهر الأرض.

حلّ مصعب بن عميرٍ في المدينة، وشرع يدعو الناس إلى الإسلام ويُفقِّههم بأحكامه. كان مصعب بن عميرٍ دائبا لا يهدأ؛ نشطًا لا يفتر، فأسلم على يديه خلقٌ كثير حتى لم تبقَ دارٌ في يثرب إلا وفيها مسلمٌ أو مسلمة. وحتى كُتب له بأن يجمع أول جمعة في المدينة قبل أن يفِدَ عليها الرسول الكريم ﷺ.

ولما أقبل موسم الحج، شخَصَ مصعبٌ إلى مكة ومعه سبعون رجلاً من المسلمين؛ فوافوا الرسول صلوات الله عليه في العقبة، وبايعوه بيعتهم المشهورة. وعاد المبايعون الأبرار إلى ديارهم، وبقي مصعبٌ مع نبيه ﷺ إلى أن أذن الله للمسلمين بالهجرة إلى المدينة. فكان هو وعبد الله بن أم مكتومٍ أول المهاجرين.

ولما عزم الرسول صلوات الله عليه على غزو قريش في بدر، كتّب كتائبه وجنّد جنوده؛ فجعَلَ على كتيبة المهاجرين عليّ بن أبي طالبٍ، وعلى كتيبة الأنصار سعد بن معاذٍ وعلى ميمنة الجيش الزبير بن العوام، وعلى ميسرته المقداد الكندي.

أما راية الرسول ﷺ البيضاء، فعقدها لمصعب بن عمير، وسلمها له بيديه الشريفين، فتلقاها مصعبٌ حفيًّا بها، وسار بها في مقدمة الجيش مرفوع الرأس، ناصع الجبين، ونافح عنها منافحة الأبطال الميامين.

وفيما كان مصعبٌ عائدًا من بدرٍ، رأى أخاه أبا عُزيرٍ أسيرًا في يد أحد الأنصار وهو يهم أن يضع القيد في يديه. فقال مصعبٌ للأنصاري: “شُدَّ يديك عليه؛ فإن أمه ذات ثروة، وهي حريّةٌ بأن تفتديه بمالٍ كثير.” فقال أبو عُزيرٍ لأخيه مصعب: “أهذه وصاتك بأخيك؟” فقال له مصعبٌ: “بل إنه هو أخي من دونك؛ إنه مسلمٌ وأنت مشركٌ.”

وفي يوم أحد، دفع الرسول الكريم ﷺ برايته إلى مصعب بن عمير كما فعل يوم بدرٍ… فحملها مصعب ومشى بها بين يدي رسول الله ﷺ. واشتدت وطأة قريشٍ على المسلمين، حتى انكشفوا وتفرّقوا عن لوائهم، ولكن مصعبا أثبت قدميه إلى جنب نبيه ﷺ لا يميل عنه ولا يحيد.

وهنا أقبل عليه ابن قميئة أحد فرسان المشركين فضربه بالسيف ضربة، فسقطت يده وسقط معها اللواء. فأخذه باليد الأخرى، وعاد الفارس الشقي إلى المجاهد التقي، وعاجله بضربة أخرى، فسقطت يده الثانية وسقط معها اللواء، فأخذه بعضديه وضمهما عليه ليبقى اللواء مرفوعا.

وكرّ ابن قميئة مرة ثالثة على مصعب، فأنفذ الرمح في صدره، فسقط على الأرض، فتلقى اللواء أخوه أبو الروم ورفعه، وما زال يحمله حتى بلغ به المدينة. وخرجت قريش من ميدان القتال منتصرة، وثاب المسلمون إلى شهدائهم يوارونهم التراب.. فإذا مصعب قد خر على وجهه من غير يدين.

وهمّ المسلمون بدفن الشهيد، فما وجدوا له كفنا إلا ثوبا صغيرا، إن ستر وجهه كشف عن قدميه، وإن غطى قدميه كشف عن وجهه. فأمر الرسول صلوات الله عليه بأن يُغطّى وجهه بالثوب، وأن تستر رجلاه برطب الكلإِ.

ثم وقف فوقه، وتلا قوله عز وجلّ:

﴿مِنَ المُؤمِنينَ رِجالٌ صَدَقوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضى نَحبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَما بَدَّلوا تَبديلًا﴾
[ الأحزاب: ٢٣ ].

صور من حياة الصحابة

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة