قال ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: (وكان الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه أشجَعَ الأمَّةِ بعدَ رَسولِ اللهِ… ولو لم يكُنْ له إلَّا ثباتُ قَلبِه يومَ الغارِ وليلتَه، وثباتُ قلبِه يومَ بدرٍ، وهو يقولُ للنَّبيِّ: يا رسولَ اللهِ، كفاك بعضُ مناشَدتِك ربَّك، فإنَّه منجِزٌ لك ما وعدك، وثباتُ قلبِه يومَ أحُدٍ، وقد صرخ الشَّيطانُ في النَّاسِ بأنَّ محمَّدًا قد قُتِل، ولم يبقَ أحدٌ مع رسولِ اللهِ إلَّا دونَ عِشرين في أُحُدٍ، وهو مع ذلك ثابتُ القلبِ ساكِنُ الجأشِ، وثباتُ قلبِه يومَ الخندقِ وقد زاغت الأبصارُ وبلغت القلوبُ الحناجِرَ، وثباتُ قلبِه يومَ الحُدَيبيَةِ، وقد قَلِق فارسُ الإسلامِ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، حتى إنَّ الصِّدِّيقَ ليُثَبِّتُه ويُسَكِّنُه ويُطَمئنُه، وثباتُ قلبِه يومَ حُنَينٍ حيثُ فَرَّ النَّاسُ، وهو لم يَفِرَّ، وثباتُ قلبِه حينَ النَّازلةِ التي اهتزَّت لها الدُّنيا أجمعَ، وكادت تزولُ لها الجبالُ، وعَقَرت لها أقدامُ الأبطالِ، وماجت لها قلوبُ أهلِ الإسلامِ كمَوجِ البحرِ عِندَ هُبوبِ قواصِفِ الرِّياحِ، وصاح لها الشَّيطانُ في أقطارِ الأرضِ أبلَغَ الصِّياحِ، وخرج النَّاسُ بها من دينِ اللهِ أفواجًا، وأثار عدوُّ اللهِ بها أقطارَ الأرضِ عَجاجًا، وانقطع لها الوحيُ من السَّماءِ، وكاد لولا دفاعُ اللهِ لطُمِس نجومُ الاهتداءِ، وأنكرت الصَّحابةُ بها قلوبَهم، وكيف لا وقد فقدوا رسولَهم من بَيْنِ أظهُرِهم، وحبيبَهم، وطاشت الأحلامُ، وغَشِي الآفاقَ ما غَشِيها من الظَّلامِ، واشرأبَّ النِّفاقُ، ومدَّ أهلُه الأعناقَ، ورفع الباطِلُ رأسًا كان تحت قَدَمِ الرَّسولِ موضوعًا، وسمع المُسلِمون من أعداءِ اللهِ ما لم يكنْ في حياتِه بَيْنَهم مسموعًا، وطَمِع عدوُّ اللهِ أن يعيدَ النَّاسَ إلى عبادةِ الأصنامِ، وأن يَصرِفَ وجوهَهم عن البيتِ الحرامِ، وأن يصُدَّ قلوبَهم عن الإيمانِ والقرآنِ، ويدعوهم إلى ما كانوا عليه من التَّهوُّدِ والتَّمجُّسِ والشِّركِ، وعبادةِ الصُّلبانِ، فشَمَّر الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه من جِدِّه عن ساقٍ غيرِ خَوَّارٍ، وانتضى سيفَ عزمِه الذي هو ثاني ذي الفَقارِ، وامتطى من ظهورِ عزائمِه جوادًا لم يكُنْ يكبو يومَ السِّباقِ، وتقدَّم جنودَ الإسلامِ فكان أفرَسُهم إنما همُّه اللَّحاقُ، وقال: واللهِ لأجاهِدَنَّ أعداءَ الإسلامِ جُهدي، ولأصْدُقَنَّهم الحربَ حتى تنفَرِدَ سالفتي، أو أُفرَدَ وحدي، ولأدخِلَنَّهم في البابِ الذي خرجوا منه، ولأرُدَّنَّهم إلى الحقِّ الذي رغِبوا عنه، فثبَّت اللهُ بذلك القلبِ -الذي لو وُزِن بقلوبِ الأمَّةِ لرَجَحَها- جيوشَ الإسلامِ، وأذَلَّ بها المُنافِقين والمرتدِّين، وأهلَ الكتابِ وعَبَدةَ الأصنامِ، حتَّى استقامت قناةُ الدِّينِ من بعدِ اعوجاجِها، وجرت المِلَّةُ الحنيفيَّةُ على سَنَنِها ومنهاجِها، وتولَّى حزبُ الشَّيطانِ وهم الخاسرون، وأذَّن مؤذِّنُ الإيمانِ على رؤوسِ الخلائقِ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة: 56] .
هذا وما ضَعُفَت جيوشُ عَزَماتِه، ولا استكانت ولا وَهَنَت، بل لم تَزَلِ الجيوشُ بها مؤيَّدةً ومنصورةً، وما فَرِحت عزائمُ أعدائِه بالظَّفَرِ في موطنٍ من المواطِنِ، بل لم تَزَلْ مغلوبةً مكسورةً، تلك لعَمْرُ اللهِ الشَّجاعةُ التي تضاءلت لها فُرسانُ الأممِ، والهمَّةُ التي تصاغرت عندها عَلِيَّاتُ الهِمَمِ، ويحقُّ لصِدِّيقِ الأمَّةِ أن يَضرِبَ من هذا المغنَمِ بأوفَرِ نصيبٍ، وكيف لا وقد فاز من ميراثِ النُّبُوَّةِ بكمالِ التَّعصيبِ؟!) .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واستُخلِف أبو بكرٍ، وكَفَر من كَفَر من العَرَبِ، قال عُمَرُ: يا أبا بكرٍ، كيف تقاتِلُ النَّاسَ، وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فمَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فقد عَصَم منِّي مالَه ونَفْسَه إلَّا بحَقِّه، وحِسابُه على اللهِ)) قال أبو بكرٍ: واللهِ لأقاتِلَنَّ من فَرَّق بين الصَّلاةِ والزَّكاةِ؛ فإنَّ الزَّكاةَ حَقُّ المالِ، واللهِ لو منَعوني عِقالًا كانوا يؤدُّونَه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقاتَلْتُهم على مَنْعِها، قال عُمَرُ: فواللهِ ما هو إلَّا أن رأيتُ أنْ قد شرَحَ اللهُ صَدْرَ أبي بكرٍ للقِتالِ، فعَرَفْتُ أنَّه الحَقُّ) .