التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم

﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾

قضى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عُمرَه الشَّريفَ يدعو النَّاسَ إلى إصلاحِ أنفُسِهم وعقائِدِهم وأخلاقِهم، والتَّخلُّصِ مِن آفاتِ النُّفوسِ التي كانوا عليها في الجاهِليَّةِ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عظيمَ الصَّبرِ في إصلاحِه، رحيمًا بمَن حَولَه، ساعيًا في الإصلاحِ بَينَهم، وفضِّ مُنازَعاتِهم، ومِن ذلك:

إصلاحُه بَينَ بَني عَمرِو بنِ عَوفٍ:
عن سَهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِديِّ رضِي اللهُ عنه: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلَغه أنَّ بَني عَمرِو بنِ عَوفٍ كان بَينَهم شيءٌ، فخرَج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِحُ بَينَهم في أناسٍ معَه…))، الحديث
أخرجه البخاري (1234) واللفظ له، ومسلم (421).
وفي رِوايةٍ: أنَّ أهلَ قُباءَ وهُم بنو عَمرِو بنِ عَوفٍ اقتتَلوا حتَّى ترامَوا بالحِجارةِ، فأُخبِر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، فقال: ((اذهَبوا بنا نُصلِحْ بَينَهم)) .
أخرجه البخاري (2693).

التَّوسُّطُ من أبرَزِ ملامِحِ السِّيرةِ النَّبَويَّةِ

فسُنَّةُ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هي الوَسَطيَّةُ، ومن لَزِم هَدْيَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقد استقام واعتدَل، ومِن ذلك:
عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، يقولُ: (كان رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُفطِرُ مِن الشَّهرِ حتَّى نَظُنَّ أن لا يصومَ منه، ويصومُ حتَّى نظُنَّ أن لا يُفطِرَ منه شيئًا، وكان لا تشاءُ أن تراه من اللَّيلِ مُصَلِّيًا إلَّا رأيتَه، ولا نائمًا إلَّا رأيتَه).

سأل قومٌ جابِرَ بنَ عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه عن الغُسلِ، فقال: (يكفيك صاعٌ، فقال رجُلٌ: ما يكفيني، فقال جابِرٌ: كان يكفي مَن هو أوفى منك شَعرًا، وخيرٌ منك).

عن أبي وائلٍ شقيقِ بنِ سَلَمةَ، قال: (كان عبدُ اللَّهِ -هو ابنُ مسعودٍ- يُذَكِّرُ النَّاسَ في كُلِّ خميسٍ، فقال له رجُلٌ: يا أبا عبدِ الرَّحمنِ، لوَدِدْتُ أنَّك ذكَّرْتَنا كُلَّ يومٍ؟ قال: أمَا إنَّه يمنعُني من ذلك أني أكرَهُ أن أُمِلَّكم، وإنِّي أتخَوَّلُكم بالموعظةِ كما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتخَوَّلُنا بها مخافةَ السَّآمةِ علينا) ، قال النَّوويُّ: (وفي هذا الحديثِ الاقتصادُ في الموعظةِ؛ لئلَّا تَمَلَّها القلوبُ، فيفوتَ مقصودُها) .

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قال: (بينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يخطُبُ إذا هو برجُلٍ قائمٍ، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيلَ، نذَرَ أن يقومَ ولا يقعُدَ، ولا يَستَظِلَّ، ولا يتكَلَّمَ، ويصومَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مُرْه فلْيتكَلَّمْ ولْيَستظِلَّ ولْيَقعُدْ، وليُتِمَّ صومَه) ، قال ابنُ القَيِّمِ: (وقد اقتُطِع أكثَرُ النَّاسِ إلَّا أقَلَّ القليلِ في هذينِ الواديَينِ: وادي التَّقصيرِ، ووادي المجاوَزةِ والتَّعدِّي، والقليلُ منهم جِدًّا الثَّابتُ على الصِّراطِ الذي كان عليه رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه) .


إعراض النبي ﷺ عن الجاهلين

عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((استأذَن رَهطٌ من اليهودِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا: السَّامُ عليك، فقُلتُ: بل عليكم السَّامُ واللَّعنةُ! فقال: يا عائِشةُ، إنَّ اللهَ رَفيقٌ يحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كُلِّه. قُلتُ: أولَم تسمَعْ ما قالوا؟! قال: قُلتُ: وعليكم)) .

عنِ ابن شهاب، حدثني عروة بنُ الزبير أنَّ عائشةَ زوجَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلم حدثته أنَّها قالت لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم: (يا رسولَ اللهِ، هل أتى عليكَ يومٌ كان أشَدَّ من يومِ أُحُدٍ؟ فقال: لقَد لَقِيتُ مِن قَومِكِ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهم يوم العقبة؛ إذْ عَرَضْتُ نَفسي على ابنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أرَدْتُ، فانطَلَقْتُ وأنا مَهمومٌ على وَجهي، فلم أستَفِقْ إلَّا بقَرنِ الثَّعَالِبِ، فرَفَعتُ رَأسي فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظَلَّتني، فنَظَرتُ فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بَعَث إليك ملَكَ الجِبالِ لتَأمُرَه بما شِئتَ فيهم، قال: فناداني مَلَكُ الجِبالِ وسَلَّم عَلَيَّ، ثمَّ قال: يا محمَّدُ، إنَّ اللهَ قد سمِعَ قَولَ قَومِك لك، وأنا مَلَكُ الجِبالِ، وقد بعثَني ربُّك إليكَ لتَأمُرَني بأمرِك، فما شِئتَ؛ إنْ شِئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبَينِ ، قال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبُدُ اللهَ وَحدَه لا يُشرِكُ به شيئًا)

وعن أنس بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كنتُ أمشي مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعليه بُردٌ نَجرانيٌّ غليظُ الحاشيةِ، فأدركه أعرابيٌّ فجَذَبه جَذبةً شديدةً، حتى نظرْتُ إلى صفحةِ عاتِقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أثَّرَت به حاشيةُ الرِّداءِ من شِدَّةِ جَذبَتِه! ثمَّ قال: مُرْ لي من مالِ اللهِ الذي عندَك، فالتَفَت إليه فضَحِك، ثم أمَرَ له بعطاءٍ!)).

عن عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((لَمَّا كان يومُ حُنَينٍ آثَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أناسًا في القِسمةِ، فأعطى الأقرَعَ بنَ حابِسٍ مائةً من الإبِلِ، وأعطى عُيَينةَ مِثلَ ذلك، وأعطى أناسًا من أشرافِ العَرَبِ فآثَرَهم يومَئذٍ في القِسمةِ، قال رجُلٌ: واللهِ إنَّ هذه القِسمةَ ما عُدِل فيها، وما أُريدَ بها وَجهُ اللهِ! فقلتُ: واللهِ لأخبِرَنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتيتُه فأخبَرْتُه، فقال: فمَن يَعدِلُ إذا لم يَعدِلِ اللهُ ورسولُه؟! رَحِمَ اللهُ موسى قد أوذِيَ بأكثَرَ من هذا فصَبَر!))

عن عُروةَ قال: ((خاصَم الزُّبَيرُ رَجُلًا من الأنصارِ في شَريجٍ من الحَرَّةِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اسْقِ يا زُبَيرُ ثمَّ أرسلِ الماءَ إلى جارِك، فقال الأنصاريُّ : يا رسولَ اللهِ أنْ كان ابنَ عَمَّتِك؟! فتلَوَّن وَجهُه، ثمَّ قال: اسْقِ يا زُبَيرُ، ثمَّ احبِسِ الماءَ حتَّى يَرجِعَ إلى الجَدْرِ ، ثمَّ أرسِلِ الماءَ إلى جارِك)) .

و(فيه صبرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الأذى، والاحتمالُ للجَفاءِ).

عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قيل للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (لو أتيتَ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ، قال: فانطَلَق إليه ورَكِبَ حِمارًا وانطَلَق المُسلِمون، وهي أرضٌ سَبخةٌ ، فلمَّا أتاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إليكَ عنِّي، فواللهِ لقد آذاني نَتْنُ حِمارِك، قال: فقال رجلٌ من الأنصارِ: واللهِ، لحِمارُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أطيَبُ ريحًا منكَ، قال: فغَضِب لعبدِ اللهِ رَجُلٌ من قومِه، قال: فغَضِب لكُلٍّ واحدٍ منهما أصحابُه، قال: فكان بينهم ضَربٌ بالجريدِ وبالأيدي وبالنِّعالِ، قال: فبلَغَنا أنَّها نَزَلت فيهم: “وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا” [الحجرات: 9] ) .

وفي هذا الحديثِ بيانُ ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الحِلمِ والصَّفحِ والصَّبرِ على الأذى في اللهِ تعالى.

الألفة عند النبي صلى الله عليه وسلم

كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسَنُ النَّاسِ أُلفةً مع أهلِ بَيتِه ومع المُسلِمين عامَّةً، وقد دعا بأقوالِه وأفعالِه إلى الأخذِ بأسبابِ الأُلفةِ، وطَرحِ ما يخالِفُها، ومن ذلك:

قال أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه (إن كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُخالِطُنا، حتى يقولَ لأخٍ لي صغيرٍ: يا أبا عُمَيرٍ، ما فَعَل النُّغَيرُ؟) ، وفي قولِه: (لَيُخالِطُنا) ما يدُلُّ على الأُلفةِ بخِلافِ النُّفورِ، وذلك من صفةِ المؤمِنِ .

عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لها: يا عائِشةُ، لولا أنَّ قَومَكِ حديثُ عهدٍ بجاهليَّةٍ لأمَرْتُ بالبيتِ فهُدِم، فأدخَلْتُ فيه ما أُخرِجَ منه وألزَقْتُه بالأرضِ، وجعَلْتُ له بابَينِ: بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، فبَلَغْتُ به أساسَ إبراهيمَ)) ، فتَرَك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تغييرَ بناءِ البيتِ لِما رأى في إبقائِه من تأليفِ القُلوبِ.

قال أنسٌ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أتانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دارِنا هذه فاستسقى، فحلَبْنا له شاةً لنا، ثمَّ شُبْتُه من ماءِ بِئْرِنا هذه فأعطَيتُه، وأبو بكرٍ عن يسارِه وعُمَرُ تُجاهَه، وأعرابيٌّ عن يمينِه، فلمَّا فرَغ قال عُمَرُ: هذا أبو بكرٍ، فأعطى الأعرابيَّ فَضْلَه)) ، وإنَّما أعطى الأعرابيَّ ولم يستأذِنْه كما استأذنَ الغُلامَ؛ ليتألَّفَه بذلك لقُربِ عَهدِه بالإسلامِ .

عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقبَلُ الهَدِيَّةَ ويُثيبُ عليها) ، فقَبولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الهَدِيَّةَ نوعٌ من الكَرَمِ وبابٌ مِن حُسنِ الخُلُقِ يتألَّفُ به القُلوبَ .

قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: ((قَسَم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَسْمًا، فقُلتُ: واللهِ يا رسولَ اللهِ، لغَيرُ هؤلاء كان أحَقَّ به منهم، قال: إنَّهم خيَّروني أن يَسألوني بالفُحشِ أو يُبَخِّلوني، فلَستُ بباخِلٍ)) ، ومعناه: أنَّهم ألحُّوا عليه في المسألةِ، واشتَطُّوا في السُّؤالِ، وقصَدوا بذلك أحَدَ شَيئَيِن: إمَّا أن يَصِلوا إلى ما طلَبوه، أو يَنسُبوه إلى البُخلِ؛ فحَلُمَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهم؛ ليتألَّفَهم، وأعطاهم ما سألوه، وصَبَر على جَفوتِهم .

عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيتَ فاطِمةَ فلم يجِدْ عَلِيًّا في البيتِ، فقال: أين ابنُ عَمِّكِ؟ قالت: كان بَيني وبَينَه شيءٌ، فغاضبَني فخَرَج، فلم يَقِلْ عندي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لإنسانٍ: انظُرْ أين هو؟ فجاء فقال: يا رسولَ اللهِ، هو في المسجِدِ راقِدٌ، فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو مُضطَجِعٌ، قد سَقَط رداؤُه عن شِقِّه، وأصابه ترابٌ، فجَعَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمسَحُه عنه، ويقولُ: قُمْ أبا تُرابٍ، قُمْ أبا تُرابٍ!)) ، فمازَحَ المُغضَبَ ليُؤنِسَه مِن حَرَجِه، وفيه: مُداراةُ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ صِهْرَه، وتَسليةُ أمرِه من عتابِه .

عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كُنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فكُنتُ على بَكْرٍ صَعبٍ لعُمَرَ، فكان يَغلِبُني، فيتَقَدَّمُ أمامَ القومِ، فيَزجُرُه عُمَرُ ويَرُدُّه، ثمَّ يتقَدَّمُ، فيَزجُرُه عُمَرُ ويَرُدُّه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُمَرَ: بِعْنِيه، قال: هو لكَ يا رسولَ اللهِ، قال: بِعْنِيه، فباعَه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هو لكَ يا عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ، تصنَعُ به ما شِئتَ)) ، وفيه: مراعاةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحوالَ الصَّحابةِ، وحِرصُه على ما يُدخِلُ عليهم السُّرورَ .


واعلموا أنه ما من عبدٍ مسلمٍ أكثر الصلاة على النبي محمد ﷺ إلا نوّر الله قلبه، وغفر ذنبه، وشرح صدره، ويسَّرَ أمره.

ابن الجوزيّ


قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “ولم يَزَلْ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُشَمِّرًا في ذات اللَّه -تعالى- لا يرده عنه رادٌّ، صادعًا بأمره لا يصده عنه صادٌّ، إلى أن بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونَصَح الأمة، وجاهد في اللَّه حق الجهاد، فأشرقت برسالته الأرضُ بعد ظُلُماتها، وتألفت به القلوبُ بعد شَتاتها، وامتلأت به الأرضُ نورًا وابتهاجًا، ودخل الناسُ في دين اللَّه أفواجًا.
فلما أكمل اللَّه -تعالى- به الدين، وأتم به النعمة على عباده المؤمنين، استأثر به ونَقَله إلى الرفيق الأعلى، والمحلِّ الأسْنى، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء، والطريق الواضحة الغراء، فصلَّى اللَّه، وملائكتُه، وأنبياؤه، ورسُلُه، والصالحون من عباده عليه وآله، كما وحَّد اللَّه وعرّف به، ودعا إليه، وسلم تسليمًا كثيرًا”.

الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القُدوةُ في الأمانةِ

أشهَرُ وأعظَمُ من اتَّصَف بالأمانةِ هو نبيُّنا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قَبلَ البعثةِ وبَعدَها.
أمَّا أمانتُه قبلَ البَعثةِ: فقد عُرِف بَينَ قومِه قَبلَ بَعثتِه بالأمينِ ولُقِّبَ به.

قال محمود سامي الباروديُّ:
ولقَّبَتْه قُرَيشٌ بالأمينِ على
صِدقِ الأمانةِ والإيفاءِ بالذِّمَمِ

وقال أحمد شوقي:
بسِوى الأمانةِ في الصِّبا والصِّدقِ لم
يَعرِفْه أهلُ الصِّدقِ والأُمَناءُ

وقال أيضًا:
يا جاهِلين على الهادي ودَعوتِه
هل تجهَلون مكانَ الصَّادِقِ العَلَمِ
لقَّبْتُموه أمينَ القومِ في صِغَرٍ
وما الأمينُ على قولٍ بمُتَّهَمِ

لقد كان من أسبابِ زواجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها شُهرتُه بالأمانةِ؛ فقد تاجَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مالِ خديجةَ قَبلَ البعثةِ، ورأت منه الصِّدقَ والأمانةَ؛ يقولُ ابنُ الأثيرِ في هذا الصَّدَدِ: (فلمَّا بلغَها -أي: خديجةَ- عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صِدقُ الحديثِ، وعظيمُ الأمانةِ، وكرَمُ الأخلاقِ؛ أرسَلَت إليه ليَخرُجَ في مالِها إلى الشَّامِ تاجِرًا) ، ثمَّ تزوجَّها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ ذلك.

المواقِفُ التي تدُلُّ على أمانتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبلَ البعثةِ كثيرةٌ.
ولشُهرتِه بالأمانةِ كانت قُرَيشٌ تستودِعُه أموالَها ثقةً به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع إصرارِها على الكُفرِ؛ لذا يذكُرُ أصحابُ السِّيَرِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا خرج للهجرةِ أمرَ عليًّا أن يتخَلَّفَ بمكَّةَ حتَّى يؤدِّيَ عنه الودائِعَ التي كانت عندَه للنَّاسِ، (وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس بمكَّةَ أحَدٌ عِندَه شيءٌ يخشى عليه إلَّا وضعه عندَه؛ لِما يعلَمُ مِن صِدقِه وأمانتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .

أمانتُه بَعدَ البَعثةِ: فقد أدَّى الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأمانةَ الكُبرى -التي تكفَّل بها، وهي الرِّسالةُ- أعظَمَ ما يكونُ الأداءُ، وتحمَّل في سبيلِها أعظَمَ أنواعِ المشقَّةِ .
وقد شَهِدت له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّتُه بتبليغِه، وأدائِه الأمانةَ، واستنطقَهم بذلك في أعظَمِ المحافِلِ في خُطبتِه يومَ عَرَفةَ في حَجَّةِ الوداعِ، وقد كان هناك من أصحابِه نحوُ أربعين ألفًا أو أكثَرُ، فقد أخرج مسلمٌ في “صحيحِه” من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عنهما- الطَّويلِ، وفيه: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأنتم تُسأَلون عنِّي، فما أنتم قائِلون؟ قالوا: نَشهَدُ أنَّك قد بلَّغْتَ وأدَّيتَ ونصَحْتَ، فقال بإصبَعِه السَّبَّابةِ، يرفَعُها إلى السَّماءِ ويَنكُتُها إلى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشهَدْ، اللَّهُمَّ اشهَدْ، ثلاثَ مَرَّاتٍ)) .

وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((كان على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثوبانِ قِطْرِيَّانِ غليظانِ، فكان إذا قعَد فعَرِق ثَقُلا عليه، فقَدِم بَزٌّ من الشَّامِ لفلانٍ اليهوديِّ، فقُلتُ: لو بعَثْتَ إليه، فاشتَرَيتَ منه ثوبينِ إلى الميسَرةِ، فأرسَلَ إليه، فقال: قد عَلِمْتُ ما يريدُ، إنما يريدُ أن يذهَبَ بمالي أو دراهمي! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَذَبَ! قد عَلِمَ أنِّي مِن أتقاهم للهِ، وآداهم للأمانةِ)) .

أي: أشَدُّهم أداءً (للأمانةِ)، وأقضاهم للدَّينِ على ما يقتَضيه الدينُ .

وقد شَهِد له بالأمانةِ حتَّى أعداؤه، ومن الأمثلةِ على ذلك: ما جاء في حِوارِ أبي سفيانَ -وذلك قبلَ إسلامِه- وهِرَقْلَ؛ حيثُ قال هِرَقْلُ: (سألتُك: ماذا يأمُرُكم؟ فزعَمْتَ أنَّه أمَركم بالصَّلاةِ والصِّدقِ، والعَفافِ والوفاءِ بالعهدِ وأداءِ الأمانةِ، قال: وهذه صِفةُ نَبيٍّ) … وفي موضِعٍ آخَرَ يقولُ هِرَقْلُ: (وسألتُك: هل يَغدِرُ؟ فزعَمْتَ أنْ لا، وكذلك الرُّسُلُ لا يَغْدِرون) .

وأنها – أي الصلاة على النبيّ ﷺ – سببٌ للبركة في ذات الْمُصلِّي وعَمَلِهِ وعُمُرِه وأسباب مصالحه، لأنَّ الْمُصلِّي داعٍ ربَّه أنْ يُبارِكَ عليه وعلى آله، وهذا الدُّعاءُ مُستجابٌ، والجزاءُ مِن جِنسهِ.

ابن القيّم رحمه الله


«أرى كُلَّ مَدْحٍ في النَّبِيِّ مُقَصِّرا
‏وإنْ سَطَّرَتْ كُلِّ البَرِيَّةِ أسْطُرا

‏فما أحَدٌ يُحصي فَضائلَ أحمَدٍ
‏وإنْ بالَغَ المُثني عَلَيْهِ وأكثَرا»


الإنصاتِ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

مِن خُلقِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أن يُنصِتَ للمُتكلِّمِ، وسيرتُه المُبارَكةُ ملأى بأمثلةِ ذلك، ومنه:
أنصَت النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ رضِي اللهُ عنها تُحدِّثُه خبرًا طويلًا فيه ذِكرُ بعضِ أمورِ الجاهليَّةِ وأحوالِهم، حتى إذا فرغَت طيَّب قَلبَها بقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((كنْتُ لكِ كأبي زَرعٍ لأمِّ زَرعٍ))

استمَع النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى تميمٍ الدَّاريِّ يُحدِّثُه عن الجسَّاسةِ، ثُمَّ جمَع النَّاسَ، فقال: ((أتدرونَ لِمَ جمعْتُكم؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: إنِّي واللهِ ما جمعْتُكم لرغبةٍ ولا لرهبةٍ، ولكن جمعْتُكم لأنَّ تميمًا الدَّاريَّ كان رجُلًا نصرانيًّا، فجاء، فبايَع وأسلَم، وحدَّثني حديثًا وافَق الذي كنْتُ أحدِّثُكم عن مسيحِ الدَّجَّالِ، حدَّثني أنَّه…)).

ولم يكنْ يخُصُّ أهلَ الإيمانِ بإصغائِه، بل عمَّ إنصاتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جميعَ النَّاسِ؛ العَدوَّ منهم والصَّديقَ، فكان المُنافِقونَ يُؤذونَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويقولونَ ما لا ينبغي، فيقولُ بعضُهم: لا تفعَلوا؛ فإنَّا نخافُ أن يبلغَه ما تقولونَ، فيقعَ بنا، فقال بعضُهم: بل نقولُ ما شِئْنا، ثُمَّ نأتيه فنُنكِرُ ما قُلْنا، ونحلِفُ فيُصدِّقُنا بما نقولُ؛ فإنَّما مُحمَّدٌ أُذُنٌ، أي: أُذُنٌ سامِعةٌ، يكثُرُ استعمالُه لها في الإصغاءِ بها، فيسمعُ كُلَّ ما يُقالُ له ويُصدِّقُه، قال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة: 61] .

بل كان يُنصِتُ للمُشرِكين؛ فقد أرسَلَت قُرَيشٌ عُتبةَ بنَ ربيعةَ -وهو رجُلٌ رَزينٌ هادِئٌ-، فذهَب إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ : يا بنَ أخي، إنَّك منَّا حيثُ قد علِمْتَ مِن المكانِ في النَّسبِ، وقد أتَيتَ قومَك بأمرٍ عظيمٍ، فرقَّت به جماعتُهم؛ فاسمَع منِّي أعرِضْ عليك أمورًا لعلَّك تقبلُ بعضَها: إن كنْتَ إنَّما تُريدُ بهذا الأمرِ مالًا جمَعْنا لك مِن أموالِنا حتَّى تكونَ أكثَرَنا مالًا، وإن كنْتَ تُريدُ شرفًا سوَّدْناك علينا فلا نقطَعُ أمرًا دونَك، وإن كنْتَ تُريدُ مُلكًا ملَّكْناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئيًّا تراه لا تستطيعُ ردَّه عن نَفسِك طلبْنا لك الطِّبَّ، وبذلْنا فيه أموالَنا حتَّى تبرَأَ، فلمَّا فرَغ من قولِه تلا رسولُ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ صَدرَ سورةِ فُصِّلَتْ: حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت: 1 – 7] .


الإيثارِ عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

أخذ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من جميعِ الأخلاقِ أوفَرَ الحَظِّ والنَّصيبِ؛ فما مِن خُلُقٍ إلَّا وقد تربَّع المصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على عَرشِه، وعلا ذِرْوةَ سَنامِه، ففي خُلُقِ الإيثارِ كان هو سَيِّدَ المُؤثِرين وقائِدَهم، بل وصَل الحالُ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لم يكُنْ يَشبَعُ لا هو ولا أهلُ بيتِه؛ بسَبَبِ إيثارِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال ابنُ حَجَرٍ: (والذي يظهَرُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُؤثِرُ بما عِندَه؛ فقد ثبت في الصَّحيحينِ أنَّه كان إذا جاءه ما فَتَح اللهُ عليه من خَيبَرَ وغَيرِها من تمرٍ وغَيرِه يدَّخِرُ قُوتَ أهلِه سَنةً، ثمَّ يجعَلُ ما بَقِيَ عِندَه عُدَّةً في سبيلِ اللهِ تعالى، ثمَّ كان مع ذلك إذا طرأَ عليه طارئٌ أو نَزَل به ضيفٌ يُشيرُ على أهلِه بإيثارِهم؛ فرُبَّما أدَّى ذلك إلى نفادِ ما عِندَهم أو مُعظَمِه) .


ما مناسبة ختم الصلاة الإبراهيمية باسمي الله: (إنك حميد مجيد)؟

يقول ابن القيم: (ولما كانت الصلاة على النبي ﷺ وهي ثناء الله تعالى عليه وتكريمه والتنويه به، ورفع ذكره، كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإن الصلاة عليه هي نوع حمد له وتمجيد، هذه حقيقتها، فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له، وهما اسما الحميد والمجيد، وهذا كما تقدم أن الداعي يشرع له أن يختم دعاءه باسم من الأسماء الحسنى مناسب لمطلوبه…وأيضا فإنه لما كان المطلوب للرسول ﷺ حمدا ومجدا، وكان ذلك حاصلا له ختم ذلك بالإخبار عن ثبوت ذينك الوصفين للرب بطريق الأولى، وكل كمال في العبد غير مستلزم للنقص، فالرب أحق به). – ابن القيم | جلاء الأفهام


الإيثارِ عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((جاءت امرأةٌ ببُردةٍ، قال: أتدرون ما البُردةُ؟ فقيل له: نعَمْ، هي الشَّملةُ منسوجٌ في حاشِيَتِها. قالت: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي نسَجْتُ هذه بيَدي أكسوكَها، فأخذَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنَّها إزارُه، فقال رجُلٌ من القومِ: يا رسولَ اللَّهِ اكسُنِيها. فقال: نَعَمْ. فجلس النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المجلِسِ، ثمَّ رجع فطواها، ثمَّ أرسَلَ بها إليه، فقال له القومُ: ما أحسَنْتَ، سألتَها إيَّاه، لقد عَلِمْتَ أنَّه لا يَرُدُّ سائلًا! فقال الرَّجُلُ: واللهِ ما سألتُه إلَّا لتكونَ كَفَني يومَ أموتُ. قال سهلٌ: فكانت كَفَنَه)) .
والحديثُ فيه: الأثَرةُ على نفسِه وإن كانت به حاجةٌ إلى ذلك الشَّيءِ .

وعن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((إنَّا يومَ الخَندَقِ نحفِرُ فعَرَضَت كُديةٌ شديدةٌ، فجاؤوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: هذه كُدْيةٌ عَرَضَت في الخندَقِ. فقال: أنا نازِلٌ، ثمَّ قام -وبطنُه معصوبٌ بحَجَرٍ، ولَبِثْنا ثلاثةَ أيَّامٍ لا نذوقُ ذَواقًا – فأخَذ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المِعْوَلَ فضَرَب في الكُدْيةِ فعاد كثيبًا أَهْيَلَ أو أَهْيَمَ ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ائذَنْ لي إلى البيتِ، فقُلتُ لامرأتي: رأيتُ في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا ما كان في ذلك صَبرٌ، فعِندَكِ شيءٌ؟! فقالت: عِندَي شَعيرٌ وعَناقٌ . فذبحَتِ العَناقَ، وطحَنَت الشَّعيرَ حتَّى جعَلْنا اللَّحمَ بالبُرمةِ. ثمَّ جِئتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والعَجينُ قد انكَسَر، والبُرمةُ بَينَ الأثافيِّ قد كادت أن تَنضَجَ. فقُلتُ: طُعَيِّمٌ لي، فقُمْ أنت -يا رسولَ اللَّهِ- ورجُلٌ أو رجلانِ. قال: كم هو؟ فذكَرْتُ له، فقال: كثيرٌ طَيِّبٌ. قال: قُلْ لها: لا تَنزِعِ البُرمةَ ولا الخُبزَ مِن التَّنُّورِ حتَّى آتيَ. فقال: قوموا. فقام المهاجِرون والأنصارُ، فلمَّا دخَل على امرأتِه قال: وَيحَكِ! جاء النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمهاجرين والأنصارِ ومن معهم! قالت: هل سألَكَ؟ قلتُ: نعَمْ. فقال: ادخُلوا ولا تَضاغَطوا . فجعَلَ يَكْسِرُ الخُبزَ ويجعَلُ عليه اللَّحْمَ ويُخَمِّرُ البُرمةَ والتَّنُّورَ إذا أخَذ منه، ويُقَرِّبُ إلى أصحابِه، ثمَّ يَنزِعُ، فلم يَزَلْ يَكْسِرُ الخُبزَ ويَغرِفُ حتَّى شَبِعوا وبَقِيَ بَقيَّةٌ. قال: كُلي هذا وأهدِي؛ فإنَّ النَّاسَ أصابَتْهم مجاعةٌ))

“فدَتْهُ نَفْسِي فَمَا نَفْسٌ تُشَابِهُهُ
مَا مِثلُهُ بَشَرٌ والنَّاسُ أشْبَاهُ

القَلْبُ حَنَّ لهُ والعَيْنُ تَرْقُبُهُ
صَلُّوا عَلَيْهِ فَقَدْ أوصَاكُمُ اللهُ”


عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((قال أبو طَلحةَ لأمِّ سُلَيمٍ: لقد سمعتُ صَوتَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضعيفًا أعرِفُ فيه الجوعَ، فهل عندكِ مِن شيءٍ؟ قالت: نعم، فأخرَجَتْ أقراصًا من شعيرٍ، ثُمَّ أخرَجَتْ خِمارًا لها، فلفَّت الخُبزَ ببَعْضِه، ثُمَّ دسَّته تحت يَدي ولاثَتْني ببَعْضِه ، ثُمَّ أرسلَتْني إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فذهبتُ به فوجدتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجِدِ ومعه النَّاسُ، فقمتُ عليهم، فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرسلك أبو طلحةَ؟ فقلتُ: نعم. قال: بطعامٍ؟ قلتُ: نعم. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمن معه: قوموا، فانطلَقَ وانطلقتُ بَينَ أيديهم حتى جئتُ أبا طلحةَ فأخبَرْتُه. فقال أبو طلحة: يا أُمَّ سُليمٍ، قد جاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّاسِ وليس عندنا ما نُطعِمُهم! فقالت: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، فانطَلَق أبو طلحةَ حتى لَقِيَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأقبل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو طلحةَ معه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هلمَّ يا أُمَّ سُلَيمٍ ما عندكِ، فأتت بذلك الخُبزِ، فأمَر به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ففُتَّ وعَصَرَت أمُّ سُلَيمٍ عُكَّةً فأدَمَتْه ، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه ما شاءَ اللهُ أَنْ يقولَ، ثُمَّ قال: ائذَنْ لعَشَرةٍ، فأَذِنَ لهم فأكلوا حتى شَبِعوا، ثُمَّ خرجوا ثُمَّ قال: ائذَنْ لعَشَرةٍ، فأَكل القَومُ كُلُّهم حتى شَبِعوا، والقومُ سبعون أو ثمانون رَجُلًا!)) .

وفي هذا الحديثِ والذي قبله تقديمُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه على نَفْسِه مع جوعِه وحاجتِه إلى الطَّعامِ!

عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان يقولُ: ((واللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو إنْ كُنْتُ لأعتَمِدُ بكَبِدي على الأرضِ مِنَ الجُوعِ، وإِنْ كنتُ لأَشُدُّ الحَجَرَ على بطني من الجُوعِ، ولقد قعَدْتُ يومًا على طريقِهم الذي يخرُجون منه فمرَّ أبو بكرٍ فسألتُه عن آيةٍ مِنْ كِتابِ اللهِ ما سألتُه إلَّا ليُشبِعَني، فمرَّ ولم يفعَلْ، ثُمَّ مرَّ بي عُمَرُ فسألتُه عن آيةٍ مِن كِتابِ اللهِ ما سألتُه إلَّا ليُشبِعَني فمرَّ ولم يفعَلْ، ثُمَّ مرَّ أبو القاسمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فتبسَّم حين رآني وعرَف ما في نفسي وما في وجهي، ثُمَّ قال: أبا هِرٍّ، قلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ. قال: الحَقْ، ومضى فتبِعْتُه، فدخل فاستأذن فأَذِنَ لي فدخل فوجد لبنًا في قَدَحٍ، فقال: مِنْ أين هذا اللَّبنُ؟ قالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانةٌ، قال: أبا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: الحَقْ إلى أهلِ الصُّفَّةِ فادْعُهم لي، قال: وأَهلُ الصُّفَّةِ أضيافُ الإسلامِ لا يأوُون إلى أهلٍ ولا مالٍ ولا على أحدٍ، إذا أتته صَدَقةٌ بعث بها إليهم ولم يتناوَلْ منها شيئًا، وإذا أتته هَدِيَّةٌ أرسَلَ إليهم وأصاب منها وأَشركَهم فيها، فساءني ذلك، فقلتُ: وما هذا اللَّبَنُ في أهلِ الصُّفَّةِ؟! كُنتُ أَحقَّ أَنْ أُصيبَ من هذا اللَّبَنِ شَربةً أتقوَّى بها! فإذا جاء أمرني فكنتُ أَنا أعطيهم، وما عسى أَنْ يبلُغَني من هذا اللَّبَنِ؟! ولم يَكُنْ من طاعةِ اللهِ وطاعةِ رَسولِه بُدٌّ، فأتيتُهم فدعوتُهم، فأَقبلوا فاستأذنوا فأذِنَ لهم وأخذوا مجالِسَهم من البيتِ. قال: أبا هِرٍّ، قلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: خُذْ فأَعْطِهم، قال: فأخذتُ القَدَحَ فجعَلْتُ أُعطيه الرَّجُلَ فيَشرَبُ حتى يَرْوَى، ثُمَّ يرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فأُعطي الرَّجُلَ فيَشرَبُ حتى يروى، ثُمَّ يرُدُّ عليَّ القَدَحَ، حتى انتهيتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد رَوِيَ القومُ كُلُّهم، فأخذ القَدَحَ فوضعه على يَدِه، فنظر إِليَّ فتبسَّم، فقال: يا أبا هِرٍّ! قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: بَقِيتُ أَنا وأَنت، قلتُ: صَدَقْتَ يا رسولَ اللهِ، قال: اقعُدْ فاشرَبْ، فقعدتُ فشَرِبْتُ، فما زال يقولُ: اشرَبْ، حتى قُلتُ: لا والذي بعثك بالحقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسلَكًا! قال: فأَرِني، فأعطيتُه القَدَحَ، فحَمِد اللهَ وسَمَّى وشَرِبَ الفَضْلةَ!)) .
فيه (قَبولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الهَدِيَّةَ، وتناوُلُه منها، وإيثارُه ببعضِها الفُقَراءَ)

بِرُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأمِّه وسَعيُه في إيصالِ الخَيرِ لها بعدَ مَوتِها

عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((استأذَنْتُ رَبِّي أن أستغفِرَ لأمِّي فلم يأذَنْ لي، واستأذَنْتُه أن أزورَ قَبْرَها فأَذِنَ لي)).

بِرُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَمِّه العبَّاسِ وإنزالُه مَنزِلةَ الوالِدِ

عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بعث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عُمَرَ على الصَّدقةِ فقيل: منَع ابنُ جَميلٍ، وخالِدُ بنُ الوليدِ، والعبَّاسُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما يَنقِمُ ابنُ جميلٍ إلَّا أنَّه كان فقيرًا فأغناه اللهُ، وأمَّا خالِدٌ فإنَّكم تَظلِمون خالِدًا، قد احتَبس أدراعَه وأعتادَه في سبيلِ اللهِ، وأمَّا العبَّاسُ فهي عَلَيَّ ومِثلُها معها ، ثمَّ قال: يا عُمَرُ، أمَا شَعَرْتَ أنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أبيه؟!)) .
قال القاضي عياضٌ: (قَولُه: ((فإنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أبيه)): أراد أنَّ أصلَه وأصلَ أبيه واحِدٌ. قال: ابنُ الأعرابيِّ: الصِّنْوُ: المِثْلُ، أراد مِثْلَ أبيه. وفيه: تعظيمُ حَقِّ العَمِّ، وقد أنزله العُلَماءُ مَنزلةَ الأبِ في كثيرٍ من الحُقوقِ).

بِرُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بزوجتِه خَديجةَ وحِفْظُه لعَهْدِها بعدَ مَوتِها

عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((ما غِرْتُ على أحَدٍ مِن نساءِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما غِرْتُ على خديجةَ، وما رأيتُها، ولكِنْ كان النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ ذِكْرَها، وربَّما ذبح الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُها أعضاءً ثُمَّ يبعَثُها في صدائِقِ خديجةَ، فرُبَّما قُلتُ له: كأنَّه لم يكُنْ في الدُّنيا امرأةٌ إلَّا خديجةُ؟! فيقولُ: إنَّها كانت وكانت، وكان لي منها وَلَدٌ)) .

أحوال النبي – صلى الله عليه وسلم – في غزوة بدر

كان تارة بالعريش يرفع يديه، ويبتهل إلى الله بالدعاء بنصر المسلمين، وتارة يقاتل بنفسه، ويجالد أعداء الله.
 
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث علي – رضي الله عنه – أنه قال: لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً. وتارة يرص الصفوف، ويحرض الناس على القتال، ويبشرهم بالنصر.
 
هذا وقد التقت الفئتان، وتقابل الفريقان، وحضر الخصمان بين يدي الرحمن، واستغاث بربه سيد الأنبياء، وضج الصحابة بصنوف الدعاء إلى رب الأرض، والسماء، سامع الدعاء، وكاشف البلاء، فكان أول من قتل من المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي.


فجاء أبو بكرٍ فقال: ما لِرسول الله ﷺ يا عائشة؟
قلتُ: غُشِي عليه منذ ساعة!
فكشف عن وجهه، فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، ثم قال:
وانبياه، واصفياه، واخليلاه!
صدق الله ورسوله { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتونَ }، { وَما جَعَلنا لِبَشَرٍ مِن قَبلِكَ الخُلدَ أَفَإِن مِتَّ فَهُمُ الخالِدونَ }

يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: لما مات رسولُ الله ﷺ صِرنا كالغنمِ الشارِدة في الليلة المُمْطرة!

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة