أمّ المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها

– من السّابقات إلى دوحة الإيمان وأنس الإسلام.

ـ هاجرت إلى الحبشة وإلى المدينة فهي من أصحاب الهجرتين .

– سيدة جليلة، نبيلة كريمة طيبة النّفس والقلب، دخلت خدر أمهات المؤمنين بعد خديجة بنت خويلد.

ـ روت خمسة أحاديث شريفة.

ـ كانت شديدة التمسك بالهدي النبوي، وتوفيت في أواخر خلافة عمر بالمدينة المنورة.

رحلةٌ مع السّابقين

الذين استجابوا لله وللرسول من السابقين الأولين، لم يكونوا كلهم ولا أكثرهم من الضُّعفاء، والأرقّاء، والفقراء، وحواشي بيوتات مكة، وأتباعها الملتقطين بقايا موائدها، وأراذلها الذين استقرّوا فيها بادي الرأي، بل كانوا في كثرتهم الكاثرة من صميم أبناء بيوت قريش وبطونها، وعلية شبابها، وأفضلهم في عليا المكارم، هؤلاء السابقون معرفون بأسمائهم وأنسابهم، وبيوتهم وقبائلهم، وعشائرهم، وإن ما شهر من أن الذين سبقوا إلى دوحة الإيمان بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كانوا من المستضعفين والمحرومين، أو من الأرقاد والمواليد، كلامٌ لا عمق فيه، ولا تحقيق، ولا يمتّ إلى ديوان الأخبار الصحيحة بصلة أو إلى الحقائق العلمية والعملية بأدنى رابطةــ وإن كان بعض السبق ممن استضعفوا في بأرض ــ .

إن الله عز وجل قد بَعَثَ محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً وبشيراً ونذيراً إلى العباد كافة، وأمره عزَّ وجل بالإنذار العام في قوله عز وجل : (قُمْ فأنذر) [المدثر : ٢] فنهض رسول الله ﷺ بأمر ربه، لا يبالي بما يلقاه من شديد الأذى، وفادح البلاء، لا يتقي أحداً من الناس، ولا يُصانع ولا يجامل.

بدأ الحبيب الأعظم بتبليغ رسالته، وهو منفرد في قومه ، ليس معه مَنْ ينصره منهم، ولا من غيرهم، بل كانت قريش والدنيا من ورائها، إلب على هذه الدعوة الهادية الهادفة الراشدة التي تندد بحياة الفوضى والضياع التي يعيشونها، وتندد بحياتهم الظالمة التي يحيونها دون رادع يردعهم عن فجور ظلم يرتكبونه، أو عتو بغي يأتونه، إذلا هدف يعيشون من أجله، ولا دين، ولا نظام ولا ضمير.

وهذا الحبيب المصطفى ماض في دعوته، لا يرده عن سبيلها راد، فاستجاب له أوّل من استجاب – بعد زوجه الريبة النجيبة، الحسيبة النسيبة سيدة قومها جاهلية، وسيدة نساء العالمين إسلاماً خديجة بنت خويلد الأسدية القرشية، أبو بكر الصديق، أَعْلَم قريش بقريش ، وأحد سادتها مالاً وشرفاً ومكانة .

كان أبو بكر رضي الله عنه مُذْ دَخَلَ في الإسلام قواماً بالدعوة إلى الله عز وجل، دعا أبناء قمم قريش، وذرى أحسابها ، وشباب بيوتها، فاستجاب له هؤلاء، وكانوا نواة الإسلام الأولى، واللبنات الأساسية في صرح الإسلام.من هؤلاء المؤمنين السابقين إلى دوحة الإيمان : السكران بن عمرو بن عبد شمس القرشي العامري أخو الصحابي الشهير سهيل بن عمرو العامري، وأسلم معه زوجه وابنة عمه سودة بنت زمعة بنت قيس القرشية العامرية رضي الله عنها .

عرفت سودة بأنها من ذوات السيادة والنبل والشرف في مجتمع نساء قريش، ولما انضمت وزوجها إلى ثلة المؤمنين الأولين، وأصبحت من جند دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم مع بقية المؤمنين والمؤمنات والمسلمين و المسلمات.

عند ذلك طارت عقول قريش شعاعاً من أدمغتها، ودارت أفئدتهم في حنايا أضلعهم، وتنفسوا الصعداء غماً وهماً وكمداً لإيمان هؤلاء الأبرار.

بدأت فدائح البلاء تتوالى على هؤلاء البررة المؤمنين، بما أنزل الله من الهدى ودين الحق، وطفقوا ينزلون بالمسلمين ألوان العذاب، وراحوا يتفننون في تعذيبهم بأبشع ما يتصوره عقل بشر… شعر رسول الله ﷺ بما ينال أصحابه الكرام، من قواصم البلاء، ومن شديد الأذى، وهم صابرون محتسبون لا يُؤْذَنُ لهم برد الاعتداء، لا لأنهم ضعفاء، بل لكونهم دعاة هداية، وأصحاب رسالة، أريدوا لتبليغها إلى الدنيا كلها في أرض الله، ولن يستطيعوا أن يبلغوا رسالات ربهم، إذا زجّوا بأنفسهم في الرد على أذى المشركين، فليصبروا وليصابروا وليعفوا وليصفحوا وليغضوا الطرف عن سفاهة السفهاء وليتساهلوا مع ظلم الأقارب، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وحتى يأتي بالفرج من عنده، وكانوا بذلك يقتدون بالحلم والصبر بحبيبهم ونبيهم محمد صلّى الله عليه وسلم، ولله در البوصيري إذ يقول مصوراً هذه المعاني بشعره الرائق الفائق :

جهلت قومه عليه فأغضى … وأخو الجلم دابه الإغضاء

وسع العالمين علماً وحلماً … فهو بحر لم تُعيه الأعباء

ولمعت بارقة مِنَ الفَرَج، فليخرج المؤمنون إلى حيث يأمنون على أنفسهم من الفتنة في دينهم، ويبلغون رسالة الله في أرض الله، في الحبشة، أرض الصدق والأمن والأمان، تلك الأرض التي لا يجدون فيها ظلماً ولا هضماً، ولا عداوة ولا رهبة، ولا جدال ولا مراء .

فَرَجٌ قَريبٌ

عقد المؤمنون آمالهم بالفرج عندما وجههم الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة في قوله – وهو يرى ما يُصب عليهم من البلاء : «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدقٍ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه». وفي حديث الزهري – رحمه الله – عند عبد الرزاق قال : لما كثر المسلمون، وظهر الإيمان، أقبل كفار قريش على من آمن من قبائلهم، يعذبونهم، ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم .

قال : فبلغنا أن رسول الله ﷺ قال لمن آمن به : «تفرقوا في أرض الله، فإن الله سيجمعكم قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: «إلى ها هنا» وأشار بيده إلى أرض الحبشة، فهاجر إليها ذوو عدد، منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه.

هذا، وقد كانت سودة ابنة زمعة رضي الله عنها مع زوجها السكران بن عمرو مع النفر الثمانية من بني عامر الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم في الهجرة الثانية، وركبوا عباب البحر، قاصدين أرض الحبشة، حتى وصلوها.

مكثت سودة وزوجها في الحبشة دهراً، ثم قدما مكة ليتابعا طريق السلامة في الإسلام.

سَوْدَةُ فِي مَكَّةَ

قال ابن سعد – رحمه الله – : أسلمت سودة بمكة قديماً وبايعت، وأسلم زوجها السكران بن عمرو، وخرجا جميعاً مهاجرين إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية.

وقال النووي – رحمه الله – في تهذيبه : كان السكران بن عمرو رضي الله عنه مسلماً، وهو من مهاجرة الحبشة، ثم قدما مكة، فمات بها السكران مسلماً رضي الله عنه.

وتأثر النبي الكريم للمهاجرة المؤمنة التي فقدت زوجها وأضحت أرملة وحيدة، تعيش في مكة تتحمل آلام وإيلام الوحدة وعذاب المشركين، ولكنها صبرت صبر الكرام، واسترجعت، فالإيمان الذي استقر في أعماقها أضاء لها جوانب الحياة في ظل السعادة تحت جناح الإسلام.

في تلكم الأيام، كان يؤلم رسول الله ﷺ فراق زوجه خديجة الطاهرة رضي الله عنها، وإذ ذاك شعر بعدها وحشة مُمضة، فالطاهرة كانت قبل البعثة خير معين له على أن ينقطع للعبادة، والتحنث والنظر إلى وَجْهِ الله عزَّ وجل؛ وما كانت تضيق بحبه العزلة، بل كانت تبارك فيه حب النزوع إلى ملكوت السماء، ومحاولة الاتصال بالخير الأسمى، وكمال الكمال.

كانت خديجة رضي الله عنها بعد الرسالة، نبض الإسلام، وحاضنة الدعوة، والبلسم الشافي لكل الجراح، والنور المضيء لكل طريق، فما عاد إليها مثقلاً بالهموم والأحزان، إلا وأقبلت عليه تشجعه وتواسيه، ولا تقوم عنه حتى تمسح عن قلبه الكبير الأوصاب، وحتى يفتر ثغره الجميل الشريف بالابتسام، ويتألق في عينيه الشريفتين التصميم والعزم على احتمال الآلام كلها في سبيل الله عز وجل، حتى يؤدي الأمانة ويبلغ ما أُنزِلَ إليه من ربه.

لقد أذلت خديجة الدنيا بإدبارها عنها، وأعزّت الآخرة بإقبالها عليها، ولما توفيت بكاها رسول الله ﷺ وأولادها وصحبه بدمع هتون ؛ لقد رحلت الطاهرة سيدة نساء قريش، وحاضنة الإسلام، وأم المؤمنين، وحبيبة رسول رب العالمين فكان ذلك العام العاشر من البعثة عاماً مفعماً بالأسى والحزن حتى سمي عام الحزن .

في هذه الظروف الصعبة لسير الرسالة المحمدية، مَنِ المرأة التي تستطيع أن تملأ الفراغ الذي تركته صدِّيقة المؤمنات الأولى خديجة بنت خويلد رضوان الله عليها ؟! اعتقد أن مكان خديجة لا يملؤه إلا خديجة، وأن مكانها ومكانتها في قلب رسول الله ﷺ سيبقى لها وحدها لا تشاركها واحدة من نسائه الأخريات فيما بعد .

رُؤْيَا جَميلَة

عندما تحدث الإمام الذهبي – رحمه الله – عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ذكر سودة بنت زمعة ووصفها بقوله : كانت سيدة جليلة نبيلة ضخمة.

يفهم من هذا القول بأن السيدة النبيلة سودة، كانت من النساء اللاتي نشأن على الظهر والنقاء والصفاء، حتى عُرفت بهذه الصفة بين النسوة القرشيات، ممن اشتهرن في مطلع عصر النبوة وصدر الإسلام.

ويبدو أن السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها، كانت من اللاتي دخلن في دين الله مع المبكرات، وقد تفاعلت مع الدين الجديد حتى غَدَتْ تنطق بالحكمة، وترى بعين البصيرة ما قد يكون، حتى إن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها، وصفاء نفسها، وجودة قريحتها، ولذلك اختص الله عز وجل سودة بأن تكون أماً للمؤمنين، وزوجاً لرسوله الأمين محمد صلّى الله عليه وسلم.

وقد رأت سودة رضي الله عنها في منامها ما حققته العناية الإلهية – فيما بعد – فأضحت زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي طبقاته روى ابن سعد – رحمه الله – عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت سودة بنت زمعة تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو، فرأت في المنام كأن النبي ﷺ ، أقبل يمشي حتى وطىء عنقها، فأخبرت زوجها بذلك فقال : لئن صدقت رؤياك لأموتن، وليتزوجك رسول الله ﷺ. فقالت: حجراً وستراً.

ثم رأت في المنام ليلة أخرى أن قمراً انقض عليها وهي مضطجعة، فأخبرت زوجها، فقال: وأبيك لئن صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيراً حتى أموت وتتزوجين من بعدي .

فاشتكى السكران من يومه ذلك، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات.

وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما عن كيفية زواج رسول الله ﷺ سودة، فقد تكفلت بالخبر اليقين واحدة من الصحابيات المؤمنات التي قامت بدور الوساطة في هذه المهمة الشريفة، هذه الصحابية تدعى خولة بنت حكيم السلمية زوج عثمان بن مظعون رضي الله عنها وعنه.

اذكُريها عَليّ

كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم رجالاً ونساءً، يعرفون مكانة خديجة رضي الله عنها في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندما توفيت كانوا يرجون له ما يخفف عنه اللوعة واللهفة، أن يتزوج ليعيد لبيته وبناته الأنس والسلوى.

ولكن ؛ من للعيال بعد خديجة ؟! بل من ذا الذي يجرؤ أن يفاتح النبي ﷺ في أمر زواجه، وكلهم يعرف ويدرك مكانة الطاهرة خديجة من نفسه؟ بل من الذي يملك الشجاعة ليدلي دلوه في هذا المضمار ؟لم يكن عند أحَدٍ منهم شجاعة، ليفاتح رسول الله ﷺ فِي أَمْرِ أن تحل امرأة أخرى، محل سيدة نساء قريش خديجة، حتى سيدنا عمر بن الخطاب العبقري الشديد، أشفق على نفسه من حمل هذه الرسالة إلى النبي الحبيب .

إذن، ما العمل؟ لا أَحَدَ يَقْدِرُ على شيءٍ مِنْ هذا ولكن المشيئة الإلهية جَعَلَتْ خولة بنت حكيم رضي الله عنها واحدة من فضليات نساء الصحابة، ممن كن يدخلن بيت النبي ﷺ، ويعرفن بعض شؤونه، فكانت تراه حزيناً لفراق زوجه الطاهرة خديجة رضي الله عنها.

وذات يوم، بينما كان رسول الله ﷺ في الدار، إذا بخولة بنت حكيم تستأذن الدخول عليه، ولما رآها رحب بها وأكرم مثواها، فهي من المؤمنات الصادقات الصابرات، قد هاجرت الهجرة الأولى إلى الحبشة مع زوجها عثمان بن مظعون رضي الله عنه، ثم ما لبثت أن عادت معه إلى مكة، ليكونا إلى جوار النبي ﷺ، وإلى جوار المسلمين يتحملان معهم الصبر فيما ينزل بهم من أذى قريش حتى يجعل الله من ذلك مخرجاً .

وأحبت خولة أن تدخل السرور إلى قلبه الشريف، وأن تقترح عليه أن يتخذ زوجة له لتملأ بعض الفراغ الذي تركته خديجة رضي الله عنها، وراحت خولة لحظ إذ تجمع أطراف شجاعتها قبل أن يتحرك لسانها بما أرادت أن تقوله أو بما جاءت من أجله، فقالت في هدوء وأدب : يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلة – حزن – لفقد خديجة ؟! فأجاب الرسول الكريم في نبرات حزينة : «أجل كانت أم العيال وربة البيت.

ويبدو أن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قد وجدت مدخلاً كريماً، تدخل به إلى نفس النبي الكريم من هذا الباب، ووجدت الفرصة للحديث عن الزواج من إحدى عقيلات قريش وراحت خولة تجمع أطراف شجاعتها من جديد،

وقالت : يا رسول الله، ألا أخطب عليك؟

فقال في رفق : بلى فإنكن معشر النساء أرفق بذلك. سكتت خولة لحظات، وقد أضاء الأمل طريق مساعيها الحميدة، وتساءلت: لم لا أحدثه عن سودة بنت زمعة وعن عائشة بنت أبي بكر، فقد تحدثت مع سودة بالأمس القريب، وتحدثت مع أم رومان زوج أبي بكر في شأن ابنتها عائشة، وها هو رسول الله ﷺ يشهد لي بالرفق في هذا الموضوع ؟!! وشعرت خولة براحة عميقة لهذه الفكرة التي تزور مخيلتها الآن، عندئذ فاتحت رسول الله ﷺ بقولها : يا رسول الله ، ألا تتزوج، فإني قد وجدت لك ما يدخل على قلبك السرور، وإن شئت بكراً، وإن شئت ثيباً؟ فنظر إليها رسول الله ﷺ

وقال : «مَنْ؟ قالت: أما البكر؛ فعائشة بنت أحب خلق الله إليك أبي بكر.

وأما الثيب، فسودة بنت زمعة، قد آمنت بك، واتبعتك على ما تقول.

ثم إن خولة أشارت على النبي ﷺ بزواج سودة، وذكرت له حالها بعد وفاة زوجها السكران بن عمرو .

فقال رسول الله ﷺ : فاذكريها علي، وكذلك قال عن عائشة .

وطار فؤاد خولة فرحاً حيث نجحت في مهمتها، ووفقت لإدخال السرور إلى قلب النبي ﷺ، وانطلقت وهي تكاد تطير من الفرح إلى سودة، وقد ترقرق في وجهها الاستبشار.

ولنترك الحديث الآن لخولة نفسها كيما تحدثنا عن بقية مهام مهمتها، ودخولها على سودة بنت زمعة،

فتقول: فذهبت إلى سودة وأبيها زمعة – وكان شيخاً كبيراً قد جلس عن المواسم –

فقلت : ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟

فقالت سودة في دهشة : وما ذاك يا خولة؟

قلت: أرسلني رسول الله ﷺ إليك لأخطبك عليه .

غمر سودة سرور عميق، واستشعرت دموع الفرح تبلل وجهها وروحها، وتذكرت ما رأت في نومها منذ فترة، وها هي رؤياها قد جعلها ربها حقاً، وما كانت تطمع في أن تكون زوجاً لرسول الله ﷺ بعد أن نالت منها السنون، وإنه لشرف عظيم لا يدانيه شرف أن تصبح أم المؤمنين، ثم توجهت إلى خولة وقالت لها والبشر يملأ وجهها : وددت ذلك، ولكن ادخلي على أبي فاذكري له ذلك.

قالت خولة : فدخلت على أبي سودة، وحييته بتحية أهل الجاهلية وقلت: أنعم صباحاً.

فقال: من أنت يا هذه؟

فقلت: خولة ابنة حكيم بن أمية السلمي زوج عثمان بن مظعون الجمحي.

قالت خولة : فرحب بي والد سودة، وقال ما شاء الله أن يقول، فقد كان على علم بأني خرجت عن آلهة قومي، وآمنتُ وهاجرت إلى الحبشة، ثم عدت إلى مكة، وسألني عن حاجتي وقال: ما شأنك؟! فقلت: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر ابنتك سودة أم الأسود.

قال : إن محمداً كفء كريم، ولكن ما تقول صاحبتك سودة؟

قلت: هي تحب ذلك.

قال: إذن ادعيها إلي.

فذهبت ودعوتها ؛ فقال لسودة : أي بنية، إن خولة ابنة حكيم تزعم أن محمد بن عبد الله قد أرسل يخطبك، وهو كفء كريم أتحبين أن أزوجك منه؟

فقالت سودة في صوت يفصح عن رغبتها : نعم إن أحببت.

فالتفت زَمَعَة إلى خولة وقال لها : قولي لمحمد فليأتنا.

قالت خولة : فجاء رسول الله ﷺ وعقد عليها وملكها فزوجه إياها بعد أن أصدقها أربعمئة درهم، ودخلت سودة إلى البيت النبوي الكريم لتغدو من أمهات المؤمنين، وممن تشرفن بخدمة خاتم النبيين وكان لأم المؤمنين سودة أخ يدعى عبد الله بن زَمَعَةً لا يزال على دِينِ قريش، وكان خارج مكة، فلما قدم مكة، وَجَدَ أن أخته سودة قد تزوجها محمد، فطارت نفسه شعاعاً، وتملكه الغيظ، وركبته حمى الجاهلية، وحثا بالتراب على رأسه أسفاً وحزناً على هذا الزواج، ودخل على أبيه يرغي ويزيد، ويتوعد ويهدد، فأي عار لحقه إذ تزوج محمد بن عبد الله سودة؟ ولما فتح الله عز وجل بصيرته وبصره على محاسن نور الإسلام وآمن بالله ، وبمحمد رسولاً ونبياً، قال محدثا عن نفسه : إني لسفيه يوم أحثو التراب على رأسي، أن تزوج رسول الله ﷺ أختي .

كانت سودة رضي الله عنها أول من تزوج بها النبي ﷺ، بعد موت خديجة رضي الله عنها، وكان زواجها في رمضان سنة عشر من النبوة، وانفردت به نحواً من ثلاث سنين أو أكثر حتى تزوج بعائشة، وهاجر بها إلى المدينة .

وبزواجها من رسول الله ﷺ ارتفعت بمكانتها إلى أمومة المؤمنين، وهل هناك شيء أعلى من هذه المكانة ؟!

سَوْدَةُ في بيتِ النَّبِيِّ ﷺ

كانت سودة رضي الله عنها تدرك بثاقب بصيرتها أن في زواج رسول الله ﷺ منها، إنما هو مواساة لحالها، وتكريم لصبرها، وجهادها، فقد تجاوزت مرحلة الصبا ودخلت في مرحلة ما فوق الكهولة، وخلت ملامح الجمال منها، وليس فيها ما يجذب الرجال إليها، فكانت تعرف أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يتزوجها إلا ليمسح عنها ما قاست من أهوال في سبيل الله ؛ ولكنها كانت تتجمل بجميل الصبر، وتتغذى برحيق الإيمان، لذلك أولاها الله عز وجل هذه المكانة وهو العليم الخبير.

كانت سودة سعيدة غاية السعادة أن تكون بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان وجهها يشرق بالابتسام لما ترى الرسول الكريم يبتسم من مشيتها، فأقصى آمالها في الحياة أن ترى رسول الله ﷺ ناعم البال، راضياً عنها وأن تخفف عنه بعض ما يلقاه من أذى المشركين.

في بيت رسول الله ﷺ ، راحت سودة تحدثه عن أخبار المؤمنين الذين ما يزالون في الحبشة عند ملكها النجاشي، وتروي ما كان من أمر المؤمنين، وكانت إذا ما تحدثت عن رقية ابنة رسول الله وعن زوجها عثمان، يبدو الاهتمام في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان قلبه الشريف يهفو إلى ابنته رقية التي هاجرت إلى الله ويشتاق قلبه إلى عثمان، وربما كانت سودة تشعر أن الحديث عنهما يدخل السرور إلى قلبه الشريف، فكانت تسهب في الحديث عنها لتدخل البهجة إلى نفسه وقلبه . كان الرسول الكريم يصغي إلى أحاديث سودة ليأنس بها، ولكنه لم يكن يحدثها عن آلامه، وعن آماله كما كان يفعل مع خديجة، وكانت أقصى آمال سودة أن تخفف عن رسول الله ﷺ ما كان يلقى من اضطهاد.

كانت سودة رضي الله عنها، تعلم علم اليقين أنها لن تستطيع أن تملأ الفراغ الذي خلفته الطاهرة خديجة رضي الله عنها في قَلْبِ رسول الله ﷺ ، بَيْد أَن كل سعادتها أن تكون بقرب رسول الله ﷺ الذي أخرجها من الظلمات إلى النور وتهيىء له ما تستطيع من سبل الراحة، فهي تحترم صمته إذا صمت، وتلبي رغباته راضية إن أشار، فقد وطدت نفسها من أول يوم دخلت فيه بيت الرسول ﷺ أن تحترم عواطفه، وتحترم ذكرياته ووفاءه لذكرى أم المؤمنين خديجة الراحلة إلى الفردوس في بيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

وفي البيت النبوي ، كان لسودة رضي الله عنها مواقف وضيئة، فقد قدمت مكة رقية ابنة رسول الله ﷺ وزوجها عثمان بن عفان من هجرتهم من الحبشة ووقعت عيناها على الدار الغالية، دار أمها الطاهرة خديجة رضي الله عنها، تلك الدار التي شهدت رقية فيها أحلى أيام عمرها، دار الوحي والإيمان، ودار الصدق والوفاء، فانبجست في جوفها مشاعر متباينة كانت مزيجاً من اللهفة والرهبة والفرح والحزن والقلق والهدوء، وطرقت الباب، فانتشر الخبر أن قدمت رقية وعثمان، وراحت أم كلثوم وفاطمة ومن كان هناك يستبقون إليها، وتعانقت الأخوات، وسالت العبرات، واستيقظت الذكريات، وأحس جميعهم غياب الأم الحنون، فانفجرن باكيات.

وجاءت سودة بنت زمعة ثقيلة في خطواتها، وراحت ترحب هي الأخرى برقية وعثمان رضي الله عنها، وفي مثل لمح البصر، هبت ذكريات سودة عن هجرتها إلى الحبشة مع المهاجرين، وأخذت تسأل رقية وعثمان، عمن تركا خلفهما في الحبشة، فقد كانت سودة تمضي أغلب أوقاتها مع رقية وخولة بنت حكيم وبعض النسوة يتذاكرن أمر الإسلام، وأمر رسول الله ﷺ.

لم تحلم سودة رضي الله عنها في يوم من الأيام بأن تكون زوجة النبي ﷺ، وأن تصبح أم المؤمنين، وما كان ذلك ليخطر على بال رقية رضي الله عنها، ولولا عطف رسول الله ﷺ على ما أصاب سودة من الترمل بعد موت زوجها وتقديره ولما احتملت من آلام في سبيل الله ورسوله، ما دخلت بيته لتملأ بعض الفراغ الذي خلفته الطاهرة خديجة رضوان الله عليها، وبلغ الحبيب المصطفى أن رقية وعثمان رضي الله عنهما قد رجعا من الحبشة، فإذا بوجهه الشريف مسفر ضاحك مستبشر، وإذا بالحنان يتدفق من قلبه الشريف، وضم رسول الله ﷺ ابنته رقية رضي الله عنها إليه، وغمرها بعطفه، وأخذ عثمان بين ذراعيه، ثم جلسوا يصغون إلى رقية وعثمان وهما يرويان حديث الهجرة والحبشة والمسلمين والنجاشي، وربما شاركت سودة رضي الله عنها في الحديث عن الذكريات في أرض الحبشة.

مكثت سودة أم المؤمنين رضي الله عنها في مكة إلى أن أذن الله عز وجل لرسوله وللمؤمنين بالهجرة إلى المدينة المنورة، ولما استقر رسول الله ﷺ بالمدينة المنورة، بعث زيد بن حارثة وبعث معه مولاه أبا رافع، وأعطاهما بعيرين، وخمس مئة درهم، فخرجنا جميعاً، وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة الزهراء، وبأم كلثوم وبسودة بنت زمعة وبأم أيمن الحبشية زوج زيد بن حارثة ومعها ابنها أسامة بن زيد حتى قدموا المدينة المنورة، ونزلوا في بيت حارثة بن النعمان الأنصاري رضي الله عنه .

في المدينة المنورة مكثت سودة رضي الله عنها تؤدي دورها، واستطاعت أن تقوم على بيت النبوة، وتخدم بنات النبي الطاهرات رضي الله عنها، وأن تدخل السرور والسعادة إلى قلبه الشريف بتصرفاتها البريئة .

وبعد سنوات ثلاث تزوج النبي ﷺ عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، ودخلت عائشة بيت النبوة، وكان لها مع سودة أخبار مشرقة، ثم دخلت البيت النبوي نسوة أخريات كن أزواج النبي ﷺ مثل : حفصة بنت عمر رضي الله عنها، وزينب بنت جحش، وأم سلمة المخزومية وغيرهن رضي الله عنهن وأرضاهن .

سَوْدَةُ وعَائِشَةُ وأَخْبَارٌ لطيفة

في ذلك البيت النبوي الشريف الكريم الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً، وأفاض عليه البركات لتحفه، والخيرات لتنبعث منه، والنور ليسطع من جنباته كي يضيء الدنيا بأسرها فيخرجها من ظلمات الجاهلية إلى نور الهدى ودين الحق، ويهديها سواء السبيل، ويسدد نطقها بالقول الثابت، ويربيها على مكارم الأخلاق، وعلى الفضائل كلها.

في هذا البيت الذي يعبق بطيوب الإيمان، ويفوح بندي الفضائل، كانت سودة بنت زمعة أم المؤمنين تمارس حياتها إلى جانب أم المؤمنين عائشة بنت الإمام الصديق الأكبر، ذات الخصال الحميدة المتفردة في عالم النساء، بأنها أفقه نساء الأمة المحمدية على الإطلاق، حبيبة الحبيب ، وكذلك أبوها الحبيب المحب من الحبيب المصطفى .

أقول، مع عائشة أم المؤمنين كانت سودة تعيش في رحاب البيت النبوي الطاهر، وقد هدأت فيها غيرة الأنثى، فلا تطمع إلا بمرضاة رسول الله ﷺ الذي كان يشفق عليها، لذا فقد وهبت يومها لضرتها عائشة ابنة الصديق رضي الله عنهما، رعاية لقلب رسول الله ﷺ، تبتغي بذلك مرضاته عليه الصلاة والسلام.

أخرج الإمام أبو داود – رحمه الله – في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت عائشة: يا ابن أختي، كان رسول الله ﷺ لا يفضل بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت أن يقارقها رسول الله ﷺ : يا رسول الله ، يومي لعائشة، فقبل ذلك رسول الله ﷺ منها قالت نقول في ذلك : أنزل الله تعالى وفي أشباهها أراه قال : (وإن امرأة خافت من بعلها نشوراً) [النساء : ۱۲۸].

ولهذا أثنت عليها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وودت لو تكون بهذه النفسية اللطيفة، وتكون في مثل طريقتها وهديها، وهبت يومها للنبي ﷺ ، وهذا من خواص سودة رضي الله عنها، حيث أثرث بيومها حب النبي ﷺ، تقرباً إلى رسول الله ، وحباً له، وإيثاراً لمقام الصديقة بنت الصديق عنده، فكان يقسم لنسائه ولا يقسم لها، وهي راضية بذلك مؤثرة لرضى رسول الله ﷺ.

روى أبو عمر القرطبي – رحمه الله – في الاستيعاب عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما أسنت سودة عند رسول الله ﷺ هم رسول الله ﷺ بطلاقها، فقالت : لا تطلقني، وأنت في حل مني، فأنا أريد أن أحشر في أزواجك، وإني قد وهبت يومي لعائشة، وإني لا أريد ما تريد النساء، فأمسكها رسول الله ﷺ حتى توفي عنها مع سائر من توفي من أزواجه رضي الله تعالى عنهن .

وفي رواية ابن سعد – رحمه الله – أن سودة قالت للحبيب عليه الصلاة والسلام: لكني أحب انْ أُبْعَثَ في نسائك، وإني قد جعلت يومي لعائشة”.

والآن، دعونا نستمع إلى ثناء أم المؤمنين عائشة على أم المؤمنين سودة رضي الله عنهما، تقول عائشة ما رأيت امرأة أحب إلي أن أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة إلا أن بها حدة، فلما كبرت جعلت يومها من النبي ﷺ لعائشة .

قالت یا رسول الله قد جعلت يومي منك لعائشة .

ولعائشة وسودة رضي الله عنهما أكثر من موقف لطيف ينبئ عن لطف كل واحدة منهما، مع كمال سرور النبي الكريم ﷺ من كلتيهما، وهذا ما حدث فعلاً في إحدى الجلسات، وفي بيت عائشة نفسها.

روى النسائي وأبو بكر الشافعي عن عائشة رضي الله عنها

قالت: زارتنا سودة يوماً، فجلس رسول الله ﷺ بيني وبينها إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها، فعملت له حريرة – أو قال : خزيرة –

فقلت: كلي، فأبت،

فقلت: لتأكلين أو لا لطخن وجهك، فأبت، فأخذت من القصعة شيئاً، فلطخت به وجهها، فضحك رسول الله ﷺ، فرفع رسول الله ﷺ رجله من حجرها لتستقيد مني،

وقال لها : الطخي وجهها، فأخذت من الصحفة شيئاً، فلطخت به وجهي ورسول الله ﷺ يضحك … الحديث .

فُكَاهَةٌ وَوَدَاعَةٌ

كان رسول الله ﷺ يعامل زوجه سودة بنت زمعة بالرفق والرحمة، لما كانت تحمله من صفات الوداعة والطيب، فكان يستمع لفكاهتها الطيبة التي كانت تضحكه .

ففي طبقاته روى ابن سعد – رحمه الله – عن سودة رضي الله عنها قالت لرسول الله ﷺ : يا رسول الله صليت خلفك البارحة، فركعت بي، حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطر الدم . قال: فضحك، وكانت تضحكه الأحيان بالشيء.

ويبدو أن أم المؤمنين سودة رضي الله عنها كانت خفيفة الظل، طيبة القلب، ولذا فقد كانت بعض أمهات المؤمنين يمزحن معها، ويداعبنها بغية التماس الفكاهة، وبغية التماس الحكمة الموهوبة أحياناً، أو الترويح عن النفس أحياناً أخرى، وكان الرسول الكريم يفيض بالسرور، ورقة القلب، ولين الغاية التي لا مرمى وراءها المخلوق، ويتقبل تلك الدعابات بما يولج حبه في القلوب ويؤنس أزواجه الكريمات رضي الله عنهن بما لا يتعارض مع الحقوق والدين.

روت خليسة مولاة حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنهما، قصة طريفة عن مولاتها حفصة وعائشة مع سودة بنت زمعة ومزحها معها بأن الدجال قد خرج؛ فقد ذكرت خليسة أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما كانتا جالستين تتحدثان، فأقبلت سودة زوج النبي ﷺ، فقالت إحداهما للأخرى: أما تري سودة؟ ما أحسن حالها لنفسدن عليها – وكانت سودة من أحسنهن حالاً كانت تعمل الأديم الطائفي – فلما دنت منهما داعبتاها، وقالت لها : يا سودة، أما شعرت؟ قالت سودة في بساطة وتعجب وما ذلك يرحمكما الله ؟! قالتا: خرج الأعور الدجال.

ففزعت سودة وخرجت فاختبأت في بيت كانوا يوقدون فيه، واستضحكنا، وجاء رسول الله ﷺ فقال لحفصة وعائشة : ما شأنكما؟ فأخبرتاه بما كان من أمر سودة، فذهب إليها فقالت يا رسول الله، أخرج الدجال الأعور ؟! فقال رسول الله ﷺ : لا وكان قد خرج فخرجت وجعلت تنفض عنها العنكبوت .

واعتقد أن سودة لما علمت بجلية الأمر ضحكت هي الأخرى كثيراً.

وميدان الدعابة هذا ميدان لطيف، فقد كان رسول الله ﷺ يباسط الخلق ليستضيؤوا بنور هدايته في ظلمات دياجي الجهل، ويقتدوا بهديه ، ولذا لم ينكر على زوجاته تلك الدعابة اللطيفة مع سودة رضي الله عنها وعنهن .

إلا أن رسول الله ﷺ كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، ومن خلال بساطة سودة رضي الله عنها يوجهها التوجيه الهادف، فلا يخلط الجد بالهزل؛ من ذلك ما أورده الحافظ ابن حجر في الإصابة أن سودة قالت: يا رسول الله، إذا متنا صلى لنا عثمان بن مظعون حتى تأتينا أنت.

فقال لها : يا بنت زمعة لو تعلمين الموت لعلمت أنه أشد مما تظنين وبهذا لفت نظر سودة إلى أن الموت ليس شيئاً عادياً، والتفكير به أشد وأعظم مما نتوقع أو نظن.

اعتذارٌ مَقبول

في غزاة بدر، أنزل الله عز وجل نصره على رسوله، وعلى المؤمنين، وراح المسلمون يقتلون فريقاً، ويأسرون فريقاً، وكان ممن وقع في الأسر سهيل بن عمرو العامري، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم. وسار الجيش الإسلامي المنتصر نحو المدينة راجعاً من بدر، يقوده الحبيب المصطفى ، حتى إذا ما اقتربوا من المدينة المنورة، قال سهيل بن عمرو لمالك بن الدخشم الذي أسره : خل سبيلي للغائط . فقام مالك معه فقال سهيل : إني أحتشم فاستأخر عني.

فاستأخر عنه فمضى سهيل على وجهه وانتزع يده من القرآن ومضى، فلما أبطأ سهيل على مالك بن الدخشم أقبل فصاح في الناس، فخرجوا في طلبه، وخرج النبي ﷺ في طلبه بنفسه وقال : «من وجده فليقتله وراحوا ينقبون عنه على ظهور الإبل والجياد، وانطلق في أثره، فوجده قد أخفى نفسه بين شجرات، فتقدم إليه، فإذا بسهيل لا يتحرك من مكانه، بل ظل ثابتاً وهو مأخوذ، فقبض على سهيل، ثم عاد به، فأمر به فربطت يداه إلى عنقه، ثم قرنه إلى راحلته.

وراح النبي ﷺ يتقدم على ناقته القصواء، وقد ربطت يدا سهيل بن عمرو إلى عنقه، وقرن إلى الناقة، وراح مالك بن الدخشم الذي أسره يقول:

:أسرتُ سهلاً فلا أبتغي … به غيره من جميع الأمم

وخندف تَعْلَمُ أن الفتى … سهيلا فتاها إذا تظلم ضربت

بذي الشفر حتى انثنى … وأكرهت نفسي على ذي العلم

ودخل رسول الله ﷺ والمسلمون المدينة وهم مستبشرون بنصر الله عز وجل .

وفي تلك الأثناء كانت سودة بنت زمعة أم المؤمنين وزوج النبي ﷺ عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء اللذين كانا أول من أصابا أبا جهل وكانت ثلة أخرى من النساء هنالك، وجاء من قال : هؤلاء الأسرى قد أتي بهم .

وخرجت سودة بنت زمعة رضي الله عنها إلى بيتها ورسول الله ﷺ فيه، وإذا سهيل بن عمرو مجموعة يداه إلى عنقه في ناحية الحجرة، فما ملكت نفسها حين رأته مجموعة يداه إلى عنقه أن قالت: أي أبا يزيد أسلمتم أنفسكم، وأعطيتم بأيديكم، ألا متم كراماً ؟! ولم تكن سودة رضي الله عنها تعلم أن رسول الله ﷺ كان يسمعها، فما راعها إلا قوله ﷺ من البيت : يا سودة أعلى ربك ورسوله تحرضين؟ واستحيت سودة وقالت في بساطة : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق، ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مضمومة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت.

فتبسم ضاحكاً من قولها، ووعدها خيراً بشأن الأسرى، وقبل اعتذارها، حيث علم أن مقصدها كان شريفاً، وعندئذ قال: “استوصوا بالأسرى خيراً”، وكان أحدهم يؤثر أسيره بطعامه .

وبهذه الطريقة الأليفة كان رسول الله ﷺ يوجه زوجاته الطاهرات ليكن القدوة الكريمة لنساء الدنيا، وليكون نساء آل بيته منبع الفوائد، وزاد المتبلغين إلى ما يرضي الله عز وجل، فكن كذلك رضي الله عنهن .

مِنْ مَنَاقِبهَا وَفَضْلِهَا

لأم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها فضائل عديدة، منها ما اختصت به من قبل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومنها ما كان ينبع من شخصيتها، ويفيض من كرم أخلاقها، ومنها ما كان اقتداء بزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمما اختصت به أن أذن لها رسول الله ﷺ في ليلة المزدلفة قبل الزحمة في ليلة المزدلفة قبل زحمة الناس.

أخرج البخاري – رحمه الله – بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت سودة النبي ﷺ ليلة جمع – وكانت ثقيلة ثبطة – فأذن لها .

ويبدو أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قد غبطت سودة أم المؤمنين، وودت لو تكون هي التي طلبت الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك أحب إليها من كل شيء.

أخرج البخاري – رحمه الله – بسنده عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : نزلنا المزدلفة، فاستأذنت النبي ﷺ سودة أن تدفع قبل حطمة الناس – وكانت امرأة بطيئة – فأذن لها ، فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه، فلأن أكون استأذنت رسول الله ﷺ كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به.

وما دمنا في الحج مع النبي ﷺ وأزواجه الطاهرات رضي الله عنهن، فقد كانت سودة رضي الله عنها مع نسائه اللائي حججن، وكانت متمسكة بهديه وأمره .

روى الإمام أحمد – رحمه الله – بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال لنسائه في حجة الوداع : هذه ثم ظهور الحصر، فكانت سودة تقول : لا أحج بعدها أبداً.

وفي رواية قال: فكن كلهن يحججن إلا زينب بنت حجش وسودة بنت زمعة، فكانتا تقولان : والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت سودة: حججت واعتمرت فأنا أقر في بيتي كما أمرني الله عز وجل وفي ميدان الجهاد كان لأم المؤمنين سودة رضي الله عنها نصيب وافر، فقد حضرت معه غزاة خيبر، ويشهد لها بهذا ما أورده ابن سعد – رحمه الله – في طبقاته قال : أطعم رسول الله ، سودة بنت زمعة بخيبر ثمانين وسقاً تمراً، وعشرين وسفاً شعيراً .

وتشير المصادر إلى أن أم المؤمنين سودة كانت كريمة، لا تستقر الدراهم عندها، بل تسارع في إنفاقها زهداً وكرماً وطلباً لمرضاة الله عز وجل، من ذلك ما ورد في مناقبها في هذا المجال أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى سودة بنت زمعة بغرارة من دراهم فقالت ما هذه ؟ قالوا : دراهم.

قالت: في الغرارة مثل التمر ؟!! يا جارية بلغيني القنع، ففرقتها ” .

ومن فضائل سودة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الله عز وجل، قد أنزل في حقها آيات تتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فقد روى جمهور المفسرين والمحدثين والعلماء وغيرهم ذلك.

أخرج الترمذي والطبراني والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خشيت سودة أن يطلقها النبي ﷺ فقالت : لا تطلقني وأمسكني، وأجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوراً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما والصلح خير}.

سَوْدَةُ والحديث النبوي

أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضوان الله عليها، إحدى نساء آل البيت النبوي اللاتي وعين الحديث النبوي الشريف، وحفظنه وروينه، وبلغنه للناس ديناً وتعليماً، فقد كانت سودة رضي الله عنها تروّض نفسها بالتقوى وحب العلم، ووعي الحديث حتى كان ذلك.

قال الذهبي – رحمه الله – : يُروى لسودة خمسة أحاديث؛ منها في الصحيحين حديث واحد عند البخاري حدث عنها من الصحابة : سيدنا عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما ؛ ومن التابعين: يحيى بن عبد الله الأنصاري – رحمه الله – ولنستمع الآن إلى الحديث الذي روته أمنا سودة رضي الله عنها عند الإمام البخاري، حيث أخرج في صحيحه بسنده عن الشعبي عن عكرمة ابن عباس رضي الله عنهما، عن سودة زوج النبي ﷺ قالت : ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها، ثم ما زلنا ننبذ حتى صارت شنا”.

ومن مرويات أم المؤمنين سودة رضي الله عنها في أحكام الحج، ما رواه الإمام أحمد – رحمه الله – بسنده عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة قالت : جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال : إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يحج ؛ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه قبل منك؟ قال: نعم.

قال: «فالله أرحم، حج عن أبيك هذا، وقد توفي رسول الله ﷺ، وهو راض عن سودة التي شهدت معه جانباً من حياته في مجالات شتى.

مع الأبرار والمتَّقِينَ

امتدت الحياة بسودة أم المؤمنين إلى أيام الخلافة الراشدة، وكان الصديق الأكبر أبو بكر – عليه سحائب الرضوان – يكرم زوجات النبي ﷺ ، ويقدر مواقفهن النبيلة، ثم كان الفاروق عمر – رضوان الله عليه – يتولى أمهات المؤمنين بالإكرام والرعاية ويتفقد أحوالهن.

وقد كانت سودة رضوان الله عليها ممن نالها عطاء عمر، وقبلت أم المؤمنين سودة رضي الله عنها إكرام عمر وشكرت له ذلك، ولكنها – كما أسلفنا – لم تستبق شيئاً في حوزتها، وإنما وزعتها على من يستحقها من فقراء المدينة المنورة، لتستنير نفوسهم، وتقوى قلوبهم برابطة الحب والاحترام للبيت الطاهر، بيت النبي ﷺ الذي أكرمه الله عز وجل بالطهر، بل خصه بإذهاب الرجس عنه، واختصه بالتطهير، ليكون نقياً من كل شائبة .. وظلت أمنا سودة رضي الله عنها تقتدي بالهدي المحمدي إلى أن حان اللقاء مع الله عز وجل، فقد كانت وفاتها في آخر خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

ويبدو أنها قد ناهزت الثمانين رضي الله عنها .

وبوفاتها طويت صفحة من صفحات أمهات المؤمنين الطاهرات اللاتي تركن أثراً كريماً في دنيا النساء ما يزال أريجه المعطار ينفح الدنيا بالشذى إلى ما شاء الله .

رضي الله عن أمنا سودة، وأعلى مقامها في عليين مع الأبرار والمتقين، ونرجو الله أن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين.

(نساءُ أهل البيت في ضوء القرآن والحديث )

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة