جَيْشُ النّبيّ ﷺ

مجمل السِّيرة

١ ــ تتلخص سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحياته المباركة في: التوحيد والجهاد

لقد وحد النبي صلى الله عليه وسلم منذ مبعثه في مكّة المكرّمة إلى هجرته إلى المدينة المنورة من أجل الجهاد: وحّد الأفكار بالتوحيد، ووحد الصفوف بالتوحيد، ووحد الأهداف بالتوحيد، وجمع الشّمل بالتوحيد، وبنى الإنسان بالتوحيد، وأزال نعرات الجاهلية بالتوحي، وغرس التّضحية والفداء بالتوحيد، وجعل المسلمين كافة كالبناء المرصوص بالتوحيد .

لقد كانت حياته المباركة في مكّة المكرمة عبارة عن توحيد من أجل الجهاد .

وجاهد النبي صلى الله عليه وسلم منذ هجرته إلى المدينة المنورة من مكّة المكرّمة إلى أن التحق بالرّفيق الأعلى من أجل التوحيد؛ فكان جهاده لتبليغ الدعوة إلى الناس كافة ، ولتكون كلمة الله هي العليا في الأرض .

وكانت همّته العالية منصرفة بكل طاقاتها الماديّة والمعنويّة، بتأييد من الله وتوفيقه، إلى غاية سامية واضحة المعالم هي: ( بناء الإنسان المسلم )، ليكون قدوة للآخرين في السّلم والحرب، أخلاقاً وسلوكاً، ومعاملةً ومنهجاً، وأسلوباً للحياة الدنيا والآخرة معاً .

وكان سبيله إلى بناء الإنسان المسلم، هو التوحيد من أجل الجهاد، والجهاد من أجل التوحيد.

بالتوحيد، أشاع الإنسجام الفكريّ، لأوّل مرّة بين المسلمين في التّاريخ، وهذا الانسجام جعل التعاون الوثيق بينهم ممكنا، إذ لا تعاون وثيقاً مؤثراً بدون انسجام فكريّ يُذيب الاختلافات ويقضي على النزاعات ويحمي من الأهواء .

كما أنّ هذا الإنسجام جعل الجهاد ممكناً أيضاً، يقود إلى النصر ويؤدي إلى الظفر ، إذ إنّ التعاون الوثيق والجهاد المقدّس الذي تستثيره العقيدة الرّاسخة الواحدة ، جعل من المسلمين قوة لا تقهر أبداً، فوحّد الرّسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام في أيّامه شبه الجزيرة العربية كلّها تحت لواء الإسلام ، ولا نعرف لها وحدةً بأيّ شكلٍ من الأشكال وبأية صورة من الصور قبله أبدا ، فكان جيش النّبي صلّى الله عليه وسلم الذي أنشأه وأرسى دعائمه خلال عشر سنوات من عمره المبارك ، هو الذي حمل رايات المسلمين شرقاً وغرباً من بعده ، وتحمّل أعباء الفتح الإسلاميّ العظيم الذي شمل خلال تسعة وثمانين عاماً (١١ه‍ـ ــ ١٠٠هـ) من الصّين شرقاً إلى قلب فرنسا غرباً سِيْبِيْرِيا شمالاً إلى المحيط جنوبا ، فكان هذا الفتح مستداما ، لم ينحسر عن البلاد المفتوحة ، على الرغم من تقلبات الظّروف وتطوّرات الزمن ، إلا عن الأندلس الذي انحسر عنها انحساراً سياسيًّا وعسكريًّا ، وبقي ثابتاً راسخاً فيها فكريًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا حتى اليوم .

مجمل تاريخ جيش النّبيّ ﷺ

٢ ــ وتاريخ جيش النبي صلى الله عليه وسلم ، يبدأ من يوم مبعثه عليه الصلاة والسلام ، فقد عمل جاهداً في ميدان بناء الإنسان المسلم ، الذي هو المجاهد المسلم قائداً وجندياً ، ولكن تاريخه في التطبيق للجهاد عشر سنوات فقط بدأت في المدينة المنوّرة .

وحين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وأمر أصحابه بالهجرة إليها ، بدأ تنظيم الجيش الإسلاميّ وتسليحه وتجهيزه وقيادته (عمليًّا) جيشاً نظاميًّا له كيان واحد ، وهدف واحد ، وفكر واحد ، وقيادة واحدة.

ومعنى الهجرة إلى المدينة المنورة ، من الناحية العسكرية ، هو حشد المجاهدين في قاعدة أمينة ، تمهيداً للنهوض بأعباء الجهاد .

وبادر النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، بعد استقراره في المدينة المنوّرة ، إلى اختيار مكان مناسب لبناء مسجده ، وبدأ ببناءه باللّبن ، وشارك أصحابه في حمل اللَّبنات والأحجار إلى كواهلهم ، فتمَّ للمسلمين بناء المسجد ، فراشه الرّمل والحصى ، وسقفه الجريد ، وأعمدته الجذوع .

وتمّ ببناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ، بناء الثّكنة الأولى لجيش النبي صلى الله عليه وسلم ، والثكنة الأولى في الإسلام .

وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، أخذ بناء الإنسان المسلم يؤتي أكله كل مرتين : غير القادرين على الجهاد من أولاد المسلمين الصغار ليكونوا جيش المستقبل وجنود الفتح الإسلامي وقادته ، والقادرون على الجهاد من شباب المسلمين ، وكهولهم وشيوخهم أيضا ليكونوا جيش الحاضر والمستقبل وجنود الفتح الإسلاميّ وقادته ، والقادرون و غير القادرين على الجهاد من المسلمين يُحقنون في المسجد النبوي الشريف بمصل الجهاد مادياً ومعنوياً ، ليصبح الإنسان المسلم مجاهداً من الطّراز الأول بماله ونفسه في سبيل الله .

ولم يؤذن للمسلمين بالقتال ، وهو الجهاد الأصغر ، قبل الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، بالرغم مما تحملوه من تعذيب وتشريد وظلم واضطهاد ، وفي مكة المكرمة اجتمع النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين رجلاً من مسلمي المدينة المنورة ليلاً في ( العقبة) في بيعة العقبة الثانية ، فاستمع أحد المشركين وهو يتجول في مضارب الخيام ومنازل الحجيج إلى ما دار في اجتماع ( العقبة) من حديث بين النبي صلى الله عليه وسلم وأولئك المسلمين القادمين من المدينة المنورة ، فصرخ يُنذِر أهل مكة بأعلى صوته : « إنّ محمّداً والصّبَّاء معه ، قد اجتمعوا على حربكم ».

ولم يكترث مسلمو المدينة من أهل العقبة الثانية بانكشاف أمرهم ، بل أرادوا مهاجمة المشركين من قريش وغيرهم بأسيافهم ، ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتفرق والعودة إلى رحالهم ، إذ لم يأذن الله بَعْدُ بالقتال .

وبعد الهجرة إلى المدينة المنورة ، نزلت أول آية من آيات القتال : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} ، فخرج الرّسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام غازياً في شهر (صَفَر) على رأش اثني عشر شهراً من مَقدَمه إلى المدينة المنوّرة ، وبذلك بدأ الجهاد الأصغر عمليّاً في الإسلام. ‎

رسالة المسجد العسكريّة

٣ ــ لقد قضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة من عمره المبارك في مكة المكرمة وسنة واحدة في المدينة المنورة بعد هجرته إليها يعمل جاهداً في ميدان : بناء الإنسان المسلم ، منفّذاً رسالة الله في مجال الجهاد الأكبر .

وقضى عشر سنوات في المدينة المنورة من عمره المبارك ، من بداية الجهاد الأصغر حتى التحق بالرّفيق الأعلى منفذاً رسالة الله في مجال الجهاد الأكبر وهو بناء الإنسان المسلم ، وفي مجال الجهاد الأصغر ، وهو الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس لإعلاء كلمة الله .

وبعد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في الأربعين من عمره المبارك ، والتحق بالرّفيق الأعلى عن ثلاث وستين سنة ، فكان نبيًّا ورسولا ، ومعلّماً ورائدا ، وقدوة وأسوة ثلاثاً وعشرين سنة ، وكان نبيًّا ورسولا ، ومعلّماً ورائدا ، وزعيماً وقائداً عشر سنوات ، ، بلّغ الرّسالة ، وأدّى الأمانة ، خلال عمره المبارك من مبعثه إلى وفاته في مجالين حيويين : مجال الجهاد الأصغر ، ومجال الجهاد الأكبر ، فعلّمنا أنّ الجهاد الأكبر هو الأصل ، ولكنّ هذا الجهاد لا يبلغ غايته ويحقق أهدافه ويصان ويُحمى إلا بالجهاد الأصغر ، فلا حقّ بغير قوة ، ولا قوة بغير مجاهدين صادقين ، يجاهدون أنفسهم بالعقيدة الرّاسخة ، لينتصروا على أعداء الإسلام بالأنفس الطّاهرة ذات الأخلاق المحاربة ، لا بضخامة العَدَد والعُدَد ، إذ لم ينتصر المسلمون على أعدائهم بالتّفوق العَدَدي والعُدَدي في أيام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا في أيام الفتح الإسلامي العظيم ، بل انتصروا بتطبيق تعاليم الدّين الحنيف نصًّا وروحا ، فلما بدّلوا ما بأنفسهم وتغلّبت عليهم نفوسهم الأمّارة بالسوء ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي خير ، أصبحت انتصاراتهم هزائم ، ولم يفلحوا أبدا .

إنّ تاريخ جيش النّبي صلّى الله عليه وسلم ، بدأ من أول نزوح الوحي على المصطفى عليه الصلاة والسلام ، فأعدّ جنوده وقادته بالتدريج (أفراداً) في مكة المكرمة ببناء الإنسان المسلم ، فلما هاجر إلى المدينة المنورة وشيّد مسجده فيها ، بدأت مرحلة جديدة من مراحل ذلك الجيش هي مرحلة تنظيم (الأفراد) قادة وجنودا ، استعداداً للجهاد الأصغر ، ولم تمض سنة كاملة على إكمال تشييد المسجد النبوي الشريف ، إلا وأصبح جيش النبي صلى الله عليه وسلم كامل التنظيم ، كثير العدد ولكنّه كثير المَدد ، في قاعدة أمينة هي المدينة المنورة ، يرتكز عليها في جهاده ، وينطلق منها لتحقيق أهدافه ، ويعود إليها من غزواته ، ويحشد فيها الرجال والمعدات .

واتّخذ النّبي صلّى الله عليه وسلم من مسجده النّبويّ الشريف مقرّا للقيادة : يعِدّ فيه الخطط العسكرية ، ويعقد في رحابه مجالس الجهاد ، ويهيّئ فيه المجاهدين الصادقين ، ويصدر فيه القرارات والأوامر والوصايا ، وينصت فيه إلى ذوي الرّأي من أصحابه ، لأنّ أمرنا شورى بينهم .

وكان يحشد أصحابه في المسجد ، ليشحنهم بطاقات ماديّة معنويّة لا ينضب معينها ، ويحرّض المؤمنين على القتال، ويأمرهم بالثبات وينهاهم عن الفرار ، ويحذّرهم الفرقة والنزاع ، ويأمرهم بالطّاعة والنّظام ، ويشيع المحبّة والألفة والتآخي .

وكانت الغزوات والسرايا تنطلق من المسجد ، وتعقد الرايات والأعلام والبنود للمجاهدين في المسجد ، وتوزّع فيه الأسلحة والمعدّات ، وكان أصحابه يجتمعون في المسجد حين يداهمهم الخطر ، ويعود المجاهدون من الغزوات والسرايا إلى المسجد ، وتضمّد جروح المصابين في المسجد ، ويتعلّم المسلمون أحكام الجهاد في المسجد .

والفرق بين الغزوات والسرايا ، أن الغزوات يقودها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ، والسرايا يقودها قادة النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ، والسرايا يقودها قادة النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه الغرّ الميامين .

أخرج الشّيخان ــ واللفظ لمسلم ــ عن أنسٍ رضي الله عنه ، قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أجود الناس ، وكان أشجع النّاس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق الناس قبل الصوت ، فتلقّاهم الرّسول صلى الله عليه وسلم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت ، وهو على فرس لأبي طلحة رضي الله عنه ، يجري في عنقه السيف ، وهو يقول : «لم تُرواعوا …. لم تُراعوا » .

سبق النبي صلى الله عليه وسلم جماعة الإستطلاع إلى الصوت، وكان الصّحابة رضي الله عنهم قد تحشّدوا في المسجد انتظاراً لأوامر الرّسول القائد عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته .

لقد كان المسجد في أيام النبي صلى الله عليه وسلم (مَثَابَة) للمجاهدين قادةً وجنوداً ، والمثابة في المصطلحات العسكرية ، هي : مكان اجتماع القائد برجاله لإصدار الأوامر إليهم ومكان استلام الأوامر ، وكان المنادي ينادي حين يتعرّض المسلمون لخطر داخلي أو خارجي : الصّلاة جامعة … الصّلاة جامعة … فيتقاطر المسلمون إلى المسجد زرافات ووحدانا تلبية للنداء ، عليهم السّلاح كاملاً ويجهّز لهم مَن وراءهم الخيل والدواب والإبل أو يجهّزونها لأنفسهم ويربطونها خارج المسجد ، وتُعَدُّ لهم الأمتعة اللازمة والتجهيزات ، ليصاولوا العدو فورا ويقضوا على الخطر الدّاهم ، تنفيذاً لخطّة قائد واحد ، تحقيقاً لغاية واحدة ، هي الدّفاع عن الإسلام والمسلمين .

بناء الإنسان المسلم

٤ ــ وقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم بناء الإنسان المسلم على ثلاث دعائم : العقيدة الراسخة ، والقدوة الحسنة ، واختيار الرجل المناسب للعمل المناسب .

أما العقيدة الإسلامية ، فهي عقيدة منئشة بنّاءة ، صالحة لكل زمان ومكان ، لأنها تهتم بالمادة اهتمامها بالرّوح ، وتُعنى بالحياة الدنيا عنايتها بالدار الآخرة ، وتغرس الضّبط والنّظام في القلوب والنفوس معا ، وتلتزم بالخلق الكريم والمعاملة الحسنة ، فقد كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، وكان تعاليم الإسلام تمشي على الأرض بشراً سوياً ، لا يأمر بشيء إلا طبّقه على نفسه أقوى ما يكون التطبيق ، ولا ينهى عن شي إلا ابتعد عنه أشد ما يكون البُعد ، وكان مثالاً عالياً للشجاعة والإقدام ، وكان كالقمة العالية في عمله ومعاملته بالنسبة لأصحابه وكلهم قمم عالية ، وكان يؤثر رجاله بالخير والأمن ويستأثر دونهم بالخطر والمشقّة ، وكان مثالاً شخصيّاً لأصحابه في كلّ عمل يبتغي به وجه الله والدار الآخرة ، فكان قرنه خير القرون ، لأن تأثيره المباشر في أصحابه كان عظيماً .

أما اختياره للرجل المناسب في العمل المناسب ، فقد كان مثالاً رائعاً حقًّا في الإلتزام بالعمل الصالح والإيمان العميق والخدمة المثمرة والكفاية العالية والماضي الناصع المجيد في اختيار قادته وعماله وقضاته وواجباته .

وكلّ من قرأ سير عظماء الأمم في مختلف العصور ، وفكّر كثيراً في طرق اختيارهم للذين يوكلون إليهم المناصب العامّة، لا يمكن أن يجدوهم شيئًا مذكورا بالنّسبة لأسلوب النّبيّ صلى الله عليه وسلم في اختيار الذين يوكِل إليهم المناصب العامة عسكريّة أو مدنيّة .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَلِيَ من أمر المسلمين شيئاً ، فولّى رجلاً وهو يجد مَنْ هو أصلح للمسلمين منه ، فقد خان الله ورسوله » ، وفي رواية : « من قَلّدَ رجلاً عملاً على عِصابة ، وهو يجد في تلك العِصابة أرضى منه ، فقد خان الله وخانَ ورسوله وخان المؤمنين » ، رواه الحاكم في صحيحه .

لقد دلّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنّ الولاية أمانة يجب أداؤها ، فقد قال لأبي ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه في الإمارة : « إنها أمانة ، وإنّها يوم القيامة خزي وندامة ، إلّا من أخذها بحقّها ، وأدّى الذي عليه فيها » ، رواه مسلم .

وروى البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا ضيّعت الأمانة ، انتظر السّاعة ، قيل : يا رسول الله! وما إضاعتها ؟ قال : إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله ، فانتظر الساعة » .

لم يكن عليه الصلاة والسلام يقدّم رجلاً إلا بالحق ، وكان يختار الرّجل المناسب للعمل الذي يناسبه ، فولّى قيادة الجيش الطّبع الموهوب والعلم المكتسب والخبرة العملية ، لذلك انتصر قادته في السّرايا التي تولّوا قيادتها في حياته المباركة ، فلما رحل إلى لقاء الله ، أصبح قادته أبرز قادة الفتح الإسلاميّ لأنهم من خريجيّ مدرسته في اختيار الرّجال .

لقد ولّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد قيادة الصحابة بعد إسلام خالد مباشرة .

وما يقال عن خالد بن الوليد ، يقال عن عمرو بن العاص ، فقد ولّاه الصحابة بعد إسلام عمرو مباشرة . وقال عنهما لأصحابه الذين كانوا من حوله : « ألقت إليكم مكّة أفلاذ كبدها ».

وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه غنيًّا ، فأفاد المسلمون من ثرائه ، ولم نسمع أن الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام كلّف عثمان بمنزلة الإقران يوم الطعان . وكان حسّان بن ثابت رضي الله عنه شاعراً مجيداً ، فاستفاد المسلمون من قابليته الشعرية ، ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعله مع النساء عندما يتوجّه للجهاد .

وكان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُعدّون من أشجع الشّجعان ، ولكنّهم بقوا جنوداً في جيش المسلمين، ولم يتولوا مناصب قيادية ، لأنهم كانوا جنوداً متميّزين ، ولم يكونوا قادة متميّزين .

وكان من بين أصحابه من يُحسن القراءة والكتابة ، فجعلهم كتّاباً للوحي ومحرّرين لرسائله إلى الملوك والأمراء .

وكان من بينهم إداريّون ودعاة وجباة وقضاة ، فولّى كل واحد منهم ما يناسب قابليته وكفاياته .

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف حقّ المعرفة كلّ مزايا أصحابه ، فيفيد من تلك المزايا ويبرزها للعيان ، ويشجّع أصحابها ويثني عليهم أطيب الثناء .

ولكنه في الوقت نفسه بغضّ الطرف عن النواقض ويتستّر عليها ويبذل جهده لإصلاحها ، ولا يذكرها بل يذكر المزايا حسب ، ويأمر أصحابه بذكر مزايا إخوانهم حسب أيضاً .

واستفادته عليه الصلاة والسلام من كلّ مزية لكلّ مسلم ، واستقطاب تلك المزايا لبناء المجتمع الإسلامي الجديد ، فلا يضع لبنة إلا في مكانها اللائق بها والمناسب لها ، جعل هذا البناء يرتفع ويتعالى سليماً مرصوصاً يشدّ بعضه بعضا .

وكان ذلك سبباً من أهمّ اسباب انتصارات النبي صلى الله عليه وسلم عسكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا ، وفي أيام الحرب وأيام السّلام .

فلما التحق عليه الصلاة والسلام بالرّفيق الأعلى ، خلّف بين المسلمين عدداً لا يكاد يُعَدّ ولا يُحصى من القادة والأمراء والولاة والجباة والعلماء والفقهاء والمحدثين ، قادوا الأمة الإسلامية عسكريًّا وسياسيًّا وإداريًّا وماليًّا واجتماعيًّا وفكريًّا إلى المجد والسؤدد والخير ، وإلى الفتح والنصر والتوفيق ، وإلى طريق الحق وسبيل الرّشاد . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم ، فبأيّهم اقتديتم اهتديتم » ، فهؤلاء هم القادة الرّواد ، من خرّيجي مدرسة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام .

لقد نسي النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ، وركّز كل تفكيره ، عملاً دائباً لمصلحة المسلمين .

نسي مصلحته الخاصة ، وانصرف إلى مصلحة المسلمين العامة ، لذلك استطاع تخريج القمم السامقة من مختلف القابليات والكفايات لمختلف المناصب والواجبات .

استطاع بالدعامة الأولى : العقيدة الراسخة ، أن يجعل من ضمير الفرد قريباً عتيداً عليه ، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ، وأن يجعل من المجتمع الإسلامي إخوة متحابين في الله : {إنما المؤمنون إخوة} .واستطاع بالدعامة الثانية : القدوة الحسنة ، أن يجعل من الفرد المسلم مؤمنا بأن العقيدة الإسلامية قابلة للتطبيق العملي ، وأن مالا يمكن أن يكون ، يمكن فعلا أن يكون ، وأن يجعل المجتمع الإسلامي مؤمنا بأن بالمجتمع المثالي الذي يؤمن بعقيدة مثالية جاءت لمصلحة المؤمنين والناس جميعا : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} .

واستطاع بالدعامة الثالثة : اختيار الرجل المناسب للعمل المناسب ، أن يجعل الفرد المسلم يعتمد على قوته وكفايته وإيمانه للتقدم ولا يعتمد على حسبه ونسبه وانحرافه عن مبادئه ، ويجعل المجتمع الإسلامي يثق بعدل القيادة ، وترفعها عن التحيّز والأهواء .

هكذا أعدّ الرّسول القائد عليه الصلاة والسلام الفرد المسلم ، وكل فرد مسلم جندي مجاهد في جيش المسلمين ، مؤمناً بعقيدته الراسخة ، واثقاً بقيادته الأمينة ، لا يخشى على مستقبله الظلم والانحراف ، مطمئناً على حاضره ومستقبله غاية الاطمئنان .

وهؤلاء الأفراد يؤلفون المجتمع الإسلامي ، وهو جيش المسلمين المجاهدين في سبيل إعلاء كلمة الله ، يشيع فيه الانسجام الفكري بالعقيدة الرّاسخة ، يثق بقادته ، ويتولّى أمره الزبدة المختارة من أبنائه من أصحاب الكفايات العالية ، والقابليات المتميزة ، والإيمان العميق ، والماضي المجيد .

هذا المجتمع الذي يدافع عن عقيدته ، ويحملها إلى الناس كافة لا يحملهم عليها ، ويدافع عن أرضه وعرضه ــ ولا أقول عن أعراضه ــ لأنّ عرض كل مسلم عرض المسلمين جميعا ، كلّ أفراده يتساوون بالحقوق والواجبات ، يسعى بذمّتهم أدناهم ، وهم قوّة على سواهم ، ليس بينهم تمييز طبقي ولا عرقي ، وهو جيش النبي صلى الله عليه وسلم ، ومثل هذا الجيش لا يُقهر ولا يَتَقَهْقَر أبدا .

أدوار بناء الجيش

٥ ــ وجيش المسلمين الأول في تاريخه ، يتخلّص بأربعة أدوار ، تدرّج به من الضّعف إلى القوّة ، ومن الدّفاع إلى الهجوم، فأصبح بالتدريج قوة ضاربة ذات عقيدة راسخة ومعنويات عالية ، تعمل تحت قيادة واحدة ، لتحقّق غاية واحدة .

وهذه الأدوار الأربعة هي بحسب تسلسلها الزّمني وتطورها التدريجي : الدور الأول هو دور الحشد : من بعثته صلى الله عليه وسلم سنة (٦١٠م) ، إلى هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة سنة (٦٢٢م) واستقراره هناك .

وفي هذا الدور ، اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على الدعوة ونشرها : يبشّر وينذر ، ويرسّخ العقيدة ، ويجاهد بكل طاقاته لتبليغ الدعوة ونشر السلام .

وبهذا الجهاد الأكبر ، كوّن الخميرة الأولى لجيش المسلمين ، ثمّ حشدهم في المدينة المنورة بالهجرة إليها ، فكانت المدينة هي القاعدة الأمينة الأولى لجيش المسلمين .

والدّور الثاني ، هو دور الدفاع عن العقيدة : وقد اقتصر في السنة الأولى من الهجرة ، على تنظيم الجيش الإسلامي وإعداده للجهاد .

وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الإذن بالجهاد الأصغر : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} ، يرسل السرايا بقيادة القادة من أصحابه ، وقاد بنفسه الغزوات ، وانتهى هذا الدور ، دور الدفاع عن العقيدة ، بانسحاب الأحزاب عن المدينة المنورة بعد غزوة ( الخندق) في شوال من السنة الخامسة الهجرية ، وقيل : في ذي القعدة سنة خمس الهجرية ، ومعنى هذا ، أنّ هذا الدور استمر أربع سنوات تقريبا .

وفي هذا الدور كان مولد الجيش (تنظيميّا) ، مولد الجيش الإسلامي جيشاً مجاهداً في ظلّ مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، فازداد تعداد المسلمين ، وأحرزوا انتصارا حاسماً في غزوة (بدر الكبرى) في رمضان المبارك من السنة الثانية الهجريّة ، وأثبت جدارته عن الدفاع عن العقيدة الإسلاميّة ، وعن حريّة نشر الدعوة الإسلامية بين الناس كافة ، تجاه أعداء المسلمين من المشركين والمنافقين ويهود ، المتفوّقين على المسلمين عَدَداً وعُدَداً .

وفي هذا الدور اجتاز الجيش الإسلامي الوليد وقتاً عصيباً بنجاح باهر وانتصارات حاسمة ، وصفةُ الرّسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام قبل خوض غزوة ( بدر الكبرى) بقوله وهو يناجي ربّه : « اللهمّ إن تَهْلك هذه العَصابة لا تُعبد» ، مشيراً إلى موقف المسلمين العصيب ، ولكنّه قال عليه الصلاة والسلام بعد انسحاب الأحزاب من غزوة (الخندق) : « الآن نغزوهم ولا يغزوننا ، نحن نسير إليهم» ، مشيراً إلى تحسّن مواقف المسلمين من حال الخطر المحدق بهم إلى حال القوّة والمنَعَة .

والدَّور الثالث : ، هو دور (التعرّض ) : من بعد غزوة (الخندق) إلى غزوة (حنين) التي كانت في شهر شوال من السنة الثامنة الهجرية .

وفي هذا الدّور ، انتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية كلّها ، وأصبح جيش المسلمين قوة ضاربة ذات اعتبار ووزن وأثر في البلاد العربية ، واستطاع سحق كل قوة باغية من المشركين ويهود تعرّضت للمسلمين .

والدّور الرّابع هو دور (التكامل) : من غزوة : (حنين) إلى أن التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرّفيق الأعلى ، في يوم الإثنين من شهر ربيع الأول من سنة إحدى عشر الهجريّة .

وفي هذا الدور تكاملت قوات المسلمين ، فسيطرت على شبه الجزيرة العربية سيطرة تامة دون منازع ، ووحّدتها توحيداً كاملاً لأول مرة في تاريخها تحت لواء الإسلام .

ثمّ أخذت هذه القوة تحاول أن تجد لها متنفّساً في خارج شبه الجزيرة العربية ، فكانت غزوة (تبوك) التي كانت في شهر رجب من السنة التاسعة الهجرية ، إيذاناً بمولد الدولة الإسلامية .

ولستُ بحاجة إلى إثبات قابلية النبي صلى الله عليه وسلم القيادية وكفايته العسكرية ، وصدق الله العظيم : {الله أعلم حيثُ يجعل رسالته} ، فقد كانت قابلياته وكفاياته القيادية والعسكرية وغيرها فذة نادرة لا تتكرر أبدا .

فقد قاد النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعاً وعشرين غزوة ، وفي رواية أخرى : أنه قاد بنفسه خمساً وعشرين غزوة.

ولكنني بمقارنة تعداد الغزوات وتوقيتها في المراجع المعتمدة للسيرة النبوية المطهرة والمغازي والتاريخ ، وإحصاء الغزوات التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وجدت أن عدد الغزوات في قادها بنفسه هي ثمان وعشرون غزوة، ويبدو أن قسماً من المصادر أغفلت غزوة من الغزوات سهواً ، وقسماً منها أغفلت أكثر من غزوة واحدة ، ولكنّ تعداد الغزوات التي اعتمدتها وردت في أكثر من مصدر معتمد ، فآثرت إثباتها منَسّقة مبسّطة ، لعلّ فيها فائدة للمعنيين بالدراسات العسكرية الإسلامية .

وقد قاتل في تسع غزوات : بدر ، وأحد ، والمُرَيسيع ، والخندق ، وقريظة ، وخَيبر ، وفتح مكة ، وحُنَين ، والطائف ، بينما فرّ المشركون في تسع عشرة غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم من غير قتال .

وكانت سراياه التي بعث فيها سبعا وأربعين سرية ، وفي رواية : أنه بعث عدداً أكثر من السّرايا ، والأول أصحّ.

Screenshot 2025 09 03 214342

وقد قاد عليه الصلاة والسلام غزواته خلال سبع سنين بدأت من بعد هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، فقد خرج إلى غزوة (ودّان) وهي أول غزوة قادها بنفسه في شهر صَفَر من السنة الثانية الهجرية ، وكانت غزوة (تبوك) آخر غزواته في شهر رجب من السنة التاسعة الهجرية ، وكان من ثمرات تلك الغزوات توحيد شبه الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام لأول مرة في التاريخ .

رائد الفتح

٦ ــ وبدأ الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام يخطّط للفتح الإسلامي العظيم ، فهو الذي رسم الخطة التمهيدية التي حملت جيش المسلمين على فتح (أرض الشام) : فلسطين والأردن وسوريّة ولبنان ، وتأسيس أول ركن لدولة الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشّرقية .

ذلك أن الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام إلى جانب تبليغه الدعوة الإسلامية إلى قادة العالم في وقته ، كسرى فارس ، وقيصر القُسطَنطينيّة ، وأمراء وقادة العراق وأرض الشام ومصر والخليج العربي واليمن والحبشة ، كان قائداً ماهرا يقظاً لا يغضّ الطّرف عن أي مظهر عدوانيّ قد يحطّ من شأن دعوته أو يعمل على النيل منها أو يضع العراقيل في طريق حريّة انتشارها ، فلم يقف ساكناً أمام استشهاد رسوله الذي بعثه إلى أمير الغساسنة في (بصرى) ، فأرسل في السنة الثامنة الهجرية (٦٢٩م) أحد قادته المقرّبين إليه ، وهو زيد بن حارثة الكلبيّ على رأس حملة تعدادها ثلاثة آلاف رجل إلى الحدود الشمالية الغربية من حدود بلاد العرب ، وهناك عند (مؤتة) ، الواقعة على حدود (البَلقاء) إلى الشرق من الطرف الجنوبي للبحر (الميّت) ، التقى المسلمون بقوّات الرّوم وحلفائهم الغساسنة . ومهما تكن الخاتمة التي لقيتها غزوة (مؤتة) فإنّ نتائجها وآثارها كانت بعيدة المدى ، فبينما رأى الرّوم تلك الغزوة (غارة) من الغارات التي اعتاد البدو شنّها بين حين وآخر ، كانت سرية زيد إلى (مؤتة ) في الحقيقة غزوة من نوع آخر ، لم تقدّر امبراطورية الرّوم أهميتها ، فهي حرب منظمة كانت لها مهمة جديدة خاصة ، جعلت المسلمين يتطلّعون جدّياً لفتح أرض الشام . وفي السنة التالية، أي في السنة التاسعة الهجرية (٦٣٠م) ، قاد النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه غزوة (تبوك) ، فأظهر قوة المسلمين للرّوم المتربّصين بهم ثمّ عاد إلى المدينة المنورة ، فكانت تلك الغزوة غزوة استطلاعية ، بالإضافة إلى تأثيرها المعنوي في الرّوم وحلفائهم الغساسنة . وفي السنة الحادية عشرة الهجرية (٦٣٢م) ، أعدّ النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة الكلبيّ (حِبّ رسول الله وابن حِبّه) لمهاجمة الروم ، فولّى وجوه المسلمين شطر قِبلة عيّنها لهم وأهداف واضحة جليّة شرحها لهم ، وأصدر إليهم أوامر حاسمة جازمة .

وهكذا وقف الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام بثاقب نظره على أن أشد الأخطار التي يمكن أن تحلّ ببلاد العرب ودعوته الإسلامية ، موطنها أرض الشام حيث الرّوم وعمّالهم الغساسنة ، وقد أثبتت حوادث الفتح الإسلامي فيما بَعْدُ صدق هذه الإشارة، فكان الروم أشد المحاربين عناداً .

تلك هي قصة جيش المسلمين الأول ، الذي أنشأه وسهر على رعايته ، ودرّبه وجهّزه ونظّمه ، وهيّأ له القادة الحماة القادرين ، وأشاع فيه المعنويات العالية بالعقيدة الراسخة ، حتى أصبح جيشاً لا يُقهر من قلة ولا بكثرة ، حقّق وحدة قوية، وأنشأ أمة عظيمة ، وحمى عقيدة راسخة ، في حياة قائده ورائده ، ومؤسس بنيانه ، ومشيد أركانه ، ومرسّخ إيمانه بقوة الله وعزّته وإرادته وهديه .

وقد نشأ هذا الجيل في المسجد ، وشبَّ وترعرع في المسجد ، واستوى على ساقه في المسجد ، وتلقّى تعاليمه في المسجد ، فقد جعل الله الأرض كلها مسجداً وطهوراً .

وفي المدينة المنورة ، في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، انطلق جيش المجاهدين الأولين للدفاع عن الإسلام والمسلمين ، ثم انطلق لحماية الدعوة الإسلامية وحرية نشرها وتبليغها إلى الناس ، ثم اندفع لصيانة الكيان الإسلامي ، ثم تكفل بصيانة الدولة الإسلامية مكانة أرضاً وعرضاً ، ثم نهض بأبناء حرب المرتدّين وإعادة الوحدة إلى شبه الجزيرة العربية ، ثم تحمل أعباء الفتح الإسلامي العظيم أقوى ما يكون عزماً وإرادة وتصميماً ، فنقل المسلمون بهذا الفتح الإسلام إلى الأمم ، ولم ينقلوا به الأمم إلى الإسلام ، فكان نشر الإسلام بالحسنى لا بالإكراه ، بالحكمة لا بالقوة .

لقد أسّس بنيان هذا الجيش على تقوى من الله ورضوان ، لذلك أحرز انتصارات باهرة لا تزال أعجوبة من أعاجيب الدهر وحقّق فتوحات فذة لا تزال باقية على الدّهر ، وصدق الله العظيم : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

والدرس الذي يمكن أن نسأله من بناء هذا الجيش الإسلامي الأول ، جيش النبي صلى الله عليه وسلم ، هو أن نبني الجيوش العربية والإسلامية على أسس رصينة من تعاليم الدين الحنيف ، لتتحلى تلك الجيوش بالمعنويات العالية التي ترتكز على تلك التعاليم

وأن نُحسن لها اختيار القادة المؤمنين حقا ، من ذوي الطبع الموهوب والعلم المكتسب والتجربة العملية ، القادة الذين يؤثرون مصلحة أمتهم وبلدهم على مصالحهم الذاتية .

وأن نُعِدَّ لها السّلاح المتطور ، وندرّبها التدريب المتكامل ، ونهذّبها التهذيب الناجع ، ونجهّزها التجهيز المتميّز ، وننظّمها التنظيم الدقيق .

وأن نعيد للمسجد مكانته ليؤدي رسالته في غرس العقيدة الراسخة والمعنويات العالية ، فهو وحده يؤدي هذه الرسالة ، أما غيره من الأماكن فهي تؤدي رسالة من نوع آخر ، هي مصلحة من مصلحة الأعداء لا من مصلحة الأصدقاء .

إنّ المسجد يكون في الأرض ، ولكنّ السماء تكون فيه .

والنفوس المؤمنة لا تتشبع بالماء كالإسفنج ، بل تتشبع بروح المسجد .

وكلّ مسجد أسّس على التقوى ثكنة لجيش المسلمين ومدرسة ، فمتى يعود المسلمون إلى المسجد ، ليستعيد مكانته ويؤدي رسالته ؟! .

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وصلى الله على إمام المجاهدين الصادقين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

والله أسأل أن يفيد بهذا البحث ، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم . وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .

(محمود شيت خطاب، قادة النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم)

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة