نسبُهُ وأيّامه الأولى
هو الضّحاك بن سُفْيان بن عَوف بن كَعب بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامِر بن صَعصَعة العامريّ الكِلابيّ ، يكنّى : أبا سعيد .
أسلم وصحب النّبي صلّى الله عليه وسلم ، ولكن لا نعلم متى أسلم بالضبط ، وهو معدود من أهل المدينة ، كان ينزل باديتها ، وكان ينزل نَجدا ، أيضا في موالي (ضَرِيَّة) وكان والياً على من أسلم هناك من قومه .
ومن الواضح أنّ الرّجل كان من الأعراب الرُّحَّل ، ينتقل من مكان إلى آخر ، فهو ينزل بادية المدينة تارةً ، وأرض نجدٍ تارةً أخرى ، فلا اختلاف بين الرّوايتين .
وكان الضّحاك أحد الأبطال ، وكان يقوم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشّحا بسيفه ، وكان يُعَدُّ بمائة فارسٍ وحده ، فكان سيّاف رسول الله صلى الله عليه قائمًا على رأسه متوشّحا بسيفه .
وذكرت عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها ، أنّ الضّحاك نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له وبيني وبينه الحجاب ــ أي بين عائشة والضّحاك الحجاب ــ : « هل لك في أُخت أمِّ شَبِيْب ؟» ــ وأم شبيب امرأة الضّحاك ، فتزوجها النّبي صلّى الله عليه وسلم ثمّ طلقها ولم يدخل بها ، واسمها فاطمة الكلابيّة ، فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما دنا منها قالت : «أعوذ بالله منك » ، فقال صلى الله عليه وسلم: « عذتِ بعظيم! الحقي بأهلك » ، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة ثمان الهجرية مُنْصَرَفة من (الجِعرانة) بعد فتح مكّة وغزوة حنين وحصار الطائف ، وقال بعض الرّواة ، إن هذه الكلابيّة هي ابنة الضحّاك .
وفي سريّة ( بئر مَعُوْنَة ) التي كانت مؤلفة من سبعين رجلاً من الأنصار شبَبَة يُسمّون القرّاء بقيادة المُنذر بن عمرو الأنصاريّ ، وكانت في صفر من السّنة الرّابعة الهجريّة ، غدر المشركون بهذه السّريّة ، فاستُشهد أفراد السّريّة ، وكان من بين الشهداء عامر بن فُهَيرة مولى أبي بكر رضي الله عنهما ، وكان الذي قتله رجل من بني كلاب يُقال له : جبّار بن سُلْمَى، ذكر أنّه لما طعنه قال : « سمعته يقول : فُزْتُ والله! فقلت في نفسي : ما قوله : فُزْتُ!! فقال : الجنة » ، وعرض عليه الضّحاك الإسلام ، فأسلم ، وكتب الضّحاك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بإسلام قاتل عامر بن فُهَيرة .
وهذا يدل على أن الضّحاك أسلم قبل سنة أربع الهجريّة ، دون أن نعرف بالضبط موعد إسلامه .
وقد أهدى الضّحاك للنبي صلى الله عليه وسلم لَفْحَة تدعى : (بُرْدَة) ، لم يُر من الإبل سناً كان أحسن منها ولا أغرز : كانت تحلب ماتحلب لقحتان ، فربّما حُلِبَت لأضياف رسول الله صلى الله عليه وسلم غبوقاً وصبوحاً .
ويبدو أن الضّحاك كان قريباً من نفس النبي صلى الله عليه وسلم وموضع ثقته ومحبّته : سيّافه ، وينزل عليه ضيفاً ، ويفاتحه بقضايا الزّواج ويولّيه على قومه ويهدي له ، وهذا دليل على أن الضّحاك أسلم وحسن إسلامه وكان مخلصاً للإسلام والمسلمين محبّاً لله ورسوله .
في الغزوات
شهد الضحّاك غزوة فتح مكّة التي كانت في شهر رمضان من السّنة الثامنة الهجريّة ، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما سار إلى فتح مكة كان بنو سُلَيم تسعمائة ، فقال لهم : « هل لكم من رجل يعدل مائة يوفيكم ألفا » فوفاهم بالضحّاك وكان رئيسهم ، وإنما جعله عليهم لأنهم جميعاً من قَيس عَيْلان ، فقال عبّاس بن مِرداس السُّلَميّ :
نَذودُ أخانا عن أخينا ولو نَرى … وصالاً لكُنَّا الأقربين نتابعُ
نُبايع من الأخشَبَيْن وإنّما … يدُ الله بين الأخشبين تُبايعُ
عَشيّة ضحّاك بن سفيان مُعتَصٍ … لسيفِ رسول اللّه والموت واقع
كما شهد الضحّاك غزوة ( حُنَين ) التي كانت في شهر شوّال من السنة الثامنة الهجرية ، فضمّ إليه النّبي صلّى الله عليه وسلم بني سُلَيم ، فكانوا إليه ومعه .
وشهد حصار الطّائف الذي كان في شهر شوال من السنة الثامنة الهجرية ، وقد كانت ثَقيْف أصابت أهلاً لقيس بن مروان الدَّوسيّ ، وكان قد أسلم وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثَقِيْف ، فزعمت ثقيف ــ وهو الذي تزعم به ثقيف أنها من قيس ــ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمروان بن قيس : « خُذْ يا مروان بأهلك أول رجل تلقاه من قَيس» ، فلقيَ أُبَيّ بن مالك القُشَيريّ ، فأخذه حتى يؤدوا إليه أهله ، فقام في ذلك الضّحاك ، فكلَّم ثقيفاً حتى أرسلوا أهل مروان ، وأطلق لهم أُبَيّ بن مالك ، فقال الضحّاك في شيء كان بينه وبين أُبيّ بن مالك :
أَتَنسى بلائي يا أُبَيّ ابن مالكٍ … غَداةَ الرّسولُ مُعرِضٌ عنكَ أشوَسُ
يَقودُكَ مروانَ بنُ قَيسٍ بحبلِهِ … ذليلاً كما قِيدَ الذَّلولُ المُخَيَسُ
فَعَادت عليكَ من ثَقيفٍ عصابةٌ … متَى يأتِهِم مُستَقبِسُ الشَّرِّ يُقبِسوا
فكانوا هُمُ المولى فعادت حُلُومهم … عليكَ وقد كادَت بِكَ النّفسُ تَيأَسُ
تلك هي الغزوات التي ورد للضحّاك فيها ذكر ، ومادام قد أسلم قبل سنة أربعَ الهجريّة ، فمن المعقول أنه شهد غير هذه الغزوات فلم يُذكر دوره فيها في المصادر المعتمدة التي بين أيدينا ، وما زالت تلك المصادر لتسكت عنه ــ كما لم تسكت عن غيره ــ من الخوالف لو كان منهم.
ومهما يكن من أمر ، فقد نال الضحّاك شرف الصُّحبة ، وشرف الجهاد تحت لواء الرسول القائد عليه أفضل الصّلاة والسّلام .
والقول أنّ واجبه الإداري والياً على من أسلم من قومه في ناحية من نواحي نجد ، شغله عن واجبه في الجهاد ، ليس صحيحاً ، فقد كان شهود الغزوات هو ومن معه من بني كلاب فرضٌ لا يستطيع أن يتخلّى عنه ، والصّواب أنه شهد الغزوات فذكر المؤرخون قسماً منها ، وأغفلوا قسماً آخر منها .
قائد السّرية
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول من سنة تسع الهجرية جيشاً إلى ( القُرَطاء ) بقيادة الضحّاك ، ومعه الأَصيد بن سَلَمة بن قُرط بن عبد ، حتى لقوهم بـ ( الزّج ) زُجّ لاوَه ، فدعوهم إلى الإسلام فأبَوا ، فقاتلوهم فهزموهم .
ولحق الأَصيد أباهُ سَلمة بن قُرط ، وسَلَمَة على فرس له على غدير زجّ ، فدعا أباه إلى الإسلام وأعطاه الأمان ، فسبّه وسبّ دينه ، فضرب الأَصيد عُرْقُوبيّ فرس أبيه ، فلما وقع على عرقوبيه ارتكزَ سَلمَة على رمحه في الماء ، ثمّ استمسك به ، حتى جاءه أحدهم فقتله ، ولم يقتله ابنه .
لقد أدّى الضّحاك واجبه في قيادة هذه السّرية ، وأعطى درساً قاسياً للمشركين في منطقة نجد ومن حولهم من الأعراب، فأثّر ذلك في معنوياتهم كثيراً ، ففشا بينهم الإسّلام وانضمّوا إلى المسلمين.
وقد ذكره عبّاس بن مِرداس السُّلَميّ في شعره بما هو أهله منوّهاً به وبرجاله في هذه السرية فقال :
إنّ الذين وَفَوا بما عاهدتهم … جيش بعثْت عليهم الضّحاكا
أمَّرته ذَرِب اللِّسان كأنَّه … لمّا تكنّفه العدوّ يَراكا
طورًا يعانِق باليدين وتارةً … يفري الجماجِم صارماً بتّاكاً
والضّحاك ورجاله يستحقّون مثل هذا الثّناء .
الشّهيد
لمّا التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرّفيق الأعلى ، ارتدّت بنو سُلَيم وتبعوا الفُجاءَة السُّلَميّ ، فقال لهم الضحّاك : « يابني سُلَيم! بئس ما فعلتم! » وبالغ في وعظه ، فشتموه وهمّوا به ، ــ وكان صاحب راية بني سُلَيم ورأسهم ــ فارتحل عنهم ، فندموا وسألوه أن يُقيم ، فأبى ، وقال : « ليس بيني وبينكم موادّة » وقال في ذلك شعرًا منه :
لقد جرَّ الفُجاءة على سُليمٍ … مخازي عهرها في الدّهر باقٍ
ورجع الضحّاك مع المسلمين إلى قتالهم ، فاستُشهد ، سنة إحدى عشر الهجريّة ، وأُسرَ الفجاءة السُّلَميّ ، فقتله أبو بكر الصديق عقاباً له على ردَّته وقتل المرتدّين من قومه .
لقد كان لثبات الضحّاك على عقيدته الرّاسخة العميقة ، أعظم الأثر في بني سُلَيم مسلمهم ومرتدّهم ، فقد كان الأسوة الحسنة للمسلمين الذين لم يرتدّوا عن الإسلام ، كما كان الخصم اللّدود للذين ارتدّوا ، فوعظهم وأنّبهم واشتدّ عليهم ، فلما أخفقت محاولاته السّلميّة قاتلهم مع الذين قاتلوهم من المسلمين في حروب الردّة ، فضحّى بروحه من أجل عقيدته ، ولم يضحّ بعقيدته من أجل روحه ، واستُشهد في ساحة الجهاد ، ولكنّ دمّه لم يذهب عبثا ، بل كان من عوامل النصر الذي حققه المسلمين على المرتدّين من سُلَيم وغيرها من القبائل ، فعاد المرتدّون من سليم إلى الإسلام من جديد ، وعادت الوحدة إلى هذه القبيلة العربية تحت لواء الإسلام ، فحقق الضحّاك ما كان يتمناه لسليم من حياته من العودة إلى الإسلام ، وبذل روحه رخيصة من أجل تحقيق أغلى أمانيه ، فخسر روحه وربح بني سليم ، وحقّق بموته أعزّ ما كان يتمنّاهُ في حياته ، فكان الرّابح بميزانه وميزان وبميزان أهل القلوب .
الإنسان والقائد
١ ــ كتب النّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الضحّاك أن يورّث امرأة أَشيم الضِّبابيّ من ديّة زوجها وكان قُتِلَ خطأ ، وشهد بذلك الضحّاك عند عمر بن الخطّاب ، فقضى به وترك رأيه ، وكان عمر رضي الله عنه يقول : « الدّية للعاقلة ، ولا ترث المرأة من ديّة زوجها شيئا » ، حتى قال له الضحّاك: « كتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضِّبابيّ من ديّة زوجها» ، وحديثه هذا صحيح ، رواه ابو داوود والتّرمذي والنّسائي وغيرهم ، وقال التّرمذيّ : «حديث حسن صحيح» .
روى عنه سعيد بن المسيّب والحسن البصري ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أحاديث .
وكان شاعرا مجيداً بحق ، وقد أوردنا نموذجاً من شعره ، ولكن لا ندري إن كان شاعراً مُقلّاً ، أن عفا الزمن على شعره ، فأصبح أثراً بعد عين .
وكان سيّاف النّبي صلّى الله عليه وسلم يقوم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشّحاً بسيفه ، وكان من الشجعان الأبطال ، ولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم قديما ، ولما رجع من ( الجِعرانة ) بعد غزوة الطائف إلى المدينة ، بعث المصدّقين ، فبعث الضحّاك إلى بني كلاب ، وكان ذلك في شهر محرّم من السنة التاسعة الهجريّة .
وتولّيه المناصب الإدارية دليل على قابليته في القضايا الإدارية وأمانته أيضاً .
وكان كريماً مضيافا ، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، وكان أميناً صادقاً وفيّاً ، وكان من الدّعاة الأولين إلى الإسلام ، قضى حياته داعياً إلى الله بين قومه ، فلما انحرف قسم منهم فارق المنحرفين وانضمّ إلى الذين استقاموا ، ففصل السّيف في اختلاف الفئتين ، فانتصر الحق على الباطل والنور على الظلام .
٢ ــ وكان أحد الأبطال يعدّ بمائة فارس وحده ، وكان من الشجعان يعدّ بمائة فارس ، فقد كان أحد الشجعان المعدودين لا يخفى مكانه ولا مكانته على أحد المسلمين وغير المسلمين .
ومفتاح شخصيته القياديّة ، هي شجاعته الفائقة التي زادها الإيمان الراسخ جذوة ونشاطاً ، فوجّهها إلى الخير والصّلاح ، بعد أن كانت للشر والبطش ، وللعدل والبناء ، بعد أن كانت للظلم والهدم .
لقد حازَ دون شكّ على صفتي القيادة من صفاتها الثلاث ، فحاز على العلم المكتسب بإتقان فنون القتال ، وحاز على التجربة العملية في الغزوات والسرايا وفي حروب الردّة .
أما الصفة الثالثة فهي الطّبع الموهوب ، فلا يمكن إثباتها فيه ولا نفيها عنه ، لأنّه لم يَخُض حروباً كبرى تسجّل له انتصارات حاسمة ، تثبّت تمتّعه بالطّبع الموهوب للقيادة ، دون إمكان نفيها عنه .
أمّا مزاياه القياديّة الأخرى ، فلا تكاد تختلف كثيراً عن أمثاله من قادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فهم خرّيجو مدرسة قياديّة وحدة ، وعاشوا في بيئة واحدة ، في أمّة واحدة ، من ظروف إجتماعية واحدة .
فقد كان قادراً على إصدار قرارات سريعة صائبة ، شجاعاً مقداماً على جانب عظيم من الشجاعة والإقدام ، ذا إرادة قوية ثابتة ، يتحمّل المسؤولية ويحبّها ولا يخافها ، ذا نفسية رصينة لا تتبدل في حالتي النصر والهزيمة ، يتمتّع بمزية سبق النّظر فقد سبق قومه إلى الإسلام ، فلمّا ارتدّ بعضهم حذّرهم وبشّرهم بالواقعة الوخيمة التي تنتظرهم .
عارفاً بنفسيّات رجاله وقابلياتهم ، يثق بهم ويحبّهم ويثقون به ويحبّونه ، ذا شخصيّة قويّة نافذة ، وذا قابلية بدنية متميزة ، وذا ماضٍ ناصع مجيد في خدمة الإسلام والمسلمين .
وكان يطبّق مبادئ الحرب في قتاله : فهو يختار مقصده ويسعى إلى تحقيقه ، يطبّق مبدأ : التّعرض ، ومعاركه كلّها تعرضيّة ، يباغت خصمه كلّما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ويحشد القوة المناسبة للواجب المناسب ، ويقتصد بالمجهود ، ويطبّق مبدأ : الأمن لحماية قواته من مباغتة العدو لها . لقد كان الضحّاك قائداً متميزًا .
الضحّاك في التّاريخ
يذكر التّاريخ للضحّاك ، أنه سبق قومه إلى الإسلام ، ونهض بواجب الدعوة إلى الله بينهم ، وقضى حياته كلها في دعوة بين قومه داعياً إلى الله .
ويذكر له أنه نال شرف الصّحبة ، وشرف الجهاد تحت لواء النّبي صلّى الله عليه وسلم.
ويذكر له ، أنه كان قائداً من قادة سرايا النّبي صلّى الله عليه وسلم ، وأنه أبلى بلاءً حسناً في قيادته .
ويذكر له ، أنّه كان أحد ولاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحد عمّاله على الصّدقات .
ويذكر له ، أنه كان سيّاف النّبي صلّى الله عليه وسلم قائما على رأسة متوشّحاً بسيفه .
ويذكر له ، أنه ختم حياته بالشّهادة ، فضحّى بروحه من أجل عقيدته ، ولم يضحّ بعقيدته من أجل روحه .
رضي الله عن الصّحابيّ الجليل ، الإداريّ الحازم ، العامل الأمين ، القائد البطل ، الضحّاك بن سُفيان الكِلابيّ .
(قادة النبي صلى الله عليه وسلم)