نسبُهُ وأيّامه الأولى
هو قُطبة بن عامِر بن حَديدَة بن عمرو بن سَوَاد بن غَنم بن كَعب بن سَلِمة الأنصاريّ الخَزرَجيّ السَّلَميّ ، يكنى : أبا زيد .أمّه: زينب بنت عمرو بن سِنان بن عمرو بن مالك بن بُهثة بن قُطبَة بن عَوف بن عامِر بن ثعلبة بن مالك بن أَفصى بن عمرو بن أَسلم .
ولا نعلم شيئاً مذكوراً عن حياته قبل إسلامه ، وكان أحد السّنة السابقين الذين أسلموا من الخزرج ، فقد لقي رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ستة نفرٍ من الأنصار كلّهم من الخزرج أحدهم قطبة بن عامر ، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الإسلام فآمنوا وأسلموا وانصرفوا إلى المدينة ، فدعوا إلى الإسلام ، حتّى فشا فيهم ، فلم يبقى دار من دور الأنصار إلا وفيهم ذكرٌ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقطبة من السّتة النفر الذين يروى أنهم أول من أسلم من الأنصار بمكّة ليس قبلهم أحد ، فهو من السّابقين الأوّلين من الأنصار .
ولمّا كان العام المقبل وافَى من الأنصار اثنا عشر رجلاً ، فلقوا النّبي صلّى الله عليه وسلم في العَقَبة أيام موسم الحجّ ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النّساء ، وهي بيعة العقبة الأولى ، وذلك قبل أن يفترض عليهم الحرب، وكان ذلك سنة اثنتي عشرة من مبعثه صلى الله عليه وسلم وكان من المبايعين قطبة : بايعوا على أن لا يشاركوا باللّه شيئًا ، ولا يسرقوا ، ولا يزنوا ، ولا يقتلوا أولادهم ، ولا يأتون ببهتانٍ يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ، ولا يعصون في معروف فإن وفوا فلهم الجنّة ولم يذكر القتال .
ـ وفي سنة ثلاث عشرة من مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، كانت بيعة العَقَبة الثانية ، فخرج سبعون من الأنصار في ثلث اللّيل متسللين من رحالهم إلى العقبة ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه نسائَهم وأبنائهم وأُزُرهم ، وأن يرحل هو وأصحابه إليهم ، واختار رسول الله صلى الله عليه اثني عشر نقيبا ، وكان ممن شهد العقبة الثّانية قطبة .
لقد شهد قطبة بيعة العَقَبَتين جميعا في روايتهم كلِّهم ، لا خلاف في ذلك .
ولمّا تمّت بيعة العقبة الثّانية ، أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من كان معه بمكّة من المسلمين بالهجرة إلى المدينة ، فخرجوا أرسالا .
وهاجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة إلى المدينة ، فآخى بعد بنائه المسجد بين الأنصار والمهاجرين ، وقيل : إنّ المؤاخاة كانت والمسجد يُبنى ، بين المهاجرين والأنصار على المواساة والحق ، فكانوا يتوارثون بذلك دون القربات ، حتّى نزلت: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } وواضح أن هذه الآية الكريمة نسخت ما فرضته هذه المؤاخاة من التوارث ، أمّا ما ورائها من الحق والمواساة ، فقد ظلّا قائمين ، فآخى النّبي صلّى الله عليه وسلم بين عبد الله بن مَظعون وقطبة بن عامِر .
ـوهكذا قطبة أصبح جاهزاً لأداء واجبه في خدمة الإسلام والمسلمين في السّلام والجهاد، في عقيدته الرّاسخة ، وفي قيادته ، وفي مجتمعه الإسلاميّ الجَديد .
في الغزوات والسّرايا
١ـ شهد قطبة سرية حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول لواء عقده النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت في رمضان من السنة الأولى الهجرية في ثلاثين راكبا من المهاجرين في رواية ، وفي خمسة عشر من المهاجرين وخمسة من الأنصار في رواية أخرى ، من بينهم قُطبة .
وكان هدف هذه السّرية الوصول إلى (العِيص ) ، على ساحل البحر الأحمر ، لتهديد طريق تجارة قريش بين مكّة والشام . ولكن مَجْدِي بن عمرو الجُهَنيّ ــ وكان حليفًا للفريقين ، حجز بينهما فعاد حمزة إلى المدينة بدون قتال.
٢ـ وشهد غزوة (بدر) الكبرى الحاسمة ، التي كانت في شهر رمضان من السنة الثانية الهجرية . وكان مع المسلمين سبعون بعيرا، وكانوا يتعاقبون الإبل : الإثنين ، والثلاثة ، والأربعة وكان خِراش بن الصّمّة ،وقطبة ، وعبد الله بن عمرو بن حَرام على بعير ، وذلك مسير الاقتراب من المدينة إلى موقع بَدْرٍ .
ورمى يوم بدر ، حجراً بين الصّفين وقال : « لا أفرّ حتى يفرّ هذا الحجر ». وقد أُسِرَ قطبة في هذه الغزوة مالك بن عُبَيد الله بن عثمان أخا طلحة بن عبيد الله من بني تَيم من قريش .
٣ـ وشهد غزوة (أُحد) التي كانت في شهر شوال من السنة الثالثة الهجرية ، وكان أحد الرمان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين برزوا في تلك الغزوة ، وقد جرح يوم أحد تسع جراحات ، فلم تمنعه جراحاته من المبادرة إلى الخروج في اليوم التالي من يوم (أحد) مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى (حَمْراء الأسد) ، فشهد معه تلك الغزوة .
٤ـ وشهد غزوة ( الخَندق ) التي كانت في شهر شوال من السنة الخامسة الهجرية ، كما شهد فارساً غزوة بني قريظة وهم يهود ، وكانت في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة الهجرية.
٥ـ وشهد معركة ( مُؤتَة ) التي كانت في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة الهجرية ، فلمّا استشهد القادة الثّلاثة بالتّعاقب : زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة ، وكانت الهزيمة وقتل المسلمون، جعل قطبة يصيح : « ياقوم! يُقتَل الرّجل مُقبلا أحسن من أن يُقتَل مُدبرا» ، يصيح بأصحابه فما يتوجه إليه أحد .
٦ـ وشهد غزوة فتح مكّة ، فعقد النّبي صلّى الله عليه وسلم الأولوية والرّايات في (قُدَيد) فجعل راية بني سَلِمَة مع قُطبة.
٧ـ تلك هي الغزوات والسرايا التي ورد ذكر قطبة فيها .
والواقع أنه شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يتخلّف عنه في مشهد من مشاهده ، بالإضافة إلى السرايا التي شهدها مع قادة السرايا الآخرين .
قائد السرية
ولّى النّبي صلّى الله عليه وسلم في صفر سنة تسع الهجرية قُطبة على سرية مؤلفة من عشرين رجلاً إلى حيّ بن خَثعَم بناحية (بِيشة) قريبا من (تربة) بناحية (تَبالة) ، في منطقة مدينة الطّائف ، وأمرة أن يشنّ الغارة عليهم ، وأن يسير الليل ويكمن النهار ، وأمره أن يغذّ السّير .
وخرجوا على عشرة أَبعِرة يعتقبونها ، قد غيّبوا السّلاح، فأخذوا على (الفَتق) حتى انتهوا إلى بطن (مَسحاء) ، فأخذوا رجلاً فاستعجم عليهم ، فجعل يصيح بالحاضِر ، فضرب قُطبَة عنقه . وأقاموا حتى كان ساعة من الليل ، فأخرجوا رجلا منهم طليعة ، فوجد حاضِر نَعَم ، فيه النّعَم والشاء ، فرجع إلى أصحابه وأخبرهم بما رآه . وأقبل القوم يَدِبّون دبيباً يخافون الحَرَس ، حتى انتهوا إلى الحاضر ، وقد ناموا وهدأوا ، فكبّروا وشنّوا الغارة .
وخرج إليهم رجال الحاضر ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، حتى كثرت الجراح في الفريقين.
وأصبحوا وجاء الخَثعَميُّون الدَّهم ، فحال بينهم سيلٌ أتيٌّ ، فما قدر رجلٌ منهم يمضي ، حتى أتى قطبة على أهل الحاضر ، فأقبل بالنّعم والشاء والنّساء إلى المدينة ، فكان سهامهم أربعة أربعة ، والبعير بعشرة من الغنم ، بعد أن خرج الخُمْسُ . وربما يتبادر إلى الأذهان ، صعوبة تنقّل النَّعَم والشاء والنساء من منطقة الطائف إلى المدينة المنورة ، لأن المسافة بين المنطقتين شاسعة جدًّا ، ولكن الصّعوبة في إخراج تلك الغنائم من منطقة خَثعم الذين كانوا من المشركين ، أما ما حول خثعم في الطائف إلى المدينة المنورة ، فكان قد انتشر الإسلام في ربوعها ، فلا يستطيع المشركون مطاردة المسلمين في مناطق إسلامية ، مما يسر لقطبة التنقل بسلام وأمن واطمئنان بين إخوته في الدين بعيداً عن المشركين .
ـ لقد أدى قطبة واجبه في أداء السرية حق الأداء ، فأغار على المشركين من خَثعَم ، وكبّدهم خسائر بالأرواح والممتلكات ، وباغتهم مباغتة كاملة بالزمان ، إذ أغار عليهم في وقت لا يتوقّعونه ، فانتصرت سريّته القليلة في عدَدها على خَثعم الكثيرين عَدَداً وعُدَدا فكان قطبة بحقّ قائدا متميزا من قادة سرايا النّبي صلّى الله عليه وسلم .
الإنسان والقائد
أخبار قطبة قليلة جدا ، وبخاصة بعد إلتحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرّفيق الأعلى ، فلا تكاد تجد له خبراً في المصادر المعتمدة .
كان له من الولد ، أم جميل ، وهي من المبايعات ، وأمّها : أمّ عمرو بنت عمرو بن خُلَيد بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سَلمة .
وقال البغوي : « لا أعلم لقطبة بن عامر حديثًا » ، لذلك لا تجد لقطبة ذكراً في كتب الحديث الشريف . ـ ولا نعرف سنة ولادته ، وقد توفي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وليس له لقب .
وحسبه شرفاً أنه نال شرف الصحبة ، وشرف الجهاد تحت لواء الرّسول القائد عليه الصّلاة والسّلام ، وشرف قيادة أحد سراياه في حياته المباركة .
وإذا كان القائد المثالي ، لابد من أن تتوفر فيه ثلاث مزايا رئيسة : الطبع الموهوب ، والعلم المكتسب ، والتجربة العملية ، فبالإمكان أن نتبيّن في قطبة مزيتين من تلك المزايا الثلاث ، هي التجربة العملية ، فقد شهد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كافة وقسماً من سراياه ، وهي تجربة عملية طويلة مثمرة ، أما العلم المكتسب ، فقد كان العربي يتعلم فنون القتال ويمارس تلك الفنون ، فلما جاء الإسلام أصبح تعلم تلك الفنون من تعاليم الإسلام التي يقتَضى أن يطبّقها كل مسلم ويلتزم بها ، ويبدو بأن قطبة بَزّ أقرانه في الرّمي، فكان من الرّماة المعدودين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشار إليهم بالبنان .
أما تيسّر الطبع الموهوب في قيادته ، فلا يمكن إثباته أو نفيه ، إذ لم ينهض بأعمال عسكرية تثبت تمتّعه بهذه المزّية .
أما سماته القياديّة الفرعيّة ، فيبدو أنه كان سريع القرار وصحيحه ، ذا شجاعة شخصية نادرة ، وإرادة قوية ثابتة ، يتحمّل المسؤولية ويحبّها ولا يلقيها على عواتق الآخرين ، ذا نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار ، عارفاً بنفسيات رجاله وقابلياتهم ويكلّف كل فرد منهم وفقاً لقابلياته ، يثق برجاله ويثقون به ويحبّهم ويحبّونه ، ذا شخصية قوية ، وقابلية بدنية فائقة ، وله ماضٍ ناصع مجيد في خدمة الإسلام والمسلمين. وكان من أولئك المجاهدين والقادة الذين يعملون لعقيدتهم الراسخة ، ويدفعهم إيمانهم العميق إلى العمل الدائب المثمر لرفع كلمة الله والدعوة إلى الله ، ونشر الدين الحنيف .
وكان يطبّق مبادئ الحرب ، وبخاصة : المباغتة ، أهم مبادئ الحرب على الإطلاق ، كما يطبّق مبدأ : إختيار المقصد وإدامته ، ومبدأ : التعرض ، ومبدأ : المرونة ، ومبدأ : التعاون ، ومبدأ : الأمن ، كما كان يساوي نفسه برجاله ، ويستشيرهم في أموره .
قطبة في التّاريخ
يذكر التّاريخ لقطبة ، أنه كان أحد الستة النفر من الخزرج الذين أسلموا بمكة قبل عام من بيعة العقبة الأولى ، فهو من السابقين الأولين إلى الإسلام من الأنصار .
ويذكر له ، أنه عاد إلى المدينة بعد إسلامه يدعو الأنصار إلى الإسلام ، ثمّ عاد إلى مكة وشهد بيعة العقبة الأولى، بعد عام من إسلامه.
ويذكر له، أنه شهد غزوة بدر الكبرى الحاسمة ، وثبت فيها ثبات الراسيات .
ويذكر له، أنه شهد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كافة ولم يتخلف عن غزوة من غزواته ، كما شهد قسما من سراياه.
ويذكر له ، أنه قاد إحدى سرايا النّبي صلّى الله عليه وسلم إلى النصر في حياته المباركة رضي الله عن الصّحابيّ الجليل ، المجاهد الصادق ، القائد البطل ، قُطبة بن عامِر الأنصاريّ الخَزرَجيّ .