قبل الإسلام
١ ـ نسبُهُ: هو عُيَينة بن حِصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جُوَية بن لوذان بن ثعلبة بن عديّ بن بن فَزارة بن ذُبيان بن بَغيض بن رَيث بن غَطَفان بن سعد بن قيس عيلان بن مُضَر بن نزار بن مَعد بن عدنان ، وكان اسمه : حذيفة ، فأصابته لقوة ، فجحظت عينُه ، فسُمّيَ : أبا عُيَينة ، ويكنّى أبا مالك .
وبنو بدر بن عمرو بن جُويّة بن لوذان بن ثعلبة بن عَدِي بن فَزارة ، هم بيت فَزَارة وعدَدُهم ، ومن ولده حُذيفة الذي يقال له : ربّ مَعَد ، وهو سيّد غطفان ، وكذلك ابنه حِصن الذي قاد بني أسد وغطفان وقتل بنو عَبس حذيفة جد عُيَينة ، وقتل بنو عُقَيل حِصنًا والد حُذيفة .
في أيّام العرب
أ- كان حِصن بن حُذيفة بن بدر بن عمرو ، قد قاد أسد وغطفان كلّها ، فأتى عُيَينة سوق عُكاظ ، فرأي النّاس يتبايعون ، فقال : « أرى هؤلاء النّاس مجتمعين بلا عهد ولا عقد ، ولئن بقيت إلى قابل ليَعلمن » ، فغزاهم من قابل ، وأغار عليهم ، فهذا هو سبب حرب الفجّار الثّاني ، وكانت الحرب فيه بين كنانة وقيس ، والدّائرة على قيس عيلان .
ب – وكانت الوقعة المعروفة بحاطب ، وهي حاطب بن قيس من بني أميّة بن زيد بن مالك بن عَوف الأوسي .
وكان سبب هذه الحرب ، أن حاطبًا كان رجلاً شريفاً سيّداً ، فأتاه رجل من بني ثعلبة بن سعد بن ذُبيان ، فنزل عليه . ثمّ إنّه غدا يوما إلى سوق بني قَينُقاع (يهود) ، فرآه يزيد بن الحارث المعروف بابن فُسحُم الخبر ، وقيل له : «قتل اليهودي ، قتله حاطب» ، فأسرع خلفَ حاطب فأدركه وقد دخل بيوت أهله ، فلقي رجلاً من الأوس فقتله ، فثارت الحرب بين الأَوس والخَزرج .
وسار إليهم عُيينة وخيار بن مالك بن حماد الفزاري ، فقدما المدينة وتحدّثا مع الأوس والخزرج في الصّلح وضمنا أن يتحمّلا كل ما يدّعب بعضهم على بعض ، فأبوا . ووقعت الحرب ، وشهدها عُيَينة وخيار ، فشاهدا من قتالهم وشدّتها ما أيِسَا معه من الإصلاح بينهم ، فكان الظّفر يومئذ للخزرج، وهذا اليوم من أشهر أيامهم .
موادعة المسلمين
ـ أجدبت بلاد بني بدر بن عمرو بن فَزارة ، حتّى ما أبقت لهم من مالهم إلا الشّريد ، فذكرت لهم سحابة وقعت بـ (تَغْلَمِيْن) إلى ( بَطْن نَخْل)، فسار عُيَينة في آل بدر حتى أشرف على بطن نخل ، ثمّ هاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ، فورد المدينة ، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم ،فدعاه إلى الإسلام ، فلم يُبْعد ، ولم يدخل فيه وقال : « إنّي أريد أن أدنو من جوارك ، فوادعني »، فوادعه ثلاثة أشهر . فلمّا انقضت المدّة انصرف هو وقومه إلى بلادهم ، وقد أسمنوا وألبنوا ، وسمن الحافر من الصِّلِّيان ، وأعجبهم مرآة البلد .
ـ ويبدو أنّ هذه الموادعة كانت من السّنة الخامسة الهجريّة، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان في شهر شوّال من هذه السّنة في غزوة بني المُصطَلق في ( المُرَيسِيع) ، فأمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالرّحيل إلى المدينة تداركًا لفتنة أراد إشعالها بين المهاجرين والأنصار عبد اللّه بن أُبَي أحد المنافقين ، فانطلق بالنّاس طيلة يومهم حتّى أَمسَوا ، وطيلة يومهم حتّى أصبحوا ، وصدر يومهم الثّاني حتّى آذتهم الشّمس ، فلمّا نزل الناس لم يلبثوا حتّى مسّت جنوبهم الأرض أن ناموا من فرط تعبهم . فخاف المسلمون أن يكون سبب هذا الرّحيل السّريع الشّاق أن يكون عُيَينة بن حِصن خالف إلى المدينة ، وفيها الذّراري والصّبيان ، وكانت بين النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبين عُيَينة مدّة ، فكان ذلك حين انقضائها ، فدخل المسلمون أشدّ الخوف، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم خوفهم ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس عليكم بأس منها» وطمأنهم إلى أن المدينة في أمان .
مع الأحزاب
ـ كانت غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب في شهر شوّال وهي السّنة الخامسة الهجريّة . وكان سببها أنّ نفرًا من يهود ، حزّبوا الأحزاب ، والّبوا وجمعوا ، فأتو مكّة ودعوا قريشًا إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ووعدوهم من أنفسهم بِعَون من انتدب إلى ذلك ، فأجابهم أهل مكّة إلى ما طلبوا ، ثمّ خرج يهود إلى غطفان ، فدعوهم إلى مثل ذلك، فأجابوهم .
ـ وخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن حَرْب ، وخرجت غَطَفان يقودهم عُيَينة على فزارة والحارث بن عوف المُرِّيّ على مُرّة ومسعود بن رُخَيلة على أشجع . وكان عُيَينة أسرع غَطَفان إلى إجابة أولئك النّفر من يهود ، فنزل قول اللّه تعالى : { إذ جَاءوكُم مِنْ فَوقِكُم } ، يريد عُيَينة بن حِصن وغَطَفان { ومِنْ أسْفَلَ منكم} ، يريد أبا سفيان في قريش .
وباشر عيينة القتال ، فهاجم المسلمين في خيل غطفان فرماهم بالحجارة والنّبل دون جدوى .
وأجمع رؤساء الأحزاب أن يعبروا الخندق إلى المسلمين ، ومنهم عُيينة ولكن محاولتهم باءت بالإخفاق .
وبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى عُيينة ، فعرض عليه ثلث ثمر نخل المدينة على أن يخذّل الأحزاب ويرجع بالنّاس ، فأبى إلّا النّصف ، فاستشار النّبي صلّى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عُبادة ، فقالا : «إن كنتَ أمرتَ بشيءٍ فامض له ، وإلا فإنّا لا نرضى أن نعطيهم إلّا السّيف » فقال : « فنعم إذاً» .
ـ لقد كان دور عُيينة في حرب المسلمين خلال غزوة الخندق دورا بالغ العداوة للإسلام والمسلمين : استجاب النفر المحرِّضين من يهود ، وكان أسرع قومه استجابة وحشد أكبر عدد من بني قومه ، وباشر القتال ، وأبدى طمعه في الغنائم ، ولكنّه لم يفلح في مسعاه ، فعاد مع غيره من الأحزاب عن المدينة وعن المسلمين خائباً .
في غزوة ذي قَرَد
ـ وكانت في السّنة السادسة الهجرية في شهر ربيع الأول ، فقد أغار عُيَينة في أربعين فارساً على لقاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الغابة ، وفيها رجل من بني غفار وامرأته ، فقتلوا الرّجل وحملوا المرأة في اللّقاح ، وكان عدد اللّقاح التي أغار عليها عُيَينة بالغابة عشرين لِقحة ، فاستنقذها المسلمون من بين أيدي عُيَينة ورجاله ، وهرب المغيرون، وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم قد أودع عُيَينة ثلاثة أشهر ، أسمن خلالها قومه وألبنوا ، فأغار عُيَينة بالخيل التي أسمنها على لِقاح النبي صلى الله عليه وسلّم التي كانت في الغابة ، فقال له الحارث بن عَوْف : « بئس ما جزيت به محمّدا! ، أسمنت في بلاده ، ثمّ غزوته »، قال : «هو ما ترى » .
مع يَهود خَيبر
ـ كانت غزوة خيبر بين المسلمين من جهة ويهود من جهة أخرى من شهر المحرّم في السّنة السّابعة الهجريّة ، فأقبل عُيَينة مددًا يهود على رأس غطفان ، فلم يدخلوا حصناً من حصون خيبر ، فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى عُيَينة وهو رأس غطفان وقائدهم ، أن أرجع بمن معك ، ولك نصف تمر خيبر هذه السّنة ، فقال عُيَينة : « لستُ بمسلم حُلفائي وجيراني» .
وفي رواية ثانية : إنّه لمّا سارَ كِنانة بن أبي حُقَيق اليهودي إلى غطفان ، حلفوا معه ، وارتأسهم عُيَينة بن حصن وهم أربعة آلاف من غَطَفان ، فدخلوا مع يهود من حصون النّطاة ، قبل قدوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بثلاثة أيام ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، أرسل إليهم سعد بن عُبادة وهم في الحِصن ، فلمّا انتهى سعد إلى الحِصن ناداهم : «إنّي أريد أن أكلّم عُيَينة بن حصن » ، فأراد عُيَينة أن يدخله الحصن ، فقال مَرْحب اليهودي : «لا تُدخِله فيرى خلل حِصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها ، ولكن نخرج إليه »، فقال عُيَينة : « لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عددًا كثيرا » ، فأبى مَرحب أن يدخله ، فخرج عُيَينة إلى باب الحصن ، فقال سعد : « إنّ رسول اللّه أرسلني إليك يقول : إن الله قد وعَدَني خيبر ، فارجعوا وكفّوا ، فإن ظهرنا عليها ، فلكم تمر خيبر سنة » فقال عُيَينة : « إنّا والله ما كنّا لنسلّم حلفاءنا لشيء ، وإنّا لنعلم مالك ولمن معك بما ها هنا طاقة ، هؤلاء قوم أهل حصون منيعة ، ورجال عددهم كثير ، وسلاح ، إن أقمت هَلكت ومن معك، وإن أردت القتال عجلوا إليك بالرجال والسّلاح ، ولا والله ما هؤلاء كقريش ، قوم ساروا إليك ، إن أصابوا غرّة منك فذاك الذي أرادوا ، وإلّا انصرفوا ، وهؤلاء يُماكرونك الحرب ويطاولونك حتّى تَملّهم » ، فقال سعد : « أشهد ليحضرنّك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنّا عرضنا عليك ، فلا نعطيك إلا السّيف . وقد رأيت يا عُيَينة مَن قد حللنا بساحته من يَهود يثرب كيف مزّقوا كلّ ممزّق !» ، وعاد سعد إلى رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ، فأخبره بما حدث وقال : «يارسول اللّه! إنّ الله منجزٌ لك ما وعدك ومظهرٌ دينه ، فلا تعطِ هذا الأعرابيّ تمرةً واحدة ، يا رسول اللّه ! لئن أخذه السّيف ليُسلمنّهم وليهربنّ إلى بلاده كما فعل ذلك قبل اليوم في الخَندق».
ـ وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه أن يوجّهوا إلى حصنهم الذي فيه غَطَفان ، وذلك عشيّة ، فنادى منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « أن أصبحوا عند راياتكم عند حصن ناعم الذي فيه غَطَفان !» ، فَرُعبوا من ذلك يومَهم وليتهم فلّما كان الرّجوع على حصنهم الذي هم فيه كان هجومًا شديدًا ، فخرجت غَطَفان على الصّعب والذَّلول ، فأخبر كنانة بن أبي الحُقَيق بانصرافهم ، فسُقط في يديه ، وذلّ وأيقن بالهَلَكة .
وقال كِنانة : « كنّا مع هؤلاء الأعراب في باطل ، إنّا سِرنا فيهم فوعدونا النّصر وغَرُّونا ، ولَعَمري لولا ما وعدونا من نصرهم ما نابذنا محمّدا بالحرب ، ولم نَحفَظ كلام سلّام بن أبي الحُقَيق إذ قال : لا تستنصروا بهؤلاء الأعراب أبدا ، فإنّا قد بلوناهم وجَلَبهم لنصر بني قُريظة ثمّ غرّوهم فلم نرَ عندهم وفاءً لنا . وقد سار فيهم حُيَي بن أخطب وجعلوا يطلبون الصّلح من محمّد . ثمّ زحف محمّد إلى بني قريظة وانكشفت غَطَفان راجعةً إلى أهلها ».
ـ ولمّا انتهى الغَطَفانيون إلى أهلهم( بحَيفاء ) وجدوا أهلهم على حالهم ، فقال لهم أهلهم: ظننّا أنّكم قد غنمتم ، فما نرى معكم غنيمةً ولا خبرا!! .
ـ وأقام عُيَينة أيامًا في أهله ، ثمّ دعا أحد أصحابه للخروج ثانية إلى نصر يهود ، فجاءه الحارث بن عَوف فقال : « ياعُيَينة ! أطِعني وأقِم منزلك ودَع نصر يهود ، مع أنّي لا أراك ترجع إلى خَيبر إلا وقد فَتحها محمّد ولا آمنُ عليك ، فأبى عُيَينة أن يقبل قوله وقال : لا، لا أسلم حُلفائي لشيء ».
ـ ولمّا ولّى عُيَينة عائدًا إلى أهله ، هجم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم حِصنًا حِصنًا .
واستلمت حصون خيبر للمسلمين ، فوجدوا فيها من الأطعمة و الأقمشة والمتاع كمّيات ضخمة من الشّعير ، والتمر ، والسمن ، والعسل ، والزَّيت ، والوَدك ، والبُرِّ ، والآنية ، وخوابي السّكر ، وغنم ، وبَقَر حُمُر ، وآلات الحرب كالمنجنيقات والدّبابات والعُدَد المختلفة . وكان في حصن الصّعب معاذ بن البَزّ عشرون عكما مخرومة من غليظ متاع اليمن ، وألف و خمسمائة قطيفة ، وخَوابي السّكر ، وزقاق خَمْر فأهريقت ، ومن الطّعام كمّيات هائلة ، جعل المسلمون يأكلون مقامهم شهرًا وأكثر من ذلك الحصن ، ويعلفون دوابهم، وأُخرج من البُزوز شيء كثير .
ـ ونظر عُيَينة إلى حصن الصّعب بن معاذ ، وينقلون منه الطّعام والعلف والبزّ ، فقال : « ما أحدٌ يعلف ، لنا دوّابنا ويطعمنا من هذا الطّعام الضّائع ، فقد كان أهله عليه كراما »، فشتمه المسلمون .
وكان عُيَينة قد عاد بأصحابه من غَطَفان إلى خَيبر ، فلمّا قدم خيبر وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد فتح خيبر وغنم المسلمون مافيها ، فقال عيينة : « أعطني يا محمّد مما غنمتَ من حلفائي ، فإني انصرفتُ عنك وعن قتالك ، وخذلت حلفائي ولم أكثر عليه ، ورجعت عنك بأربعة آلاف مقاتل» ، فلم يعطه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من الغنائم شيئا .
وجعل عينه يتدسّس إلى يهود ويقول : « ما رأيت كاليوم أمرًا ! والله ما كنت أرى أحدا يصيب محمّدًا غيركم . قلت : أهل الحصون والعدّة والثّروة ، أعطيتكم بأيديكم وأنتم في هذه الحصون المَنيعة ، وهذا الطّعام الكثير ما يوجد له آكل ، والماء الواتن !» ، قالوا: قد أردنا الإمتناع في قلعة الزّبير ، ولكن الدّبول قُطعت عنّا ، وكان الحرّ ، فلم يكن لنا بقاء على العطش!
قال : لقد ولّيتم من حصون ناعِم منهزمين ، حتّى صرتم إلى حصن قلعة الزّبير !»، وجعل يسأل عمّن قتل منهم فَيُخبَر ، فقال : « قتل والله أهل الحدّ والجَلَد ، لا نظام ليهود بالحجاز ابدا!».
وسمع كلامه ثعلبة بن سّلام بن أبي الحُقَيق، وكانو يقولونه : إنّه ضعيف العقل مُختَلط ، فقال : « يا عُيَينة! أنت غررتهم وخذلتهم وتركتهم وقتال محمّد ، وقبل ذلك ما صعنتَ ببني قُريظة ! ».
وقال رجل من غَطَفان لعُيينة : « لا أنت نصرتَ حلفاؤك فلم يعدّوا عليك حِلفَنا ! ولا أنت حيث ولّيت ــ كنتَ أخذت تمر خيبر من محمّد سنة » ، فانصرف عيينة إلى أهله يَفتِلُ يديه ! مافادَ حليفًا ولا ضرّ عدوّاً !! .
حشد غَطَفان على المسلمين
ـ قدم رجال من أشجَعَ يقال له : حُسَيل بن نُوَيرَة ، وقد كان دليل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى خَيبر ، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « من أين يا حُسَيل ؟» ، قال : « قدمتُ من (الجِناب) » ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ما وراءك ؟» ، قال : «تركتُ جميعًا من غَطَفان بالجِناب ، بعث إليهم عُيَينة يقول لهم : إما تسيروا إلينا وإما نسيرُ إليكم ، فأرسلوا إليه : أن سِر إلينا حتى نزحف إلى محمّد جميعاً ، وهم يريدونك أو بعض أطرافك ».
ـ ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما ، فذكر لهما ذلك ، فقالا جميعا: « ابعث بشير بن سعد!» ، فدعا النّبي صلّى الله عليه وسلم بشيرا، فعقد له لواء ، وبعث له ثلاثمئة رجل ، وأمرهم أن يسيروا اللّيل ويكمنوا النّهار ، وخرج معهم حُسَيل بن نُوَيرة دليلا ،وكان ذلك في شهر شوال من السنة السابعة الهجريّة .
ـ وسار بشير اللّيل بالمسلمين وكمن النهار حتى أتوا أسفل خَيبر ، فنزلوا بـ (سَلَاح) ثمّ خرجوا من سلاح حتى دَنَوا من القوم، فقال لهم الدليل : « بينكم وبين القوم ثلثا نهارٍ أو نصفه ، فإن أحببتم كمنتِم وخرجت طليعة لكم حتى آتيكم بالخبر ، وإن أحببتم سرنا جميعا» ، فقدموه طليعة ، فغاب عنهم ساعة ثمّ كرّ عليهم فقال : «هذا أوائل سَرحهم ، فهل لكم أن تغيّروا عليهم ؟».
ـ واختلف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم: إن أغرنا الآن حذرنا الرّجال والعَطن ، وقال آخرون : نغنم ما ظهر لنا ثم نطلب القوم ، فأغاروا على النَّعم ، وأصابوا نعمًا كثيرا ملأوا منه أيديهم ، وتفرّق الرّعاء وخرجوا سراعا ، ثم حذروا الجمع فتفرّق وحذروا ولحقوا بعلياء بلادهم .
ـ وخرج بشير بأصحابه حتى أتى محالهم ، فلم يجد فيها أحدا ، فرجع بالنَّعَم ، حتى إذا كانو بسَلاح راجعين ، لقوا عيناً لعُيينة فقتلوه ، ثم لقوا جمع عُيينة ، وعُيينة لا يشعر بهم ، فناوشوهم ، فانكشف جمع عُيينة ، وتبعهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأصابوا منهم رجلاً أو رجلين فأسروهما أسرا ، وقدموا بهما على النّبيّ صلى الله عليه وسلّم ، فأسلما ، فأرسلهما النّبيّ صلى الله عليه وسلّم.
ـ وكان الحارث بن عوف المرّي حليفاً لعُيَينة ، ولقيه منهزما على فرس له عتيق يعدو به عدوًّا سريعا ، فاستوقفه الحارث ، فقال : « لا ، ما أقدر ! الطّلب خلفي ! أصحاب محمّد !» ، وهو يركض .
فقال الحارث : « أما لك بَعدُ أن تُبصر ما أنت عليه ؟ إنّ محمّدًا قد وطئ البلاد وأما موضعٌ في غير شيء !!»، قال الحارث : «فتنحّيتُ عن سنن خيل محمّد حتّى أراهم ولا يروني، فأقمتُ من حين زالت الشّمس إلى اللّيل، ما أرى أحدا ــ وما طلبوه إلا الرّعب الذي دخله فلقيته بعد ذلك ، فقلتُ له : لقد أقمتُ في موضع حتى الليل ، ما رأيت من طلب » ، فقال عُيينة : « هو ذاك ، إني خفت الإسار ، وكان أثري عند محمّد ما تعلم في غير موطن » ، فقال الحارث : « قد رأيتُ ورأيتَ معنا أمرًا بيّنًا في بني النُّضَير ويوم الخندق وقُريظة ، وغير ذلك قَينُقاع وفي خيبر . . .»، فقال عُيَينة : « هو واللّه ذاك ، ولكنّ نفسي لا تقرّني »، فقال الحارث : « وإنّما هو على ما ترى فلو تقدّمنا إليه لكنّا من عِلية أصحابه ، وقد بقي قومه بعدهم منه في موادعة ، وهو موقعٌ بهم وقعة ، ما وَطئَ له الأمر »، فقال عُيَينة : « أرى والله ».
واتّعدا يريدان الهجرة والقدوم على النبي صلى الله عليه وسلّم ، إلى أن مر بهما فَرْوَة بن هُبَيرة القُشَيريّ يريد العمرة وهما يتقاولان ، فأخبراه بما كانا فيه وما يريدان ، فقال فَروة : « لو استأنيتم حتى تنظروا ما يصنع قومه في هذه المدّة التي هم فيها وآتيكم بخبرهم »، فأخروا القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومضى فَروة حتى قدم مكة واتّصل برؤساء القبائل وسادة قريش ، فيوجد أنّه ليس عند القوم شيء يضرّ ضررا مؤثّرًا حقيقيًّا في المسلمين .
ورجع فَروة ولقي الحارث وعُيَينة فأخبرهم وقال لهم : «قاربوا الرّجل وتدبّروا الأمر » ، يريد مقاربة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقدَّموا رِجلاً وأخَّروا الأخرى ، وبقيا متردّدين لا يثبتون على قرار .
بعد الإسلام
١ــ إسلامه
ـ أسلم عُيَينة بعد فتح مكّة ، وقيل : قبل الفتح ، وشهد الفتح مسلمًا، ونصّ ابن حجر العسقلاني على أنّه : أسلم قبل الفتح وشهدها وشهد حُنَينًا والطّائف ، وهو ما أرجّحه ، لأنّه حزم في ذكر إسلامه ، بينما لم يجزم غيره ، وروى أنّه أسلم قبل الفتح أو بعده ، دون أن يبتّ في الأمر ، كما أرجحه للسّبب الذي سأذكره وشيكًا أيضاً .
ولكنّنا لا نعلم متى أسلم ، إلا أنّه كان مشركًا إلى السّنة السّابعة الهجريّة ، فيبدوا أنّه أسلم في أواخر السّنة السّابعة الهجريّة أو أوائل السّنة الثّامنة الهجريّة ، فشهد مع النّبي صلّى الله عليه وسلم فتح مكّة المكرّمة التي كانت في رمضان من تلك السّنة .
٢ــ في غزوة الفتح
كان عُيَينة في أهله بنجد ، فأتاه الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريده وجهًا ، وقد تجمّعت العرب إليه، فخرج في نفرٍ من قومه حتى قدم المدينة ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَرج ، ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم العَرج أتاه عُيَينة فقال : « يا رسول الله! بلّغني خروجك ومن يجتمع إليك ، فأقبلتُ سريعاً ولم أشعر فأجمع قومي فيكون لنا جَلبة كثيرة ، ولست أرى هيأة حرب ، لا أرى ألوية ولا رايات! فالعمرة تريد؟ فلا أرى هيأة الإحرام! فأين وجهك يارسول الله؟ »، قال : « حيث يشاءُ اللّه» .
وسار مع النّبي صلّى الله عليه وسلم ، ووجد الأقرع بن حابِس بـ (السُّقيا) ، قد وافاه في عشرة نفرٍ من قومه ، فساروا معه .
ولمّا سار النّبي صلّى الله عليه وسلم (قُدَيداً) ، عقد الأولويّة وجعل الرايات ، فلمّا رأى عُيَينة القبائل تأخذ الرايات والأولوية عضّ على أنامله ، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: « عَلامَ تندم ؟»، فقال : «على قومي ألا يكونوا نفروا مع محمّد ، فأين يريد محمّد يا أبا بكر؟ » ، قال : « حيث يشاء الله!» فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة بين الأقرع بن حابِس وعُيَينة .
وقد كان فتح مكّة في شهر رمضان من السّنة الثامنة الهجرية .
وفي قُدَيد ، لقيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم (سُلَيم) ، وهم تسعمائة على الخيول جميعهم ، مع كلّ رجل رمحه وسلاحه ، ومعهما الرّسولان اللذان كانا أرسلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فذكروا أنّهم أسرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نزلا عليهم وحشدوا ، قال عبّاس بن مُرداف السُّلمي : « لقيته – يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو يسير حتّى هبط من (المُشلَّل ) في آلة الحرب والحديد ظاهر علينا ، والخيل تنازعنا الأعنّة فصفقنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جنبه أبو بكر وعمر ، فنادى عُيَينة من خلفه ، أنا عُيَينة! ، هذه بنو سُلَيم ، قد حضرت بما ترى من العدّة والعَدد والسِّلاح : وإنّهم لأحلاس الخيل ، ورجال الحرب ، ورعاة الحدق ، فقلت: امض أيها الرّجل ! فوالله إنك لتعلم لنحن أفرس على متون الخيل ، وأطعن بالقَنا ، وأضرب بالمَشرف منك ومن قومك! ، فقال عُيَينة : كذبت ولؤمت! لنحن أولى بما ذكرتَ منك . قد عرفته لنا العرب قاطبةً ، فأومأ إليهما النّبي صلّى الله عليه وسلم بيده حتّى سكتا. »
٣ــ في غزوة حنين
ـ وكانت في شهر شوال من السنة الثّامنة الهجرية ، وقد شهدها عيينة مع المسلمين ،
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظّهر يوما بحُنَيْن، ثمّ تنحّى إلى شجرة فجلس إليها ، فقام إليه عيينة يطلب بدم عامر بن الأَضبط الأشجَعيّ، ومعه الأقرع بن حابس يدفع عن محلّم بن جثّامة لمكانه من خِندف، فاختصما بين بدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيينة يقول : « يارسول الله! ، لا واللّه ما أدعه حتى أدخل على نسائه من الحرب والحزن ما أدخل على نسائي» ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « تأخذ الدّيّة؟» ويأبى عُيَينة ، وارتفعت الأصوات وكثر اللَّغط إلى أن قام رجل من بني لَيث يقال له مُكَيتَل ، قصير ، مجتمع عليه شكّة كاملة ودرقةٌ في يده ، فقال : « يارسول الله! إني لم أجد لما فعل هذا شبهاً في غرّة الإسلام إلا غنماً وَرَدت فَرُمِيَت أولادها ، فنفرت أخراها ، فاسنُن اليوم وغيّر غدا ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال : تقبلون الدّية خمسين في فورنا هذا وخمسين إذا رجعنا المدينة !».
ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقوم حتى قبلوها .
ـ وكان محلّم بن جثّامة القاتل في طرف النّاس ، فلم يزالوا يقولون له: ايتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فقام ، وكان طويلا آدم عليه حُلّة ، قد كان تهيّأ فيها للقتل للقِصاص ، حتى جلس بين يدي النّبي صلّى الله عليه وسلم وعيناه تدمعان ، فقال : « يارسول اللّه! قد كان من الأمر الذي بلغكم ، فإني أتوب إلى اللّه تعالى ، فاستغفر لي »، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما اسمك ؟ » فقال : « محلّم بن جثّامة » ، قال : قتلته بسلاحك في غرّة الإسلام! اللهمّ لا تغفر لمحلّم » بصوت عالٍ يتفقّد به الناس . فقال : « يارسول الله! قد كان الذي بلغك ، وإنّي أتوب إلى اللّه تعالى فاستغفر لي » فعاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بصوت عالٍ يتفقّد به النّاس : « اللهمّ لا تغفر لمحلّم» ، حتى كانت الثالثة ، فعاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمقالته ، ثمّ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قُم!» ، فقام من بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يتلقّى دمعه بفضل ردائه ،وكان ضَمرة السُّلَمي يُحدّث ــ وكان حضر ذلك اليوم ، قال « كنا نتحدث بيننا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّك شفتيه باستغفارٍ له ، ولكنّه أراد أن يُعلِم قدر الدّم عند اللّه ».
ـ وكان محلّم بن جثّامة اللَّيثي في سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى بطن إضم، فمرّ بهم عامر بن الأضبط الأشجعيّ فسلّم على سرية أبي قتادة بتحية الإسلام، فأمسك عنه أفراد السرية عدا محلّم بن جثّامة الذي حمل عليه فقتله وسلبه بعيراً له ومتاعاً ووطباً من لبن كان معه، فلمّا لحقت السرية بالنّبي صلى الله عليه وسلم نزل الآية الكريمة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . . . الآية ، فانصرف القوم ولم يلقوا جمعا حتى انتهوا إلى (ذي خُشُب) ، فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجّه إلى مكّة ، فلحقوا بالنّبي صلى الله عليه وسلم بالسُّقيا.
أما لماذا طالب عيينة بدم عامر بن الأضبط الأشجعيّ ، فلان بن أشجع بن غطفان : أشجع بن رَيث بن غَطَفان ، وعُيينة بن سيّد بن غطفان .
أما لماذا دافعَ الأقرع بن حابس التميميّ عن محلّم بن جثّامة اللَّيثي ،لأن بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبني تميم بن مر بن أدّ طابخة بن إلياس من مضر، وكنانة بن إلياس بن مضر ، وبني ليث وبني تميم أولاد أعمام ومن مضر وكان الأقرع بن حابس سيد تميم.
ولجاج عيينة والأقرع أثر من آثار الجاهلية ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم حلًّا جذريًّا لهذا اللِّجاج الذي كان يمكن أن يتطور ، وكان حلّه عليه الصلاة والسلام حلاً رائعاً حقًّا .
٤ــ في غزوة حصار الطّائف
ـ وكانت في شهر شوال من السنة الثامنة الهجريّة ، وقد شهدها عيينة مع المسلمين.
وهناك روايات تدل على أنه كان مع المسلمين في الظّاهر ومع أهل الطائف في الباطن ، وأنه كان يتمنى للمسلمين الهزيمة ، وللمشركين النّصر، ولكن هذه الروايات لا ترقى إلى درجة اليقين ، فهي أشبه بقصص الأسماء منها بحقائق التّاريخ ، لذلك لم نجد مسوّغا لذكرها .
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطائف حتى نزل (الجِعرانة) فيمن معه من الناس ، ومعه من هوازن سبْيٌ كثير : ستة آلاف من الذّراري والنّسائي، ومن الإبل والشاء ما لا يدرى عدّته.
وأتاه وفد هوازن وقد أسلموا ، فقالوا: يا رسول الله! إنّا أصلٌ وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء مالم يخْفَ عليك ، فامنُن علينا منّ الله عليك .
ثمّ قام رجل من هوازن ،أحد بني سعد بن بكر ، يقال له زهير ، يكنّى أبا صُرَد ، فقال : « يارسول الله! إنما في الحَظائر ، عمّاتك وخالاتك وحواظرك اللائي كنّ يَكفُلْنَك ، ولو أنا ملَحنا للحارث بن أبي شمر أو للنّعمان بن المنذر ، ثمّ نزل منّا بمثل الذي نزلت به ، رجونا عطفه وعائدته علينا ، وأنت خير المكفولين » ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أبناؤكم ونساؤكم أحبُّ إليكم من أموالكم ؟ »، فقالوا : « يارسول الله! خيّرتنا بين أموالنا وأحسابنا ، بل تردّ إلينا أبنائنا ونسائنا ، فهو أحبّ إلينا » .
وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « أما ماكان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، وإذا ما انا صليت الظهر بالناس ، فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول الله [صلى الله عليه وسلم ] إلى المسلمين ، وبالمسلمين إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم ».
فلمّا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالناس ، قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول الله صلى الله ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « أما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم »، فقال المهاجرون : وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الأقرع بن حابس :« أما أنا وبنو تميم فلا » ، وقال عُيَينة : « اما انا وبنو فزارة فلا »، وقال عباس بن مرداس: « أما أنا وبنو سُلَيم فلا» ، فقالت بنو سُلَيم : « بلى! ماكان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمّا من تمسّك منكم بحقّه من هذا السّبيّ ، فله من كل إنسان ست فرائض من أول سَبي أُصيبه » ، فردّوا إلى النّاس أبنائهم ونسائهم .
وأعطى رسول الله صلى الله عليه المؤلّفَة قلوبهم ، وكانو أشرافًا من أشراف النّاس ، يتألّفهم ويتألف بهم قومهم ، فأعطى رجالاً من رؤساء قريش ، ومن رؤساء القبائل ، فكان ممن أعطاهم من رؤساء القبائل : الأقرع بن حابس التميميّ مائة بعير ، ومالك بن عوف النصري مائة بعير ، وعُيينة بن حصن مائة بعير ، وأعطى عبّاس بن مِرداف أباعِرَ قليلة ، فتسخّطها وقال في ذلك :
ـ كانت نِهابًا تلافَيتُها … بِكَرّي على المُهر في الأجرَعِ
وإيقاظي القومَ أن يَرقدوا … إذا هجَعَ النّاس لم أهجَعِ
فأصبَحَ نَهْبي ونَهْبُ العبَيد … ابن عُيَينة والأقرع
وقد كنتُ في الحرب ذا تدراء … فلم أُعطَ شيئاً ولم أُمنَعِ
إلا أفأئـــلَ أُعطِيتُها … عَديدَ قوائمها الأربَعِ
وما كان حِصنٌ ولا حابِسٌ … يفوقانِ شَيخي في المجمع
وما كنتَ دونَ امرئٍ منهما … ومن تضَعُ اليومَ لا يُرفَعِ
ويروي البيت الأخير :
فما كان حِصنٌ ولا حابِسٌ … يفوقانِ مِرداسَ في المَجمَعِ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« اذهبوا به ، فاقطعوا غنى لِسانه»، فأعطوه حتّى رضي ، فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه .
والحقّ أن عيينة والأقرع لسا كعبّاس ، فهما مسيطران على قبائلهما وهو ليس بمسيطر ، وفزارة تطيع عيينة ولا تعصي له أمرا ، وتميم تطيع الأقرع ولا تعصي له أمرا ، كما رأينا ، وسُلَيم لا تطيع العبّاس ولا تعصي أمره ، فما ينبغي أن يقول ما يُعطى لعيينة والأقرع كما يعطى لعباس ، وهكذا فعل عليه الصّلاة والسلام .
وكان لشباب الإسلام في تقسيم الغنائم كلام لم يرضَ به أشياخهم ولا خيارهم ، فذكّرهم رسول الله صلى الله عليه بنعمة الله تعالى عليهم بالإسلام ، وبه عليه الصلاة والسلام ، وإنه إنما أعطى قوما حديثي عهدهم بالإسلام يتألّفهم على الإسلام ، فرضوا رضوان الله عليهم .
وقال قائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا رسول الله! أعطيتَ عُيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة ، وتركتَ جُعَيل بن سراقة الضَّمري! »، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « أما والذي نفس محمّد بيده ، لجُعَيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلّهم مثل عُيَينة بن حصن والأقرع بن حابس ، ولكنّي تألّفتهما ليسلما ، ووكَلْلتُ جُعَيل بن سراقة إلى إسلامه».
٥ــ قائد السّريّة إلى بني تميم
ـ لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الجِعرانة ، قدم المدينة يوم الجمعة لثلاث ليال بقين من ذي القعدة ، فأقام بقية ذي القعدة وذي الحجة ، فلمّا رأى هلال المحرّم بعث المصدّقين ، وبعث بُسر بن سفيان الكَعبيّ إلى بني كَعب ، فخرج بُسْر على صدقات بني كعب ، ويقال : إنّما سعى عليهم نُعَيم بن عبد الله النَّحّام العدويّ ، فجاءَ وقد حلّ بنواحيهم بنو جُهَيم من بني تميم ، وبنو عمرو بن جُندب بن العُتَير بن عمرو بن تميم على غدير لهم بـ (ذات الأشْطَاط) ، ويقال : وجدهم على (عُسفان) ، وأمر بُسر بجمع مواشي خُزاعة ليأخذ منها الصّدقة ، فحشرت خُزاعة الصّدقة من كلّ ناحية ، واستنكرت ذلك بنو تميم وقالوا : ماهذا؟ تؤخذ أموالكم منكم بالباطل !! وتجيّشوا وتقلّدوا القسّيّ وشهروا بالسّيوف، فقال الخزاعيّون : نحن قوم ندين بدين الإسلام ، وهذا من ديننا ، وقال التّميميّون : والله لا يصل إلى بعيرٍ منها أبدا .
ولما رآهم المصدّق ، هرب منها وانطلق مولّياً وهو يخافهم ، والإسلام يومئذٍ لم يعمّ العرب ، وقد بقيت بقايا من العرب ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر مصدّقيه أن يأخذوا العفو منهم ويتوقّوا كرامة أموالهم ، فقدم المصدّق على النّبي صلّى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ، وقال :« يارسول الله! إنما كنتُ في ثلاثة نفر ، فوثبت خزاعة على التّميميّين فأخرجوهم من محالّهم ، وقالوا : لولا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم ، ليدخلن علينا بلاءٌ من عداوة محمّد صلّى الله عليه وسلم وعلى أنفسكم حيث تعرضون لرُسُل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تردّونهم عن صدقات أموالنا ، فخرجوا راجعين إلى بلادهم ».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لهؤلاء القوم الذين فعلوا ما فعلوا ؟ »، فانتدب أوّل النّاس عيينة فقال : « أنا واللّه لهم ، أتبع آثارهم ولو بلغوا ( يَبْرِين) حتّى آتيكم به إن شاء الله فترى فيهم رأيك أو يُسلِموا ».
وبعث النّبي صلّى الله عليه وسلم في المحرّم سنة تسع الهجرية عُيينة قائدا لسرية في خمسين فارساً من العرب ، ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري إلى بني تميم الذي كانوا فيما بين السُّقيا وأرض بني تميم ، فكان يسير اللّيل ويكمن النّهار وهجم عليهم ، فلمّا رأوا الجمع ولَّوا الأدبار ، وأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيّا، فجلبهم عُيَينة إلى المدينة ، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسوا في دار رَملة بنت الحارث.
ـ وقدم في السّبيّ عدة من رؤساء تميم ، منهم عطارد بن حاجب والزِّبرقان بن بدر وقيس بن عاصم والأقرع بن حابِس وقيس بن الحارث ونعيم بن سعد وعمرو بن الأهتم ورباح بن الحارث بن مُجاشع، . فلمّا رأوهم بكى إليهم النّساء والذّراري فعجلوا ، وجاءوا إلى باب النّبي صلّى الله عليه وسلم فنادوا: يا محمّد! اخرج إلينا ! .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقام بلال الصّلاة ، وتعلّقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلّمونه ، فوقف معهم ، ثمّ مضى فصلّى الظّهر . وقُضيت الصّلاة فجلس عليه الصّلاة والسّلام في صَحن المسجد ، فقدّم وفدُ تميم عطارد بن حاجب فتكلّم وخطب ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شمّاس ، فأجابهم . ثمّ قدّم الوفد شاعرهم الزِبرقان بن بدر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسّان بن ثابت فأجابهم أيضا.
ونزل في وفد بني تميم قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} فردّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأسرى والسّبي .
لقد استطاع عيينة أن يؤدي واجبه في قيادة هذه السّرية ، فكان عند حسن ظنّ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين به ، فلقّن بني تميم الذين لم يستجيبوا للمتصدّق الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ومنعوا الزّكاة ــ درسًا لا ينسونه ، فباغت جموعهم مباغتة بالغة ، إذ هجم عليهم في وقت لا يتوقّعونه وبذلك شلّ طاقاتهم الفكرية لإعداد خطّة مناسبة يتصدون بها لسريته ويصدّون بها هجوم السّرية المباغت ، فتبدّدت إرادتهم على القتال ، ولم يَعُد أمامهم غير الهَزيمة والنّجاة بأنفسهم ، فتغلّبت الفئة القليلة وهي سرية عيينة على الفئة الكثيرة وهي حشود تميم ، وكان لقيادة عيينة أكثر الأثر في انتصار سريته على المنحرفين من بني تميم .
وقد كان حول حياة عيينة بعد إسلامه شكوك ، ممّا أدّى إلى اختلاف الناس في أمره كما سننوّه بالحديث عنه إنسانًا ولا أعتقد أن هناك من يختلف في حسن قيادته لسريته ولعلّ هذا الواجب هو النقطة المضيئة في حياة عيينة التي لا يختلف في تقديرها حق تقديرها اثنان.
الإنسان
ـ كان حِصن أبو عُيَينة سيّد قومه ، وكان له من الأبناء عشرة ذكور منهم : عُيَينة بن حِصن ، وقيس بن حصن ، وخارجة بن حصن ، وحسَّان بن حصن ، وجابية بن حصن ، وعُقبَة بن حصن ، وعمرو بن حصن .
ولم يكن عيينة أكبر إخوته ، ولكن أباه سوده على إخوته وقومه من بعده دون سائر إخوته، فقد جمع حِصن بن حذيفة أولاده العشرة على فراش الموت ، وكان سبب موته أن كُرز بن العُقَيل طعنه فاشتدّ مرضه ، فقال لأولاده بعد أن جمعهم ، « الموت أروح مما أنا فيه ، فأيكم يطيعني ؟» ، قالو: كلنا! وبدأ حِصن بالأكبر فقال : « خذ سيفي هذا ، فضعه على صدري ، ثمّ اتّكئ عليه حتّى يخرج من ظهري »، فقال : « يا أبتاه! هل يقتل الرّجل أباه!» ، فعرض ذلك عليهم واحداً واحداً ، فأبوا إلا عُيَينة فقال له : « يا أبتِ! أليس لك فيما تأمرني راحةً وهوى. ولك مني فيه طاعة؟» ، قال: «بلى» قال : «قال فمُرني كيف أصنع! » قال : « ألق السَّيف يا بُنَيّ ، فإني أردت أن ابلوكم فاعرف أطوعكم لي في حياتي ، فهو أطوع لي بعد موتي ، فإذا أنتَ سيّد ولدي من بعدي ولك رياستي» . فجمع بني بدرًا فأعلمهم ذلك ، فقام عُيينة بالرّياسة بعد أبيه فقتل كُرزا الذي قتل أباه .
وكان لعيينة من الأبناء : عمران ، وأبَان ، وسعيد ، وعقبة ، وحبيب ، وزيد وعَنبَسة .
وكان عيينة في الجاهلية من الجرّارين يقود عشرة آلاف ، ولم يكن الرّجل يسمى جرّاراً حتى يرأس ألفا ، وقد غاب غَطَفان إلى بني تَغلب .
وأصبح من المؤلفة قلوبهم بعد إسلامه ، وكانو من أشرافًا من أشراف النّاس ، يتألّفهم النّبي صلى الله عليه وسلم ويتألف بهم قومهم ، وسائر المؤلفة قلوبهم منهم الخيّر الفاضل المُجمَع على خيره ، وحَسُن إسلام المؤلفة قلوبهم حاشا عيينة فلم يزل مغموزا عليه ، وكان أعرابيّا جافيًا جِلفاً مجنوناً أحمق مطاعًا في قومه ، وهو الأحمق المطاع ، وكان معدودًا من حمقى العرب .
قيل : إنّه دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غير إذن ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: « أين الإذن؟» فقال : «ما استأذنت على أحد من مُضَر!» .
وجاء عيينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة ، فقال : « من هذه ؟» ــ وذلك قبل أن ينزل الحجاب ــ ، قال : «هذه عائشة» ، قال : «أفلا أنزل لك عن أنّ البنين فتنكحها ؟» فغضبت عائشة ، وقالت : «من هذا ؟» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هذا أحمق مطاع» يعني في قومه .
وفي غير هذه الرواية في هذا الخبر ، أنه دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بغير إذن ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وأين الإذن ؟» ، فقال : «ما استأذنتُ على أحدٍ بن مُضَر !» ، وكانت عائشة مع النّبي صلّى الله عليه وسلم جالسة، فقال : « من هذه الحُمَيراء ؟» فقال : «أمّ المؤمنين » فقال : « أفلا أنزل لك عن أجمل منها ؟»، فقالت عائشة : « من هذا يا رسول اللّه ؟» فقال : « هذا أحمق قومه ، وهو كما ترين سيّد قومه».
ورأى عُيَينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي يومًا وعليه شَمْلة ، فقال له : « إذا دخلنا عليك فنَحِّ عنا هذا وأمثاله»، فنزل فيه قوله تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } ، اي عجلاً يفرط منه بغير فكر .
كما نزل قوله تعالى : {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} ، في رجال من العرب منهم عُيينة وقومه معه ، يرضون أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم ويرونهم أنّهم معهم ويرضون قومهم .
ـ وارتدّ عُيينة حين ارتدّت العرب بعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرّفيق الأعلى ،ولحق بطُلَيحة بن خويلد الأسديّ حين تنبّأ وآمن به فلمّا هزم طليحة وهرب ، أخذ خالد بن الوليد عيينة، بعثت به إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في وثاق ، فقدم به المدينة ، وجعل صبيان المدينة ينخسونه بالجريد ، ويضربونه ، ويقولون: أيْ عدوّ اللّه! لقد كفرتَ باللّه بعد إيمانك ! ، فيقول : والله ما كنت امنت!!، فلمّا كلمه أبو بكر رجع إلى الإسلام ، فقبل منه وكتب له أماناً.
وجاء الأقرع بن حابس وعيينة إلى أبي بكرة الصديق رضي الله عنه فقالا :« ياخليفة رسول الله! ، إن عندنا أرض سبخة ليس فيها كلأٌ ولا منفعة ، فإن رأيت أن تقطعناها» ، فأجابهما وكتب لهما وأشهد القوم، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس فيهم ، وانطلقنا إلى عمر ليشهداه فيه ، فتناول الكتاب وتفل فيه ومحاه ، فتذمّرا له وقالا له مقالة سيئة ، فقال لهما : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذٍ قليل ، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام ! اذهبا فاجهدها على جهدكما لا رعى الله عليكما إن رعيتما »، وأقبلا إلى أبا بكر وهما يتذمّران ، فقالا : « لا ندري والله أنت الخليفة أو عمر» ، قال : «بل هو لو كان شاء » وجاء عمر فغضب حتى وقف على أبي بكر، فقال : « أخبرني عن هذا الذي أقطعتها ، أرضٌ هي لك خاصّة أم للمسلمين عامّة » قال : « بل للمسلمين عامّة» ، قال : «فما حملك أن تخصّ بها هذين ؟» قال : « استشرت الذين وقد حولي وقد أشاروا علي بذلك ، وقد قلت لك إنك أقوى على هذا مني ، فغلبتني» .
ومضى ابو بكر إلى الله ، وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وكان لعيينة ابن أخ له دين وفضل ، وكان من جلساء عمر بن الخطاب ، وهو الحُرّ بن قيس ، وكان جلساء عمر أهل القرآن شباباً وكهولا ، فجاء عيينة وقال لابن أخيه : « ألا تدخلني على هذا الرّجل ؟»، فقال: « إني أخاف أن تتكلم بكلام لا ينبغي » فقال : « لا أفعل » ، فأدخله على عمر، فقال : « يا ابن الخطّاب! والله ما تَقسِم بالعدل ، ولا تعطي بالجَزْل »، فغضب عمر غضباً شديداً حتى همّ أن يوقع به ، فقال له ابن أخيه : « يا أمير المؤمنين! إن الله يقول في محكم كتابه : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، وإن هذا لمن الجاهلين، فخلّى عمر عنه وكان وقّافاً عند كتاب الله عز وجل .
ومضى عمر بن الخطاب ، فخلفه عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فتزوّج عثمان ابنة عيينة ، فدخل على عثمان في خلافته ، فقال له : « يا ابن عفان! سر فينا بسيرة عمر بن الخطاب ، فإنه أعطانا فأغنانا ، وأخشانا فأتقانا »، فقال له عثمان : « أما والله على ذلك ماكنت بالرّاضي بسيرة عمر »، ثمّ قال له : « هل لك إلى العشاء ؟»، قال : « إني صائم!»، قال : « أمواصل أنت ؟»، قال : « وما الوِصال ؟» ، قال : « تصوم يومك وليلتك إلى حتّى تمسي ، » ، قال : « لا ، ولكنّي وجدتُ صيام الليل أيسَر عليّ من صيام النّهار!!! » .
وسمع عيينة يقول لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : « انا ابن الأشياخ الشمّ »، فقال ابن مسعود :« ذاك يوسُف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم» ، فسكت.
ـ وكان فيه جفاء سكّان البوادي ، وكان من الأعراب الجُفَاة ، ولم تصح له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان من عمّال رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات فِزارة ، وتوفّي في خلافة عثمان بن عفّان ، ولا نعرف سنة ولادته ولا سنة وفاته ، وعَميَ في آخر عمره.
وقد حاولت أن أجمع أخبار عيينة، من مصادرها دون أن أعلق عليها إلا قليلا ، لإن أخباره كما يبدو لي واضحة للغاية ، وهي كفيلة بوصف شخصيّته وحياته إنساناً ، فاكتفيت بجمع تلك الأخبار وتنسيقها دون تعليق عليها ، لأنها ليست بحاجة إلى تعليق لوضوحها .
ومهما قيل في عيينة، فيبدو أن تمسّكه برئاسته القبلية واهتمامه بتأكيد أهميته رئيساً لإحدى القبائل العربية العريقة ، وتعاليه وتكبّره ، ومحاولته جميع المكاسب الماديّة ،وإغراقه في الالتزام بالتقاليد الجاهلية، تلك الأمور التي حاربها الإسلام حرباً لا هوادة فيها، حرمته من عطف كثير من المسلمين في أيامه، وعطف الذين أرّخوا له بعد موته مع أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم حاول مداواة عُقَده فولّاه القيادة ، وجعله عاملاً من عمّاله ، وأغدق عليه العطاء بسخاء نادر وحنان وعطف، وحاول أن يرفع منزلته في المجتمع الإسلامي لرفع معنوياته وترويضه على نسيانه ماضيه في الجاهلية بما فيه من آلام وتقاليد ، وانحراف ، ولكنّه ظلّ يتذكّر الماضي ويذكره ولا ينساه أو يتناساه ، بل يتشوّق إليه ويهفو إليه قلبه.
على كلّ حال ، فقد نال عُيينة شرف الصُّحبة ، وشرف الجهاد تحت لواء الرّسول القائد عليه الصلاة والسلام، وشرف قيادة إحدى سراياه ، وشرف تولّي أحد مناصبه الإدارية ، وحسبه بذلك شرفا ، والإسلام يَجُبُّ ما قبله على كلّ حال.
القائد
ـ كان عيينة قائداً في الجاهلية ، وقائدا في الإسلام ، بل كان أحد الجرّارين المعدودين من العرب في الجاهلية ، وهم أكابر القادة العرب في حينه .
وقد رفعه إلى تولّي المنصب القيادي على قبيلته في الجاهلية ، أنّه رئيس تلك القبيلة الشّرعيّ خلفاً لأبيه وتنفيذاً لوصيّته وهو على فراش الموت قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ولكنّه لم يتولّ القيادة على عهد النّبي صلّى الله عليه وسلم ، لأنّه كان رئيسا لقبيلة عريقة من قبائل العرب حسب، بل لأنه كان أول من انتدب من المسلمين لحرب المنحرفين من بني تميم الذين منعوا الزّكاة ولم يستجيبوا للمصدّق الموفد إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم لجمع الصّدقات .
ولكنّ القول بأنّه تولّى منصبه السّياسي في الإسلام ، لأنّه كان أول من انتدب من المسلمين لحرب المنحرفين من بني تميم ، لا يغني عن كل قول ، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان قمّة في تنفيذ مبدأ : تولية الرّجل المناسب للعمل المناسب، فلابدّ أن يكون عيينة ذا مزايا قيادية معيّنة أهّلته لتولّي القيادة .
فهو حائز على صفتين من صفات القيادة الرئيسة هما : التّجربة العملية ،والعلم المكتسب.
فقد كان لعيينة تجربة عملية في الحروب قبل الإسلام وبعده ، منتصراً تارة ومندحرًا تارة أخرى، وبخاصّة حربه على المسلمين ، فقد كانت اندحارا متواصلا، فكان إسلامه نوعا من استسلام القائد المندحر لخصمه المنتصر ، بعد أن بذل قصارى جهده لإحراز النّصر دون جدوى .
أما علمه المكتسب في العسكريّة ، فهو ابن رئيس مرموق من رؤساء القبائل له مشاكل لا أوّل لها ولا آخر مع القبائل العربية الأخرى ، وهو رئيس قبيلة مرموق بعد أبيه ، ورث عن أبيه مشاكل كثيرة وخلق لنفسه مشاكل جديدة، تكون الحرب هي الحل الوحيد غالبا لتلك المشاكل القديمة والجديدة ، وكانت الحرب هي القاعدة والسّلام هو الاستثناء بين القبائل ، وليس للعدو غير السّيف ، وليس لحماية القبيلة غير السّيف ، فمن الطّبيعي أن يتعلّم ابن الحرب فنون الحرب ، أسوة بغيره من رؤساء القبائل العربية بخاصة ، وبغيره من العرب بعامة.
ـ أمّا الصفة الثالثة للقيادة ، وهي الطبع الموهوب ، فمن الصعب جدا أن نقرر ، هل كان ذا طبع موهوب ، ام لم يكن كذلك ، لأنه لم يَخُض معارك حاسمة تبرز طبعه الموهوب للعيان ، ومعاركه التي خاضها في الجاهلية قبل إسلامه ، والتي خاضها بعد إسلامه ، لا تقدّم الدليل القاطع على إثبات هذه المزية فيه أو نفيها .
أما مزاياه القيادية الفرعية ، فقد كان صاحب قرار سريع صحيح ، ويبدو أنّه كان أقرب إلى التهوّر منه إلى الاتِّزان .
وكان يتمتّع بشجاعة شخصية لا غبار عليها ، وإرادة قوية ثابتة ، وكان يتحمّل المسؤولية وبحبّها إلى درجة كبيرة نظراً لاعتزازه بنفسه ونسبه ومقامه، ذا شخصية قوية نافذة مسيطرة إلى درجة الاستبداد بالرأي والابتعاد عن المشورة .
وأشك أنه كان ذا نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار ، فقد كان يطربه النصر ويرفع معنوياته ويؤلمه الاندحار ، ويضعف معنوياته ويؤدي بها إلى الانهيار .
كما أشك في أنه كان يتمتع بمزية: سبق النظر، فقد كان على عجل من أمره ، ولم يكن قائدا مكيثاً .
كما أشك في تمتعه بمزية معرفة نفسيات رجالهم وقابلياتهم ، فقد كان يعتبر نفسه هو الأصل ويعتبر نوعه فرعا لا أهمية له .
وأشك بأنه كان موضع ثقة رجاله ومحبّتهم ، ولم يكن له ماضٍ مجيد في خدمة الإسلام .
ونعود إلى معرفته لمبادئ الحرب ، فقد كان يطبّق مبدأ : التّعرض ، فكلّ حروبه تقريباً تعرضية ، وكان يطبق مبدأ : المباغتة ، أهم مبادئ الحرب على الإطلاق ، وقد رأينا كيف بلغت بني تميم بالزّمان .
وكان يطبق مبدأ : حشد القوة ، ويهتمّ بذلك غاية الاهتمام ، لحشد أكبر ما يمكن من قوة بشرية في الزمان والمكان المناسبين لإرضاء نزعته الشخصية إلى حبّ هذا الفخر والتّعالي والأمجاد لهذا كان على طرفي نقيض من مبدأ : الاقتصاد بالمجهود .
ولم أجد له اهتماماً بتطبيق مبدأ الأمن ، كما كانت خططه غير مونة ، تكاد تكون في قوالب جامدة صلبة ، تسير على وتيرة وحيدة من دون تحوير ولا تغيير .
وكان لا يهتمّ بالقضايا الإدارية إلا بالقدر الذي يستفيد منه شخصيا من الغنائم .
لقد كان أعرابيا في قيادته ، لم يتأثر بالمجتمع الإسلامي الحديث إلا قليلاً .
عُيَينة في التّاريخ
ـ يذكر التاريخ لعيينة أنه نال شرف الصّحبة وشرف الجهاد تحت لواء النّبي صلّى الله عليه وسلم.
ـ ويذكر له ، أنه الأعرابيُّ الأول الذي تولى قيادة سرية من سرايا النّبي صلّى الله عليه وسلم ، ولم يتولّ هذا المنصب القيادي في حياة النّبي صلّى الله عليه وسلم أعرابيّ قبله ولا يتولا أعرابيّ بعده عدا الضّحاك بن سُفيان الكِلابي.
ـ ويذكر له أنّه ارتدّ عن الإسلام بعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرّفيق الأعلى ، ولكنّه عاد للإسلام وحسن إسلامه الذي رشّحه لتولي مثل هذا المنصب الرّفيع أقدميته في الإسلام بالإضافة إلى مزاياه القيادية الأخرى .
ـ ويذكر له ، أنه كان من الشّخصيّات العربية القيادية المعدودة في الجاهلية ، وكان من المؤلفة قلوبهم في الإسلام.
رحم الله الأعرابيّ القائد جزاء ما قدّم للإسلام والمسلمين وغفر له .
(قادة النبي صلى الله عليه وسلم)