نسبُهُ وأيّامه الأولى
هو الطُّفَيل بن عمرو بن طَريف بن العاص بن ثعلبة بن سُلَيم بن فَهْم بن غَنْم بن دَوس بن عُدثان بن عبد اللّه بن زَهران بن كَعب بس الحارث بن كَعب بن عبد عبد اللّه بن مالك بن نصر بن الأَزد.
أسلم وصدّق النّبي صلّى الله عليه وسلّم بمكّة ، وكان الطُّفَيْل رجلاً شريفاً شاعراً مليئاً كثير الضّيافة ، فقدم مكّة والنّبيّ صلّى الله عليه وسلم بها ، فمشى إليه رجال قريش فقالوا : ياطفيل! إنّك قدمت بلادنا ، وهذا الرّجل الذي بين أظهرنا قد اعضَلَ بنا وفرّق جماعتنا وشتّت أمرنا ، وإنّما قوله كالسّحر يفرِّقُ به بين الرّجل وبين أبيه ، وبين الرّجل وبين أخيه ، وبين الرّجل وبين زوجته! إنّا نخشى عليك وعلى قومك مثل ما دخل علينا منه فلا تكلّمه ولا تسمع منه .
ويبدو أن الطّفيل تأثر بمزاعم المشركين من قريش تأثّراً بالغاً فوصف تأثير مزاعمهم فيه بقوله : «فواللّه مازالوا بيّ حتّى أجمعت إلا أسمعَ منه شيئًا ولا أكلِّمه ، حّتى حشوتُ في أُذُنَيّ حين غدوتُ إلى المسجد كرسُفا فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله ، وأنا لا أريد أن أسمعه ، فَغَدَوتُ إلى المسجد فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قائم يصلّي عند الكعبة، فقمتُ قريباً منه فأبى اللّه إلا أن يُسمِعَني بعضَ قوله ، فسمعتُ كلامًا حسنًا ، فقلتُ في نفسي : « واثُكْلَ أمّي! واللّه إنّي لرجلٌ لبيبٌ شاعر مايخفى عليَّ الحَسَنُ من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرَّجل ما يقول؟ فإذا كان الذي يأتي به حَسَناً قبلته ، وإن كان قبيحًا تركته ».
وقال الطُّفيل يصف قصّة إسـلامه : « فمكثتُ حتى انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى بيته ، ثمّ اتّبعتهُ حتّى إذا دخل بيته دخلتُ معه ، فقلت : يامحمّد! إنّ قومكَ قالوا لي كذا وكذا للّذي قالوا لي ، فوالله ماتركوني يخوّفوني أمرك حتّى سددت أُذُنيّ بكُرسُفٍ لأن لا أسمع قولك ، ثمّ إنّ اللّه أبى إلا أن يُسمِعَنِيهْ ، فَسَمِعتُ قولاً حسنًا فأعرضَ عليّ أمرك»
وعرض عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم الإسلام ، وتلا عليه القرآن : سورة الإخلاص والمعوّذتين ، فأسلمَ في الحال ، وعاد إلى قومه ، بعد أن قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم « لا واللّه ، ما سمعتُ قولاً قطّ أحسنُ من هذا ولا أمرًا أعدل منه ».
وكان إسلام الطّفيل في مكّة بعد رجوع للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم من الطّائف بعد دعوة ثقيف إلى الإسلام ورفضهم الإيمان برسالته ، وكان ذلك في السّنة العاشرة من بعثتهِ عليه الصّلاة والسّلام .
وأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بدعاء قومه إلى الإسلام ، فقال : «يارسول الله! ، اجعل لي آية تكون لي عونًا» ، فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فجعل الله في وجهـهِ نورًا ، فقال : «يارسول الله! إنّي أخاف أن يجعلوها مُثلَة» فدعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فصار النّور في سَوطه ، فهو معروف بذي النّور .
وخرج الطُّفيل إلى قومه ، فلمّا جاءهم ونزل أتاه أبوه ، وكان شيخاً كبيراً ، فقال لأبيه : «إليكَ عنّي يا أبتِ ، فلستُ منكَ ولستَ منّي » فقال أبوه : « لمَ يا بُنَيّ !؟» فقال : «أسلمتُ وتابعتُ دين محمّد صلّى الله عليه وسلّم » فقال أبوه : « أيْ بنيَّ! فديني دينُك» ، فقال : «فاذهب واغتسل وطهّر ثيابك ، ثمّ تعال حتّى اعلِّمك ما عُلِّمت » ، فذهبَ فاغتسلَ وطهّر ثيابه ، ثمّ عرض الطّفيل الإسلام على أبيه فأسلم .
ثمّ أتت صاحبة الطّفيل ، فقال لها : «إليكِ عنّي ، فلستُ منكِ ولستِ منّي » ، فقالت : « ولمَ بأبي أنتَ وأمّي !» ، فقال: «فرّق بيني وبينك الإسلام ، وتابعت دين محمّد صلّى اللّه عليه وسلم» ، فقالت: «فديني دينُك» ، فقال: «فاذهبي إلى حسْي ذي الشَّرى فتطهّري منه »، فذهبت واغتسلت ، ثمّ جاءت فعرض عليها الطّفيل الإسلام ، فأسلمت .
ولكنّ أمّ الطّفيل لم تُسلِم ، ودعا قومه فأجابه أبو هريرة رضي الله عنه وحده ، وأبت دَوس وتعاصت على الطّفيل ، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة قبل أن يهاجر إلى المدينة ، ومعه أبو هريرة فقال: «يارسول الله! غلَبَ على دَوس الزّنا ، والرّبا فادعُ الله عليهم» .
قال أبو هريرة :« قدم الطّفيل بن عمرو الدَّوسيّ على رسول صلّى الله عليه وسلّم ، فقال : يارسول الله! إنَّ دوسًا قد عصت فادعُ الله عليهم ، فخشي الصّحابة أن يهلك الله دوسًا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم» . قال : «اللهمّ اهدِ دوسًا وأتِ بها » ، ثمّ قال للطّفيل : «اخرج إلى قومك فادعهم وارفق بهم » .
وخرج الطُّفيل إلى قومه ، فلم يزل بأرضِ دَوس يدعوها حتّى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . ومضى يوم بدر وأحد والخندق ، والطُّفيل بأرض قومه يدعوهم للإسلام ، حتّى قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمن أسلم من قومه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوة خَيبر ، حتّى نزل المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دَوس ، أو تسعين أهل بيت من دَوس ، ثمّ لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين ، فقد قدم أبو هريرة والطُّفيل وأصحابهم الدّوسيّون ، فكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة ، ففعلوا
ـ وهكذا هَدى اللّه من هدى إلى الإسلام من دَوس على يد الطُّفيل ، وعلى يدي جُنْدُب بن عمرو بن حُمَمَة الدَّوسيّ ، فحين دعا النبي صلى الله عليه وسلم لدوس قال له الطُّفيل : «ماكنت أحبّ هذا» ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ فيهم مثلك كثيرا » ، وكان جُندُب هذا يقول في الجاهليّة : «إنّ للخلق خالقاً ، لكن لا أدري من هو ! » ، فلمّا سمع بخبر النّبي صلّى الله عليه وسلم ، خرج ومعه خمسة وسبعون رجلاً من قومه ، فأسلم وأسلموا ، وكان يقدّمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً ، وكان أبوه عمرو بن حَمَمَة حاكمًا على دَوس ردحًا طويلا .
قائد السريّـة
شهد الطّفيل بعد خيبر التي كانت في شهر المحرّم من السّنة السّابعة الهجريّة ، عُمرَةَ القضاء التي كانت في ذي القعدة من السنة السّابعة الهجريّة ، وشهد غزوة فتح مكّة التي كانت في شهر رمضان من السّنة الثامنة الهجريّة .
ـ ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنيناً التي كانت في شهر شوّال من السنة الثامنة الهجريّة ، وأراد المسير إلى الطّائف ، بعث الطّفيل إلى ذي الكّفين – صنم عمرو بن حَمَمَة يهدمه – ، وأمره أن يستمدّ قومه ويوافيه بالطّائف . فقال الطّفيل: «يارسول الله! أوصني » قال : «أفشي السّلام ، وابذْل الطّعام ، واستحي من الله كما يستحي الرّجل ذو الهَيئة من أهله ، إذا أسأت فأحسن { إنَّ الحسَنَاتِ يُذْهبْنَ السّيِّئات، ذلِكَ ذِكْرَى للذّاكِرِين } » ، فخرج الطّفيل سريعًا إلى قومه ، وكان ذلك في شهر شوّال من السّنة الثّامنة الهجريّة.
وهدم الطّفيل ذا الكفّين وجعل يحشوا النّار في جوفه ويقول :
يـا ذا الكّفينِ لسـتَ من عُبّـادِكــا
ميــلادنـا أقـدَمُ مـن مـيـلادِكا
إنّي حشوتُ النّـار في فؤادِكـا
وأسرع معه قومه ، فانحدر منهم أربعمائة ، فوافوا النّبي صلّى الله عليه وسلم بالطّائف بعد مُقامه بأربعةِ أيّام ، فقدم بدبّابة ومنجنيق ، واستعملهما في حصار الطّائف.
وكان الصّنم ذو الكفّين من خشب ، فلمّا أحرقهُ الطُّفيل بانَ لمن بقيَ ممّن تمسّك به أنّه ليسَ على شيء ، فأسلموا جميعاً ، وانتهى أمر الشّرك في دَوس إلى الأبد .
الشّهيد
عاد الطّفيل مع النّبي صلّى الله عليه وسلم من غزوة الطائف إلى المدينة المنوّرة ، فكان معه بالمدينة حتّى قبض عليه الصّلاة والسّلام .
فلمّا ارتدّت العرب خرج مع المسلمين ، فجاهدَ حتّى فرغوا من طليحة الأسديّ وأرض نجد كلّها .
ثمّ سار إلى اليمامة، فاستُشهد في تلك المعركة ، وكان معه ابنه عمرو بنُ الطُّفيل الذي قطعت يده في تلك المعركة ، وكان ذلك سنة إحدى عشر الهجريّة ، وكانت معركة اليمامة بين المسلمين من جهة وبين مسيلمة الكذاب من جهة ثانية ، وكان المسلمون في قيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وقد جرت المعركة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
واستَبَل عمرو بن الطفيل وصحّت يده ، فبينما هو عندك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إذ أُتيَ بطعام فتنحّى عنه ، فقال عمرو : «مالك! لعلّك تنحّيت لمكان يدك؟» ، قال : «أجل!» قال : «والله لا أذوقه حّتى تسوطه بيدك ، فوالله مافي القومِ بعضه في الجنّةِ غيرك » ، ثمّ خرج عمرو بن الطّفيل عام اليرموك في خلافة عمر بن الخطّاب ، فقُتِل شهيدًا .
ـ و لعلّ من الطّريف ، أن نذكر أن الطّفيل -كما ذكرت معظم المصادر الموثوقة التي تحدّثت عنه- ، رأى رؤية وهو متوجّه إلى اليمامة ، فقال لأصحابه : «إنّي قد رأيت رؤيا فاعبروها لي : رأيتُ أنّ رأسي حُلق ، وأنّه خرج من فمي طائر ، وأنه لقيتني إمراة فأدخلتني في فرجها ، وكأنَّ ابني يطلبني حثيثاً ، فحيل بيني وبينه» ، فقالوا : خيرا ، فقال : « أمّا أنا والله فقد أوّلتها : أما حلق رأسي فقطعه ،وأمّا الطّائر الذي خرج من فمي فروحي ، وأمّا المرأة التي أدخلتني في فرجها ، فالأرض تحفر لي وأدفن فيها ، فقد رجوتُ أن أُقتَلَ شهيدا ، وأمّا طلب ابني إيّاي فلا أراه إلا سيغدوا في طلب الشهادة، ولا أراه يلحق بي في سفرنا هذا» ، فقتل الطّفيل شهيدا يوم اليمامة ، وجرح ابنه ، ثمّ قتل أبنه باليرموك بعد ذلك في زمن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه شهيدًا .
وقد نقلت هذه الرؤيا لطرافتِهَا والمرء أن يصدّقها أو يكذّبها فهو حرّ في اختياره ، ولكنّ الرؤيا الصّادقة حقيقة مجرّبة ، ولا أستطيع إلا أن اصدّق ماجرّبته بنفسي وجرّبه غيري .
الإنسان والقائـد
1ــ أسلم الطّفيل قديماً قبل الهجرة ، فذهب إلى قومه فدعاهم إلى الله فهداهم الله على يديه ، وكانَ شريفًا شاعرًا لبيباً ، مليئا كثير الضّيافة ، سيّدا في قومه مطاعاً .
ومن شعره يخاطب قريشًا ، وكانوا هدّدوه لما أسلم :
ألا أبلغ لديـك بني لؤيٍّ … على الشنآن والغَضَبِ المرَدِّ
بـأنَّ اللّه ربُّ النّاسِ فردٌ … تعالى جدّه عن كلّ جدّ
وأنّ محمّـداً عبدٌ رسولٌ … دليل هدى وموضح كلّ رشـد
وأنَّ اللّه جلّلـهُ بهــاءً … وأعلى جدّه عن كلّ جدّ
ولا نعرف كثيرًا من شعره ، فإمّا أن يكون شاعراً مقِلًّا ، أو ضاع شعره كما ضاع كثير من شعر غيره .
ولا نعرف متى ولد ، ولا رواية له عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وحسبه أنّه نال شرف الصّحبة ، وشرف الجهاد تحت لواء الرسول صلى الله عليه وسلم.
٢ًــ كان رؤساء القبائل يتولّون قيادتها في الجاهليّة ، فلمّا جاء الإسلام أبقى هذا التّقليد ، إذا أسلم رئيس القبيلة وحسن إسلامه وكان ذا كفاية قياديّة لا غبار عليها .
وقد كان الطّفيل رئيسًا من رؤساء دَوس ، كما أنه مبعوث النّبي صلّى الله عليه وسلم إليها ، فاهتدى على يديه بين سبعين عائلة وتسعين عائلة من عوائلهم حتّى غزوة خَيبر ، فهاجر بهم إلى المدينة المنوّرة ، وبعد فتح مكّة بادر الطّفيل بالمطالبة بتولّيته إحراق صنم دَوس بالخشبيّ لتعلم أنه لا يضرّ ولا ينفع ، فولّاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم سريّة من سراياه استطاعت إحراق هذا الصّنم ، فلم يبقى أحد في دَوس إلا وأعلن إسلامه وانخرط في جيش المسلمين ، فقاد الطّفيل دوسًا في حصار الطّائف وفي حروب الردّة ، حتّى استُشهد رضي الله عنه .
ـ وهو بدون شكّ له تجربة عمليّة في الحرب ، وعلومه العسكريّة المكتسبة لا غبار عليها ، ولا يمكن تقدير : هل كان قائداً موهوبًا أو لا ، لأنّه لم يقد معارك حاسمة تثبت موهبته العسكريّة .
ـ وصفاته القياديّة لا تختلف كثيرًا عن غيره من قادة النّبي صلّى الله عليه وسلم ، لأنّه خرّيج مدرسة النّبوّة القياديّة وله نفس المزايا والخصال التي تميّز غيره ، وعاش في نفس البيئة العربيّة الإسلاميّة في نفس المنطقة العربيّة ، منطقة شبه الجزيرة العربية وهو وهم من أصل واحد : العرب .
وحسبه أن يكون أحد قادة سراية النبي صلى الله عليه وسلم وأحد شهداء المسلمين الأولين .
الطّفيل في التّاريخ
يذكر التّاريخ للطّفيل ، أنّه كان من المسلمين الأوّلين ، الذين اسلموا قبل هجرة النّبي صلّى الله عليه وسلم من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة .
ويذكر له أنه كان مبعوث النّبي صلّى الله عليه وسلم إلى قومه ، فهداهم الله على يديه إلى الإسلام .
ويذكر له أنّه احرق صنم قبيلته ، فأسلمت بعد إحراقه ولحقت بالمسلمين .
ويذكر له ، أنّه استشهد دفاعًا عن عقيدته في حروب الرّدة ، فكان من أسباب عودته العرب إلى الإسلام ، وعودة الوحدة تحت لواء الإسلام إلى العرب في شبه الجزيرة العربية.
رضي الله عن الصّحابيّ الجليل ، القائد الشهيد ، الطُّفَيل بن عمرو الدَّوسيّ الأزديّ .
(قادة النبي صلى الله عليه وسلم)