“ولَمْ تَبْقَ هِنْدُ المَخْزُومِيَّةُ أَمَّا لِسَلَمَةَ وَحْدَهُ؛ وَإِنَّمَا غَدَتْ أَمَّا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ”
أُمُّ سَلَمَةَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا أُمِّ سَلَمَةَ ؟!
أَمَّا أَبُوهَا فَسَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ « مَحْرُومِ » المَرْمُوقِينَ ، وَجَوَادٌ مِنْ أَجْوَادِ العَرَبِ المَعْدُودِينَ ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُقَالُ لَهُ : « زَادُ الرَّاكِب؛ لِأَنَّ الرَّكْبَانَ كَانَتْ لَا تَتَزَوَّدُ إِذَا قَصَدَتْ مَنَازِلَهُ أَوْ سَارَتْ فِي صُحْبَتِهِ . وَأَمَّا زَوْجُهَا فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الأَسَدِ أَحَدُ العَشَرَةِ السَّابِقِينَ إِلَى الإِسْلَامِ ؛ إِذْ لَمْ يُسْلِمْ قَبْلَهُ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَنَفَرٌ قَلِيلٌ لَا يَبْلُغُ أَصَابِعَ اليَدَيْنِ عَدَداً . هو أبو أمية بن المغيرة القرشي .
وَأَمَّا اسْمُهَا فَهِنْدُ ، لَكِنَّهَا كُنْيَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ، ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الكُنْيَةُ . أَسْلَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مَعَ زَوْجِهَا فَكَانَتْ هِيَ الْأُخْرَى مِنَ السَّابِقَاتِ إِلَى الإِسْلَامِ أَيْضاً . وَمَا إِنْ شَاعَ نَبَأُ إِسْلَامِ أُمِّ سَلَمَةَ وَزَوْجِهَا حَتَّى هَاجَتْ قُرَيْسٌ وَمَاجَتْ وَجَعَلَتْ تَصُبُّ عَلَيْهِمَا مِنْ نَكَالِهَا (1) مَا يُزَلْزِلُ الصُّمُ الصَّلَابَ (2)، فَلَمْ يَضْعُفَا وَلَمْ يَهِنَا وَلَمْ يَتَرَدَّدا .
وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمَا الأَذَى وَأَذِنَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الحَبَشَةِ » كَانَا فِي طَلِيعَةِ المُهَاجِرِينَ. مَضَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا إِلَىٰ دِيَارِ الْغُرْبَةِ وَخَلَّفَتْ وَرَاءَهَا فِي مَكَّةَ بَيْتَهَا البَاذِخَ وَعِزَّهَا الشَّامِخَ ، وَنَسَبَهَا العَرِيقَ ، مُحْتَسِبَةٌ ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ اللَّهِ ، مُسْتَقِلَّةٌ لَهُ فِي جَنْبِ مَرْضَاتِهِ . وَعَلَى الرَّغْمِ مِمَّا لَقِيَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَصَحْبُهَا مِنْ حِمَايَةِ النَّجَاشِي نَضْرَ اللهُ في الجَنَّةِ وَجْهَهُ، فَقَدْ كَانَ الشَّوْقُ إِلَى مَكةَ مَهْبِطِ الوَحْيِ ، وَالحَنِينُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَصْدَرِ الهُدَى يَفْرِي كَبِدَهَا وَكَبِدَ زَوْجِهَا فَرْيًّا . ثُمَّ تَتَابَعَتِ الأَخْبَارُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ قَدْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ ، وَأَنَّ إِسْلَامَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، وَعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَدْ شَدَّ مِنْ أَزْرِهِمْ وَكَفِّ شَيْئًا مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ عَنْهُمْ ، فَعَزَمَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ عَلَى العَوْدَةِ إِلَى مَكَّةَ ، يَحْدُوهُمُ الشَّوقُ وَيَدْعُوهُمُ الحَنِينُ …
فَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا فِي طَلِيعَةِ العَائِدِينَ. لَكِنْ سَرْعَانَ مَا اكْتَشَفَ العَائِدُونَ أَنَّ مَا نُمِيَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَخْبَارٍ كَانَ مُبَالَغاً فِيهِ ، وَأَنَّ الوَثْبَةَ الَّتِي وَثَبَهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ إِسْلَامِ حَمْزَةَ وَعُمَرَ، قَدْ قُوبِلَتْ مِنْ قُرَيْشٍ بِهَجْمَةٍ أَكْبَرَ . فَافْتَنَّ المُشْرِكُونَ فِي تَعْذِيبِ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْوِيعِهِمْ ، وَأَذَاقُوهُم مِنْ بَأْسِهِمْ مَا لَا عَهْدَ لَهُمْ بِهِ مِنْ قَبْلُ . عِنْد ذَلِكَ أَذِنَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ ، فَعَزَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا عَلَى أَنْ يَكُونَا أَوَّلَ المُهَاجِرِينَ فِرَاراً بِدِينِهِمَا وَتَخلُصاً مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ . لكِنْ هِجْرَةَ أُمِّ سَلَمَةَ وَزَوْجِهَا لَمْ تَكُنْ سَهْلَةٌ مُيَسَّرَةٌ كَمَا خُيِّلَ لَهُمَا ، وَإِنَّمَا كَانَتْ شَاقَّةٌ مُرَّةٌ خَلَّفَتْ وَرَاءَهَا مَأْسَاةٌ تَهُونُ دُونَهَا كُلُّ مَأْسَاةٍ . فَلْتَتْركِ الكَلَامَ لِأُمِّ سَلَمَةَ لِتَرْوِيَ لَنَا قِصَّةَ مَأْسَاتِهَا وَأَبْلَغُ . فَشُعُورُهَا بِهَا أَشَدُّ وَأَعْمَقُ، وَتَصْوِيرُهَا لَهَا أَدَقُ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : لَمَّا عَزَمَ أَبُو سَلَمَةَ عَلَى الخُرُوجِ إِلَى المَدِينَةِ أَعَدَّ لِي بَعِيراً ، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ طِفْلَنَا سَلَمَةَ فِي حِجْرِي ، وَمَضَى يَقُودُ بِنَا البَعِيرَ وَهُوَ لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ. وَقَبْلَ أَنْ نَفْصِلَ عَنْ مَكَّةَ رَآنَا رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي بَنِي ( مَخْرُومٍ ، فَتَصَدَّوْا لَنَا وَقَالُوا لِأَبِي سَلَمَةَ : هَذِهِ ؟! إِنْ كُنْتَ قَدْ غَلَبْتَنَا عَلَى نَفْسِكَ ، فَمَا بَالُ امْرَأَتِكَ البلاد ؟! وَهِيَ بِثْتُنَا ، فَعَلَامَ نَتْرُكُكَ تَأْخُذُهَا مِنَّا وَتَسِيرُ بِهَا فِي ثُمَّ وَثَبُوا عَلَيْهِ ، وَانْتَزَعُونِي مِنْهُ انْتِرَاعاً .
وَمَا إِنْ رَآهُمْ قَوْمُ زَوْجِي بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ» يَأْخُذُونَنِي أَنَا وَطِفْلِي ، حَتَّى غَضِبُوا أَشَدَّ الغَضَبِ وَقَالُوا : لا والله لا نَتْرُكُ الوَلَد عِنْدَ صَاحِبَتِكُمْ بَعْدَ أَنْ انْتَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا انْتِرَاعاً … فَهُوَ ابْنُنَا وَنَحْنُ أَوْلَى به . ثُمَّ طَفِقُوا يَتَجَاذَبُونَ طِفْلِي سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ عَلَىٰ مَشْهَدٍ مِنِّي حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ وَأَخَذُوهُ . فَرِيدَة : وَفِي لَحَظَاتٍ وَجَدْتُ نَفْسِي مُمَزَّقَةَ الشَّمْلِ وَحِيدَةً فَزَوْجِي اتَّجَهَ إِلَى المَدِينَةِ فِرَاراً بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ …. وَوَلَدِي اخْتَطَفَهُ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ مُحَطَّماً مَهيضاً .. أَمَّا أَنا فَقَدْ اسْتَوْلَىٰ عَلَيَّ قَوْمِي بَنُو مَحْزُومٍ) ، وَجَعَلُونِي عِنْدَهُمْ ..
فَفُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي فِي سَاعَةٍ . وَمُنْذُ ذَلِكَ اليَوْمِ جَعَلْتُ أَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الأَبْطَحِ ، فَأَجْلِسُ في المَكَانِ الَّذِي شَهِدَ مَأْسَاتِي ، وَأَسْتَعِيدُ صُورَةَ اللَّحَظَاتِ الَّتِي حِيلَ فِيهَا بَيْنِي وَبَيْنَ وَلَدِي وَزَوْجِي ، وَأَضَلُّ أَبْكِي حَتَّى يُخَيَّمَ عَلَيَّ اللَّيْلُ . وَبَقِيتُ عَلَى ذَلِكَ سَنَةٌ أَوْ قَرِيباً مِنْ سَنَةٍ إِلَى أَنْ مَرَّبِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي فَرَقٌ لِحَالِي ورَحِمَنِي وَقَالَ لَبَنِي تُطْلِقُونَ هَذِهِ المِسْكِينَةَ !! فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا وَمَا زَالَ بِهِمْ يَسْتَلِينُ قُلُوبَهُمْ وَيَسْتَدِرُ عَطْفَهُمْ حَتَّى قَالُوا لي : الْحَقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شِفْتِ . وَلَكِنْ كَيْفَ لِي أَنْ أَلْحَقِّ بِزَوْجِي فِي المَدِينَةِ وَأَتْرُك وَلَدِي وَفِلْدَة كَبِدِي فِي مَكَّةَ عِنْدَ بَنِي عَبْدِ الأَسَدِ ؟!
كَيْفَ يُمْكِنُ أَن تَهْدَأَ لِي لَوْعَةٌ أَوْ تَرْقَأَ لِعَيْنِي عَبْرَةٌ وَأَنَا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ وَوَلَدِي الصَّغِيرُ فِي مَكَّةَ لَا أَعْرِفُ عَنْهُ شَيْئًا ؟!!
وَرَأَى بَعْضُ النَّاسِ مَا أُعَالِجُ مِنْ أَحْزَانِي وَأَشْجَانِي فَرَقَّتْ قُلُوبُهُمْ لِحَالِي ، وَكَلَّمُوا بَنِي عَبْدِ الأَسَدِ ، في شَأْنِي وَاسْتَعْطَفُوهُمْ عَلَيَّ فَرَدُّوا لِي وَلَدِي سلمة . لم أشأ أن أنزيتُ فِي مَكَّةَ حَتَّى أَجِدَ مَنْ أَسَافِرُ مَعَهُ ؛ فَقَدْ كُنْتُ أَخْشَىٰ أَنْ يَحْدُثَ مَا لَيْسَ بِالحُسْبَانِ فَيَعُوقَنِي عَنِ اللْحَاقِ بِزَوْجِي عَائِقٌ … لِذَلِكَ بَادَرتُ فَأَعْدَدْتُ بَعِيرِي ، وَوَضَعْتُ وَلَدِي في حِجْرِي، وَخَرَجْتُ مُتَوَجِّهَةٌ نَحْوَ المَدِينَةِ أُرِيدُ زَوْجِي، وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ .
وَمَا إِن بَلَغْتُ التَّنْعِيمَ » حَتَّى لَقَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَقَالَ إِلَى أَيْن يَا بِنْتَ ( زادِ الرَّاكِبِ ) ؟! فَقُلْتُ : أُرِيدُ زَوْجِي فِي المَدِينَةِ . قَالَ : أَوَمَا مَعَكِ أَحَدٌ ؟! قلتُ : لَا وَاللهِ إِلَّا الله ثم بني هَذَا . قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَتْرُكُكِ أَبْداً حَتَّى تَبْلُغِي المَدِينَةَ . ثُمَّ أَخَذَ بِخِطَامِ بَعِيرِي وَانْطَلَقَ يَهْوِي يي … فَوَاللهِ مَا صَحِبْتُ رَجُلاً مِنَ العَرَبِ قَطُّ أَكْرَمَ وَلَا أَشْرَفَ ، كَانَ إِذَا بَلَغَ مَنْزِلاً مِنَ المَنَازِلِ يُنِيخُ بَعِيرِي ، مِنْهُ ثُمَّ يَسْتَأْخِرُ عَنِّي ، حَتَّى إِذَا نَزَلْتُ عَنْ ظَهْرِهِ وَاسْتَوَيْتُ عَلَىٰ الْأَرْضِ دَنَا إِلَيْهِ وَحَطَّ عَنْهُ رَحْلَهُ ، وَاقْتَادَهُ إِلَى شَجَرَةٍ وَقَيَّدَهُ فيها ظلها ثُمَّ يَتَنَحَّى عَنِّي إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى فَيَضْطَجِعُ فِي فَإِذَا حَانَ الرَّوَاحُ قَامَ إِلَى بَعِيرِي فَأَعَدَّهُ ، وَقَدَّمَهُ إِلَيَّ ، ثُمَّ يَسْتَأْخِرُ عَنِّي وَيَقُولُ : اِرْكَبِي ، فَإِذَا رَكِبْتُ ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى البَعِيرِ ، أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ وَقَادَهُ . وَمَا زَالَ يَصْنَعُ بِي مِثْلَ ذَلِكَ كُلِّ يَوْمٍ حَتَّى بَلَغْنَا المَدِينَةَ ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قَرْيَةٍ بِقُبَاءِ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَالَ زَوْجُكِ فِي هَذِهِ القَرْيَةِ ، فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعاً إِلَى مَكَّةَ اجْتَمَعَ الشَّمْلُ الشَّتِيتُ بَعْدَ طُولِ افْتِرَاقِ ، وَقَرَّتْ عَيْنُ أُمُّ سَلَمَةَ بِزَوْجِهَا، وَسَعِدَ أَبُو سَلَمَةَ بِصَاحِبَتِهِ وَوَلَدِهِ … ثُمَّ طَفِقَتِ الْأَحْدَاتُ تَمْضِي سِرَاعاً كَلَمْحِ البَصَرِ . فَهَذِهِ بَدْرٌ » يَشْهَدُهَا أَبُو سَلَمَةَ وَيَعُودُ مِنْهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ انْتَصَرُوا نَصْراً مُؤَزرا .
وَهَذِهِ (أُحَدٌ) ، يَخُوضُ غِمَارَهَا بَعْدَ بَدْرٍ ، وَيُبْلِي فِيهَا أَحْسَنَ البَلَاءِ وَأَكْرَمَهُ ، لَكِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا وَقَدْ جُرِحَ مُجرْحاً بليغاً ، فَمَا زَالَ يُعَالِجُهُ حَتَّى بَدَا لَهُ أَنَّهُ قَدِ انْدَمَلَ، لكِنَّ الجُرْحَ كَانَ قَدْ رُمَّ عَلَى فَسَادٍ فَمَا لَبِثَ أَنِ انْتَكَا وَأَلْزَمَ أَبَا سَلَمَةَ الفِرَاشَ . وَفِيمَا كَانَ أَبُو سَلَمَةَ يُعَالَجُ مِنْ جُرْحِهِ قَالَ لِزَوْجِهِ : يَا أُمَّ سَلَمَةَ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : وَيَقُولُ : ( لَا تُصِيبُ أَحَداً مُصِيبَةٌ ، فَيَسْتَرْجِعُ عِنْدَ ذَلِكَ اللهُم عِنْدَكَ احْتَسَبْتُ مُصِيبَتِي هَذِهِ … اللهم أَخْلِفْنِي خَيْراً مِنْهَا، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلٌ … ) .
ظَلَّ أَبُو سَلَمَةَ عَلَى فِرَاشِ مَرَضِهِ أَيَّاماً . وَفِي ذَاتِ صَبَاحٍ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَعُودَهُ ، فَلَمْ يَكَدْ يَنْتَهِي مِنْ زِيَارَتِهِ وَيُجاوِزُ بَابَ دَارِهِ ، حَتَّى فَارَقَ أَبُو سَلَمَةَ الحَيَاةَ . فَأَغْمَضَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِيَدَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ عَيْنَيْ صَاحِبِهِ ، وَرَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي المُقَرَّبِينَ …
أَمَّا أُمُّ سَلَمَةَ فَتَذَكَّرَتْ مَا رَوَاهُ لَهَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ع فَقَالَتْ : اللهُم عِنْدَكَ أَحْتَسِبُ مُصِيبَتِي هَذِهِ … لَكِنَّهَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهَا أَنْ تَقُولَ : اللَّهُمَّ أَخْلِفْني )) فِيهَا خَيْراً مِنْهَا ؛ لأنَّهَا كَانَتْ تَتَسَاءَلَ ، وَمَنْ عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ خَيْراً مِنْ أَبِي سَلَمَةَ ؟! لكنَّهَا مَا لَبِثَتْ أَنْ أَتَمَّتِ الدُّعَاءَ …
حَزِنَ الْمُسْلِمُونَ لِمُصَابِ أُمِّ سَلَمَةَ كَمَا لَمْ يَحْزَنُوا لِمُصَابِ أَحَدٍ مِنْ قَبْلُ … وَأَطْلَقُوا عَلَيْهَا اسْمَ (أَيْمُ العَرَبِ ) إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي المَدِينَةِ أَحَدٌ مِنْ ذَوِيهَا غَيْرَ صِبْيَةٍ صِغَارٍ كَزُغْبِ القَطَا.
شَعَرَ المُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مَعاً بِحَقِّ أُمِّ سَلَمَةَ عَلَيْهِمْ ، فَمَا كَادَتْ تَنْتَهِي مِنْ حِدَادِهَا عَلَى أَبِي سَلَمَةَ حَتَّى تَقَدَّمَ مِنْهَا أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ يَخْطَبُهَا لِنَفْسِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَسْتَجِيبَ لِطَلَبِهِ … ثُمَّ تَقَدَّمَ مِنْهَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فَرَدَّتْهُ كَمَا رَدَّتْ صَاحِبَه … ثُمَّ تَقَدَّمَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ ع فَقَالَتْ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فِي خِلَالا ثَلاثاً : فَأَنَا امْرَأَةٌ شَدِيدَةُ الغَيْرَةِ فَأَخَافُ أَنْ تَرَى مِنِّي شَيْئًا يُغْضِبُكَ فَيُعَذِّبَنِي اللَّهُ بِهِ . وَأَنَا امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلْتُ في السن . وَأَنَا امْرَأَةٌ ذَاتُ عِيَالٍ . فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ( أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ غَيْرَتِكِ فَإِنِّي أَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُذْهِبَهَا عَنْكِ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ السِّنِّ فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلُ الَّذِي أَضابَك … وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ العِيَالِ ، فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالي ) .
ثُمَّ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ ؛ فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهَا ، وَأَخْلَفَهَا خَيْراً مِنْ أَبِي سَلَمَةَ . وَمُنْذُ ذَلِكَ اليَوْم لَمْ تَبْقَ هِنْدُ المَحْرُومِيَّةُ أُمَّا لِسَلَمَةَ وَحْدَهُ ؛ وَإِنَّمَا غَدَتْ أَمَّا لَجَمِيعِ المُؤْمِنِينِ .
نَضْرَ اللَّهُ وَجْهَ أُمِّ سَلَمَةَ في الجَنَّةِ وَرَضِيَ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
(صور من حياة الصحابيات لرأفت الباشا)