نسبه وحياته
هو مرثد بن أبي مرثد، واسم أبيه: مرثد كناز بن حصن بن يربوع بن طريف بن خرشة بن عبيدة بن سعد بن عوف بن كعب بن مالك بن جلان بن غنم بن عمرو، وهو غني بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر.
أبوه: أبو مرثد الغنوي، وكان تربًا لحمزة بن عبد المطلب عمّ النبي ﷺ وحليفه، وكان رجلًا طوالًا كثير شعر الرأس، ومن المهاجرين الأولين، شهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله ﷺ، ومات بالمدينة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة اثنتي عشرة الهجرية، وهو يومئذ ابن ست وستين سنة.
ولما هاجر أبو مرثد الغنوي وابنه مرثد بن أبي مرثد من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، نزلا على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف بـ (قباء)، ويقال: بل نزلا على سعد بن خيثمة.
وآخى النبي ﷺ بين أبي مرثد الغنوي وعبادة بن الصامت، وبين مرثد بن أبي مرثد وأوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت، وعبادة وأخوه أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج من أنصار الخزرج.
وكان مرثد وأبوه في سرية حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي ﷺ التي كانت في شهر رمضان من السنة الأولى الهجرية، فلم يلقوا كيدًا.
وفي مرحلة مسير الاقتراب بين المدينة وموقع بدر، كانت إبل أصحاب رسول الله ﷺ يومئذ سبعين بعيرًا، فاعتقبوها، فكان رسول الله ﷺ وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرًا، فكان إذا كانت عُقبة النبي ﷺ قالا: «اركب حتى نمشي عنك»، فيقول: «ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما».
وكان مع أصحاب النبي ﷺ في غزوة بدر الكبرى فرسان: فرس لمرثد بن أبي مرثد، وفرس للمقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، ويقال: فرس للزبير بن العوام، ولم يكن إلا فرسان، ولا اختلاف أن
المقداد له فرس، ويقال لفرس مرثد: السّبل. وقد ضرب رسول الله ﷺ بسهم للفرس وبسهم لصاحبه، وهناك من يقول: إن رسول الله ﷺ ضرب يومئذٍ للفرس بسهمين، ولصاحبه بسهم.
وقد أبلى مرثد في غزوة بدر بلاءً حسنًا، وشارك في إحراز النصر المؤزر للمسلمين على المشركين، وأسر مرثد في هذه الغزوة أبا ثور أحد المشركين، فافتداه جبير بن مطعم. وهكذا كان مرثد أحد البدريين.
كما شهد مرثد غزوة أُحد مع من شهدها من المسلمين. وبذلك نال مرثد شرف الصحبة، وشرف الجهاد تحت لواء الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.
سرية الرجيع
قدم على رسول الله ﷺ بعد أُحد، في نصف صفر، في آخر تمام السنة الثالثة من الهجرة، والصواب أنه في أوائل السنة الرابعة الهجرية، نفرٌ من عضل والقارة، وهما من الهون بن خزيمة بن مدركة، أخي بني أَسَد بن خزيمة، فذكروا له أن فيهم إسلامًا، ورغبوا أن يبعث نفرًا من المسلمين يفقهونهم في الدين. فبعث رسول الله ﷺ معهم ستة رجال من أصحابه، وقيل: عشرة، وقيل: سبعة، والصحيح أنهم عشرة، سبعة معلومة أسماؤهم في كتب الأحاديث والسير، وثلاثة لم يكونوا من مشاهير القوم. والمذكورون من العشرة هم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وخالد بن البكير الليثي حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأفلح أخو بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وخبيب بن عدي أخو بني جحجبي بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة بن معاوية أخو بني بياضة بن عمرو بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، وأخوه لأمه معتب بن عبيد حليف بني ظفر. وأمّر عليهم رسول الله ﷺ مرثد بن أبي مرثد الغنوي، ويقال: أميرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح.
وخرجت السرية مع القادمين إلى رسول الله ﷺ من عضل والقارة، حتى إذا صارت الرجيع بناحية الحجاز بـ “الهدأة”، غدروا بهم، واستصرخوا عليهم هذيلًا، فلم يرُع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، وقد غشوهم، فأخذ المسلمون سيوفهم ليقاتلوهم، فأمنوهم وأخبروهم أنهم لا أرب لهم في قتلهم، وإنما يريدون أن يصيبوا بهم فداءً من أهل مكة.
فأمّا مرثد، وخالد بن البكير، ومعتب بن عبيد، وعاصم بن ثابت، فأبوا، وقالوا: «والله لا قبلنا لمشرك عهدًا أبدًا”، فقاتلوهم حتى قُتلوا.
وكان عاصم يُكنى: أبا سليمان، فجعل يقاتلهم وهو يقول:
ما علتي وأنا جلدٌ نابلُ
والقوسُ فيها وترٌ عنابلُ
تزلُّ عن صفحتها المعابلُ
الموتُ حقٌّ والحياةُ باطلُ
وكلُّ ما حمَّ الإلهُ نازلُ
بالمرء والمَرَةِ إليه آئلُ
إن لم أقاتلكم فأمضي هابلُ
فرماهم بالنبل حتى فنيت نَبْلُه، ثم طاعنهم بالرمح حتى كُسِر رمحه، فقاتل بالسيف حتى قُتِل، وقد جرح رجلين من المشركين وقتل واحدًا منهم.
ولما قُتل عاصم، أرادت هُذَيْل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نذرت – حين أصاب عاصم ابنيها في بدر – لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنّ في قحفِه الخمر، فمنعته الدَّبْر، فقالت هذيل: «إذا جاء الليل ذهب الدَّبْر»، فأرسل الله تعالى سيلًا لم يُدر سببه، فحمله قبل أن يقطعوا رأسه، فلم يصلوا إليه، وكان قد نذر ألّا يمسّ مشركًا أبدًا، فأبَرَّ الله تعالى قسمه بعد موته، رضوان الله عليه.
وأما زيد بن الدَّثِنَة، وخبيب بن عدي، وعبد الله بن طارق، فأعطَوْا بأيديهم، فأُسروا، فخرجوا بهم إلى مكة، فلما صاروا بـ”مر الظهران” انتزع عبد الله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه. واستأخر عنه القوم، ورموه بالحجارة حتى مات رضوان الله عليه، فقبره بمر الظهران.
وحملوا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، فباعوهما بمكة من قريش بأسيرين كانا بمكة، فابتاع خبيباً حُجير بن أبي إهاب التميمي حليف نوفل لعتبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لأمه، ليقتله بأبيه.
وأما زيد بن الدثنة، فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وبعث به صفوان بن أمية مع مولى له يقال له: نسطاس إلى (التنعيم)، وأخرجه من الحرم ليقتله.
واجتمع رهط من قريش منهم أبو سفيان بن حرب، فقال أبو سفيان حين قدم زيد ليُقتل: «أنشدك الله يا زيد! أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكان نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟»، فقال زيد: «والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي»، فقال أبو سفيان: «ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً»، ثم قتله نسطاس. يرحمه الله.
أما خبيب بن عدي، فحدثت ماوية مولاة حُجير بن أبي إهاب، أنه قال لها حين حضره القتل: «ابعثي إلي بحديدة أتطهر بها للقتل»، فأعطيت غلاماً من الحي الموسى، فقلت له: «ادخل بها على هذا الرجل البيت»، فوالله ما هو إلا أن ولى الغلام بها إليه فقلت: ما صنعت؟ أصاب والله الرجل ثأره، يقتل هذا الغلام فيكون رجلاً برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: «لعمرك ما خافت أمك غدري حيث بعثتك بهذه الحديدة إلي!!» ثم خلى سبيله، وكان الغلام ابنها.
ثم خرجوا بخُبَيْب، حتى إذا جاءوا إلى التنعيم ليصلبوه، قال لهم: «إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا»، قالوا: دونك فاركع، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثمّ أقبل على القوم فقال: «أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعاً من القتل لاستكثرت من الصلاة»، فكان خبيب بن عدي أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين .
ورفعوا خبيباً على خشبة، فلما أوثقوه قال: «اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا»، ثمّ قال: «اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحداً»، ثم قتلوه رحمه الله .
وهكذا صدق مرثد ما عاهد الله عليه فمضى شهيداً في معركة غير متكافئة، تكاثر فيها عليه وعلى رجاله المشركون المتفوقون على أفراد سريته عدداً وعُدداً، فقاتل حتى استشهد مقبلاً غير مدبر، لأنه يدافع عن عقيدته فلا يبالي أن يُقتل أو يَقتل، ولكن يبالي أن يلحق بعقيدته العار، فما قصر في إقدامه مدافعاً عن الإسلام والمسلمين ففاز بالشهادة، وربحت تجارته.
الإنسان والقائد
كان المشركون من قريش يحتجزون المسلمين من قريش ومن غيرها، ليمنعوهم من الهجرة إلى المدينة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً .
وكانوا يطلقون على هؤلاء المسلمين المحتجزين في مكة: الأسرى، وكان مرثد ممن يحملون الأسرى من مكة إلى المدينة لشدته وقوته وشجاعته وإقدامه، إذ كان المسلمون يحاولون بشتى الطرق والأساليب إنقاذ أولئك الأسرى، لإطلاقهم من الأسر، ومنحهم حريتهم الدينية في كنف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة المنورة.
وكان بمكة بغي يقال لها: عناق، وكانت صديقة له في الجاهلية، وكان مرثد قد وعد رجلاً أسيراً من المسلمين بمكة أن يحمله من مكة حتى يأتي به المدينة، فجاء ذات ليلة حتى انتهى إلى حائط من حيطان مكة في ليلة قمراء، فجاءت عناق وأبصرت سواد ظله بجانب الحائط، فلما انتهت إليه عرفته، فقالت: «مرثد؟!»، فقال: «مرثد!»، فقالت: «مرحباً وأهلاً! هلم فبت عندنا الليلة!»، فقال: «يا عناق ! إن الله حرم الزنا!»، فصاحت بأعلى صوتها: «يا أهل مكة! إن هذا يحمل الأسرى من مكة!»، فتبعه ثمانية رجال، فسلك طريق الخندمة، حتى انتهى إلى كهف في الجبل ودخله، وجاء الرجال الثمانية، فوقفوا على باب الكهف، ولكنهم لم يقبضوا على مرثد، فعادوا أدراجهم إلى مكة خائبين، ورجع مرثد إلى صاحبه الأسير بعد عودة الذين طاردوه ولم يفلحوا بالقبض عليه، فحمله، وكان رجلاً ثقيلاً، حتى انتهى إلى الأذاخر، ففكك عنه كَبله، ثم حمله إلى المدينة.
وفي المدينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله! أنكح عناقاً؟»، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه شيئاً، حتى نزلت هذه الآية: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مرثد وقال: (لا تنكحها).
ونسي مرثد صديقته عناقاً إلى الأبد، فقد كان من المؤمنين الصادقين حقا.
ومن حديث مرثد الغنوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن سركم أن تُقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم»، رواه يحيى بن يعلى الأسلمي. وقد روى حديثه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
واستشهد مرثد في سرية الرجيع التي خرجت في شهر صفر سنة أربع الهجرية من المدينة، فاستشهد في أوائل هذه السنة (٦٢٥ م)، وإذا كان أبو مرثد الغنوي قد توفي سنة اثنتي عشرة الهجرية، وعمره يومئذ ست وستون سنة، فمعنى ذلك أنه كان في السنة الرابعة الهجرية في الثامنة والخمسين من عمره، فلا بد أن يكون ابنه مرثد حين استشهد في ريعان الشباب.
ولا نستطيع أن نتبين من سمات قيادته، إلا أنه كان قائداً من قادة العقيدة، داعياً في قيادته وقائداً في دعوته، قوي البدن، يتحمّل المشاق ويصبر على المصاعب، يتحلّى بالضبط المتين والطاعة المطلقة، شجاعاً مقداماً، لا يخشى الموت ويقدم حياته فداءً لعقيدته.
مرثد في التاريخ
يذكر التاريخ لمرثد، أنه أنقذ كثيراً من المسلمين الذين كانوا محتجزين في سجون ومعتقلات قريش بمكة المكرمة. ويذكر له، أنه كان من الدعاة القادة الذين يضحون بروحهم من أجل الدعوة وحمايتها والدفاع عنها وصيانة حرية انتشارها. ويذكر له، أنه ضحى بروحه من أجل عقيدته، ولم يُضح عقيدته من أجل روحه. ويذكر له، أنه نال شرف الصحبة وشرف الجهاد تحت لواء الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام جندياً وقائداً وداعياً.
رضي الله عن الصحابي الجليل المجاهد البطل، القائد الشهيد، مرثد بن أبي مرثد الغنوي.