هو محمد بن مَسْلَمَة الأَوْسِي الأنصاري فارس نبي الله صلى الله عليه وسلم
نسبه وأيامه الأولى
محمد بن مَسْلَمَة بن سَلَمَة بن خالد بن عَدِيّ بن مَجْدَعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو، وهو النبيت بن مالك من الأوس، حليف بني عبد الأَشْهَل من الأوس أيضاً.
وأمه أم سهم، واسمها خُلَيْدَة بنت أبي عُبَيْدِ بن وَهْب بن لَوْذان بنعبد ود بن زيد بن ثَعْلَبَة بن الخَزْرَج بن ساعدة بن كعب من الخزرج.
ويكنى أبا عبد الرحمن، وقيل: بل يكنى أبا عبد الله، ويبدو كان يكنى أبا عبد الرحمن وهو ولده الأكبر، فمات عبد الرحمن فأصبح يكنى أبا عبد الله، وهذه هي عادة العرب قديماً وحديثاً، يكنون باسم ولدهم الأكبر، فإذا مات فكنوا باسم ولدهم الذي يليه بالكبر .
أسلم محمد بالمدينة على يدِ مُصْعَب بن عُمَيْر قبل إسلام أُسَيْد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهم، وهو ممن سُمي في الجاهلية محمدا، لما كان يبلغهم أنه يُبعث في العرب نبي يقال له : محمّد صلى الله عليه وسلم، وكان أهل الأديان السابقة ومنها من كان في المدينة يتحدّثون بقرب ظهور نبي من العرب، مما يدل على استعداده واستعداد أهله لاعتناق الدين الجديد.
وقد أخى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بين محمد بن مَسْلَمة وأبي عُبَيْدة بنالجراح ولما بدأ الجهاد العملي بين المسلمين من جهة والمشركين ويهود من جهة أخرى شهد محمد بَدْراً والمشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – عدا غزوة تبوك، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة حين خرج إلى تبوك، ولكنه شارك بماله في هذه الغزوة، إذ حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالا، وهو ما تيسر لديه يومئذ مشاركاً في جيش العُسْرَة.
وسنلمس بوضوح مبلغ جهاده وجهوده في الغزوات والسرايا وشيكاً.
في الغزوات
وشهد محمد بن مسلمة غزوة بني قينقاع من يهود، ويبدو أنه أبلى فيها بلاء حسناً، فكرّمه النبي صلى الله عليه وسلم، ووهب له درعاً من دروعهم، كما أنه تولى إجلاء هم وقبض أموالهم.
وكان له مواقف مشرفة في غزوة (أحد)، فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم الحرس، وكان يطوف حول العسكر وفي العسكر، في خمسين رجلا، وكان فيمن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حين ولى الناس، فقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر صبروا معه، أربعة عشر رجلاً، سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار، منهم محمد بن مَسْلَمة.
قال محمد بن مسلمة: سمعت أُذُناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: إليَّ يا فلان! إليَّ يا فلان! أنا رسول الله ! فما عرّج منهما واحد عليه ومضيا، فقد كان الموقف عصيباً إلى أبعد الحدود.
وبعد أن عاد المسلمون إلى المدينة ليلاً بعد يوم أحد، خرج محمد بن مَسْلَمَة يطلب مع النساء ماء. وكن قد جئن أربع عشرة امرأة، منهنّ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحملن الطعام والشراب على ظهورهن ويسقين الجرحى ويداوينهم، وهكذا لم يقتصر نشاط محمد بن مسلمة على القتال، بل امتد نشاطه إلى القضايا الإدارية أيضاً، فقد أشرف على العملية الإدارية التي نهض بها نساء المسلمين، فلما لم يجد عندهم ماء وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عطش يومئذ عطشاً شديداً ذهب ابن مسلمة إلى قناة وأخذ سقـاءة حتى استقى من حسي، فأتى بماء عذب، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لمحمد بن مسلمة بخير.
وفي غزوة بني النضير من يهود التي كان سببها المباشر محاولة يهود الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وكان يومئذ في زيارتهم لمعاونته في تحمل ديتين لرجلين قتلهما أحد المسلمين ورجع النبي صلى الله عليه وسلم من بني النضير إلى المدينة وتبعه أصحابه فأرسل إلى محمّد بن مَسْلَمَة يدعوه، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله ! قمتَ ولم نشعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “همت يهود بالغدر بي”.
وجاء محمد بن مسلمة، فقال: اذهب إلى يهود بني النضير، فقُلْلهم : “إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلده”.
ولما جاءهم ابن مسلمة قال لهم: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم ليقول لكم : قد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي… ويقول: اخرجوا من بلدي، فقد أجّلتكم عشراً، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه»،
قالوا: يا محمد! ما كنا نرى أن يأتي بذلك رجل من الأوس ! !
وكان الأوس حلفاء بني النضير .
وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي إخراجهم محمّد بن مَسْلَمة، كما ولي قبض أموالهم وسلاحهم.
ولم يكن تكليف محمّد بن مسلمة بتبليغ بني النضير بالجلاء وتوليته إجلاءهم وإخراجهم من ديارهم وقبض أموالهم وسلاحهم، إلا لأنه من الأوس حلفاء بني النضير فأثبت محمد بن مسلمة أن ولاءه للإسلام وحده. لا لأعداء الإسلام حتى ولو كانوا من حلفائه المقربين إلى قومه، وبذلك حلت مثل الإسلام مكان تقاليد الجاهلية وكان ما فعله محمد بن مسلمة اختباراً عملياً لإيمانه العميق بالمُثل الإسلامية الجديدة وتخليه نهائياً عن تقاليد الجاهلية البالية.
وفي غزوة (دُوْمَة الجَنْدَل ) تفرق المشركون، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم، فلم يجد بها أحداً، فأقام بها أياماً وبث السرايا وفرقها حتى غابوا عنه يوماً ثم رجعوا إليه، ولم يصادفوا منهم أحداً. إلا أنَّ محمد بن مسلمة أخذ رجلاً منهم، فأتى به النبي ، فسأله عن أصحابه ، فقال: هربوا أمس حيث سمعوا بأنك قد أخذت نعمهم، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أياماً، فأسلم الرّجل، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وشهد محمد بن مسلمة الخندق، فأقبل خالد بن الوليد في ليلة من ليالي تلك الغزوة في مائة فارس أقبلوا حتى وقفوا وجاه قبة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنذر محمد بن مَسْلَمة قائد حرس النبي صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر.
وأقبل خالد في ثلاثة نَفَرٍ هو رابعهم، فقال: «هذه قبة محمد! ارموا… ارموا . . . » . فقاومهم محمد بن مَسْلَمَة، حتى وقف ومن معه من المسلمين على شفير الخندق، وخالد ومَنْ معه بشفير الخندق من الجانب الآخر، حتى ردّهم المسلمون لم ينالوا خيرا.
وذكر محمد بن مسلمة، أنه كان مع قسم من المسلمين حول قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرسونه، إذ وافت أفراس على (سَلْع)، فبصر بهم عباد بن بشر، فأخبرهم بهم، فمضى إلى الخيل، وعباد قائم على باب قبة النبي صلى الله عليه وسلم آخذاً بقائم السيف ينتظر عودة محمد بن مسلمة إلى موضعه في حراسة قبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول ابن سَلَمَة : «كان ليلنا بالخندق نهاراً، حتى فرجه الله، يريد أنهم يسهرون الليل كله خوفاً من مباغتة قريش لهم وحرصاً على سلامةالنبي والمسلمين.
وفي غزوة بني قُرَيْظَة من يهود، كان محمد بن مَسْلَمَة أحد فرسان المسلمين، وقد ذكر أن المسلمين حاصروهم قبل الفجر، وجعلوا يدنون من الحصن ويرمونهم عن كتب، ولزموا حصونهم لا يفارقونها حتى حل المساء، والنبي صلى الله عليه وسلم يحضهم على الجهاد والصبر. وبات المسلمون حول حصون يهود حتى تركوا قتال المسلمين وطلبوا أن يفاوضوا النبي صلى الله عليه وسلم، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على المفاوضة ، فأنزلوا نباش بن قيس أحدهم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، وقال: يا محمد! ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير : لك الأموال والسلاح وتحقن دماءنا ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري، ولنا ما حملت الإبل إلا السلاح، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : ولا حاجة لنا فيما حملت الابل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، إلا أن تنزلوا على حكمي”.
واشتد حصار المسلمين لبني قريظة، وكان محمد بن مسلمة على حرس النبي صلى الله عليه وسلم، فمر بالحرس عمرو بن سُعْدَى الذي لم يشايع بني قومه من يهود على نقضهم عهودهم فقال ابن مَسْلَمَة: «مَنْ هذا؟»، فقال: «عمرو بن سعدی»، فقال ابن مَسْلَمَة : مُرَ! اللهم لا تحرمني من إقالة عشرات الكرام، فخلى سبيله. وخرج حتى أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبات به حتى أصبح، فلما أصبح غدا فلم يُذرَ أين هو حتى الساعة، فسُئِل رسول الله عنه فقال: ذلك رجل نجاه الله بوفائه.
ولما جهدهم الحصار نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسراهم فكتفوا رباطاً، وجعل على كتافهم محمد بن مَسْلَمَة ووصف محمد بن سلمة الموقف الراهن فقال:
وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس و دنت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ! حلفاؤنا دون الخزرج، وقد رأيت ما صنعت ببني قينقاع بالأمس، حلفاء ابن أبي وهبت له ثلاثمائة حاسر وأربعمائة دارع، وقد ندم حلفاؤنا على ما كان من نقضهم العهد فهبهم لنا!
ورسول الله ساكت لا يتكلم، حتى أكثروا عليه وألحوا ونطقت الأوس كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم؟ قالوا : بلى قال فذلك إلى سَعد بن مُعاذ.
وسعد يومئذٍ في المسجد في خيمة يداوي جرحه.
وجاء سعد، فأكثر عليه الأوس، فقال: قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، وأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: «أحكم فيهم أن يُقتل من جرت عليه المُوسَى، وتُسْبَى النّساء والذرية، وتقسم الأموال»،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت بحكم الله عزّ وجلّ من فوق سبعة أرقعة”. . بهم الحُكْمُ العادل فنفذ وابتاع محمد بن مُسْلَمَة من السبي ثلاثة : امرأة معها ابناها، بخمسة وأربعين ديناراً، وكان ذلك حقه وحق فرسه من السني والأرض والرثة،
وكان أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للفارس ثلاثة سهم : له سهم ولفرسه سهمان. وشهد محمد بن مسلمة غزوة (الحُدَيْبِيَّة)، فكان أحد فرسان الطليعة التي قدمها رسول الله بإمرة عباد بن بشر والمؤلفة من عشرين فارساً .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالحديبية يتحارسون الليل، فكان من أصحابه ثلاثة يتناوبون الحراسة أحدهم محمد بن مَسْلَمَة. وكان ابن مسلمة على فرس النبي ليلة من تلك الليالي، وعثمان بن عفان بمكة بعد، وقد كانت قريش بعثت ليلاً خمسين رجلاً، وأمروهم أن يطيفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يُصيبوا منهم أحداً أو يُصيبوا منهم غِرَّةً، فأخذهم مَسْلَمَة وأصحابه، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان بمكة قد أقام بها ثلاثاً يدعو قريشاً، وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله له على أهليهم، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان وأصحابه قد قتلوا، فذلك حين دعا إلى البيعة تحت الشجرة على الموت.
وبلغ قريشاً حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة وأسروا حينئذ من المشركين أسرى.
وعندما عُقد صلح الحُدَيْبِيَّة بين المسلمين وقريش، كان محمد بن مَسْلَمَة أحد الشهود المسلمين على عقد الصلح مع جماعة من المسلمين منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً.
وشهد محمد بن مَسْلَمَة غزوة ( خَيْبَر )، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم بريئاً من الوباء، نأمن فيه بياتهم»، فطاف ابن مسلمة حتى انتهى إلى (الرَّجيع)، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلا فقال: «وجدت لك منزلاً»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على بركة الله»، فلما أمسى رسول الله تحول وأمر الناس فتحوّلوا إلى الرَّجيع “.
وقد شارك محمد بن مَسْلَمة في قطع النخل الذي يحيط بحصن (النَّطاة) أحد حصون خَيبر، فكان ينظر إلى صَوْر من كبيس ويقول : «أنا قطعت هذا الصَّوْر بيدي حتى سمعت بلالاً ينادي عـزمـة مـن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يُقطع النخل ! فأمسكنا.
وكان محمود بن مَسْلَمَة أخو محمد بن مَسْلَمَة يقاتل مع المسلمين يومئذ، وكان يوماً صائفاً شديد الحرّ، وهو أوّل يوم قاتل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل حصن النّطاة وبها بدأ، فلما اشتد الحر على محمود وعليه أداته كاملة، جلس تحت حصن ناعم يبتغي فَيْتَه، ولا يظن محمود أن فيه أحداً من المقاتلة، إنما ظن أنّ فيه أثاثاً ومتاعاً وناعم يهودي وله حصون ذوات عدد، فكان هذا منها – فدلّى عليه مَرْحب اليهودي رحى، فأصاب رأسه، فاستشهد في المعركة. يقول :
وخرج مرحب اليهودي من حصنهم قد جمع سلاحه يرتجز وهو يقول:
قد عَلِمَتْ خَيْبَر أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السَّلاحِ بطلٌ مُجَرَّبُ
أطعن أحياناً وحيناً أَضْرِبُ يُحْجِمُ عن صَوْلَتِي المجرب
وهو يقول: «مَن يبارز؟» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لهذا؟»، فقال محمّد بن مَسْلَمَة : «أنا له يا رسول الله! أنا والله الموتور الثائر، قُتل أخي بالأمس، فقال: «فَقُمْ إليه ! اللّهم أَعِنْهُ عليه».
فلما دنا أحدهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عُمْرِيّة من شَجَر العُشَرِ، فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم، ما فيها فنن، ثم حمل مرحب على محمّد بن مَسْلَمة فضربه، فاتقاه بِدَرَقة فوقع سيفه فيها، فعَضَّتْ به فأمسكته وضربه محمّد بن مَسْلَمَة حتى قتله .
والصحيح الذي عليه أكثر أهل السِّير وأهل الحديث أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه هو الذي قتل مرحباً اليهودي بخيبر وبرز أسير اليهودي. وكان رجلاً أيَّداً، وكان إلى القصر، فجعل يصيح: «مَنْ يبارز؟»، فبرز له محمد بن مَسْلَمَة، فاختلفا ضربات، ثم قتله محمدمَسْلَمَة.
وكان يهود خيبر في حصونهم يرمون المسلمين بالسهام، ويحاولون قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان محمّد بن مَسْلَمة فيمن ترس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن مَسْلَمَة : كنتُ فيمن تَرَّس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت أصيح بأصحابه: تراموا بالحَجَف ففعلوا، فرمونا حتى ظننتُ ألا يقلعوا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بسهم، فما أخطأ رجلاً منهم، وتبسم إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفرجوا ودخلوا الحصن.
وحين استسلم أحد الحصون عَنْوة للمسلمين، دفع النبي صلى الله عليه وسلم كِنَانَة .أبي الحقيق إلى محمّد بن مَسْلَمة، فقتله بأخيه الشهيد محمود بن مسلمة الذي استشهد في تلك الغزوة، وأخذ سهمه من الأرض واشترى من غيره أيضاً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خَيْبَر سأله يهود، فقالوا: يا محمد! نحن أرباب النخل وأهل المعرفة بها ، فساقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْبَر على شطر من التمر والزرع،
وكان يُزرع تحت النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقركم على ما أقركم الله، فكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تُوفّي، وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر بن الخطاب، ثم أجلى عنها يهود، وبقي محمد محافظاً على ما يملك من أرض خَيْبَر.
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عُمْرَة القَضِية (غزوة القضية) فانتهى إلى (ذي الحليفة) قدم الخيل أمامه وهي مائة فرس، واستعمل عليها محمد بن مَسْلَمة وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يُلبي والمسلمون يلبون، ومضى محمد بن مَسْلَمَة بالخيل إلى مَرّ الظَّهْران، فوجد بها نفراً من قريش، فسألوا محمّد بن مَسْلَمَة فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصبح هذا المنزل غداً إن شاء الله ! » .
فرأوا سلاحاً مع بشير بن سعد، فخرجوا سراعاً حتى أتوا قريشاً فقالوا : والله ما أحدَثنا حَدَثاً، ونحن على كتابنا ومدتنا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه؟!». ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن (يَأجَج) حيث ينظر إلى أنصاب الحرم. وبعثت قريش مِكْرَز بن حَفْص بن الأحنف في نفر من قريش، حتى لقوه ببطن يَأجَج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والهَدْي والسلاح قد تلاحقوا، فقالوا: يا محمد ! والله ما عُرِفتَ صغيراً ولا كبيراً بالغدر! تدخل بالسلاح الحَرَمَ على قومك، وقد شرطتَ ألا تدخل إلا بسلاح المسافر: السيوف في القُرب،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ندخلها إلا كذلك .
وهكذا بذل محمّد بن مَسْلَمَة قصارى جهوده وغاية جهاده في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم جندياً من جنود المسلمين، وقائداً مرءوساً من قادتهم الذين عملوا تحت راية الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.
قائد السرايا
سريته إلى كعب بن الأشرف اليهودي
وكان ذلك في شهر ربيع الأول من السنة الثالثة الهجرية (٦٢٤ م) . ولما اتصل بكعب بن الأشرف – وهو رجل يهودي من نبهان من طييء، وأمّه من بني النَّضِير – قتل صناديد قريش ببدر قال: «بطن الأرض خير من ظهرها».
ونهض ابن الأشرف إلى مكة، فجعل يرثي قتلى قريش، ويحرض على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ويُشبب بنساء المسلمين قصداً لإيذاء أزواجهن، وكان شاعراً، ثم عاد من مكة إلى المدينة فلم يزل يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعو إلى خلافه ويسب المسلمين حتى آذاهم أعظم الأذى،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لي بابن الأشرف، فإنّه يؤذي الله ورسوله والمؤمنين؟»، فقال له محمد بن مَسْلَمَة: «أنا له يا رسول الله أنا أقتله إن شاء الله»، فقال: فافعل إن قدرت على ذلك».
ومكث محمّد بن مَسْلَمَة أياماً مشغول النفس بما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه في قتل ابن الأشرف فانتدبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتدب معه سلكان بن سلامة بن وفش أبا نائلة أحد بني عبد الأشهَل،
وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن مُعَاذ، وهما من بني عبد الأشهل، وأبا عَبْس بن جَبر أخا بني حارثة، وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا غير ما يعتقدون، على سبيل جواز ذلك في الحرب.
وقدموا إلى ابن الأشرف سلكان بن سلامة، فقصد له وأظهر له موافقته على الانحراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشكا إليه ضيق حالهم، وكلّمه في أن يبيعه وأصحابه طعاماً، فَيَرْهَنُوه سلاحهم، فأجابهم إلى ذلك.سلكان إلى أصحابه فخرجوا إلى ابن الأشرف اليهودي، ورجع وشيعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى (بقيعِ الغَرْقَد) في ليلة مقمرة، فأتوا كعباً، فخرج إليهم من حِصْنِه فَتَماشَوْا، فوضعوا عليه سيوفهم، ووضع محمد بن مَسْلَمَة مِغْوَلاً كان معه في ثنته فقتله .
وصاح ابن الأشرف صيحة شديدة انذعر بها أهل الحصون حواليه، فأوقدوا النيران دون جدوى. وجُرح الحارث بن أوس في رِجْلِه ببعض سيوف أصحابه أو في رأسه، فَنَزَفَهُ الدم، وتأخر قليلاً عن أصحابه، الذين سلكوا على بني أُمَيَّة بن زيد إلى بني قريظة، إلى (بُعَاث)، إلى (حَرّة العُريض)، فانتظروا صاحبهم الحارث هناك حتى وافاهم فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الليل وهو يُصلي، فأخبروه بقتل ابن الأشرف .وهكذا انتهت حياة أحد أعداء المسلمين الذي آذاهم وحرّض عليهم كثيراً .
سريته إلى القُرَطاء :
خرج محمد بن مسلمة من المدينة المنورة لعشر ليال خلون من شهر المحرّم على رأس تسعة وخمسين شهراً من مُهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في السنة السادسة الهجرية بعثه في ثلاثين راكباً إلى القُرَطاء. والقُرَطاء بنو قُرْط وقُرَيْط بنو عبدالله بن أبي بكر بن كلاب، وهم بطن من بني من كلاب وكانوا ينزلون (البكرات) بناحية (ضَرِيَّة )، وبين ضَرِيّة والمدينة سبع ليال .بكر.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مَسْلَمَة أن يشن على القُرطاء الغارة، فسار الليل، وكمن النّهار ؛ وأغار عليهم، فقتل نفراً منهم وهرب سائرهم واستاق نَعَماً وشَاء، ولم يطارد الذين هربوا من القُرطاء.
وانحدر محمد بن مَسْلَمَة إلى المدينة فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، وأخذ أصحاب ابن مسلمة ما بقي فعدّلوا الجزور بعشر من الغنم، وكانت النعم مائة وخمسين بعيراً، والغنم ثلاثة آلاف شاة، وغاب تسع عشرة ليلة، وقدم لليلة التي بقيت من المحرم.
وقد استطاع محمد بن مسلمة بهذه العملية السريعة الخفيفة، أن يباغت العدو مباغتة كاملة ،بالزمان فانتصر عليه بسهولة ويسر انتصاراً ساحقاً.
سريته إلى ذي القصة:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مَسْلَمَة إلى (ذي القَصَّة) في شهر ربيع الآخر سنة ست الهجرية في عشرة نفر إلى بني تعلية وبني عوال من ثعلبة بن سعد، وهم بذي القصَّة، وبينها وبين المدينة أربعة وعشرون ميلاً على طريق (الرَّبَذَة)، فورد المسلمون عليهم ليلاً، فأحدق بهم القوم وهم مائة رجل، فتراموا ساعة من الليل، ثمّ حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوا المسلمين .ووقع محمد بنمَسْلَمَة جريحاً، فضُرب كعبه فلا يتحرك، وجرد المشركون المسلمين من الثياب فمرّ بمحمّد بن مَسْلَمَة رجل من المسلمين، فحمله على بعيره حتى ورد به المدينة المنوّرة .
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا عُبَيْدَة بن الجراح في أربعين رجلاً إلى مصارع القوم، فلم يجدوا أحداً، ووجدوا نَعَماً وشاء فساقه ورجع إلى المدينة. وقد نجا محمد بن مَسْلَمَة من الموت، لأن المشركين بعد إصابته بجروح بليغة، ظنوا أنه قد قضى نحبه كسائر أفراد سريته، ولكنه لم يكن قد مات، فنجا من الموت ليواصل خدمة الإسلام والمسلمين، من جديد.
مع الخلفاء الراشدين
مع عمر رضي الله عنه
كان محمّد بن مَسْلَمَة صاحب العمّال أيام عمر بن الخطاب، ـ فكان عمر إذا شُكِيَ إليه عامل أرسل محمّداً يكشف الحال، فكان يشغل منصب المفتش العام للولاة حسب المصطلحات الإدارية الحديثة .
وقد أنشأ سعد بن أبي وقاص لسكناه داراً في الكوفة من نقض آجر قصر كان للأكاسرة في ضواحي مدينة (الحِيْرَة)، وكانت الأسواق قريبة من داره، وكانت الأصوات المرتفعة تمنع سعداً الحديث؛ فلما أُنجز بناء الدار، ادعى الناس عليه ما لم يقُل، فقالوا : قال سعد: «سَكن عني الصُّوَيت». وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وأن الناس يسمّون داره قصر سعد! فدعا محمّد بن مسلمة وأرسله إلى الكوفة وقال له : «اعْمَدْ إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك.
وخرج محمد بن مَسْلَمَة من المدينة إلى الكوفة، فلما قدم الكوفة اشترى حطباً، ثم أتى دار سعد، فأحرق الباب.
وأتي سعد، فأخبر الخبر، فقال: «هذا رسول أرسل لهذا الشأن»، وبعث لينظر مَنْ هو الذي حرق باب داره فإذا هو محمّد بن مَسْلَمَة، فأراده على النزول والدخول فأبى، فعرض عليه نفقة، فلم يأخذ شيئاً.
وخرج سعد إلى محمّد بن مَسْلَمَة، فدفع ابن مَسْلَمَة كتاب عمر إلى سعد: بلغني أنك بنيت قصراً اتخذته حصناً، ويُسمى: قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس باباً، فليس بقصرك ولكنه قصر الخَبَال. انزل منه منزلاً مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر باباً تمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت فحلف سعد ما قال الذي قالوا !! .
ورجع محمد بن سعد من الكوفة إلى المدينة، حتى إذا دنا من المدينة نفد زاده، فجعل يأكل قشر الشجر، فأقبل على عمر وقد مرض لسبب ذلك، فأخبره خبره كله فقال عمر: هلا قبلت من سعد!؟»، فقال محمد بن مَسْلَمَة : «لو أردتَ ذلك، كتبت لي به، أو أذنت لي فيه»، فقال عمر : إن أكمل الرجال رأياً مَنْ إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه، عمل بالحزم أو قال به .
وأخبر ابنُ مَسْلَمَة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بيمين سعد، وقوله، فقال عمر: «هو أصدق ممن روى عليه وممن أبلغني»، وقد حدث ذلك سنة سبع عشرة الهجرية (٦٣٨ م) .
اتهم نفر من بني (أسد) سعداً في دينه وصلاته وعدله!! فشكوه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أحرج أوقات الفتح الإسلامي، فقد اجتمعت قوى الفرس كلّها في (نَهَاوند) . وأخذ المسلمون والفرس يستعدون لخوض معركة حاسمة، خاصة وأن سعداً هو القائد العام، وهو المسؤول الأول عن الفتح في الشرق.
وقال عمر لأولئك النفر : إنّ الدليل على ما عندكم من الشر، فهو منكم في هذا الأمر وقد استعدّ لكم مَنْ استعدّ وايم الله، لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم، وإن نزلوا بكم». ثم بعث محمد بن مَسْلَمَة للتحقيق.
وقدم ابن مَسْلَمَة الكوفة، فأجرى التحقيق مع سعد بن أبي وقاص علناً، ذلك أنّه كان يأخذ سعداً من مسجد إلى مسجد من مساجد الكوفة، ويسأل الناس عنه وعن سيرته فيهم علناً، فيقولون: لا نعلم إلا خيراً، ولا نشتهي به بديلاً .
ووصل ابن مَسْلَمَة بسعد إلى الجماعة التي كانت تمالىء أصحاب الشكوى على سعد، فلم تجرؤ أن تطعن عليه أو تقول فيه سوءاً.
وانتهى ابن مَسْلَمَة بسعدٍ إلى مسجد بني عبس، فقال محمد بن مَسْلَمَة: أنشد الله رجلاً يعلم حقاً إلا قال، فقال أسامة بن قتادة: «اللهم إن نشدتنا، فإنّه لا يقسم بالسوية، ولا يعدِلُ في الرعية، ولا يغزو في السرية»، فقال سعد: اللهم إن كان قالها كاذباً ورثاء وسمعة، فأغمِ بصره، وأكثر عياله، وعرّضه لمضلات الفتن فعمي واجتمع عنده عشرة بنات،
وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يجسّها، فإذا عُثِر عليه قال: «دعوة سعد الرجل المبارك».
وقال سعد: إني لأوّل رجل أهرق دماً من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أَبَوَيْه وما جمعهما لأحدٍ قبلي، ولقد رأيتني خُمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أصلي، وأنّ الصَّيدَ يُلهيني.
وخرج محمد مَسْلَمَة بسعد وبخصومه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم حتى قدموا عليه فأخبره الخبر فقال: «يا سعد! ويحك كيف تُصَلِّي؟»، قال سعد: «أُطيلُ الأوليين وأحذف الأخريين»، فقال عمر: هكذا الظنّ بك، ثمّ قال: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بينا.
وعزل عمر سعداً سنة إحدى وعشرين الهجرية (٦٤١ م) وولى عمار بن ياسر مكانه ولم يعزل سعداً عن عجز أو خيانة، كما قال عمر فاتهم أهل الكوفة عمّار بن ياسر بالضعف وأنّه لا علم له بالسياسة، فعزله عمر وهو يقول: مَنْ عذيري من أهل الكوفة إن استعملت عليهم القوي فجروه، وإن وليتُ عليهم الضعيف حقروه ! » .
وكان عمر بن الخطاب يرسل محمد بن مَسْلَمَة إلى عماله ليأخذ شطر أموالهم لثقته به، وقد بعثه عمر إلى عمرو بن العاص عامله على مصر، فقاسمه ماله.
لقد كان عمر يكتب أموال عماله إذا ولاهم، ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك، وربما أخذه فكتب إلى عمرو بن العاص : أنّه قد فَشَتْ لك منهم، فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم يكن حين وليت مصر»، فكتب إليه عمرو : «إن أرضنا أرض مزدرع ومتجر ، فنحن نصيب فضلاً عما نحتاج إليه لنفقتنا»، فكتب إليه : «إني قد خبرتُ من عمّال السّوء ما كفى، وكتابك إليّ كتاب مَنْ أقلقه الأخذ بالحق، وقد سُؤْتُ بك ظناً، وقد وجهت إليك محمد بن مَسْلَمَة ليقاسمك مالكَ فاطلعه طلعه وأخرج إليه ما يطالبك، وأغفه من الغلظة عليك، فإنّه برح الخفاء، فقاسَمَه ماله .
وقال عمرو: «إنّ زماناً عاملنا فيه ابنُ حَنْتَمة هذه المعاملة لزمان سوء. لقد كان العاص يلبس الخزّ بكفاف الديباج، فقال محمد بن مَسْلَمة : مه! لولا زمان ابن حَنْتَمَة، هذا الذي تكرهه ألفيتَ مُعْتَقِلاً عَنْزاً بفناء بيتك، يسرّك غزرها، ويسوءك بكوءها»، فقال: أنشدك الله أن تخبر عمر بقولي، فإن المجالس بالأمانات»، فقال: «لا أذكر شيئاً مما جرى بيننا، وعمر حي».
لقد كان عمر إذا أحبّ أن يُؤتى بالأمر كما يريد، بعث محمد بن مَسْلَمَة، وكان معداً لكشف الأمور المعضلة في البلاد.
ويمكن أن نتصوّر مبلغ عفّة محمّد بن مسلمة ونزاهته وذكائه وقوة شخصيته وثقته بنفسه والتزامه المطلق بقول الحق وإقراره، بحيث إن عمر بن الخطاب وهو من هو أمانة وحرصاً على مصلحة المسلمين يعتمد عليه اعتماداً بلا حدود في قضايا الولاة ومحاسبة المنحرفين منهم محاسبة لا هوادة فيها، كما استعمله على صدقات بني جُهَيْنَة، مما يدل على أنه كان مثالياً في عفته ونزاهته متفوقاً في ذكائه وقوة شخصيته، واثقاً بنفسه أعظم الثقة ملتزماً بقول الحق أشدّ الالتزام وتلك ثمرة من ثمرات إيمانه العميق بعقيدته وعمله بهذه العقيدة وإخلاصه في عمله .
مع عثمان رضي الله عنه
تصاعد شغب قسم من النّاس على ولاتهم سنة خمس وثلاثين الهجرية (٦٥٥ م) بدس عبد الله بن سبأ الذي كان يهودياً وأسلم أيام عثمان، ثم تنقل بالحجاز ثم بالبصرة ثمّ بالكوفة ثم بالشام يريد إضلال الناس، فلم يقدر منهم على ذلك، فأخرجه أهل الشام، فأتى مصر، وأقام فيهم وقال لهم: العَجَب ممن يُصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمداً
يرجع، فوضع لهم الرّجعة، فقبلت منه ثم قال لهم بعد ذلك: «إنّه كان لكل نبي وصي، وعلي وصي محمّد، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووثب على وصيّته، وإن عثمان أخذها بغير حق، فانهضوا في هذا الأمر وابدأوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس».
وبث دعاته، وكاتب مَنْ استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا بالسر إلى ما هو عليه رأيهم وصاروا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيب ولاتهم، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا : إنا لفي عافية مما فيه الناس !! .
وأتى أهل المدينة عثمانَ فقالوا: يا أمير المؤمنين! أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟»، فقال: «وما جاء إلا السلامة وأنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا علي. قالوا نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق بهم إلى الأمصار، حتى يرجعوا إليك بأخبارهم..
ودعا عثمان محمّد بن مَسْلَمَة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عَمَّار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام، وفرّق رجالاً ،سواهم فرجعوا جميعاً فقالوا : ما أنكرنا شيئاً أيها الناس ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم.
لقد كان محمد بن مسلمة موضع ثقة عثمان كما كان موضع ثقة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهم. جميعاً من قبله، كما كان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة، فانتدبه عثمان إلى أخطر الثغور الإسلامية: الكوفة، لينقل إليه آلام الناس وآمالهم، فما وجد ابن مسلمة ولا وجد غيره من الموفدين، ما كان يذيعه المغرضون بل وجدوا الأمور تدعو إلى الاطمئنان .
وخرج أهل مصر وأهل الكوفة وأهل البصرة، وأظهروا أنهم يريدون الحج، فلما كانوا من المدينة على ثلاث تقدّموا إلى معسكرات قريبة من المدينة، ثم اقتحموا المدينة. فلما جاءت الجمعة التي على أثر دخولهم المدينة، خرج عثمان فصلّى بالناس، ثم قام على المنبر فقال: «يا هؤلاء! الله الله ! فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنّكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فامحوا الخطأ بالصواب»، فقام محمد بن مَسْلَمَة فقال: أنا أشهد بذلك .
وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صُرع على المنبر مغشياً عليه، فأدخل داره واستنجد عثمان بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأمر الناس بالركوب إلى معسكر أهل الفتنة الذين يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عمّا يكرهون، فركب معه من المهاجرين والأنصار ثلاثون رجلاً، فأتوا المصريين وكلّموهم، وكان الذي يكلمهم علي ومحمد بن. مَسْلَمَة، فسمعوا مقالتهما ورجعوا إلى مصر، فقال قائد المصريين لمحمد بن مَسْلَمَة : «أتوصينا بحاجة؟». قال: «نَعَم، تتقي الله ، وتَرُدَّ مَنْ قبلِكَ عن إمامهم، فإنّه قد وعدنا أن يرجع وينزع. فقال: «أفعلُ إن شاء الله».
وعاد المصريون إلى مصر، ولكنّهم رجعوا ثانية من الطريق إلى المدينة، كما عاد الكوفيون والبصريون فخرج إليهم محمد بن مسلمة وسألهم عن سبب عودتهم، فأخرجوا له صحيفة في أنبوبة رصاص يأمر فيها عثمان عماله بجلد قادتهم وحلق رؤوسهم ولحاهم وصلب بعضهم .
ولما عاد أهل مصر أخبروا بذلك محمّد بن مسلمة وقالوا له: «قد كلمنا عليا ووعدنا أن يكلمه، وكلّمنا سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، فقالا: لا ندخل في أمركم، وقالوا لمحمّد بن مَسْلَمَة : ليحضر مع علي عند عثمان بعد الظهر، فوعدهم بذلك.
ودخل علي ومحمد بن مَسْلَمَة على عثمان، فاستأذنا للمصريين عليه، وعنده مروان بن الحكم، فقال: دعني أكلمهم»، فقال عثمان: اسكت فضَ الله فاك ! ما أنت وهذا الأمر؟ اخرج عني»، فخرج مروان.
وقال علي ومحمّد بن مَسْلَمة لعثمان ما قال المصريون، فأقسم بالله ما كتبته ولا علم لي، به فقال محمد بن مسلمة: «صدق، هذا من عمل مروان».
ودخل عليه المصريون فلم يسلموا عليه بالخلافة، وقالوا له من جملة ما قالوا: وخرجنا من مصر ونحن نريد قتلك، فردنا علي ومحمد بن مَسْلَمَة وضَمِنَا لنا النزوع عن كل ما تكلّمنا فيه، فرجعنا إلى بلادنا، فرأينا غلامك وكتابك وعليه خاتمك تأمر عبد الله بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس . وحلف عثمان أنه ما كتب ولا أمر ولا عَلِم فقال علي ومحمد بن مسلمة: «صدق عثمان»، ولكنّ المصريين رفضوا التراجع عن موقفهم إلا إذا استقال عثمان من الخلافة، فإذا أبى فإنّهم يقتلونه .
وحصر المصريون عثمان، فما برحوا محاصريه حتى قتلوه. لقد بذل محمد بن مَسْلَمة قصارى جهده ليحول دون الفتنة، ووقف مواقف شجاعة مخلصة ليقول كلمة الحق أمام الحشود الغاضبة، وبخاصة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، حين صدق عثمان في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الحشود ملعونة، فاعتدت تلك الحشود على عثمان وهو على المنبر حتى فقد وعيه وحُمِل إلى داره، فما سكت ابن مسلمة عن الحق ولا خشي غضبة الحشود عليه. وما قصر في نصح عثمان ولا في نصح تلك الحشود، ولكن الفتنة كانت أقوى من محاولاته ومحاولة غيره من المؤمنين الصادقين ويبدو أن الأيدي الخفية التي لا تريد خير المسلمين هي التي كانت تحرك بمهارة تلك الحشود، فانهارت محاولات ابن مَسْلَمَة المخلصة الواعية الدائبة، وحققت الأيدي الخفية من أعداء الإسلام أهدافها في تفرقة كلمة المسلمين وإشاعة الفتنة بينهم وأنْهَتْ حياة عثمان رضي الله عنه فمضى مظلوماً شهيداً،
وتفرّقت تلك الحشود إلى أمصارها لتزرع بذور الفتنة شرقاً وغرباً، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وتوقف الفتح الإسلامي، وأصبحت سيوف المسلمين عليهم لا على أعدائهم .
اعتزال الفتنة الكبرى
هز مقتل عثمان بن عفان في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خليفة المسلمين الشرعي، كثيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – ومنهم محمد مَسْلَمَة – هزاً عنيفاً، واعتبروا ما حدث فتنة من الفتن لا تُبقي ولا تذر، ومن واجبهم وواجب كل مسلم ألا يشارك فيها بسيفه ولا يده ولا لسانه، وألا يدخر وسعاً في إخماد أوارها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ومن الخطأ أن نعتبر اعتزال محمّد بن مَسْلَمَة الفتنة لأنه كان (عثمانيا) وأن نعتبر اعتزال أمثاله من كبار الصحابة، لأنهم كانوا عثمانيين، فما كان محمّد بن مَسْلَمة منتفعاً من عثمان ولا من عهده مادياً ولا معنوياً، ولا كان متهماً بهذا الانتفاع من قريب أو بعيد، وما كان عثمان بالنسبة لمحمد بن مَسْلَمَة إلا رمزاً للشرعية بالإضافة إلى مزاياه الأخرى التي لا يستطيع أن ينكرها عليه عدو ولا صديق؛ فإذا وقف محمد بن مسلمة إلى جانب عثمان سراً وعلناً، فقد وقف إلى جانب الشرعية دفاعاً عن المثل الإسلامية وتعاليم الدين الحنيف، وخوفاً من الفتنة التي تُمزّق صفوف المسلمين ومنعاً لانتشارها المدمر، وقد حدث ما توقعه محمّد بن مَسْلَمة وتوقعه أمثاله من صحابة رسول الله له المتسمين ببعد النظر والإيمان العميق.
ومن المؤكد أن موقف محمد بن . مَسْلَمَة المسؤول تجاه عثمان موقف ثابت مسؤول لو كان الخليفة المُعْتَدى عليه غير عثمان، فهو موقف مبدئي لا شك فيه وليس موقفاً مَصْلَحِيّاً يتبدل بتبدل الظروف والأحوال. وما كان امتناعه عن مبايعة عليّ بن أبي طالب لأنه يجهل مكانه ومكانته، فلا يشك مسلم بمكان ومكانة علي رضي الله عنه ، ولكن هول الصدمة في اشتعال نيران الفتنة وقتل عثمان ترك الحليم حيراناً كما ترك ابن مَسْلَمَة وغيره من المهاجرين والأنصار. وأخذت الفتنة تستشري فكانت وقعة (الجَمَل) بين علي بن أبي طالب وبين المعارضين لخلافته، فقُتل يومئذ من المسلمين عشرة
آلاف، وكان ذلك سنة ست وثلاثين الهجرية (٦٥٦ م ) .
ثم كانت معركة (صفين) بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفیان قتل فيها من الفريقين ستون ألفاً من المسلمين .
وهكذا تساقط المسلمون بسيوفهم، وتوقف الفتح الإسلامي نهائياً، وطمع الروم باستعادة ما فتحه المسلمون من بلادهم، فأصبح الطالب مطلوباً والمنتصر مهزوماً.
وما كان أمام محمد بن مسلمة إلا اعتزال الفتنة، فلم يكن مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكنّه لم يكن عليه، واعتزل معه جماعة من كبار الصحابة منهم سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهم ، فكانوا ممن اعتزل الحروب بالجمل وصفين ونحو ذلك.
واعتزل محمد بن مسلمة بالرَّبَذة في البادية بعيداً عن المدينة وأهلها الذين فرقتهم الفتنة أيضاً. قال ضُبَيْعَة بن حُصَيْن الثَّعْلَبِيّ : كنا جلوساً . حُذَيْفَة بن اليمان فقال : إني لأعلم رجلاً لا تنقصه الفتنة شيئاً. فقلنا : مَنْ هو ؟ فقال محمّد بن مَسْلَمَة الأنصاري. فلما مات حذيفة وكانت الفتنة. خرجت فيمن خرج من الناس، فأتيت أهلماء، فإذا أنا بفسطاط مضروب متنحى تضربه الرياح، فقلت: لمن هذا الفُسطاط؟ قالوا: لمحمد بن مَسْلَمَة. فأتيته، فإذا هو شيخ فقلت له: يرحمك الله ! أراك رجلاً من خيار المسلمين، تــركــت بلـدك ودارك وأهلك وجيــرتـك، قال تركته كراهية الشر، ما في نفسي أن تشتمل على مصر من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت».
وقد روى محمد بن مَسْلَمَة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفاً وقال له : «قاتل به المشركين ما قوتلوا، فإذا رأيت أُمّتي يضرب بعضهم بعضاً، فائت به (أحداً) فاضرب به حتى ينكسر ، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منيّة قاضية ».
وروى محمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفاً فقال: «يا محمد بن صلى الله عليه وسلم مَسْلَمَة! جاهدٌ بهذا السيف في سبيل الله ، حتى إذا رأيت من المسلمين فئتين تقتتلان فاضرب به الحجر حتى تكسره . ثمّ كفّ لسانك ويدك، حتى تأتيك منيّة قاضية أو يد خاطئة»،
فلما قتل عثمان، وما كان من أمر الناس، خرج إلى صخرة في فنائه، فضرب الصخرة بسيفه حتى كسره وذكر محمد بن مَسْلَمَة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره باعتزال الفتنة، فاتَّخذ سيفاً من خشب قد نحته وصيّره في الجفن معلقاً بالبيت، وقال: إنّما عَلَّقْتُه أُهَيِّبُ به ذاعراً.
وهكذا تقاعد محمّد بن مَسْلَمَة، فكسر سيفه الذي يقاتل به. حين أصبحت سيوف أكثر المسلمين تقاتل المسلمين ولا تقاتل أعداءهم، وأصبح سيفه من خشب ولا يقتل مسلماً، فتقاعد مَنْ كان يقال له : فارس نبي الله، وما أتعبه الجهاد ولكن أتعبته الفتنة، فلم يلوّث بها سيفه ولا يده ولا لسانه بدم مسلم أبداً .
الإنسان
كان لمحمد مَسْلَمَة عشرة أبناء من الذكور، وست بنات: عبد بن الرّحمن وبه كان يكنى وأمّ عيسى وأمّ الحارث، وأمهم أم عمرو بنت سلامة بن وَقْش بن زُغْبة بن زَعُوراء بن عبد الأَشْهَل، وهي أخت سلمة بن سلامة وعبد الله ، وأمّ أحمد وأمهما عَمْرَة بنت مسعود بن أوس بن مالك بن سواد بن ظفر، وهو كعب بن الخزرج من الأوس. وسعد، وجعفر، وأم زيد وأمّهم أم فتَيْلَة بنت الحُصَيْن بن ضَمْضَم من بني مُرَّة بن عوف بن قيس عيلان. وعُمَر، وأمّه زهراء بنت عمّار بن مَعْمَرٍ من بني مُرَّة ثم من بني خصيلة من قيس عيلان ،وأنس وعَمْرة وأمهما من الأطبا بطن من بطون كلب. وقيس وزيد ومحمد وأمهم أم ولد. ومحمود لا عقب له، وحَفْصَة، وأمهما أم ولد.
وصحب النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد محمّد بن مسلمة: جعفر وعبد الله وسعد وعبد الرحمن وعمر ، خمسة ذكور
أخوه محمود بن مسلمة، شهد أحداً والخندق وخَيْبَر، ودلّى عليه مرحب اليهودي يوم خيبر رحى فأصابه في رأسه فهشمت البيضة رأسه، فمكث ثلاثة أيام ثم مات شهيداً .
وأخته : أمّ عُمَيْس بنت مَسْلَمَة، وهي امرأة رافع بن خديج، وهي التي نزل فيها قوله تعالى: ﴿وَإِن امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُورًا أَوْ إِعْرَاضاً) وهي من المبايعات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كانت زوج محمد بن مسلمة وهي عَمْرَة من المبايعات أيضاً، وكانت زوجه أم عمرو بنت سلامة بن وقش من المبايعات أيضاً.
وهكذا كان محمّد بن مَسْلَمَة في بيت . كله إيمان وتقوى. لقد كان من أكابر الصحابة ومن فضلائهم وسادتهم، وكان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم وثقة الخلفاء الراشدين من بعده.
وصف شجاعته عَبَّاد بن بشر بن وَقْش الذي كان زميله في قتل اليهودي ابن الأشراف، فقال في قصيدته التي فيها:
صَرَخْتُ به فلم يعرض لصوتي وأوفى طالعاً من رأس جدر
فَعُدْتُ فقال: مَنْ هذا المنادي! فقلت: أخوك عَبّاد بن بِشْرِ
فعانقه ابنُ مَسْلَمَة المُرادِي به الكفار كالليث الهزبر
وشَدَّ بسيفه صَلْتاً عليه فَقَطره أبو عَبْس بن جَبْرِ
وكان الله سادسَنَا فأبنَا بأنعم نعمة وأعز نصر
روى ستة عشر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، انفـرد لـه البخاري بحديث. وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين وكان من أصحاب الفتيا من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من المحدثين الفقهاء الصحابة رضي الله عنهم .
وكان رجلاً أسود طويلاً عظيماً (ضخم البدن) أصلع، أسمر شديد صفة سواده، فلم يكن أسود فاحماً، بل أسمر شديد
السمرة، و ذا جُثة .
ولو أردنا وصف صفاته إنساناً، لأحملنا القول، بأنه يمثل تعاليم الإسلام بكل مثلها العليا تمشي بشراً على الأرض، ولعل أبرز تلك السمات أمانته المطلقة وعفته النادرة وورعه العظيم.
فقد أبى أن يحل ضيفاً على سعد بن أبي وقاص حين قدم الكوفة لإحراق باب قصر الإمارة، وأبى أن يقبل نفقة للطريق أو مؤنة للسفر، فاضطر في سفره البعيد أن يأكل قشور الأشجار ونبات الأرض، فأصيب بالمرض والهزال .
ولما اشترى جرزة حطب من نَبطي كوفي ليحرق بها باب قصر الإمارة، شرط على بائعها حملها، ثم جاء بها وأحرق باب القصر ورجع وكان عمر يستعمله على الصدقة.
ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة. أي أنه ولد قبل خمس وثلاثين سنة قبل الهجرة، لأن النبي بقي بعد بعثته في مكة ثلاث عشرة سنة .
ومات سنة ثلاث وأربعين الهجرية (٦٦٣ م) وهو يومئذ ابن سبع وسبعين سنة .
وهذا التاريخ لوفاته ما نرجحه لإجماع المؤرخين عليه، ولأنه يقارب ما بلغ عمره إليه من سنوات، وقيل: توفي سنة ست وأربعين الهجرية بالمدينة وصلّى عليه مروان بن الحكم، وقيل: توفي سنة سبع وأربعين وهو ابن تسع وسبعين سنة.
وهناك رواية أن أهل الشام قتلوه فقد دخل عليه رجل من أهل الأردن وهو في داره فقتله، لكونه اعتزل عن معاوية في حروبه، والرواية ضعيفة لأن أكثر الذين أرخوا له لم يأخذوا بها ولم يتطرقوا إليها، ولإجماعهم على أنه مات بأجله المحتوم.
وقد استوطن المدينة ومات بها ولم يستوطن غيرها، إلا مدة الفتنة، فقد رحل إلى الرَّبَذَة في الصحراء، واعتزل الفتنة هناك. وهكذا انتهت حياة صحابي جليل كان يملأ الأعين قدراً وجلالاً، والنفوس تقديراً وإجلالاً، والقلوب أسوة ومثالاً، خدم عقيدته والمسلمين
ولا يزال ذكره يعطر صفحات التاريخ .
القائد
كان محمد بن مَسْلَمَة من شجعان الصحابة كما ذكرنا، حتى لقب بفارس نبي الله صلى الله عليه وسلم، فسخّر كل شجاعته في إعلاء كلمة الله مجاهداً تحت لواء الرسول القائد عليه الصلاة والسّلام جندياً وقائداً، مرءوساً على الفرسان تارة وعلى حرس النبي ومعسكر المسلمين تارة أخرى، وقائداً لسرايا النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على أعدى أعداء المسلمين أفراداً وجماعات، وأثر في أعداء الإسلام مادياً ومعنوياً.
وقد أمره النبي على نحو من خمس عشرة سرية من سراياه كما نص على ذلك قسم من المؤرخين ولكنّ السرايا التي فصلها المؤرخون ثلاث سرايا فقط، هي التي ورد ذكرها في هذا البحث، ومن دراسة نشاطه جندياً، وقائداً مرءوساً تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم، يبدو أنه كان ذا أثر بارز في كل غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل سرية قادها ولم يكن جندياً عادياً بل كان جندياً متميزاً، ولا قائداً عادياً بل قائداً متميزاً أيضاً، فهو من جنود العقيدة الراسخة وقادة العقيدة الراسخة، يوظف كل طاقاته في طبعه الموهوب وعلمه المكتسب وتجربته العملية لخدمة عقيدته والمؤمنين بها، ولا يدَّخر وسعاً في خدمتهما.
وقد كان يتحلى بالطاعة المطلقة لقادته وأمرائه، والطاعة هي الضبط المتين الذي هو من أهم ما يميز الجندي الجيد على الجندي الرديء والعسكري بصورة عامة على المدني، فكان يحارب الفتنة ومثيريها وأسبابها ومسبيها بكل ما أُوتي من قوة وعزم.
وقد كان سریع القرار صائبه، وقراره مبني على المعلومات التي يحصلها عن العدو. وقد كان حرصه على جمع المعلومات عن العدو عظيماً، وكان دائب النشاط لا يكاد يهدأ فلا ينام ولا يُنيم في جمع المعلومات عن العدو التي تعينه على إصدار قرار سريع صائب، كما أن ذكاءه اللامع أعانه على إصدار مثل هذا القرار.
وكان يتحمّل المسؤولية ولا يتملّص منها أو يلقيها على عواتق الآخرين، عارفاً بنفسيات زملائه ورجاله وقابلياتهم، فيلقي على عاتق كل واحد منهم ما يتناسب مع نفسيته وقابليته وكفايته .
وكان يثق بزملائه ورجاله ورؤسائه ويحبّهم، ويبادلونه ثقة بثقة، وحباً بحب.
وكانت شخصيته قوية جداً، لا يبالي أن يحاسب الأمراء والولاة والقادة دون مجاملة أو التزام إلا بالحق وحده دون سواه.
وكان ذا ماض مشرف مجيد، فهو من قدامى الصحابة وأشرافهم وشجعانهم وعلمائهم وخدماته للإسلام والمسلمين واضحة للعيان، كما أنه كان من أشراف الأوس ومن بيوتاتهم الكريمة في الجاهلية وفي الإسلام.
وكان يعرف مبادىء الحرب بالفطرة السليمة التي تدل على استعداد فطري للجندية عامة والقيادة خاصة .
فهو يطبق مبدأ اختيار المقصد ،وإدامته ويحرص غاية الحرص على تحقيق مقصده بدأبواستمرار دون أن يشتت جهوده من أجل تحقيق أهداف ثانوية تصرفه عن تحقيق مقصده كاملاً .
وهو يطبق مبدأ التعرّض فكلّ معاركه جندياً وقائداً معارك تعرضية، ولم يخض معارك دفاعية في حياته القتالية .
وهو يطبق مبدأ المباغتة، أهم مبادىء الحرب على الإطلاق، وقد باغت في إحدى سراياه عدوّه مباغتة كاملة بالزمان كما ذكرنا .
وهو يطبق مبدأ الأمن، وكان غالباً المسؤول الأول عن قضايا الأمن في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم قائداً لحرسه وقائداً لحرس معسكره، فلم يستطع العدو أن يباغت قوات المسلمين أبداً، لأن ابن مسلمة كان حذراً كل الحذر، يقظاً كل اليقظة .
تلك هي أبرز سمات محمد بن مَسْلَمَة جندياً وقائداً، فلا عجب أن يكون موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته المباركة وموضع ثقة خلفائه من بعده، وأن يستطيع أن يؤدي واجباته العسكرية بكفاية واقتدار، وأن يثبت وجوده الفاعل في كل غزوة أو سرية شهدها جندياً وقائداً.
محمد بن مَسْلَمَة في التاريخ
يذكر التاريخ لمحمّد بن مسلمة أنه كان من قدامى الصحابة ومن أكابرهم ومن فضلائهم وساداتهم وشجعانهم .
ويذكر له، أنه كان مؤثراً في كلَّ غزوة وسرية شهدها، دائب النشاط والعمل لخدمة الإسلام والمسلمين.
ويذكر له، أنه من القلائل الذين تولوا القيادة والإدارة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره .
ويذكر له، أنّه أنقذ الإسلام والمسلمين من أعدى أعدائهم أفراداً وجماعات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبتوجيهه.
ويذكر له، أنه لا تأخذه في الحق لومة لائم، فكان محاسب القادة والأمراء والولاة بلا هوادة ولا مجاملة .
ويذكر له، أنه اعتزل الفتنة في الصحراء بعيداً عن داره وأهله، هارباً بدينه منها، ولم تجرفه الفتنة كما جرفت غيره .
رضي الله عن الصحابي الجليل الإداري الحازم، القائد المنتصر، المحدث الفقيه محمّد بن مَسْلَمَة الأوسي الأنصاري .
(من كتاب قادة النبي صلى الله عليه وسلم)