ميسرة بن مسروق العبسي رضي اللهُ عنه

…فقال ميسرة:
«أحلف لكم بالله؛ ليظهرنّ أمر هذا الرجل حتى يبلغ كلّ مبلغ… فاستمعوا إلى نصحي، وآووه وانصروه.»

فطمع الرسول ﷺ بميسرة، وأقبل عليه وتشبّث به، فقال له ميسرة:
«والله! ما سمعت قبل هذا اليوم كلامًا أحسن من كلامك… ولا دُعيت إلى أمرٍ أعدل من أمرك… ولكنّ قومي يخالفونني كما رأيت….وإنما الرجل بقومه.»

ها نحن أولاء في مكة؛ على رأس ثلاث سنوات من بعثة النبي عليه الصلاة والسلام …وها هو ذا رسول الله ﷺ؛ يتنزل عليه جبريل بقول الله جل وعز: ﴿فاصدع بما تُؤمر وأعرض عن المشركين﴾.

فيعلم النبي ﷺ أن مرحلة جديدة من مراحل الدعوة قد بدأت، وأن عليه أن ينتقل من طور الإسرار إلى طور الإعلان. فبادر الرسول ﷺ لإنفاذ ما أُمر به، وطفِق يدعو الناس إلى الله جهرًا؛ بعد أن قضى ثلاث سنوات وهو يدعوهم سرًّا. فلم يترك مجتمعًا من مجتمعات العرب إلا قصده، ولا قبيلة من قبائلهم إلا عرض نفسه عليها وسألها أن تؤويه وتحميه؛ حتى يبلّغ رسالة ربه.

وكانت قبائل العرب تجتمع كل عام نحوا من شهرين في أسواق عُكاظ، ومجَنّة، وذي المجاز… فيبيعون ويشترون… ويتناشدون الأشعار في المحافل، ويتفاخرون بالمآثر على المنابر…

وتعزف لهم القِيَان بالمعازف…ويشهدون الرقص، ويشربون الخمور. حتى إذا ما انتهوا من موسمهم هذا؛ مضوا إلى الأماكن المقدسة؛ لأداء مناسك حجهم.

وكان رسول الله ﷺ يغتنم فرصة ذلك الموسم الكبير؛ الذي يجمع شمل العرب كل العرب… فيسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويتتبع منازلهم منزلًا فمنزلًا، ويعرض عليهم دعوته ويذكر لهم خذلان قومه له، ويسألهم أن يؤووه وينصروه؛ حتى يبلّغ رسالة ربه، ويعدهم على ذلك الجنة.

فكان بعضهم يؤذيه بلسانه؛ فيسخر منه ويستهزئ به، وبعضهم يؤذيه بيده؛ فيرميه بالحجارة، أو ينخس ناقته بعودٍ أو نحوِه؛ فتجفَل وتعثُرُ، وبعضهم يرده ردًّا فيه شيء من الرفق، وهم قليل.

وعلى الرغم من ذلك الصدِّ الذي يلقاه؛ كان لا يملُّ، ولا يكلُّ، ولا يفتُر.

وفي موسم من هذه المواسم؛ كانت قبيلة عبس قد باعت واشتريت، ثم خفّت إلى منى لقضاء حجها، ونزلت عند الجمرة الأولى بالقرب من مسجد الخيْف.

فأقبل عليها رسول الله ﷺ وهو راكبٌ ناقته، وقد أردف خلفه حِبّه زيد بن حارثة. وكان بنو عبس قد سمعوا برسول الله ﷺ، ولكنهم لم يروه بعد.

فوقف عليهم، ونزل إليهم… وأخذ يبشّرهم وينذرهم بين يدي عذابٍ أليم، ويبيّن لهم محاسن الإسلام، ويتلو عليهم ما يتيسّر له من آي القرآن، ويذكر لهم خذلان قريشٍ له، ويدعوهم إلى إيوائه ونصرته؛ حتى يؤدي رسالة ربه، ويعدهم الجنة.

وكان في القوم ميسرة بن مسروق العبسي. فالتفت إلى قومه وقال: «تعالوا يا قوم نؤوِ هذا الرجل وننصره…. فوالله! ما سمعت قبل اليوم كلامًا أنور من كلامه أو أعدل.» فالتفت إليه رجلٌ من قومه وقال: دع عنك هذا يا ميسرة… والله إن قوم الرجل أدرى به منك.

ولو كان فيه خيرٌ لما نبذوه وتركوه يبذل نفسه للقبائل، ثم لا يجد فيها من يرضاه. وقاطعه آخر؛ فقال: نعم… إليك عنه يا ميسرة… فوالله ما يرجع به رجلٌ إلى قومه؛ إلا عاد إليهم بشرّ ما يرجع به أهل هذا الموسم.

فقال ميسرة: «أحلف لكم بالله؛ ليظهرنّ أمر هذا الرجل حتى يبلغ كلّ مبلغ… فاستمعوا إلى نصحي، وآووه وانصروه.»

فطمع الرسول ﷺ بميسرة، وأقبل عليه وتشبّث به، فقال له ميسرة: «والله! ما سمعت قبل هذا اليوم كلامًا أحسن من كلامك… ولا دُعيت إلى أمرٍ أعدل من أمرك… ولكنّ قومي يخالفونني كما رأيت….وإنما الرجل بقومه.»

انقضى على لقاء ذلك الرهط من بني عبس مع رسول الله ﷺ نحو من عشرين عامًا؛ نصر الله خلالها عبده، وأعزّ جنده…

وأظهر لنبيّه ﷺ أمره، ورفع له في الخافقين ذكره، وفُتحت له مكة، ودانت قريش لحكمه.

وطَفِقت أفواج العرب – التي لم تُسلم بعد – تفد عليه من كل مكان، جماعة إثر جماعة؛ لتُسلم بين يديه، وتبايعه على السمع والطاعة. وكان فيمَن وفد عليه قُبيل حجّة الوداع بقليل؛ ميسرة بن مسروق العبسي.

فلمّا مثُل بين يديه وشهد شهادة الحق، قال: «أعرَفتني يا رسول الله؟»
قال: «نعم؛ صاحب ذلك الموقف بالقرب من الخيف في منى».

فقال ميسرة: «والله! يا رسول الله، ما زلتُ – منذ أنختَ راحلتك في ذلك المكان – حريصًا على اتباعك… وأبى اللهُ إلا ما ترى من تأخير إسلامي، وقد هلك عامة النفر الذين كانوا معي في ذلك اليوم؛ فأين هم يا رسول الله؟»

فقال عليه الصلاة والسلام: «كلّ من هلك منهم على غير دين الإسلام؛ فهو في النار.»
فبكى ميسرة وقال: «الحمد لله الذي أنقذني بك من النار يا رسول الله…
الحمد لله الذي أنقذني بك من النار يا رسول الله…»

ثم ما لبث أن لحق الرسول الكريم ﷺ بالرفيق الأعلى، وآلت الخلافة إلى الصدّيق رضي الله عنه، وشبّت نار فتنة الردّة، وجعلت أكثر أحياء العرب تقول: نقيم الصلاة، ولكننا لا نعطي الزكاة.
وعظُم الخطب على المسلمين، واشتدّ عليهم الكرب، وخافوا على مدينة رسول الله ﷺ أن يُهاجمها المرتدّون، مستغلّين خلوّها من الجند بسبب بعث أسامة بن زيد.

فكلّم بعضهم الصدّيق، وقالوا: اقبل منهم الصلاة، ولا تُلزمهم بالزكاة، واتركهم حتى يتمكّن الإيمان من قلوبهم فيُزكوا. فانتفض الصدّيق لقولتهم هذه انتفاضة الأسد الجريح، وقال: «والله! لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة…

والذي بعث نبيّه ﷺ بالحق، لو منعوني عِقالًا كانوا يؤدّونه لرسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه.»

وفي ذات يوم من أيام تلك الفتنة المدمّرة العمياء؛ خرج ميسرة بن مسروق العبسي من ديار قومه في نجد على مرأى من المرتدّين ومسمع، ومعه نفر كبير من قومه.

وقد ساقوا أمامهم زكاة أموالهم من سمان الشياه وكرائم الإبل، وحمّلوها بأصناف الغلّات؛ مما تجب فيه الزكاة… ومضوا بها نحو أرض الحجاز؛ ترفعهم النجاد وتحطّهم الوهاد.. فإذا علَوا مرتفعًا كبّروا، وإذا هبطوا منخفضًا سبّحوا.

فلما بلغ ميسرة المدينة؛ دخلها وهو يسوق أمامه ذلك القطيع الكبير الذي ازدحمت به الأزقّة… حتى أناخه أمام بيت مال المسلمين. ففرح به أهل المدينة أعظم الفرح، وتلقّاه الصدّيق بالغِبطة، وقال له: «بارك الله لك ولقومك بأموالكم، وأثابكم الجنّة.» ثم أوصى بهم خالد بن الوليد.

ومنذ ذلك اليوم؛ توثّقت عُرى المودّة بين ميسرة بن مسروق العبسي وبين سيف الله خالد بن الوليد؛ فانضوى ميسرة تحت لوائه، ومضى معه مجاهدًا في سبيل الله؛ على الرغم من أنه كان شيخًا قد طعن في السنّ.

وفي معركة (فحل) بالأردن؛ اشتدّ البلاء على المسلمين وكاد يظهر عليهم الروم؛ فبرز من معسكر الأعداء فارس موفور الشباب، وثيق الخِلقة، شديد البأس، وجعل يطلب مبارزًا يبارزه؛ فهابه الناس.

فإذا بالشيخ المُسنّ ميسرة بن مسروق، يهبّ لمبارزته

فردّه خالد، وقال: «ليس لك به طاقة؛ فهو شاب شديد الفَتاء، وأنت شيخ معمّر.» فلم يستمع ميسرة لقوله، وهمّ بالمضي نحو الفارس. فدفعه خالد إلى الصفّ وهو يقول: «أما بايعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطاعة؟ فأطع وارجع إلى صفك.»

عند ذلك؛ برز للفارس الرومي شاب من شبّان المسلمين، وما زال يقاتله حتى قتله.

وكأن الله، تباركت حكمته، قد ادّخر ميسرة في ذلك اليوم؛ ليكون أول قائد مسلم يقود جيشًا من ستة آلاف مقاتل، ويدخل بهم أرض الروم غازيًا في سبيل الله. ثم يعود من غزوته مؤيّدًا بنصر الله، حاملًا معه من الأسلاب والغنائم ما فاق كلّ تقدير… معبّدًا الطريق أمام جند المسلمين؛ منذ عهده إلى زمن محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية فيما بعد.

صور من حياة الصحابة

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة