إن التدين الصادق يفرض على المرء أن تظهر آثاره في جوانب حياته كلها، والتدين الذي لا يظهر أثره على مشاعر الإنسان تدين قاصر. والمرء يملك مشاعر من الحب والكره، والسخط والرضا والقبول والرفض، وتتحكم هذه المشاعر في قرارات كثيرة يتخذها في حياته، وأولئك الذين عرفوا حقيقة الدين صارت مشاعرهم وحياتهم بأسرها محكومة به. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم وذلك شرطاً لحصول لذة الإيمان، فقال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: “أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار” (رواه البخاري ومسلم).
واليوم نرى على جنبات الطريق صرعى وهلكى من جراء جحيم العواطف التي عبثت بهم.
إن الهوى والعشق والغرام يفعل فعله بصاحبه حتى قد ينحر دينه قرباناً لهواه، وهذا أحدهم يعبر عن سكره ومصرعه بقوله:
رهبان مدين والذين عهدتهم يبكون من حذر العذاب قعوداً
لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا (لعزة) ركعاً وسجوداً
إنها القلوب التي خلت وأصابها الخواء حين حرمت لذة محبة الله ورسوله بعد أن استبدلت بذلك الهوى والغرام
أما فتيات الصحابة رضوان الله عليهن – فلهن مع ذلك شأن آخر. تقدم أم أسماء بنت أبي بكر إلى ابنتها -رضي الله عنها – فترى أسماء أن بقاء أمها على الشرك قد يسقط حقها في الصلة؛ فترفض استقبالها حتى تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستفتيه.
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما – قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: “نعم، صلي أمك” (رواه البخاري ومسلم) .
إن هذا السؤال ليس صادراً من قلب قاس عاق، وليس نتاج استثقال البر والصلة، لكنه صادر من تلك المرأة الصالحة -رضي الله عنها – التي ترى صلة الدين فوق كل صلة ورابطته فوق كل رابطة.
إن هذه المواقف تجيب عن لغز محير طالما سيطر على فئات من فتيات المسلمين اليوم وهن يسألن عن قضية التعلق والغلو فيه، ويبحثن عن الحل والعلاج. وتبقى كثير من النصائح والوصايا في هذا الميدان مجرد مسكنات ومهدئات أما العلاج الأساس والأهم فهو في تفريغ القلب من التعلق بما سوى الله وامتلاؤه بمحبة الله والتعلق به وحده حينها يصبح هذا الأمر هو الحاكم والقائد وماسوى ذلك تبع له.
واليوم ونحن نرى هذه المشكلة، ونسمع هذا السؤال يتكرر، نفتش ونبحث في الصفحات اللامعة في التاريخ عن شواهد على هذه المعاناة فلا نرى لها أثراً يذكر. أفيظن بأن فتيات الرعيل الأول كائن آخر فاقد للمشاعر والأحاسيس ومتبلد العاطفة؟
أم أنه جيل استعلى على شهواته وانتصر عليها، وامتلأت حياته بمعالي الأمور فلم تجد هذه الخواطر الرديئة في قلوبهن مكانا؟
(من كتاب فتيات الصحابة)