من المعلوم والثابت في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل يدعو الناس ـ في مكة ـ سراً وجهراً إلى عبادة الله وحده، ويحذرهم من الشرك وعبادة الأصنام، وكان صلى الله عليه وسلم في منعةٍ وحماية من قريش بعمه أبي طالب، بينما تعرَّض الصحابة رضوان الله عليهم للاضطهاد والتعذيب الشديد على يد أئمة الكفر من قريش، قال ابن هشام وغيره في السيرة النبوية: “فوثبت كل قبيلة على مَن فيها مِن المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم”. ورغم شدة الإيذاء والتعذيب الذي تعرض له الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ظلوا صابرين ثابتين على عقيدتهم ودينهم، والمرحلة المكية من السيرة النبوية فيها الكثير من مواقفهم في ذلك، ومنها:
عثمان بن عفان
روى ابن سعد في الطبقات عن محمد بن إبراهيم بن حارث التيمي قال: “لما أسلم عثمان بن عفان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطًا وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين مُحْدَث؟ والله لا أحلك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال عثمان: والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه، فلما رأى الحَكم صلابته في دينه تركه”.
بلال بن رباح
كان أمية بن خلف يخرج بلالاً رضي الله عنه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، قال ابن كثير: “كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أَحَدٌ، أَحَد، ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها رضي الله عنه وأرضاه”.
الزبير بن العوام
عن أبي الأسود قال: “أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين، وهاجر وهو ابن ثمان عشر، وكان عمه يعلقه في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدا” رواه الطبراني .
خالد بن سعيد بن العاص
روى ابن سعد عن عمرو بن شعيب قال: “كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص ثالثًا أو رابعاً، وكان ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو سراً، وكان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي في نواحي مكة خالياً، فبلغ ذلك أبا أحيحة فدعاه فكلمه أن يدع(يترك) ما هو عليه، فقال خالد: لا أدع دين محمد حتى أموت عليه … ثم أمر به إلى الحبس، وضيق عليه وأجاعه وأعطشه, حتى لقد مكث في حر مكة ثلاثًا ما يذوق ماء).
خباب بن الأرت
خباب بن الأَرَتّ رضي الله عنه، أسلم ولم يبلغ العشرين من عمره، وهو من السابقين الأولين في الإسلام، إذ كان سادس ستة أسلموا على ظهر الأرض، وكان رضي الله عنه مولى لأم أنمار بنت سِباع الخزاعية، فلما علمت بإسلامه عذبته بالنار، وكانت تأتى بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره ورأسه، ليكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم ويرجع عن إسلامه، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيماناً، وكذلك كان المشركون يعذبونه فيلوون عنقه، ويجذبون شعره، وقد ألقوه على النار، ثم سحبوه عليها، فما أطفأها إلا شحم ظهره .. ولما اشتد تعذيب المشركين له رضي الله عنه ولغيره من المسلمين المستضعفين، ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه ويطلب منه الدعاء له ولأصحابه فقال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟، قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري.
عماربن ياسر وأمه
عن عمر بن الحكم: قال : “كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول”. وفي السيرة النبوية لابن هشام: ” .. سمية أم عمار عذبها هذا الحي من بني المغيرة على الإسلام وهي تأبى حتى قتلوها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بعمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: (صبراً يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة). وسمية رضي الله عنها هي أول شهيد في الإسلام، قال ابن حجر: “أخرج ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد قال: أول شهيد في الإسلام سمية والدة عمار بن ياسر”، وقال ابن كثير في البداية والنهاية: “قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال: أول شهيد كان في الإسلام استُشْهِد أم عمار (سمية) طعنها أبو جهل بحربة في قُبُلِهَا”.