سبق أبي بكر رضي الله عنه

كان إسلام أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وليد رحلةٍ إيمانيَّةٍ طويلةٍ في البحث عن الدِّين الحقِّ؛ الذي ينسجم مع الفطر السليمة، ويلبي رغباتها، ويتفق مع العقول الراجحة، والبصائر النَّافذة، فقد كان بحكم عمله التِّجاري كثير الأسفار، قطعَ الفيافي، والصحارى، والمدن، والقرى في الجزيرة العربيَّة، وتنقَّل من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، واتَّصل اتصالاً وثيقاً بأصحاب الدِّيانات المختلفة وبخاصة النَّصرانية، وكان كثير الإنصات لكلمات النَّفر الذين حملوا راية التَّوحيد، راية البحث عن الدِّين القويم، فقد حدَّث عن نفسه، فقال: كنتُ جالساً بفناء الكعبة، وكان زيد ابن عمرو بن نُفيل قاعداً، فمرَّ ابن أبي الصَّلْتِ، فقال: كيف أصبحتَ يا باغي الخير ؟ قال: بخير، قال: وهل وجدتَ ؟ قال: لا، فقال:

كلُّ دينٍ يوم القيامةِ إلا                 ما مضى في الحنفية بُورُ

أما إنَّ هذا النبيَّ الذي ينتظر منّا، أو منكم، قال: ولم أكن سمعتُ قبل ذلك بنبيٍّ يُنتظر، ويُبعث، قال: فخرجتُ أريد ورقة بن نوفل ـ وكان كثيرَ النَّظَر إلى السَّماء، كثير همهمة الصَّدر ـ فاستوقفته، ثمَّ قصصتُ عليه الحديث، فقال: نعم يأبن أخي! إنّا أهل الكتب والعلوم، ألا إنَّ هذا النبيَّ الذي يُنتظر من أوسط العرب نسباً ـ ولي علمٌ بالنَّسب ـ وقومك أوسط العرب نسباً. قلتُ: يا عمّ! وما يقول النبيُّ ؟
قال: يقول ما قيل له، إلا أنَّه لا يظلم، ولا يُظلم، ولا يُظالم، فلمّا بُعث رسول الله ﷺ امنت به، وصدَّقته، وكان يسمع ما يقوله أميَّة بن أبي الصَّلْت:

في مثل قوله:

ألا نبيٌّ منَّا فيخبرنا             ما بعد غايتنا من رأس مجرانا
إني أعوذ بمن حجَّ الحجي له    والرَّافعون لدين الله أركانا

عايش أبو بكر تلك الفترة ببصيرةٍ نافذة، وعقلٍ نيِّرٍ، وفكرٍ متألِّقٍ، وذهنٍ وقّادٍ، وذكاءٍ حادٍّ، وتأمُّلٍ رزينٍ ملأ عليه أقطار نفسه، ولذلك حفظ الكثير من الأشعار، ومن الأخبار، فعندما سأل الرَّسولُ الكريم ﷺ أصحابه يوماً ـ وفيهم أبو بكر الصِّدِّيق ـ قائلاً: «من منكم يحفظ كلام ـ قسِّ بن ساعدة ـ في سوق عكاظ؟». فسكت الصحابة، ونطق الصِّدِّيق قائلاً: إنِّي أحفظها يا رسول الله!

كنت حاضراً يومها في سوق عكاظ، ومن فوق جَمَلِه الأَوْرَق وقف قسٌّ يقول: أيُّها الناس! اسمعوا، وَعُوا، وإذا وعيتم، فانتفعوا، إنَّ مَنْ عاشَ مات، ومَنْ ماتَ فات، وكلُّ ما هو اتٍ ات، إنَّ في السماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، مهادٌ موضوعٌ، وسقفٌ مرفوعٌ، ونجومٌ تمور، وبحارٌ لن تغور، ليلٌ داجٍ، وسماءٌ ذات أبراج!!

يُقسم قسٌّ أنَّ لله ديناً هو أحبُّ إليه من دينكم الذي أنتم عليه. ما لي أرى النَّاس يذهبون، ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا، ثمَّ أنشد قائلاً:

في الذَّاهبين الأوَّليـ              ـنَ من القرون لنا بصائر
كما رأيتُ موارداً               للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها             يسعى الأكابر والأصاغر
أيقنت أنِّي لا مَحَا               له حيثُ صار القومُ صائِرْ

وبهذا التَّرتيب الممتاز، وبهذه الذَّاكرة الحديديَّة ـ وهي ذاكرةٌ استوعبتْ هذه المعاني ـ يقصُّ الصِّدِّيق ما قاله قسُّ بن ساعدة على رسول الله، وأصحابه.

وقد رأى رؤيا لمّا كان في الشام، فقصَّها على بحيرا الرَّاهب، فقال له: من أين أنت ؟ قال: من مكَّة، قال: من أيِّها ؟ قال: من قريش: فأيُّ شيءٍ أنت ؟ قال: تاجر، قال: إن صدَّق الله رؤياك؛ فإنَّه يبعث بنبيٍّ من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسرَّ ذلك أبو بكرٍ في نفسه.

كان إسلام الصِّدِّيق بعد بحثٍ، وتنقيبٍ، وانتظارٍ، وقد ساعده على تلبية دعوة الإسلام معرفته العميقة، وصلته القويَّة بالنَّبيِّ ﷺ في الجاهلية، فعندما نزل الوحي على النبيِّ ﷺ، وأخذ يدعو الأفراد إلى الله، وقع أوَّل اختياره على الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه، وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكرٍ النبيَّ ﷺ بصدقه، وأمانته، وأخلاقه، التي تمنعه من الكذب على الناس، فكيف يكذب على الله ؟!

فعندما فاتحه رسول الله ﷺ بدعوة الله وقال له: «.. إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحقِّ، فوالله إنه للحقُّ، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته ».

فأسلم الصِّدِّيق، ولم يتلعثم، وتقدَّم، ولم يتأخَّر، وعاهد رسول الله على نصرته، فقام بما تعهَّد، ولهذا قال رسول الله ﷺ في حقِّه: «إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه، وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟» مرَّتين.

وقد روى ابن إسحاق عن بداية إسلام أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الحصين التميمي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة و تردد و نظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين دعوته، و لا تردد فيه ) ما عكم: ما تباطأ بل سارع ..


سبق أبي بكر

يقول ابن إسحاق : ” .. كان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا، ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام، من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه “.

لقد كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ كنزاً من الكنوز، ادخره الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخُلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الذين يألفون ويؤلفون، والخُلق السمح وحده عنصر كاف لألفة القوم، وهو الذي قال فيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ) (الترمذي ) .

ولما كان رصيده ـ رضي الله عنه ـ العلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيماً، استجاب له في دعوته للإسلام صفوة من خيرة الخلق، من العشرة المبشرين بالجنة، منهم: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ..

وكان هؤلاء الأبطال الخمسة أول ثمرة من ثمار الصديق – رضي الله عنه -، دعاهم إلى الإسلام فاستجابوا، وجاء بهم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فُرادَى، فأسلموا بين يديه، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في تقوية جانب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم تتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجا .


قدوة عظيمة لأهل الإنفاق في سبيل الله تعالى

إن تحرك أبي بكر – رضي الله عنه – في الدعوة إلى الله تعالى، يوضح صورة من صور الإيمان بهذا الدين والاستجابة لله ولرسوله – صلى الله عليه وسلم -، صورة المؤمن الذي لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في دنيا الناس ما آمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة، سرعان ما تخمد وتذبل وتزول، فقد ظل نشاط أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وحماسه إلى دينه ودعوته حتى توفاه الله، ولم يفتر أو يضعف .

ومن الملاحظ والمشاهد في عالم الواقع، أن أصحاب الجاه لهم أثر كبير في كسب أنصار للدعوة، ولهذا كان أثر أبي بكر – رضي الله عنه – في الإسلام أكثر من غيره .. فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ما نفعني مال قط، ما نفعني مال أبي بكر . فبكى أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وقال: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله ) ( ابن ماجة ) .

قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه:

«وجدنا الكرم في التَّقوى، والغنى في اليقين، والشَّرف في التَّواضع».

بعد إسلام أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ مضت الدعوة إلى الله في مهدها الأول، سرية وفردية، وقائمة على الاصطفاء والاختيار للعناصر التي تصلح أن تتكون منها الجماعة المؤمنة، التي ستسعى لإقامة دولة الإسلام، ودعوة الناس إلى دين الله، والتي ستقوم حضارة ربانية لا مثيل لها على أيديهم، وكان أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ من أعمدة هذه الدعوة ..

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة