أمّ المؤمنين خدیـجة بنت خـویلد رضي الله عنها

ـ أول الخلق إسلاماً، وصديقة المؤمنات الأولى.

ـ أولى أمهات المؤمنين وواسطة العقد الفريد في نساء أهل البيت وأم أولاده .

ـ كانت عاقلة جليلة دينة مصونة كريمة رضي الله عنها .

ـ خصها الله عزَّ وجلَّ بالسَّلام على لسان جبريل عليه السلام وبشرها ببيت في الجنَّة من قصب.

ـ سيرتها عطر للمجالس، وأنس للمجالس، ورحيق مختوم بالمسك رضي الله عنها .

البداية العطرة

من أين نبدأ أيتها السيدة الكريمة؟ من أين نبدأ أيتها الأم التي لا يداني فضلك فضل؟ إن سيرتك كلها فضيلة في فضيلة في فضيلة.

إن حياتك من أول يوم عرفت فيه سيدنا رسول الله ﷺ كلها بركات ترى.

فالحديث عنك سيدتي – بل أمي – واسع الآفاق، عميق المدى، ندي العطاء.

فيه سبحات مباركات في بحار أنوار صفائك وكرمك الذي كان قبلة النساء في هذا المجال.

إن تاريخ النساء في دنيا التاريخ، لم يحفظ في أوراقه أن إمرأة من فضليات النساء في دنيا النساء قد فاحت سيرتها بالعطاء كما كنت أنت.

لقد تناول التاريخ سير نساء كثيرات، اشتهرن بجانب أو أكثر، ولكنه لم يحدثنا – كما حدثنا عنك – أنهنَّ بلغن قمم المكارم في كل الفضائل كما بلغت أنت.

وقد حفظ التاريخ كثيراً من فضائلك ولكنه – على الرغم ذاكرته الواسعة – لم يستطع أن يحصر تلك الفضائل بين دفتيه. لقد كنت واسطة العقد في نساء أهل البيت الذي أذهب الله عنه الرِّجْسَ وطهره تطهيراً .

لقد كنت عنوان كل فضل وفضيلة في نساء ذلك البيت المجيد الحميد الذي بارك الله فيه وعليه .

فهل تسمحين أيتها الأم الرؤوم أن نتفيأ بظلال سيرتك بعض الوقت كيما تكون سيرتك زاداً لنا في هذه الحياة التي نحياها، ولتكون سيرتك جواز مرور إلى مرتبة الفضل، وسدة العطاء ..؟ فما أحلى تلكم الأوقات التي نحياها مع أمنا أم المؤمنين خديجة بنت خویلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم الذرية الطاهرة، وسيدة نساء العالمين، وقدوة نساء المسلمين.

إذن، فلتكن الرّحلة سعيدة – إن شاء الله – مع سيرتك المعطار، ومع وقفات نبيلة كريمة من حياتك من عطائك المستمد من شخصية النبي الرؤوف الرحيم و حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم .

ظلال الماضي

هبط ظلام الليل على مكة .

وخيم على الكون سكون عميق.

لكن الحركة لم تنقطع حول البيت العتيق، فقد كان الطائفون بالكعبة يقطع همساتهم وكلماتهم ذلك السكون، ويمزق حركاتهم هدوء الليل من حول الكعبة .

مع ثلة الطائفين والطائفات كانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها تلود بالبيت العتيق، يسترها ظلام الليل عن عيون رجال قريش هي ونسوة كُن معها .

كانت سيدة نساء قريش خديجة ابنة خويلد رضي الله عنها تطوف مع النساء، وتبتهل إلى رب البيت العتيق أن يبارك لها في تجارتها . وفي مالها .

كانت خديجة راضية النفس، رضية القلب بما حققته من نجاح في تجارتها، فقد باتت قافلتها إلى الشام تعدل قوافل قريش، كانت سعيدة بما بلغته في دنيا التجارة، وكانت مسرورة بما وصلت إليه في سلطان المال، وفي سلطان الجاه ويبدو أن فكرة اعترضت في ذهن خديجة وهي في طوافها، برزت الفكرة بشكل واضح، ونقلتها إلى ظلال الماضي القريب، إلى ذكريات أخذت مساحة واسعة من ذهنها .

صحيح أنها سعيدة – الآن – في تجارتها، إلا أن سعادتها في حياتها الزوجية قد تعثرت وتمزقت أكثر من مرة، ولم تعرف إلى قلبها الكبير سبيلاً، بل ضلت السبيل منذ بدايتها ، كان قلب خديجة يرنو إلى حياة زوجية رفيعة، فيها سمو وبذل وتضحية وكفاح في سبيل تحقيق غاية سامية نبيلة.

تزوجت أبا هالة بن زرارة التميمي، ولما تبلغ ربيعها الخامس عشر، راحت تجاهد ليكون زوجها سيداً بين السادة من الرجال، ليكون من رجال قريش المعدودين في الجاه والشرف والسيادة …. ولكن الموت لم يترك لأحلامها مجالاً، فقد اختطف زوجها أبا هالة قبل أن يصبح شئياً مذكوراً، وقبل أن يسلك طريق المجد ويرتقي سلم الشهرة.

انقضى زمن على موت زوجها أبي هالة بن زرارة التميمي، فتقدم لها أحد أشراف قريش وهو عتيق بن عابد بن عبد الله المخزومي، فتزوجت وأنجبت، ولكن هذا الزواج لم يدم طويلا.

أصبحت خديجة سيدة نساء قريش بلا زوج أيضاً، وقبل أن تبلغ من عمرها الخامسة والعشرين، وانتهت هذه الفترة من حياتها، ثم تلاشت ذكرياتها، ودفنت في مَهْدِ الماضي.

كانت خديجة رضي الله عنها امرأة عالية الهمة، جياشة العواطف، واسعة الأفق، مفطورة على التدين والنقاء والظهر، حتى لقد عرفت بين أترابها وبين نساء قريش بالطاهرة – وناهيك بهذه الصفة التي حلقت بها فجعلتها في سماء السبق إلى ساحة المعالي .. كانت خديجة رضي الله عنها تصغي كثيراً إلى أحاديث ابن عمها ورقة بن نوفل عن الأنبياء، وعن الدين، وكثيراً ما كانت أحلامها المجنحة ترفرف في سماوات عالية من الفضل والفضيلة لم تكن لتصل إليها أماني أهل عصرها من رجال ونساء … لكن خديجة كانت تشعر بأن شيئاً ما يسيطر على أحلامها، ويزرع الطمأنينة في نفسها الكبيرة المشرقة، إلا أنها لم تكتشف سر هذا، ولكنها تحس به، بل تتوقع حدثاً ما، وكان يساورها إلهام أنها ستحضن شيئاً ما، ولكن متى، وأين، وكيف؟ هذا ما لم تستطع أن تمسك بطرفه، أو تعلم شيئاً عن كنهه، فكيف الطريق إلى هذا السر؟! هكذا كانت خديجة تحدث نفسها بين الحين والآخر.

رُؤْيَا نُورَانِيَّة

في ليلة غارت نجومها واحلولك ظلامها، جلست خديجة في بيتها – بعد أن طافت مراراً بالكعبة – ثم تفقدت أبنائها الذين كانوا يغطون في النوم، عندئذ ذهبت إلى فراشها وقد ارتسمت على شفتيها علائم الرضا والابتسام، ولم يدر في ذهنها أي خاطر في ذلك الوقت، وما أسلمت جنبها للرقاد حتى استسلمت للنوم وراحت في سبات.

ورأت فيما يرى النائم شمساً عظيمة تهبط من سماء مكة لتستقر في دارها، وتملأ جوانب الدار نوراً وبهاء، ويفيض ذلك النور من دارها ليغمر كل ما حولها بضياء يبهر النفوس، قبل أن يبهر الأبصار بشدة ضيائه .

هبت خديجة من نومها، وراحت تدير عينيها فيما حولها بدهشة، فإذا بالليل ما يزال يسربل الدنيا بالسواد، ويجثم على الوجود والموجودات، بيد أن ذلك النور الذي بهرها في المنام لا يزال مشرقاً في وجدانها، ساطعاً في أعماقها .

مرت لحظات تتبعها لحظات، والنور والإشراق لا يفارقان وجدانها، بعد لحظات تمددت لتعاود رقادها، ولكن الوسن لم يطف بعينيها، خديجة . بل صحا ذهنها، وخفق قلبها، وأشرق عقلها.

راحت تستعيد من جديد هفهفة ذلك الحلم، وتلك الرؤيا، وهي موزعة النفس بين مشاعر شتى من الأمل والرهبة والماضي والحاضر، إنه حلم غريب حقاً جميل حقاً! تساءلت خديجة: شمس في داري؟ نور يضيء الدنيا من هذا البيت؟ إن هذا لشيء عجيب !! .

عندما غادر الليل الدنيا، غادرت خديجة فراشها، ومع إشراقة الشمس، وصفاء الكون في الصباح الباكر، كانت الطاهرة خديجة في طريقها إلى دار ابن عمها ورقة بن نوفل، لعلها تجد عنده تفسيراً لحلمها البهي في ليلتها الظلماء.

دخلت خديجة على ورقة، فألفته قد عكف على قراءة صحيفة من الصحف السماوية التي شغف بها، فراح يقرأ سطورها كل صبح ومساء، وما أن مس صوت خديجة أذنيه حتى رحب بها وقال متعجباً : خديجة؟ الطاهرة؟ قالت: هي، هي؛ قال في دهشة: ما جاء بك الساعة؟ جلست خديجة، وراحت تقص عليه ما رأت في منامها حرفاً حرفاً، ومشهداً مشهداً. كان ورقة يصغي إلى خديجة في اهتمام جعله ينسى الصحيفة في يده، وكأن شيئاً ما نبه إحساسه، وجعله يتابع سماع الحلم إلى النهاية … وما أن انتهت خديجة من كلامها حتى تهلل وجهه بالبشر، وارتسمت على شفتيه ابتسامة الرضا، ثم قال لخديجة في هدوء ووقار: أبشري يا ابنة العم . . . لو صدق الله رؤياك ليدخلن نور النبوة دارك، وليفيضن منها نور خاتم النبيين … الله أكبر . . .. ماذا تسمع خديجة؟ مالذي يقوله ابن عمها؟ وجمت خديجة لحظات …. سرت في بدنها قشعريرة جاشت في صدرها عواطف مشبوبة زاخرة بالأمل والرحمة والرجاء .. تحركت في ذهنها أشياء بدأت تتوضح .

كانت الأشياء بالأمس سراً، بدأت تنقشع غيوم الغموض عن تلك الأشياء، لا ريب أن ابن عمها ورقة عنده علم من الكتاب، وعلم عن هذه الأشياء الغامضة التي تعتمل في صدرها، وتتوضع في نفسها ووجدانها. أفاقت من شرودها – الذي دام لحظات – وانتبهت إلى ورقة وهو ينظر إليها، فلم تشأ خديجة أن توصد ذلك الباب الذي انفتح عن أعظم نبأ تبحث عنه منذ راحت خديجة تسأل ورقة عن خاتم النبيين وعن صفته، وعن زمن بعيد .

كانت خديجة سعيدة تعي أحواله، وورقة يجيب في هدوء العلماء العارفين.

ما يقوله ورقة حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة، وجملة جملة، وفي ذاكرتها اختزنت كل المعلومات والمعارف التي ذكرها ورقة عن خاتم النبيين، ورسول رب العالمين. ظلت خديجة رضي الله عنها تعيش على رفرف الأمل، وعبير الحلم الذي رأته، فعسى أن تتحقق رؤياها، وتكون مصدر خير للبشرية، ومصدر نور للدنيا، فقد كان قلبها الكبير منبعاً للخيرات، أما عقلها فكان يستوعب كل ما حولها من أحداث بشكل يتفق مع حياتها.

كانت خديجة رضي الله عنها إذا تقدم إليها سيد من سادات قريش لخطبتها، تقيسه بمقياس الحلم الذي رأته، والتفسير الذي سمعته من ابن عمها الشيخ الوقور ورقة بن نوفل … ولكن – إلى الآن – لم تنطبق صفات خاتم النبيين على الذين تهافتوا على خطبتها والاقتران بها، فكانت تردهم رداً جميلاً، وتخبرهم أنها لا تود الزواج، فقد كانت تحس إحساساً غامضاً أن القدر الإلهي يخبئ لها شيئاً رائعاً لا تدري ما هو، لكنها تستشعر أن منه ما تدخل الطمأنينة إلى قلبها .

ذكر أهل الأخبار أنه كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه عند الحرم، وفي أحد الأعياد، خرجت خديجة من بيتها نحو الكعبة، ثم طافت بالبيت العتيق، وراحت تبتهل إلى الله وتدعوه في صدق أن يحقق لها حلمها، ثم انطلقت نحو نسوة كُن بالقرب من الكعبة، وجلست معهن يتجاذبن أطراف الحديث، وطرائف الأخبار.

في تلك الساعة، قطع أصوات النسوة صوت صارخ وقف بالقرب منهن، كان هذا الصارخ من اليهود، وقف بالقرب من النسوة وصرخ: يا معشر نساء! فالتفتت النسوة إليه وأصغين السمع فقال: يا معشر نساء قريش، إنه يوشك فيكن نبي، فأيتكن استطاعت أن تكون فراشاً له فلتفعل.

ويبدو أن نسوة قريش حسبنه يهذي، فرماه بعضهن بالحصباء، وألقى عليه أخريات منهن سيلاً من الشتائم والسباب، بينما قبحنه أخريات، وأغلظن له القول، وطردنه من ذلك المكان. أما خديجة ابنة خويلد رضي الله عنها فقد خفق قلبها في شدة، فحديث هذا اليهودي أهاج ذكرياتها، وأعاد إلى ذاكرتها شريط حلمها الذي ليس هو ببعيد .. .. إنه أعاد إلى ذهنها حلمها الذي رأته، وذلك الحديث الشجي العذب الذي دار بينها وبين ابن عمها ورقة بن نوفل، حول خاتم الأنبياء.

إن ذلك اليهودي ليس يهذي، وليس بمجنون، إنه يعي ما يقول، فقد أعلن على الملأ أن نبياً قرب وجوده، وهو يدعو من استطاعت من نسوة قريش أن تكون زوجاً له، وخديجة قد رأت في منامها أن الشمس هبطت من سماء مكة لتسقر في دارها .. .. أشياء كثيرة ازدحمت في ذهن خديجة … أفكار تصارعت في مخيلتها تساءلت: أيكون ذلك كله عبثاً ؟! كلا ورب هذا البيت .

إنها تحس في أغوار نفسها الصافية أن رؤياها ليست عبثية، وأن ما ذكره اليهودي ليس عبثاً، وأن ما قصه عليها ورقة بن نوفل من بشارات في التوراة والإنجيل والصحف بالنبي المنتظر ليس عبثاً أيضاً، بل ليس مصادفة، إن ذلك كله مجموعاً مجتمعاً ) لا بد له من حقيقة ستكون في يوم من الأيام ساطعة … ترى متى يكون هذا اليوم ؟!

لَعَلَّ خديجة تُرسل إليّ

كانت خديجة ابنة خويلد تعرف محمد بن عبد الله حق المعرفة، فعمته صفية بنت عبد المطلب زوجة أخيها العوام بن خويلد، وقد ترامت إليها سيرته العطرة، وأخباره المباركة، فودت لو أنه عمل لها في تجارتها. ولكنها كانت تعتقد أن في تجارة بني هاشم منفساً له، وما درت أن كثرة العيال قد ذهبت بتجارة أبي طالب، وأن حمزة بن عبد المطلب قد شغل بالقنص والصيد والفتوة عن التجارة، وأن العباس بن عبد المطلب يخرج هو في تجارته، وأن أبا لهب قد انغمس في الفجور واللهو والشراب والعربدة والمقامرة.

ويبدو أن أبا طالب عم النبي ﷺ قد رغب إلى ابن أخيه محمد أن يعرض نفسه على خديجة بعد أن ذكر له قلة مَالِهِ، وأن الزمان قد اشتد عليه، ونصحه أن يتجر بمال خديجة، فلعل الله أن يسوق له رزقاً حسناً من مال خديجة الممدود.

روى ابن سيد الناس – رحمه الله – في العيون خبر تجارة سيدنا محمد ﷺ بمال خديجة بسند رفعه إلى نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية قال: لما بلغ رسول الله ﷺ خمساً وعشرين سنة، وليس له بمكة اسم إلا الأمين لما تكاملت فيه من خصال الخير، قال له أبو طالب: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيراتها، فيتجرون لها في مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها، لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت لأكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا نجد من ذلك بداً.

وكانت خديجة بنت خويلد امرأةً تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة، وتبعث بها إلى الشام فتكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال، وتدفع إليهم المال مضاربة، وكانت قريش قوماً تجاراً، ومن لم يكن تاجراً من قريش فليس عندهم بشيء؛ فقال رسول الله ﷺ: «فلعلها ترسل إلي في ذلك» فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك فتطلب أمراً مدبراً .. وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، وقبل ذلك بلغها ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه، فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، ثم أرسلت إليه، فقالت: إنه دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك .

ففعل رسول الله، ولقي أبا طالب، فذكر له ذلك، فقال: إن هذا الرزق ساقه الله إليك .

فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام، وجعل عمومته يوصون به أهل العير، حتى قدم الشام.

فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب يقال له: نسطورا، فاطلع الراهب إلى ميسرة – وكان يعرفه – فقال: يامسيرة، من هذا الذي نزل تحت الشجرة؟ فقال مسيرة: رجل من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي.

ثم قال له: في عينيه حمرة؟ قال ميسرة: نعم، لا تفارقه .

قال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج .

فوعى ذلك ميسرة، ثم حضر رسول الله ﷺ سوق بصرى، فباع سلعته التي خرج بها واشترى، فكان بينه وبين رجل خلاف في سلعة، فقال الرجل: أحلف باللات والعزى.

فقال رسول الله ﷺ: ما حلفت بهما قط وإني لأمر فأعرض عنهما. فقال الرجل: القول قولك .

ثم قال الميسرة – وخلا به -: يا ميسرة هذا نبي تجده أحبارنا منعوتاً في كتبهم. فوعى ذلك ميسرة، ثم انصرف أهل العير جميعاً.

كان ميسرة يرى رسول الله ﷺ إذا كانت الهاجرة يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره، وكان الله عزّ وجلّ قد ألقى على رسول الله ﷺ، المحبة من ميسرة، فكان كأنه عبد لرسول الله، وباعوا تجارتهم، وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلما رجعوا فكانوا بمر الظهران، قال ميسرة: يا محمد، انطلق إلى خديجة فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك فإنها تعرف لك ذلك. فتقدم رسول الله ﷺ حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة – وخديجة في علية لها معها نساء فيهن نفيسة بنت منية – فرأت رسول الله ﷺ حين دخل وهو راكب على بعيره، وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها، فعجبن لذلك، ودخل عليها رسول الله، فخبرها بما رأت، فقال لها ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بقول الراهب نسطورا، وقول الآخر الذي خالفه في البيع، وربحت في تجارتها ضعف ما كانت تربح، وأضعفت لرسول الله ﷺ ضعف ما سمت.

أَطْيَافُ مِنَ الذَّكْرَيات

يبدو أن خديجة رضي الله عنها قد وَعَتْ جيّداً ما أخبرها به غلامها ميسرة عن كرامة محمد.

ويبدو أنها ذهبت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وقصت عليه ما حدثها به غلامها ميسرة عن أخبار محمد، وعما فَعَلَ الأمين في رحلته، فقال لها ورقة: إن كان هذا حقاً يا خديجة، إن محمداً نبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة منتظر هذا زمانه. شغلت خديجة بأحاديث وذكريات، شغلت بحديث ميسرة عن محمد، وبقول ابن عمها ورقة: إن محمداً نبي هذه الأمة، واحتل الحلم – الذي رأت فيه الشمس تهبط من سماء مكة لتستقر في دارها – أقطار رأسها، وراح صوت ورقة يتردد في أعماقها: أبشري يا ابنة العم لو صدق الله رؤياك ليدخلن نور النبوة دارك، وليفيضن منها نور خاتم النبيين.

وطافت بذهنها ذكرى أخرى، ذكرى يوم العيد الذي خرجت فيه نساء مكة إلى الكعبة، تذكرت ما قاله ذلك اليهودي هنالك: يا معشر نساء قريش، إنه يوشك فيكن نبي قرب وجوده، فأيتكن استطاعت أن تكون فراشاً له فلتفعل .

كانت خديجة تطلق لخيالها العنان ليحلق كيف شاء وأنى شاء، فهذا سيل من الذكريات يتدفق على خيالها فيملأ صفحة حياتها أنساً وسروراً.

إن الدلائل لتشير إلى أن محمد بن عبد الله ذو شأن، فهو خير أهل مكة، وأفضل أهل الحرم، فإذا لم تكن النبوة فيه، ففيمن تكون؟! إن كل الرهبان والكهان قد بشروا به وبقرب ظهوره، بل وبسماته وعلاماته وموطنه، حتى ابن عمها ورقة الشيخ الكبير الذي أنفق عمره في النظر في الكتب القديمة، وعرف اللغات الأخرى قال لها: إنه نبي هذه الأمة، ثم إن خديجة هي نفسها لتحس إحساساً خاصاً، أن محمداً ليس كغيره من الناس، ومن رجالات قريش … انتقلت خديجة من سيل ذكرياتها إلى الواقع الذي تحياه، نظرت وفكرت في محمد، فإذا هو يملأ صفحة خيالها، إن شخصية محمد كانت أقرب إلى هالة من نور تشرح الصدر، وتملأ النفس نقاء وضياء، وتوقظ في الوجدان عوامل الخير.

إن محمداً هو الذي خلق ليكون سيداً، ليكون راعياً للبشر، من رآه بديهة هابه، ومَنْ خالطه أحبه، فهو لطيف المحضر، يصل الرحم، ويصدق الحديث، هو الأمين، وهو أصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، لكأنما خُلق من مكارم الأخلاق، فهو على خُلُقٍ عظيم، وخلق كريم، أحب الناس، وأحبه الناس، بل استولى على قلوبهم برفقه ورقته ودمائة خلقه .

اجتمعت الدلائل والقرائن عند خديجة بأن محمداً هو الرحيق الذي يختم به الأنبياء، فباتت ترجو أن تكون زوجاً له ولكن أني الطريق إلى ذلك؟!

خديجة ورغبة مباركة

كان تقدير خديجة رضي الله عنها لسيدنا محمد ﷺ تقديراً واقعياً، دافعاً لها على أن تفكر في شأنه تفكيراً آخر أكبر من كونه يتجر في مالها فتربح ويربح .

إنها عرفت محمداً بما عرفه به قومه أميناً صدوق الحديث، عزوفاً عن الدنايا، طموحاً لعوالي الأمور، متسامياً بنفسه عن مغامز المروءة، كسوباً للخير، فعالاً له، بل إن خديجة قد عرفت محمداً أكثر مما عرفه قومه، عرفته عاملاً في مالها، وصحبه في سفره غلامها الأمين ميسرة، فحدثها عن أخلاق محمد في السفر والعمل، وحدثها بما شهد من دلائل مستقبل هذا الفتى الكريم، وحدثها عن تنبؤات الرهبان، وحدثها عن مظاهر رعاية الله له، ورأت هي من مظاهر الرعاية ما عجبت منه نساءها، وتذكرت حديث اليهودي في أحد أعياد قريش عندما أعلن بظهور نبي، فَوَقَرَ كل ذلك في نفسها.

إن خديجة الآن امرأة خلية من الزوج، شريفة حسيبة، ذات مال كثير، يحتاج إلى يد أمينة تدبره وتنميه وتحوطه، ثم إن محمداً في ذروة الشرف من قومها، أليس هو سليل عبد المطلب شريف قريش وسيدها؟! بلى . . . . أو ليس هو أنبل فتى وأعقله، وأعظمه أمانة، وأكمله مروءة؟! ثم إنه خلي هو الآخر لم يتزوج وقد بلغ سن اكتمال الشباب، فما يمنعها أن تكون زوجاً له، وما يمنعه أن يكون زوجاً لها ؟! لقد علمت خديجة رضي الله عنها – وهي ذات الشرف الطاهر، والمال الوافر الظاهر، والحسب الفاخر – أن محمداً حاله حال التقى والزهد والحياء، وهذه السمات فيه سجية وطبيعة لا اكتساب، وأتى خديجة الأحاديث الكثيرة، بأن الغمامة والشجر قد أظلت محمداً، كما أنتها الأخبار من بعض الأَحْبَارِ بِأَنَّ وَعْدَ الله لرسوله بالرسالة قد قرب الوفاء به، وقرب مبعثه، فبسبب ذلك خطبته خديجة، وعرضت نفسها بطريقتها الخاصة عليه، وما أحسن بلوغ الأذكياء ما يتمنونه، ولله در البوصيري حيث أشار إلى ذلك في همزيته اللطيفة الشهيرة:

ورأته خديجة والتقى والزهـ د فيه سجية والحياء

وأتاها أن الغمامة والسر ح أظلته منهما أفياء

وأحاديث أن وعد رسول اللــ ـه بالبعث حان منه الوفاء

فدعته إلى الزواج وما أحـ سن أن يبلغ المنى الأذكياء

لقد عرفت خديجة كل شيء عن محمد، ولكن ما الطريق الذي يوصلها إليه؟! إذن فلتدس إليه صديقة من صديقاتها اللاتي تثق بهن، ويعرفن رغباتها، ومن ثم تلقي إليه هذه الرغبة إلقاء عارضاً كيما تعرف مكانها من نفسه.

روى ابن سعد من طريق شيخه محمد بن عمر بن واقد الأسلمي الواقدي – رحمها الله – عن نفيسة بنت منية قالت: كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة، جلدة، شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً ، وكل قومها كان حريصاً على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيساً إلى محمد بعد أنْ رَجَعَ من غيرها من الشام .

فقلت: يا محمد ما يمنعك أن تزوج؟ فقال: “ما بيدي ما أتزوج به” قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: “فمن هي؟”، قلت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك؟ قلت: علي قال: «فأنا أفعل» فذهبت فأخبرتها .

فأرسلت إليه أن إئت لساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها فحضر، ودخل رسول الله ﷺ في عمومته فزوجه أحدهم، فقال عمرو بن أسد: هذا البضْعُ لا يُقرع أنفه.

وتزوجها رسول الله ﷺ، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة، ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة .

لقد وضح الطريق وسهلت مهمة الصديقة الأمينة خديجة، ودعي محمد صلّى الله عليه وسلم إلى الجمال والشرف والعقل والكمال، إلى خديجة ابنة خويلد سيدة نساء قريش وأطهرهن، فأجاب كفاً كريماً، وزوجها عمها عمرو بن أسد، وزوج محمداً صلى الله عليه وسلم عمه.

كانت خديجة رضي الله عنها في سن اكتمال الأمومة، وكان محمد في سن اكتمال الشباب، وفي هذا من أسرار الموافقات النفسية ما يجعلنا نعجز عن أداء ذلك بالكلام، لأن محمدا كان إلى عاطفة الأمومة وحنانها وبرها أدنى منه حاجة إلى عاطفة الزوجة وحبها، وخديجة رضي الله عنها كانت هي الزوجة في حبها، وهي الأم في حنانها وبرها، ومن ثم كانت امرأة واحدة في تاريخ الدنيا لم تتكرر في الحياة، ولن تتكرر في هذا الوجود .

خطْبَةُ الزَّوَاجِ

في بيت خديجة رضي الله عنها كانت ثلة من رجال بني هاشم منهم سيدنا وحبيبنا محمد وأعمامه: حمزة، العباس، وصدِّيقاه أبو بكر، وعمار بن ياسر، وجمع المجلس ابن عمها ورقة بن نوفل وابن أخيها حكيم بن حزام، بينما كانت صفية وعاتكة ابنتا عبد المطلب عند خديجة، وبعض نسوة من صويحباتها وإمائها .

في تلكم اللحظات ما كان أحد يقدر ذلك الموقف مثل خديجة الطاهرة سيدة نساء قريش، فكأنما قد رفع عن بصيرتها الحجاب، فرأت مستقبلها مع محمد الأمين الذي تنتظر الأمم مبعثه .

في ذلك المجلس اللطيف قام أبو طالب يخطب، ذكر أبو العباس المبرد رحمه الله – وغيره، أن أبا طالب خطب خطبة الإملاك فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء – أصل – معد، وعنصر مضر، وجعلنا حَضَنَة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوباً، وحرماً آمناً ، وجَعَلَنا الحكام على الناس؛ ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح عليه براً وفضلاً، وشرفاً وعقلا، ومجداً ونبلاً .

فإن كان في المال قُلْ – قلة – فَإِنَّ المالَ ظِلُّ زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خَطَبَ خديجة بنت خويلد، وبذل لها ما أجله وعاجله من مالي عشرين بكرة، وفي رواية : وقد بذل لها من الصداق اثنتي عشرة أوقية ذهباً ونشاً أي نصف أوقية – ثم قال أبو طالب : وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل، فزوجها ).

ولما أتم أبو طالب الخطبة، تكلم ورقة بن نوفل، فقام عندئذ خطيباً وقال : الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب، وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا على معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمئة دينار.

ثم سكت، فقال أبو طالب : قد أحببت أن يشركك عمها .

فقال عمها : اشهدوا على يا معشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد وشهد على ذلك صناديد قريش.

إن ورقة بن نوفل هذا ابن عم خديجة، ومن أشراف قومها، وذوي أسنانهم، فلا غرابة أن يقدموه في الرد على خطبة أبي طالب، وكأنما أحب أبو طالب أن يوثق العقد، ويؤكد الرضا، فأحب أن يشارك عم خديجة ابن عمها، فأسرع عمها إلى إجابة أبي طالب إلى طلْبَتِه، فتولى زواجها.

وقد أولم رسول الله ﷺ على زواجه بخديجة، وفرحت خديجة بهذا الزواج فرحاً شديداً.

روي أن رسول الله ﷺ لما تزوجها، ذهب ليخرج، فقالت له : إلى اين يا محمد؟ اذهب وانحر جزوراً أو جزورين، وأطعم الناس، ففعل. قال صاحب كتاب «إنسان العيون»: فأمرت خديجة جواريها أن يرقصن بالدفوف)، وقالت : مر عمك ينحر بكراً من بكراتك وأطعم الناس، وهلم فقل مع أهلك، فأطعم النَّاسَ، ودخل فقال معها ، فأقر الله عينه، وفرح أبو طالب فرحاً شديداً وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب، ودفع عنا الهموم. وهي أول وليمة أولمها رسول الله ).

السَّعادة الزوجية في بيت خديجة

رفرفت السعادة بأجنحتها على بيت خديجة رضي الله عنها، فقد وجدت الطاهرة خديجة في الأمين محمد خير الأزواج، فهو لطيف المعشر، سابغ العطف، يحيط به كل إنسان وكل حي ، وكل شيء ؛ فأخلاق محمد صلى الله عليه وسلم كانت تنبع من فطرته بنسب متفقة متكاملة، فصبره مثل شجاعته، وشجاعته مثل كرمه، وكرمه مثل حلمه، وحلمه مثل رحمته، ورحمته مثل مروءته، وخصائصه كثيرة في الفضل .

إنه ليس بفظ ولا غليظ القلب، قد وسع حبه جاريته بركة الحبشية)، فأخذها معه لما انتقل إلى دار الزوجية، وأكرمها وغمرها بحنانه، وفاض قلبه الكبير رقة مست قلوب أبناء خديجة، فكان هند ابن خديجة عند أمه بعد زواجها من محمد صلى الله عليه وسلم، فكان ربيب النبي سعيداً غاية السعادة أن يشب وينشأ في كنف أصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة.

لقد وسع حب محمد صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، ذلك الفتى الذي اشتراه حكيم بن حزام من سوق عكاظ، ووهيه لعمته خديجة، وقد تعلق محمد صلى الله عليه وسلم بزيد، وأحب زيد محمداً حباً لم يحب أحداً مثله من قبل. وقد فطنت خديجة إلى هذا الحب الأبوي، فوهبت زيداً لزوجها فأعتقه، ولم يكتف بأن رد إليه حريته السليبة، بل شرفه ورقاه بأن نسبه إلى نفسه فكان زيد بن محمد.

أحبت خديجة رضي الله عنها زوجها محمد صلى الله عليه وسلم حباً مَلَكَ عليها كل مشاعرها، حب الزوجة لزوجها الكريم الذي تمثلت فيه مكارم الأخلاق ومعالي المكارم، فقد كانت على مر الأيام وطول العشرة، تزداد يقيناً بأن الرجل الذي اختارته لنفسها هو أصلح أهل الأرض لأداء رسالته، والنهوض بأمته.

كانت خديجة رضي الله عنها تهيىء لرسول الله ﷺ كل أسباب الراحة وكل أطراف النعيم، إذا أشار لبت إشارته متهللة النفس، رضية القلب، كريمة اليد، فما كانت تبخل بأموالها أيضاً، وكانت سخية بعواطفها ومشاعرها وأموالها، بل لم تكن تبخل بحبها على من يحب زوجها، وكانت تكرم من يحبه إكراماً يملأ النفس رضى وسروراً.

في جلسة غمرتها أنوار ربانية كان محمد صلى الله عليه وسلم يتحدث مع خديجة، فكان صوته الصحل يمس أوتار فؤادها وتلك الحكمة المتدفقة من بين شفتيه تغمر روحها بسعادة عارمة مجنحة تسمو بها فوق وجودها الملموس، وتعيش في أفق نوراني .

في تلك اللحظات جاءت مولاة خديجة وقالت: مولاتي : إن حليمة بنت عبد الله بن الحارث السعدية ) تود الدخول.

ولما سمع رسول الله ﷺ بحليمة السعدية، خفق قلبه الشريف حناناً، وراحت الذكريات الحبيبة والحانية الدافئة تطفو على سطح ذهنه، ذكريات حبيبة إلى نفسه، تذكر بيداء بني سعد ورضاعته هنالك، كانت لحظة مفعمة بالمشاعر الناعمة، لحظة أحيت – في مثل لمح البصر أو أسرع – أيام طفولته وأيام نشأته بين ذراعي حليمة، وفي أحضانها.

قامت خديجة رضى الله عنها لتدخل حليمة، فطالما حدثها عنها حديثاً يقطر حباً ورحمة ودفئاً وكرامة، وعندما وقع بصره الشريف عليها، مس سمع خديجة صوته اللطيف وهو ينادي في لهفة وحنان أمي، أمي».

نظرت خديجة إلى رسول الله ﷺ فألفته قد فَرشَ لها رداءه، ومرر يده عليها في حنان دافق، وقد ترقرقت في وجهه سعادة عارمة، وتألق في عينيه فرح فياض، لكأنما كان يحتوي في أحضانه أمه آمنة بنت وهب وقد بعثت من مرقدها.

وفي غمرة اللقاء الحار بين رسول الله ﷺ وحليمة، سألها عن حالها، فراحت تشكو إليه قسوة الحياة والجدب الذي نزل ببادية بني سعد، ثم شكت ضيق العيش، ومرارة الفقر، فأفاض عليها من كرمه.

وبعد ذلك حدث النبي ﷺ زوجة خديجة – في تأثر واضح – بما ألم في مرضعته حليمة من ضيق، وما حاق بها وبقومها من كرب فتدفقت كنوز فؤاد خديجة بالعطف والرحمة، وأعطتها عن طيب خاطر أربعين رأساً من الغنم، كما وهبتها بعيراً يحمل الماء، وزودتها بما تحتاجه في رجوعها إلى باديتها، وكانت خديجة رضي الله عنها متأهبة على الدوام لتجود بكل أموالها، إرضاء لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم ، فَشَكَرَ لها أريحيتها، ثم انطلق ليضع بين يدي مرضعته ما جادت به خديجة.

ذرية طيبة

مضت مدة على الزواج الميمون ، وخديجة تدخل السعادة إلى البيت النبوي، وتدخل السرور على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعمل على مرضاته. كانت تضفي على البيت النبوي روحها الصافية، وتغمره بما استطاعت من عطف وحنان .

وذات يوم كانت خديجة تحمل بشرى عظيمة إلى زوجها، أفضت إليه بسرها، أخبرته أنها حامل، وإن هي إلا شهور حتى تضع ما في بطنها، وكانت تهتز طرباً لهذا الحادث المفرح، حيث تحس في صميم وجودها أن في إنجابها الذرية من محمد صلّى الله عليه وسلم شيء رائع يثلج الصدر ويجعل النفس تشرق بآمال عظيمة، فمرور الأيام يؤكد لها أن سيكون لزوجها نبأ عظيم، وشأن أي شأن.

عرف السرور طريقه إلى قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم، فهل هناك فرحة أعظم لرجل من أن يكون له عقب؟ وخصوصاً في المجتمع المكي عصر إذ؟! كان سروره عظيماً بالنبا السار السعيد الذي زفته إليه زوجة الرؤوم خديجة بنت خويلد.

وما هي إلا بضعة شهور حتى وضعت خديجة طفلة جميلة، فضمها محمد ﷺ إليه في عطف وحنان، وشكر الله على ما وهبه وسماها زينب.

مضت أيام وشهور، كانت زينب خلالها فلذة الفؤاد، تتفتح تفتح الزهر، وكان قلب رسول الله ﷺ يخفق حباً لها، وتنسبط أساريره عندما يراها فيرفعها ويقبلها في حنان .

تخطت زينب ربيعها الأول، وها هي تدخل في الربيع الثاني، كانت طفلة حلوة لطيفة، بينما كانت أمها خديجة تنتظر مولودها الثاني ، وكانت إذ ذاك سعيدة غاية السعادة، عرفت السكينة بعد القلق، وذاقت حلاوة نعيم الحياة تحت ظلال زوجها الأمين.

كان محمد صلّى الله عليه وسلم يتفرس في وجه ابنته زينب، وقد امتلأ قلبه نشوة واستبشاراً، فقد كانت تشبه خديجة، وهذا مما يزيده حباً لها.

أما خديجة رضي الله عنها فقد وضعت مولودها الثاني، وجاء أنثى، ففرح محمد صلّى الله عليه وسلم بما آتاه الله عز وجل، وشكره بقلبه أن من عليه بذرية طيبة ، ثم إنه سمى ابنته الثانية رقية، ثم إن خديجة بعد ذلك ولدت ابنتها الثالثة أم كلثوم .

أما رسول الله ﷺ فقد راح يرنو إلى أسرته الكريمة في انشراح ، فهو لا يفرق في حبه بين بناته ، وهند بن أبي هالة، وكذلك زيد بن حارثة مولاه، فقد وسعهم جميعاً قلبه الكبير، وفاض عليهم مِنْ كُنوز حَنَانِهِ وفيض رقته، وكرم رحمته وخلقه .

كانت الأسرة المحمدية تعيش حياة ناعمة هادئة، فخديجة رضي الله عنها امرأة نادرة المثال في الصفاء والنقاء، وفهم الحياة الزوجية على أساس صحيح فكانت كلما طالت عشرتها مع محمد ازدادت إعجاباً به، فقلبه أصفى من الصفاء، وأنقى من النقاء، فهو بكل جوارحه ووجدانه وقلبه لله، ومن كان لله كان الله له .

ثم بعد ذلك وهب الله عز وجل للبيت المحمدي ابنة كريمة، أضحت فيها بعد سيدة نساء العالمين في زمانها أم الحسنين، وأم أبيها فاطمة الزهراء الصابرة الدينة الخيرة الصينة القانعة الشاكرة الله عز وجل، وقد وهب الله سبحانه وتعالى خديجة ولدين هما : القاسم وعبد الله، إذن فقد ولدت خديجة أربع بنات وولدين ) .

وشاءت إرادة الله عز وجل أن لا يعيش للنبي ﷺ وَلَدٌ ذَكَر، في وقت كان العرب يتعلقون بالنبين ويحرصون على الإنجاب، ولكن في تلك البيئة المفتونة بالنبين دون البنات، كان الحبيب المصطفى ﷺ القدوة الصالحة للمؤمنين، والمثل الأعلى للناس على مر العصور.

خديجة وَمَكَارِمُ المَعالي

إن الأخلاق العالية، والمكارم النبيلة التي فطرت عليها خديجة جعلت منها معقد الفضل لأهل الفضل، وينبوع الحياة لكل من استظل تحت سقف بيتها المبارك الذي اكتنفته العناية الإلهية، وسطعت فيه شمس البشرية ونور الدنيا سيدنا وحبيبنا محمد صلّى الله عليه وسلم.

كانت خديجة رضي الله عنها تملك أسباب المكارم، فقد استطاعت أن تغذي بيتها بألوان الرحمة والعطف، وتجعل الأفراد الذين يعيشون في كنفها يتعلقون في محبتها، بطريقة جعلتهم يحسون أن خديجة أمهم التي ولدتهم .

فقد انضم إلى البيت النبوي أحد أفراد الإسلام وعباقرة الدنيا، وأحد أكارم بني هاشم وأكابرهم، سيدنا علي بن أبي طالب، حيث كفله رسول الله ﷺ وهو طفل صغير، وكذلك كان بطل مؤتة سيدنا زيد بن حارثة حب النبي ﷺ ممن ظللته رعاية خديجة، وناله من عطفها وعطف محمد رسول الله ﷺ ما جعله ينسى أهله، لا بل فضّل البيت المحمّدي على أبويه الحقيقيين، ومن كمحمد وخديجة ؟

فقد كان محمد صلّى الله عليه وسلم يحب زيداً، وكانت خديجة تحب كل من يحبه رسول الله ﷺ، وهواها دائماً مع من يكون هوى زوجها معه، فقد أحبت علي بن أبي طالب، وأحبت الحاضنة أم أيمن الحبشية، وأحبت زيد بن حارثة ذلك الذي ضَرَبَ أورع الأمثلة في الوفاء لخديجة، وفي الوفاء لعطفها وبرها به وكرمها معه …. وقد أثبت زيد هذا في أدق المواقف وأحرجها، وقد وعت ذاكرة التاريخ ذلك الموقف المبارك لزيد.

ففي أحد أيام الحج ، كان رسول الله ﷺ في عرفة، وكان معه مولاه زيد بن حارثة في أهل بيته، وكان زيد قد سبي من عند أهله، وهناك في عرفة رآه بعض قومه من بني كلب فعرفه فذهب إليه وقال له : من أنت يا غلام؟ قال زيد: من أهل مكة .

قال الرجل : من أنفسهم ؟

قال زيد : لا .

قال الرجل الكلبي :

فحر أنت أم مملوك ؟

قال : مملوك .

قال الرجل مستوضحاً: عربي أنت أم أعجمي ؟

قال زيد على الفور بل عربي من بني كلب وبالتحديد من بني عبد ودّ…..

فقال الرجل: ابن من أنت؟

قال زید ابن حارثة بن شراحيل

قال الرجل: وأين سبيت؟

قال زيد من عند أخوالي في طيء.

قال الرجل: ما اسم أمك؟

قال زيد: سعدى بنت ثعلبة .

قال الرجل : اسمع حال أبيك حارثة ، وما ينشد في التفجع عليك، وكيف كان يبكي في غيبتك التي لا يُعرف لها نهاية، ولا يعرف لك فيها مستقراً أو مقاماً، وراح الرجل ينشد قول حارثة والد زيد:

بكيت على زيد ولم أدر ما فعل …أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل

فوالله ما أدري وإني السائل … أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل

واستمر الرجل في إنشاده، وزيد مطرق الرأس تتصارعه عواطف شتی فأراد أن يكفكف دموع أبيه وقومه، ويخفف من لهفتهم عليه ببعث الطمأنينة إلى قلوبهم، وإرسال بريد شفوي يعلمهم بحياته وسلامته، ويخبرهم – مع ذلك – بسعادته العظيمة حيث يقيم في أرغد مقام ، وقد أبدله الله بأب خير من أبيه، وبأم خير من أمه، وبأخوة خير من إخوته، ثم قال للرجل ومن معه من بني كلب ممن عرفوه وعرفهم : أبلغوا أهلي هذه الأبيات، فإني أعلم أنهم قد جزعوا علي، فقال:

أحن إلى قومي وإن كنت نائياً … فإني قطين البيت عند المشاعر

فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم … ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر

فإني بحمد الله في خير أسرة … كرام معد كابراً بعد كابر .

انتهى موسم الحج، وانطلق الرجل الكلبي وقومه، فأعلموا أباه وحارثة، وعمه كعب، ووصفوا له موضعه، وعند من هو وأنشدوا شعر زيد ابنهم، فكانت الدموع تجري، والألم يتجدد، وإن تحرك في الصدر آمال، وإن خفق القلب بالرجاء.

شد حارثة وكعب ابنا شراحيل الرحال إلى مكة لفداء زيد، حتى إذا ما بلغاها انطلقا إلى دار خديجة بنت خويلد وسألا عن محمد صلّى الله عليه وسلم، فقيل لهما : هو في المسجد، فدخلا عليه فقالا : يا ابن عبد المطلب يا ابن هاشم، یا ابن سید قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك، فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه، فإنا سنرفع لك في الفداء.

قال رسول الله ﷺ ولم تفارق الابتسامة شفتيه الشريفتين: «من هو» قالا : زيد بن حارثة يا ابن الأكارم الأطهار الأخيار. فقال لهما : أَو غير ذلك؟ قالا : ما هو؟ قال صلى الله عليه وسلم في صدق ويقين: «أَدْعُوهُ فأخيره، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فو الله ما أنا الذي أختار على من اختارني أحداً .

وفرح حارثة وكعب فرحاً شديداً، فما كان يخطرهما أن يعرض أحد مثل هذا العرض الكريم السخي الذي ينم عن خُلُقٍ عظيم، ومنتهى مكارم الأخلاق ومعاليها، وعندئذ قالا لرسول الله ﷺ : أحسنت وزدتنا عن النصف.

ودعا النبي ﷺ زيد بن حارثة ، فلما جاءه قال له في رفق أبَويّ: هل تعرف هولاء؟ وأشار بيده الشريفة إلى حارثة وأخيه كعب. قال زيد في هدوء : نعم، هذا أبي حارثة بن شراحيل، وهذا عمي كعب بن شراحيل .

فقال النبي في بساطة وهدوء : فأنا من قد علمت، ورأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما .

ولم يتردد زيد في الإجابة أو يتلجلج لسانه بحرف واحد، وإنما قال وهو يرنو إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حب صادق وقول أكيد : ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم.

فقال أبوه حارثة وعمه كعب وقد اعتراهما دهش وفزع : ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ وقطع زيد على أبيه وعمه دهشهما فقال دون تردد : نعم، إني قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً.

فلما رأى ذلك رسول الله ﷺ أخرجه إلى الحجر – محل جلوس قريش – وقال : يا من حضر، اشهدوا أن زيداً ابني، يرثني وأرثه ».

ولما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما، فانصرفا، ودعي زيد بن محمد، حتى جاء الله بالإسلام، ونزل قوله تعالى : {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: ٥] فدعي يومئذ زيد بن حارثة.

معرفتها قَدْرَ النَّبي ﷺ

رسالة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم أكمل الرسالات كمالاً، وأفضلهم فضلاً، وأعلاهم قدراً، وأشرفهم شرفاً وأقربهم قرباً، وأرفعهم منزلة، وأعلمهم بالله، وأتقاهم لله، وأخشاهم لله، وأكرمهم إلى الله، وأعزهم عند الله، وأهداهم سبيلا، وأعمهم رسالة، وأشملهم دعوة إلى الله، وأحكمهم حكمة، وأيسرهم هدى، يُضاف إلى ذلك أنه محمد رسول الله ﷺ خاتم النبيين، وسيد المرسلين.

ولقد كانت خديجة رضي الله عنها الزوجة الأمينة الوفية بفطرتها الأصيلة أعرف الناس بقدرِ محمد صلّى الله عليه وسلم، وأعلمهم بجلال مقامه عند الله .

فقد عرف محمد ربه قبل أن يُبعث، وأشرق قلبه بأنوار يسرت له مشاهدة ما وراء حواسه فاستوى بصره وبصيرته، وأرشد إلى طريق الحق، حتى إذا ما أتم الله تدربيه، وإعداده لتحمل نزول الوحي عليه كلف بالرسالة، فكان عليه وحده بتأييد من ربه أن يخلع الشِّرْكَ وعبادة الأوثان من رقاب الناس.

هذا وقد حبب الله عز وجل إلى محمد الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده، وما كانت الطاهرة خديجة لتضيق ذرعاً بهذه الخلوات التي تبعده عنها أحياناً، وما كانت لتعكر صفو تأملاته بأشياء تافهة، وإنما حاولت أن تحوطه بالرعاية والهدوء ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وذلك معرفة لقدره، فإذا ما انطلق إلى غار حراء للعبادة، ظلت عيناها ترعاه من بعيد، ولم تكتف بهذا، بل كانت ترسل وراءه من يحرسه ويرعاه دون أن يقتحم عليه خلوته، أو يعكر عليه صفاءه، أو يقطع صلته بربه في ذلك الغار.

أما محمد فقد كان ربه يرعاه ليصنعه على عينه، وألقى من فيض كرمه في قلبه الأنوار، ففتح الله عليه من مزايا لطفه ورحمته، فإذا هو على نور من ربه .

وفي غار حراء، أقبل محمد صلّى الله عليه وسلم بكيانه على الله، فإذا بأنوار ربانية تغشى المكان، وإذا برحمة إلهية تتنزل على من اصطفاه ربه ليكون رسوله إلى الناس، وإذا بالروح الأمين يكلفه برسالة تنوء بحملها الجبال، رسالة هداية البشرية جمعاء، ودعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له .

خديجة وبدء الوحي

قال ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في كتابه القيم «زاد المعاد»: فلما كمل له صلى الله عليه وسلم أربعون أشرقت عليه أنوار النبوة، وأكرمه الله تعالى برسالته، وبعثه إلى خَلْقِهِ، واختصه بكرامته، وجعله أمينه بينه وبين عباده.

وفي تلك الأثناء، وفي بداية نزول الوحي جبريل الأمين، على الأمين محمد صلّى الله عليه وسلم، كانت خديجة ذات أثر كبير، وفضل جسيم في هذا الموقف العظيم، حيث أثبتت أنها سيدة النساء في هذا، واستطاعت أن تلقي كلمات نورانية ما يزال شعاعها ينير العقول إلى ما شاء الله.

ولنقف الآن أمام السيدة الطاهرة العاقلة خديجة رضي الله عنها، ولنتصور ذلك الموقف عندما نزل الوحي على رسول الله ﷺ للمرة الأولى .

روى الإمام البخاري – رحمه الله – في الجامع الصحيح، في باب؛ كيف بدأ الوحي، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بديء به رسول الله ﷺ من الوحي الرويا الصالحة أو الصادقة في النوم – كما في رواية كتابي التفسير والتعبير من البخاري – فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، يتحنث فيه – وهو أي التحنث : التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ.

قال: ما أنا بقارىء قال: فأخذني فعطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال : اقرأ.

قلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ: فقلت ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة ، ثم أرسلني فقال : {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خَلَق الإنسان من علق.اقرأ وربك الأكرم} الآيات، إلى قوله {علم الإنسان ما لم يعلم} فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: «زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال الخديجة : – وفي كتابي التفسير والتعبير – فقال : أي خديجة مالي؟ لقد خشيت على نفسي، فأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي.

قفالت خديجة : كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق .

فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد ابن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرءاً تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.

فقالت له خديجة يا ابن عم : اسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى.

فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال رسول الله ﷺ : أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي.

وفي هذا الحديث الشريف يتبين لنا مقدار ما وصلت إليه خديجة رضي الله عنها من ثبات اليقين وقوته، وإشراق الكمال في نفسها، واكتمال معالم شخصيتها التي تفردت بها في عالم النساء في عصر النبوة، ولنا وقفة مباركة مع كلماتها النورانية للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه .

خديجة وكلماتُ النُّورِ والإلهام

كانت أم المؤمنين السيدة خديجة رضوان الله عليها أعرف الناس بقدر ومكانة محمد صلّى الله عليه وسلم، فهي رضي الله عنها إذ يعود إليها صلى الله عليه وسلم من متعبده وخلوته إثر مفاجأة المَلَك له في غار حراء، ويتحدث إليها، بعد أن استراح متزملا، متدثراً في فراشه، لتهدأ نفسه الكريمة من هول ما كابدت من عناء المفاجأة، وما احتف بها الغط الجاهد المجهد الذي هز بشريته هزاً بالغ الأثر في بدنه ويقول لها : أي خديجة، ما لي؟ لقد خشيت على نفسي ويخبرها خبر ما رأى وما سمع وما جرى له .

وكانت خديجة عليها سحائب الرضوان على يقين تام بما يملك محمد الله ﷺ من رصيد في مكارم الأخلاق، وفضائل الشمائل، فتقول له مستلهمة إيمانها الفطري بتوفيق الله : كلا ، لا تخش شيئاً يعوقك عن الوصول إلى ما أُريد بك من الخير والشرف، وإنك لبالغ من فضل الله وإنعامه وكرمه وفيضه، ما يبلغك أهداف ما حملت من أعباء الحقِّ والهدى والهداية، ولن يخزيك الله أبداً، لأنه أعدك بما ألبسك من خلع المكارم الإنسانية، فقد جملك بأحوال المكارم التي لا يخزى من يحلى بها لا سيما وأنه صنع على عين الله ورعايته الصمدانية التي ترفعك عالياً عالياً.

قالت خديجة: إنك لتصدق الحديث، وتَصِل الرّحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وتؤدي الأمانة .

إن خديجة أم المؤمنين – رضوان الله عليها – تريه بهذه الكلمات المشرقة، أنها تستبعد كل الاستبعاد، ما هجس في نفسه صلى الله عليه وسلم إشفاقاً أن تضعف قواه البشرية عن تحمل أثقال ما حمل من أعباء الرسالة الربانية.

لقد كانت كلمات الإيمان الفطري النورانية من الزوجة الأمينة الوفية – وزيرة الصدق، ومأنس الروح والقلب، أعقل نساء العالمين خديجة – سبحات تستشرف أفق مستقبل محمد رسول الله ﷺ في أطوار رسالته بأمل فسيح مبارك موصول بكمال شخصيته وفضائله الإنسانية النبيلة التي كانت معالم معروفة بين أبناء قومه ومن يعرفه بتلك الشمائل الحسنة.

فأمنا أم المؤمنين خديجة عليها سحائب الرضوان كانت مباركة في إلهامها عندما ترجمت بكلماتها النورانية عنوان تلك المعالم في مستقبل زوجها محمد صلّى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

ولهذا كله كانت أمنا خديجة رضي الله عنها نفحة من نفحات المدد الإلهي في سجل الرسالة المحمدية، نفحة ندية نادرة لم تتكرر ولن تتكرر، وتلك نعمة من الله يمن بها على من يشاء من عباده، وتلك رحمة الله يصيب بها من يشاء من خلقه والله ذو الفضل العظيم، ولا يضيع أجر المحسنين.

وقفة نديَّةً مَعَ كَلِمَاتِ خديجة

إن الكلمات العظيمة التي قالتها خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في ذلك الموقف الحرج، لدليل على إلهام الفراسة وفراسة الإلهام، ونستطيع أن نقف وقفات ندية تحت ظلال تلك الكلمات النضرة .. كلمات النور التي قالتها خديجة، كلمات الحق والثبات واليقين التي زكت موقفها، وكأنها أرادت أن تقول : يا أبا القاسم، يا أكمل الكملة من الخلق لن يقع لك ما تتخوفه على نفسك الزكية العلية من ضعف عن تحمل أعباء ما شرفك الله به من رسالة الخلود .

لن تعجز يا أبا القاسم عن القيام بموجبات تبليغ الأمر الإلهي، لأن الله تعالى هو الذي اختارك له وخصك به، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.

إنك يا أبا القاسم، قد فطرك الله على أفضل مَنْ فَطَرَ عليه أحداً مِنْ خلقه، فلن يخزيك أبداً، ولن يحزن قلبك الكبير السليم بوقوع شيء مما تشفق منه وتخافه على نفسك، لأن فيك من خصال الجبلة الكمالية ومحاسن الأخلاق الرضية، وفضائل الشيم المرضية، وأشرف الشمائل العلية، وأعلى معالي المكارم، وأكرم مكارم المعالي ما يضمن لك الفوز، ويحقق لك الفلاح والصلاح والنجاح، وستظفر بطلبتك، وتؤدي رسالتك، ويخلد ذكرك، ففيك من الخصال الحميدة والصفات الرشيدة ما يجعلك الخالد أبد الدهر.

فمن نفحات الكلمات الأولى للطاهرة خديجة : إنك لتصدق الحديث، أرادت أن تقول : فأنت الصدوق المصدق، وأنتَ الصَّادق الأمين، فصدق الحديث عندك سجية، إذا قلت شيئاً قالت الموجودات من حولك وهتفت الدنيا :صدَقت…..أبا القاسم وصدقت وقومك – على الرغم من عجرهم. وبجرهم – دعوك فيما بينهم الأمين وقد جهروا بهذا اللقب معترفين لك بهذه الخصلة النبيلة، خصلة الصدق في الحديث. شاهدوا على أنفسهم فقالوا: ما جربنا عليك كذباً.

بل إن أعتى أعدائك يشهد لك بسجية الصدق، ففي حديث أبي ميسرة أن رسول الله ﷺ مر بأبي جهل ) وأصحابه فقالوا : يا محمد والله ما نكذبك وإنك عندنا لصادق، ولكن نكذِّبُ ما جئت به، فنزلت الآية الكريمة : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) [الأنعام : ۳۳] نعم فالصدق أشرف الخصال أبا القاسم.

وفي ظلال الكلمة الثانية لخديجة رضي الله عنها تقول: وتصل الرحم، وأنت يا أبا القاسم، وصول للرحم، تقرب البعيد، وتدني القصي، وتغسل الأحقاد، وتزرع الألفة والمودات، وهذه فضيلة ومكرمة توثق عرى المحبة بين ذوي القربى، وتجمع القلوب على الصفاء والود؛ وصلة الرحم هذه أصل من أصول مكارم الأخلاق التي من سجاياك.

وثالثة الكلمات تقول : وتحمل الكل.

وأنت تحمل الكل، حمل الضعيف الذي أعجزته الأيام والليالي، فنفسك الكريمة، وقلبك الرحيم، لا يرضيان أن يريا ضعيفاً أثقلت كاهله الحياة، فأنت تحسن إليه بإحسان تنتعش من خلاله روحه وتحيي في نفسه الآمال.

ورابع الصفات من الكلمات الرائعات قولها وتكسب المعدوم .

إنك يا أبا القاسم، تكسب المعدوم بجودك وإيثارك، فقد فطرك الله على مكارم الجود، فأنت أجود الناس، بل أنت أجود بالخير من الريح المرسلة.

يقول الإمام القسطلاني – رحمه الله – في كتابه النفيس: «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، وقد كان جوده صلى الله عليه وسلم كله لله ، وفي ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو محتاج، وتارة ينفقه في سبيل الله ، وتارة يتألف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه، وكان يؤثر على نفسه وأولاده، فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا توقد في بيته نار، وربما ربط الحجر على بطنه الشريف من الجوع.

نعم يا أبا القاسم، ومن يعطي عطاؤك ؟ إنك تعطي ذوي الحاجة المعدومين ما لا يمكن أن يمنحه غيرك، ولا تسمح به نفس غير العلية، فأنت أكرم العالمين، وأسخى الأكرمين، وأجود الأنام ، فأنت الذروة في السخاء وفي الإيثار.

إن الكرم مجمعة للقلوب، يملك بكرمه زمام محبة الأفئدة، ويستأثر من أكرمهم بإحسانه بفواضله فيؤثرونه بمودتهم على كل محبوب ؛ ويرحم الله العلامة أحمد بن محمد القسطلاني، إذ استقصى هذه النواحي في شخص النبي ﷺ، الذي كان كما وصفه سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: كان أجود الناس كفاً، وأصدق الناس لهجة .

قال القسطلاني : فهو صلى الله عليه وسلم بلا ريب أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم وأشجعهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة، وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، ولقد أحسن ابن جابر حيث قال : يُروى حديث الندى والبشر عن يَدِهِ …ووجهه بين منهل ومنسجم

من وجه أحمد لي بدر ومن يَدِهِ… بحر ومن فمه در المنتظم

يم نبياً تباري الريح أنمله … والمزن من كل هام الودق مرتكم

لو عامت الفلك فيهما فاض من يده … لم تلق أعظم بحر منه إن تعم

تحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ … به ودع كل طامي الموج ملتطم

لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت… كل الأنام وروت قلب كل ظمي

فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحاب من غائم يمينه .

وخامسة أفياء كلمات خديجة قولها : وتقري الضيف.

أرادت خديجة أن تقول : إنك يا أبا القاسم لن يخزيك الله أبداً، فإكرام الضيف من أعظم الفضائل الإنسانية، ففيه عظيم الأثر في قوة اجتذاب القلوب، وأسر النفوس، وخصوصاً في البيئة التي نهد فيها محمد صلّى الله عليه وسلم، تلك التي شحيحة بمطالب العيش ووسائل الحياة لوجود الصحارى والجبال والوديان والقفار.

ولذا فقد كانت فضيلة قرى الأضياف موضع منافسة المتنافسين في صنائع المعروف، وكانت مما يتمدح بها أجواد العرب وفضلاؤهم لتنشر محاسنهم في القرى بين الأقوام، وكم احتفظ تراثنا كثيراً من القصص الطريفة، وحفظ المستجاد من فعلات الأجواد ما تضيق عنه الصفحات والسجلات.

وسادسة كلمات أم المؤمنين خديجة قولها : وتعين على النوائب.

كان أم المؤمنين خديجة أرادت أن تقول : يا أبا القاسم، إن من أخص صفاتك أن تعين على نوائب الحق، إن ذلك فطرة فطرك الله عليها، وخليقة جبلك بها، والإعانة على نوائب أفضلية الفضائل ومكرمة المكارم، فهي أجمع موارد الخير ومصادره، وهي منقبة البر والمعروف.

ومن فتوحات الكلام ما قاله الإمام ابن حجر – رحمه الله – في الفتح : وقولها : – أي خديجة – وتعين على نوائب الحق، هي كلمة جامعة لأفراد ما تقدم من أصول المكارم وما لم يتقدم والحقيقة، فقد كانت هذه الخليقة خُلقاً لمحمد إذ شارك قومه في صنع المكارم، وها هو عضو بارز في حلف الفضول، يتعاهد مع المتعاهدين بالله ليكونن مع المظلوم ورفع الظلم عنه حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة.

ومما يعزز هذه السمة في شخصية محمد قصة الإراشي الذي ابتاع منه فرعون قريش وفرعون الأمة، أبو جهل بن هشام إبلاً ومطله أثمانها ابتغاء غصبها، فلم يعن الرجل الإراشي إلا محمد صلّى الله عليه وسلم إذ ذهب مع الإراشي أبي جهل الذي دفع الحق راغماً خائفاً ذليلاً حقيراً مذموماً مدحوراً.

ونجدة المظلوم والإعانة على نوائب الحق تملأ صفحات السيرة النبوية، ولا يمكن حصرها في هذه الصفحات.

وختام كلمات خديجة النورانية وسابعتها قولها : وتؤدي الأمانة .

أرادت أمنا أن تقول : نعم يا أبا القاسم، أنت الأمين في السماء، وأنت الأمين في الأرض، فالأمانة أجمع مكرمة لمكارم الأخلاق، فالأمين هو ذو الخلق العظيم، الجامع لأشتات الفضائل، وقد كان خلق أداء الأمانة خُلقاً أثيراً في مكارمك، فلم يُعرف لقب الأمين على إطلاقه إلا لك.

لقد قالت قريش يوم أن اختلفوا على وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة : هذا الأمين رضيناه حكماً، وحكمت بحكمك حكماً أطفأ نيران الفتنة، وأصلح ذات بينهم وجمع شملهم …

تلكم هي ظلال وأفياء في رحاب كلمات أمنا الطاهرة خديجة لحبيبنا محمد، كلمات نابعة من يقين إيمانها، وإيمان يقينها وصدق وفائها، ووفاء صدقها مع الله ومع الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت فراسة الإلهام في كلماتها مصداقاً لصفات الحبيب الأعظم عليه الصلاة والسلام.

فِرَاسَةً وَإِلهَامُ

إن السيدة خديجة رضي الله عنها لوثيق معرفتها بأخلاق محمد الفطرية التي خبرتها فيه بتجاربها وفراستها، وبما كان يخصه به مجتمعه من الإكبار وحسن الأحدوثة؛ أقسمت على الله تعالى لن يخزيه، وأكدت ذلك بلفظ التأييد، واستدلت بوحي عقلها الرصين على ما أقسمت عليه بأمر استقرائي، فوصفته بأصول مكارم الأخلاق.

قال العلماء في هذا : وإنما كان ما ذكرته خديجة أصول المكارم، لأن الإحسان إما إلى الأقارب كما في صلة الرحم، وما يتفرع عنها من التعاطف والتراحم وفروعها، من صدق الحديث، وأداء الأمانة، وكسب المعدوم لمن يحتاج إلى المعونة من الضعفة، وإما على من يستقل بأمره، كما في مكرمة الإعانة على نوائب الحق، أو من لا يستقل بأمر كما في الكل الضعيف الذي لا يقوم بأمر نفسه .

هذا وقد كانت كلمات أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها نوعاً من فراسة الإلهام الذي ينظر إلى ما وراء الحجب، خففت بها عن رسول الله ﷺ ما شعر به من آثار المفاجأة الرهينة عند نزول الوحي، وقد آب إليها من خلوته ومتعبده في حراء، فرأت منه حالاً من مشقة الجهد لم تكن تراها عليه من قبل في أوباته إليها، ليتزود الخلوته، ويجد ببيته وولده وزوجه عهد الحنان والحب.

لذلك جلس إلى خديجة بعد أن هدأت نفسه، وحدثها وحدثته، وسمعت منه جديداً، لم تكن من قبل تسمعه منه، وكان في هذا الحديث نغم هامس ساحر، نعم يفوح بروحانية جديدة تتلمس دفء الحنان في أحضان الوفاء. فمنذ أن بلغ من الرجولية، كانت البشائر تتوالى عليه قبل أن يُنَبَّأ، وكانت خديجة رضي الله عنها على علم بالكثير من ذلك، وقد ثبت أنها رأت الغمامة تظلله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها، ولم تفارق ذاكرتها أحاديث غلامها ميسرة عما شاهد وشهد من الأعاجيب والآيات التي وقعت له .

كانت آمال خديجة رضي الله عنها منذ صارت زوجة محمدﷺ تحلق حوله في آفاق تطلعاتها إلى الأفق العلوي، وتجليات الملأ الأعلى لمحمد صلى الله عليه وسلم في لقاء المواجهة ولقاء الرسالة، فكانت آمال الفراسة النورانية وإلهام التوسم تتحقق شيئاً فشيئاً عند السيدة خديجة رضوان الله عليها.

فقد حدث رسول الله ﷺ زوجة الوفية الأمينة خديجة عن خلجات ضميره، فما كان من الزوجة العاقلة إلا أن شَدَّت أزره، وكانت وزير صدق على الإسلام ولكي تشد أزره، ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل – كما مر معنا – الذي ود أن ينصره نصراً مؤزراً إن أدركه، وأعتقد أن ورقة شدد وصيته لخديجة بأن تكون شديدة الاهتمام والرعاية لمحمد صلى الله عليه وسلم، فكانت كذلك … عن هذا الموقف العطر لخديجة تحدثنا بنت الشاطيء – عائشة عبد الرحمن – فتقول : هل كان لأنثى غيرها أن تهييء له الجو المسعف على التأمل، وأن تبذل له من نفسها – في إيثار نادر – ما أعده لتلقي رسالة السماء؟ هل كان لزوج عداها أن تستقبل دعوته التاريخية من غار حراء بمثل ما استقبلته هي به من حنان مستثار، وعطف فياض، وإيمان راسخ، دون أن يساورها في صدقه أدنى ريب، أو يتخلى عنها يقينها في أن الله عز وجل غير مخزيه أبداً؟ هل كان في طاقة سيدة غير خديجة غنية مترفة منعمة، أن تتخلى راضية عن كل ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة لتقف إلى جانبه في أحلك أوقات المحنة وتعينه على احتمال أفدح ألوان الأذى وصنوف الاضطهاد، في سبيل ما تؤمن بأنه الحق ؟ كلا.. بل هي وحدها التي مَنَّ الله عليها بأن ملأت حياة الرجل الموعود بالنبوة، وإن كانت أول الناس إسلاماً، كما بها أمن على رسوله عليه الصلاة والسلام ملاذاً وسكناً ووزيراً.

نعم لقد كانت خديجة رضي الله عنها مناط كل فضيلة، ومعقد كل رجاء عند كل ملمة، والرحيق المختوم لكلّ أمرٍ يعرض رسول الله ﷺ أو يعترضه، لم تبخل لحظة واحدة من حياتها المعطاء في تقديم كل ما يذلل صعوبات الدعوة المحمدية .

فقد كانت الظاهرة أمنا خديجة عليها سحائب الرضوان، تروح عن قلبه الهموم، وتذهب عن صدره الأحزان بما لها من كياسة وفطنة، وبما وهبها الله عز وجل من رفق ولين، ولين ورفق، وتضحية وفداء، وصبر ونبل، وأمل ورجاء ورجاء وعزيمة، ناهيك بخلقها الذي كان منبع فيض الخيرات لكل من أراد أن يقتدي بها من النساء على مر الدهور والأعصار.

لقد عرف الحبيب المصطفى بأنه كان يأنس إلى زوجه الوفية الأمينة الطاهرة السيدة خديجة رضي الله عنها أنساً لم يأنسه بأحد سواها، فيحدثها بما يكون قد رأى وسمع في خلوته بمتعبده أو في مرجعه إليها من غرائب الأحداث، وعجائب الآيات، فيجد عندها مشاعر صدق الود والحنان ما يخفف من آثار ما عسى أن يكون قد شق عليه، بل وتثبته وتكشف له عن محاسن الفضائل المتمثلة فيه ليتابع طريق التبليغ الإلهي للناس كافة، وبهذا تفردت أمنا خديجة في هذا المضمار الكريم.

أَسْبَقُ السابقين

أجمع أهل العلم من أئمة الإسلام على أن أمنا خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، كانت أول البشر قاطبة إيماناً بالله عز وجل، وبرسوله محمد.

يقول عز الدين بن الأثير – رحمه الله – : خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة .. ويقول البيهقي – رحمه الله – في الدلائل : إن أول من أسلم من هذه الأمة خديجة بنت خويلد .

وقال ابن إسحاق – رحمه الله – : كانت خديجة أول من آمنت بالله ورسوله ، وصدقت ما جاء من عند الله عز وجل، ووازرت النَّبِيُّ ﷺ على أَمْرِهِ، فَخَفَّفَ الله بذلك عن رسوله، فكان لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج عنه بخديجة رضي الله عنها، إذا رجع إليها تثبته، وتخفف عنه وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس.

ومن الطبيعي أن تكون طليعة السابقين خديجة زوج النبي ﷺ الوفية الأمينة الطاهرة، أعقل نساء العالمين، التي كانت على أكمل المعرفة ببشائر نبوته ، بل كانت متطلعة إلى اصطفائه نبياً ورسولاً ، حتى اختاره الله تعالى لنبوته ورسالته رحمة للعالمين.

ويبدو في طليعة السابقين إلى حظيرة الإيمان برسالة حبيبنا محمد صلّى الله عليه وسلم سيدنا علي بن أبي طالب، فهو ثاني اثنين في السبق إلى الإسلام، إذ كان ربيب النبوة، ورضيع ثدي الرسالة، المتقلب على فراش الإيمان الناهد في مهد أكرم المكارم فقد آمن في سن الصبا قبل أن يبلغ الحلم، فَشَب معه الإيمان حتى خالط مشاعره ووجدانه وملأ قلبه، وأفعم بالنور روحه، وكانت العناية الربانية قد ساقته إلى حجر رسول الله ﷺ وزوجه خديجة الطاهرة رضي الله عنها وأرضاها.

ومن الذين حازوا قصب السبق في حلبة التسابق إلى ساحة الهداية، زيد بن حارثة الحب الذي كان ثالث ثلاثة في السبق إلى الإسلام، وهو الذي أفرده الله عز وجل بأشرف الشرف، فذكره في القرآن الكريم والذكر الحكيم باسمه، ممتناً عليه بإنعامه عليه بنعمة التوفيق إلى الإيمان في طليعة أسبق السابقين، وممتناً عليه بإنعام رسوله بالحرية والولاية، قال عز وجل: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه) [الأحزاب: ٣٧]. قال ابن عبد البر – رحمه الله – في كتابه النفيس «الاستيعاب : روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «أحب الناس إلى من أنعم الله عليه وأنعمت عليه .

وزيد الحب رضي الله عنه من صميم العرب، وعليا قبائلهم، فهو صريح النسب من جهة أبيه وأمه، وعاش في كنف البيت المحمدي الطاهر، وتحت ظلال السيدة الطاهرة خديجة رضي الله عنها واستقى من مناهل عرفان الإيمان ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فكان من الأوائل الميامين.

وقد كان بيت خديجة رضوان الله عليها واحة الإيمان في صحراء الكفر والضلالة، وكان السراج المنير في ظلمات بعضها فوق بعض، يذكر فيه اسم الله بالغدو والآصال، فلا عجب أن يستضيء قلب زيد وعلي رضي الله عنهما بنور الإيمان منذ أن أشرقت نسمات الإسلام على البيت المحمدي الطاهر.

هذا وقد كان أولاده من خديجة من السابقين إلى الإسلام، ولم يذكر العلماء في هذا الصدد أسبقية أولاده الأطهار إلى الإيمان برسالته والتصديق بدعوته، لأن أبناءه الذكور : القاسم، وعبد الله ماتا في سن الطفولة، وكذلك ابنه إبراهيم من السيدة مارية بنت شمعون المصرية، مات صغيراً أيضاً.

وأما بناته الطاهرات العابدات زينب ورقية، وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهن، فكلهن أدركن الإسلام وأسلمن، ونعمن بنعيمه العظيم، وكن مع أمهن سيدة نساء العالمين السيدة خديجة في أسبق السابقين والسابقات إلى ساحة الإيمان به نبياً ورسولاً .

ومن المسلم الطبيعي أن تكون بنات خديجة ومحمد من السابقين، لأنهن رضعن لبان الإيمان من أصولها، ونشأن على التمسك بالهدي النبوي، والسيرة الحسنة قبل البعثة. روى ابن إسحاق – رحمه الله – عن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: لما أكرم الله نبيه بالنبوة، أسلمت خديجة وبناته.

وفي رواية أخرى عنها قالت: أسلمت رقية حين أسلمت أمها خديجة وبايعت حين بايع النساء، وأسلمت أم كلثوم حين أسلمت أخواتها وبايعت معهن .

فبنات النبي ﷺ في قرن مع أمهن السيدة الطاهرة خديجة ، ينظمهن معها عقد أسبق السابقين، وأسبق السابقات إلى الإسلام، والتصديق برسالة أبيهن سيد الخلق الذي كان أباً قبل أن يكون رسولاً .

وقد كانت مكارم أخلاقه، ورفيع صفاته، وكريم معاملته يرينها رأي البصر والبصيرة، ويسمعن أحاديث الناس عنها، والولد على نهج أبيه وأمه ينهج ويدرج وينشأ.

ثم أمن أول مدعو إلى الإسلام الصديق الأعظم، فَحْل الملة، وإمام الأمة، سيد المسلمين، وأفضل أتباع الأنبياء والمرسلين، ثاني اثنين إذ هما في الغار، من وسمه الله عز وجل بأشرف الألقاب ؛ سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه .

روى الطبراني – رحمه الله – أن علياً رضي الله عنه كان يحلف بالله أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء صديقاً، قال علماؤنا من السلف والخلف : وهذا حكمه الرفع إلى رسول الله ﷺ إذ لا مدخل للرأي والاستنباط في مثله .

رحْلَةُ مَعَ المكارم

كان لأمنا خديجة رضي الله عنها في مطالع إيمانها مشرق الرسالة سوابق لم تكن لبشر قط، وقد انفردت بفضيلة السبق وشرف الإيمان بمكرمة لا يلحقها فيها لاحق .

فأسبقية خديجة وبناتها من رسول الله ﷺ إلى الإسلام، من المكارم التي تنضح برحيق الفضل، وكذلك أسبقية علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة رضي الله عنهما، ونظرة لطيفة إلى هؤلاء الغر الميامين، نجد أنه كان يظلهم سقف البيت النبوي في رعاية أطهر الظاهرات أمنا خديجة رضي الله عنها. فإسلام هذه الأسرة الكريمة – أسرة رسول الله ﷺ : زوجه خديجة، وبناته الطاهرات، وربيب رعايته وتربيته علي ابن عمه، ومولاه وحبه زيد – كان إسلام الفطرة الطاهرة النقية، التي ولدت في مهد الإيمان، ونشأت بين أحضان النبوة، حيث شاهدت أكرم مكارم الأخلاق، ورأت معالم النبوة وآياتها تتجلى في حياة النبي ﷺ قبل نزولها، ثم رأت معالم الوحي، وسمعت آيات الله تتلى في بيت خديجة، والحكمة تتنزل بينهم، فتمثلوا كل هذا، فسرت نسمات الإيمان والتصديق برسالة النبي .

إن هذا كله – على ما أعتقد – من المكارم الجليلة الفواحة التي خص الله بها سيدة النساء خديجة رضوان الله عليها، إذ لم يكن في بيتها إلا مؤمن بالله، ومصدق بمحمد، ومغمور بأنوار هدايته منذ بدأت الرسالة بإنزال : اقرأ باسم ربك ….) [العلق : 1]. فالسيدة خديجة – عليها سحائب الرضوان – ذات مكارم ندية، وكرامات جليلة، ومكانة نفيسة عند الرسول صلى الله عليه وسلم.

فقد كانت الزوجة الأمينة الوفية التي حباها الله عقلا لماحاً، ورزقها فطنة صافية زاكية، وأنعم عليها بنفس صافية طاهرة، فلم يعرف تاريخ الإنسانية لها نداً في صدق وفائها، وأمانة سرها، واستشراف عقلها إلى مطالعة أعماق النفوس البشرية في ظلال مرضاة الله عز وجل، ومرضاة رسوله ، فكانت في مقدمة السبق، وكانت الظافرة في ذلك السباق الإيماني الميمون، فرزقت الخلود مع الخالدين في سجل أوفى الأوفياء في دنيا الظهر والوفاء والصفاء.

خديجة والصَّلاة

ذكر رواة السيرة النبوية أن الله عز وجل فرض على رسوله صلاة أول ما أوحى إليه، وكان لخديجة رضوان الله عليها فضيلة السبق إلى الصلاة، وامتثال أمر الله عز وجل، فكانت أول من صلى مع النبي .

ذكر ابن إسحاق – رحمه الله – أن بعض أهل العلم حدثه أن الصلاة حين افترضت على رسول الله ، أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل ورسول الله ﷺ ينظر ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله ﷺ كما رأى جبريل يتوضأ، ثم قام جبريل فصلى به، وصلى رسول الله بصلاته، ثم انصرف جبريل.

فجاء رسول الله ﷺ خديجة فتوضاً لها ليريها كيف الطهور للصلاة، كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله ، ثم صلى بها رسول الله ، كما صلی به جبريل فصلت بصلاته. ورد في عدد من المصادر عن شاهد عيان ما يؤكد أولية خديجة رضي الله عنها في السبق إلى الصلاة، وقد كانت الصلاة في مطلع شمس الإسلام شيئاً غريباً عن المجتمع المكي، بل والمجتمع الجاهلي آنذاك.

حدث عفيف الكندي عن هذا فقال: كان العباس بن عبد المطلب لي صديقاً، وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر، ويبيعه أيام الموسم، فبينما أنا عند العباس بمنى، فأتاه رجل مجتمع ، فتوضاً فأسبغ الوضوء، ثم قام يصلي، فخرجت امرأة فتوضأت، ثم قامت تصلي، ثم خرج غلام قد راهق، فتوضأ ثم قام إلى جنبه يصلي؛ فقلت: ويحك يا عباس، ما هذا الدين؟!! قال : هذا دين محمد بن عبد الله ابن أخي، يزعم أن الله بعثه رسولاً ، وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب قد تابعه على دينه، وهذه امرأته خديجة قد تابعته على دينه . قال عفيف – بعد أن أسلم ورسخ في الإسلام – : يا ليتني كنت رابعاً). فلتحلق خديجة في سماء المكارم، ولتكن أول امرأة تقيم الصلاة في دنيا نساء أهل البيت الطاهر.

خدِيجَةُ تَتَحمَّلُ أَذَى الكُفَّار

أخذ رسول الله ﷺ يدعو عشيرته الأقربين، ويدعو قومه إلى الإسلام بالله تعالى رباً، وبمحمد نبياً رسولاً، وراح يدور على مجالس قريش يدعوهم إلى الإسلام، فيلقون إليه أسماعهم مرة، ويعرضون عنه مستهزئين مرات، والرسول الكريم ﷺ صابر يصدع لأمر الله عز وجل، ويلقى مِنْ عَطْفِ زوجه خديجة رضي الله عنها ورعايتها وتشجيعها ما يخفف عنه آلام الدعوة.

وأعتقد أن السيدة خديجة رضي الله عنها كانت تدعو من تعرف من جماعة النساء إلى الإيمان بالله عز وجل وبرسوله محمد ، ولا شك أنها كانت تجد بعض الإعراض من النسوة اللاتي كانت تدعوهن إلى صراط العزيز الحميد، الله رب العالمين.

وتابع البيت المحمدي المضمخ بأريج النبوة الدعوة إلى الله عز وجل، ووقف المجتمع الوثني يريد أن يسد منافذ النور، بينما انطلق كبار الفجار، وأسياد الأشرار يظهرون غلظتهم في تعذيب من استجاب لدين الحق، وبدأت مساوماتهم مع رسول الله ﷺ كيما يكف عن ذكر أصنامهم بسوء.

ولكن رسول الله ﷺ كان يتنزل عليه القرآن، ويقص عليه أحسن القصص ، فكان يقرأ عليهم بعض الآيات ويسمعهم بعض السور، فإذا بالقرآن الكريم يحرك العجب في نفوسهم، إذ كانت كلماته من عند الله عز وجل ترن في أغوارهم، وهم صفوة العرب فيعرفون إذ ذاك عظمة القرآن.

إلا أن ملا الأشرار غلبت عليهم الشقوة، وصعب عليهم أن يفارقوا ما الفوا آباءهم عليه عاكفين، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وتواصوا فيما بينهم أن يتابعوا طريق اللدد والعناد، ويرموا رسول الله ﷺ بالسحر، وكان زعيم فريق الفجار عتبة بن ربيعة وشايعه عدد من أكابر المجرمين.

كانت قريش غنية بأموالها غنية برجالها، معتزة بمكانتها في العرب، بينما كان محمد وصحبه أغنياء بنور الله الذي أشرق في قلوبهم، وأضاء نفوسهم، كانوا أقوياء بالله رب العالمين، فلم يثنهم عن إيمانهم تعذيب المشركين، وإنما تابعوا طريق الإيمان مع رسول الله ﷺ ، تابعوا ذلك الطريق القويم كيما يكونوا من الذين يرثون الفردوس، فيكونوا فيه خالدين.

صُورٌ مِنْ صَبر خديجة

حارب الرجال والنساء في مكة دعوة الإسلام والسلام التي يدعو إليها الحبيب المصطفى محمد .

وكان بعض رجال بني أمية ونسائهم، وبعض من رجال بني مخزوم ونسائهم، قد اشتهروا في عداوتهم لرسول الله ﷺ. كانت أم جميل بنت حرب – حمالة الحطب – زوج أبي لهب من ألد أعداء نبي الإسلام، فقد سخرت زوجها أبا لهب لكي يصد عن سبيل الله وما نزل من الحق، حتى نزلت في حقهما سورة كاملة تندد بهما وتنذرهما بنار ذات لهب .

ومن المتوقع أن تكون أم جميل قد صبت بنار غضبها على خديجة رضي الله عنها، وحاولت أن تضع العوائق العديدة لمنع سير رسالة الإسلام، وأوعزت إلى ولديها أن يفسخا زواجهما من ابنتي رسول الله ﷺ لإرهاق الدعوة الربانية، وإرهاق محمد صلّى الله عليه وسلم وخديجة عليها سحائب الرضوان، وكذلك إرهاق ابنتي النبي .

لكن الله عز وجل قد أكرم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصانهما عن بيت أبي لهب وزوجه الحاقدة أم جميل، وتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية ابنة الرسول رضي الله عنها.

ثم تحملت رقية هي الأخرى مع زوجها نصيباً من أذى قريش، وها هي تهاجر إلى الحبشة بصحبة زوجها عثمان، وثلة من الأولين الذين تحلقوا حول دوحة الإيمان في مشرق شمس الإسلام.

كانت خديجة تودع ابنتها رقية، وهي تتجلد، وإن كانت الدموع تسبقها، لكن خديجة عاهدت الله أن تكون مع رسوله الأمين لآخر نفس من حياتها .

إن خديجة رضي الله عنها ضحت بأموالها وراحتها في سبيل الله عز وجل، وفي سبيل إعلاء كلمته، وهي على استعداد لأن تجود بكل شيء كيما تكون كلمة الله هي العليا، ويشرق نوره على الوجود، وكيما تكون كلمة الذين كفروا السفلى.

إن فراق الأحبة ليهون ما دام ذلك في طلب مرضاة وجه الله ليس غير، وما أخف لوعة بعاد فلذات الأكباد إذا ما قيست بلذة القرب من المليك المقتدر، الذي أعد للمتقين جنات ونهر، في مقعد صدق عند وجهه الكريم وفيضه العميم.

راح المسلمون يتأهبون للفرار بدينهم إلى الحبشة خيفة الفتنة؛ وودع رسول الله ﷺ وخديجة، عثمان ورقية، وانطلق المهاجرون مصحوبين بعناية الله ، ودعوات رسول الله ﷺ وزوجه خديجة رضي الله عنها، كانوا أَحَدَ عَشَر رجلاً وأربع نسوة من صفوة أعلياء قريش. مضت سنون ولم يدخل في الدين القويم أكثر من أربعين من المؤمنين والمؤمنات الذين أضاء الله قلوبهم بأنوار اليقين، وصقل نفوسهم بجوهر الحق المبين، فباتوا أسعد الثقلين بارتباطهم بالله عز وجل الذي خصهم بالاصطفاء والسبق إلى الفضائل، فأضحوا سادة الدنيا وأسياد العالم. يئس رؤساء الكفار من مضي المسلمين في طريقهم لا تلهيهم طريقة تعذيب، ولا تثني عزائمهم فظائع المشركين وراح رؤوس الفجرة الكفرة من قريش، يتشاورون فيما بينهم عما يعملونه لتحطيم الدعوة وقتلها في مكة، قبل أن تعم الأرض، وانضم إلى ركبهم فاجر من طبقتهم هو أبو لهب بن عبد المطلب الذي فارق قومه، وظاهر على رسول الله ﷺ قريشاً، وأجمعوا أن يقتلوا محمداً .

وثار بنو هاشم وبنو المطلب على ما أجمع به كفار قريش، وأعلن بنو هاشم حمايتهم لرسول الله ﷺ. – وإن لم يكونوا جميعاً على دينه – وهنا اقترح النضر بن الحارث العبدري أحد أكابر المجرمين من قريش منابذة بني هاشم وبني المطلب وإخراجهم من مكة إلى شعب أبي طالب والتضييق عليهم بمنع حضور الأسواق وألا يناكحوهم، وألا يقبلوا لهم صلحاً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله ﷺ للقتل ، وارتفعت الأصوات مؤيدة مرددة ما قاله الفاجر الخبيث النضر بن الحارث، كأنما قد وضع كلامه في أفواههم : لا تناكحوهم ولا تنكحوا إليهم، ولا تبيعوهم شيئاً ولا تبتاعوا منهم شيئاً، ولا تقبلوا منهم صلحاً.

واتفق المجرمون على أن يكتبوا بذلك صحيفة، ويعلقوها في الكعبة توكيداً على أنفسهم، ثم ذهب الذين اتبعوا أمر الوشاة إلى الكعبة وعلقوا الصحيفة فيها، فرأى أبو طالب أن الحرب قد أعلنت على قومه، فجمع بني هاشم والمطلب مؤمنهم وكافرهم، وأمرهم أن يدخلوا برسول الله ﷺ الشعب ويمنعوه، فانطلقوا إلى الشعب ورسول الله ﷺ فيهم.

كان دخول النبي ﷺ والذين معه الشعب هلال المحرم سنة سبع من النبوة، فضرب كفار قريش حول شعب أبي طالب نطاقاً من الحراس يمنعون الناس من الدخول، أو الاتصال بمن قبلوا الدخول لحماية رسول الله ﷺ تطوعاً.

ومرت الأيام، ودار الحول، وانقضت سنة، وبنو هاشم والمطلب في ضيق، فقد نفد ما كان عندهم، وخوت بطونهم، وزاغت عيونهم، وتفككت أوصالهم، وأنت نساؤهم، وبكى صغارهم، وراحوا يصرخون يطلبون الطعام، فكانت دموع النساء تنهمر، وأكباد الرجال تتفتت… مضت ثلاث سنوات عجاف على المسلمين، وهم محاصرون داخل الشعب، كانت أيامهم فيها أيام شدة وضيق، وصبروا صبر الكرام لهذه المحنة العظيمة، وهم ممتثلون لأمر ربهم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .

ثم جاء الفرج الإلهي، إذ نادى أفراد من قريش بفك الحصار عن المسلمين، ومزقت الصحيفة الظالمة، وخرج المسلمون وهم يكبرون : الله أكبر، الله أكبر. وهكذا فرج الله عز وجل عن المحاصرين ما أهمهم وما أغمهم، وخرجوا جميعاً ليمارسوا حياتهم الطبيعية بين أفراد المجتمع المكي ، وكان خروج الحبيب الأعظم سيدنا محمد ومن معه من محنة الحصار في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنين.

رحلة الخلود

كانت أم المؤمنين خديجة رضوان الله عليها أعرف الناس وأقدرهم على وزن ما حمل رسول الله ﷺ من أمانة رسالته، فقد آمنت به وصدقته رسولاً أميناً لله تعالى ، يتلقى وَحْيَه، ويبلغ رسالته، فيلقى من البلاء ما تنوء تحت ثقله ثوابت الرواسي، فتنفس عنه وتشجعه وتعينه على الصبر، وتمسح عن صدره ضائقات الصدور، وتهمس له بلواطف العواطف النبيلة، كيما يتم تبليغ ما أمره الله .

قضت السيدة الطاهرة خديجة رضي الله عنها في كنف رسول الله ﷺ أشق مراحل الدعوة، فكانت حياتها معه أوفى حياة زوجة لزوجها، وأبر شريكة لشريكها كانت تشاركه مباهجه ومسراته، وتهيىء له أسباب تفرغه لعبادة ربه تخدمه في بيتها وعقلها وروحها ووجدانها، وترد عنه عاديات الحياة بين قومه، حتى إذا جاءته النبوة بطلائعها ووحيها، كانت أول مَنْ آمَنَ به وصدقه، وعندما حدثها عن الوحي، وعن المفاجآت التي لقيها عرفت بفراستها الواحية، وحسها المرهف، وشعورها المستشرف أن أمر هذا الزوج الأكرم ، لم يعد أمر حياة زوجية يملؤها دفء الحنان، وهمس الوفاء، ولكنها ارتقت إلى حياة جديدة في معالمها، إلى حياة رسالة ورسول، إلى حياة خالدة حياة دعوة تهدم وتبني، تهدم الشرك والوثنية، وتبني التوحيد والعبادة، تهدم التقليد الأبله، وتبني المعارف والهداية. وبهذا، فلترتفع خديجة الصديقة الأولى بحياة الزوجية الوفية إلى حياة الصديقية العظمى، حياة الإيمان بالرسالة والرسول، ولتكن الطاهرة معه وزيرة صدق، ورفيق إخلاص وفداء ؛ فالرسول ﷺ هو الصادق الأمين، ومجمع مكارم الأخلاق، وموئل الفضائل، ومنتجع الشمائل، ومنبع المحامد، ومصدر الخير، وقد اجتباه الله تعالى أميناً للرسالة، وقد عرفت خديجة الطاهرة رضوان الله عليها هذه المحامد كلها وقدرت شخص الرسول ﷺ حق التقدير.

ومرت الحياة في ظل وفاء الزوجية، وصديقية الإيمان، بين محمد الزوج الكريم الحبيب، وبين خديجة الزوجة الوفية الصديقة المؤمنة .

وقد كان عمل خديجة رضي الله عنها في بيتها بالوفاء الزوجي، وتربية أولادها، أكرم عمل كبير يسدي للرسالة فضلاً، ويمدها بقوة، إلا أن رسول الله ﷺ أحوج ما يكون وهو يخوض نضالاً مريراً في سبيل تبليغ رسالته إلى عاطفة الوفاء في زوجة صادقة الإيمان برسالته، تنسكب في قلبه برداً وسلاماً عندما يؤوب إلى بيته، فيحدث ويتحدث في جو مفعم بالإيمان، فكانت تهون عليه الصعاب، وتجدد عزائمه، فيخرج إلى حياة الناس مسيح الآلام، فسيح الآمال، روي الفؤاد بالصفح والإحسان.

وبهذا الأدب الإلهي الذي اعتصمت بعواصمه خديجة رضي الله عنها، عاشت في كنف محمد الزوج ، ومحمد الرسول، تتقاسم معه الشعور بالسعادة في التطلع إلى آمال المستقبل في آفاق الحياة، وتقاسمه الإحساس بأعباء تبليغ الرسالة معتصمة بالصبر الجميل تأسياً برسول الله ﷺ في مجالات الحياة.

دخلت خديجة رضي الله عنها حصار الشعب مع زوجها رسول الله ﷺ، فشاركته آلام المحنة ومرارتها راضية صابرة محتسبة تواسي الحبيب المصطفى ﷺ وتخفف عنه وقع هذا الظلم الأليم الفاجر، إلى أن خرج من هذا الحصار ظافراً منصوراً يتابع نشر دعوته وتبليغ رسالته، وخرجت معه زوجه الوفية خديجة الطاهرة أطهر الطاهرات إلى بيتها تتابع سيرها في الحياة زوجة أمينة، مستظلة بظل الإيمان وصادق الوفاء … ولكن السيدة خديجة رضي الله عنها، لم تلبث إلا قليلا بعد الخروج من الحصار، حتى ذبلت، ودب الوهن في جسدها، ولكن عزيمتها لم تذبل، وإنما كانت تنظر إلى رسول الله ﷺ نظرة إكبار، فهو زوجها ورسولها الذي أخرجها من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام والسلام، وأخذ بيدها إلى النبع الروحي الصافي الذي نهلت منه، فلم تظمأ بعدها أبداً، فقد فتح بصيرتها وفؤادها لاستقبال نفحات ربها، وعرفها السعادة الحقيقية بأشراق أنوار المعارف في عين ذاتها.

وذات يوم لبَّت خديجة نداء ربها راضيةً مرضية، مبشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزعيم المقيم في فراديس الجنان، عند مليك مقتدر.

انتهت رحلة الحياة مع خديجة رضي الله عنها لتبدأ رحلة الخلود في نعيم لا يزول، ولتظل في أفئدة المؤمنين الذين أحبوا سيرتها وأحبوا أمهم، وأحبوا زوجة نبيهم الحبيب الأعظم محمد صلّى الله عليه وسلم.

سلَامُ قَولًا مِنْ رَبِّ رحيم

عندما تعرض الإمام الذهبي – رحمه الله – للحديث عن أمنا خديجة قال : خديجة أم المؤمنين، وسيدة نساء العالمين في زمانها، أم القاسم ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشية الأسدية، أم أولاد رسول الله ﷺ ، وأول من آمن به وصدقه قبل كل أحد وثبت جأشه، ومضت به إلى ابن عمها ورقة ) .

وقال الذهبي أيضاً : ومناقبها جمة، وهي ممن كمل من النساء، كانت عاقلة جليلة دينة مصونة كريمة، من أهل الجنة، وكان يثني عليها، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث إن عائشة كانت تقول : ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة من كثرة ذكر النبي ﷺ لها”.

ومن كرامتها أنها لم يتزوج امرأة قبلها وجاءه منها عدة أولاد، ولم يتزوج عليها قط، ولا تسرى إلى أن قضت نحبها، فوجد لفقدها، فإنا كانت نعم القرين، وكانت تنفق عليه من مالها، ويتجر هو صلى الله عليه وسلم لها.

وقد أَمَرَه الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صَخَبَ فيه ولا نصب. هذا وقد خصها الباري عز وجل بالسلام ) على لسان جبريل عليه السلام .

روى البخاري – رحمه الله – في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى جبريل النبي ﷺ وهو بغار حراء – كما عند الطبراني في رواية سعيد بن كثير – فقال: يا رسول الله ، هذه خديجة قد أنت معها إناء فيه إدام، أو طعام، أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصبِ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَب”.

قال ابن حجر – رحمه الله – في الفتح : زاد الطبراني في رواية سعيد بن كثير المذكورة، فقالت: هو السلام ومنه السلام، وعلى جبريل السلام.

وعند النسائي زيادة وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته .

وهذه لعمر الله خاصة لم تكن لسواها.

ولنقف وقفة ندية مع أمنا الطاهرة، فنلاحظ معرفتها بعظمة الله عز وجل في ردها على سلامها عليها، ونعزز هذا القول بما قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في الفتح : قال العلماء : في هذه القصة دليل على وفور فقهها، لأنها لم تقل وعليه السلام، كما وقع لبعض الصحابة حيث كانوا يقولون في التشهد : السلام على الله ، فنهاهم النبي وقال : «إنَّ الله هو السلام فقولوا : التحيات الله فعرفت خديجة الصحة فهمها أن الله لا يُرد عليه السلام كما يُرد على المخلوقين.

إن هذا من عظم المنزلة أن تتلقى السيدة الطاهرة خديجة السلام من السلام الله رب العالمين، إذ كانت أوفى زوجة، وأصدق صَدِيقة وصِدِّيقة، وكانت دعامة من دعائم الإخلاص الوفي في مسير حياة الرسالة السماوية، فاختصها الله عز وجل بهذه المنزلة العظمى، أو ليست خديجة أول المؤمنين والمؤمنات بمحمد نبياً ورسولاً ؟! إنها الطاهرة الكاملة، وكفى! وهل هناك فخر وراء ذروة المجد والسؤدد الذي لا يتكرر – ولن يتكرر – في هذه الحياة أبداً ؟!!

الحياة الحقيقية

هل توقفت حياة أم المؤمنين خديجة بانتقالها إلى الرفيق الأعلى؟! إن ذكرى الطاهرة خديجة رضي الله عنها وصورتها لم تكن تبرح خيال رسول الله ﷺ أبداً، وكيف تبرح صورتها ذهنه وهو أوفى الأوفياء وسيد الأصفياء؟! أعتقد أن الحياة الحقيقية للسيدة خديجة رضي الله عنها ما زالت مستمرة إلى ما شاء الله… لقد رافقت ذكرياتها مسيرة حياة بناتها وأحفادها، ثم حياة كل إمرأة تؤمن بالله ورسوله، وفي ضمير كل مؤمن يحب الله ورسوله .

إن الثناء لا يكتسب بالمال ، وإنما بما يترك الإنسان في دنياه من فضائل يبقى أريجها مدى الدهر، ينتعش بذكره الأحياء، وتصفو بذكرياته النفوس، وتتغذى بسيرته العقول ؛ قل لي بربك : أليست هذه قمة السيادة في الحياة وفي الممات ؟! إن صديقة المؤمنات الأولى خديجة رضي الله عنها لم تكن أم المؤمنين فحسب، وإنما كانت أم كل فضيلة، ولها في عنق كل موحد فضل وحق إلى يوم يبعثون، فهل نستطيع أن نفي أمنا جزءاً من حقها ؟! بعد وفاة خديجة رضي الله عنها ووفاة أبي طالب عم رسول الله ﷺ، خلا الجو لأحلاس الشرك، وفجار الوثنية في مكة، فنالوا من الحبيب المصطفى ﷺ ما لم يكونوا نائليه منه، فأطلق رسول الله ﷺ على ذلك العام : عام الحزن، إكراماً لصديقة المؤمنات الأولى خديجة رضي الله عنها، ولأنه لم يجد متنفساً لدعوته، ولا منتجعاً لتبليغ رسالته في أم القرى وما حولها، ولكن الله متم نوره ولو كره المشركون … وظلت خديجة رضي الله عنها في قلب النبي ﷺ في كل مناسبة، وفي كل مكان وموضع ، لا تكاد تسنح سانحة إلا ويعطر المجلس بذكرها، أو يثني عليها، أو يذكرها بالخير، وحسبك بثناء رسول الله ﷺ عليها … تروي أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها خبراً مباركاً، يدل على مكانة الطاهرة خديجة رضي الله عنها، فيعطر الأسماع، ويبهج القلوب، ويؤنس النفوس ، بما للطاهرة من مكانة عند رسول الله ﷺ، وبما لها من رصيد في ميدان الفضائل، وفي سماء المكرمات فتقول : كان رسول الله ﷺ إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها، واستغفار لها، فذكرها يوماً، فحملتني الغيرة، فقلت : لقد عوضك الله من كبيرة السن ! فرأيته غضب غضباً، أسقطت في خلدي، وقلت في نفسي اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء .

فلما رأى النبي ﷺ ما لقيت قال : كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وأوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد وحرمتموه مني قالت: فغدا وراح علي بها شهراً).

في اعتقادي أن هذا الثناء من رسول الله ﷺ على خديجة يمثل ذروة الوفاء الصادق، وخالص الود، وعظيم الإخلاص، فخديجة رضي الله عنها أطهر الطاهرات لن يبلغ أحد ما بلغته حتى الصديقة ابنة الصديق بما لها عند الرسول الكريم ﷺ تقف عندما يغضب لمن يذكر خديجة بأي أسلوب، حتى ولو كان مزاحاً فخديجة في حياة دائمة في حياته في جميع مجالاتها .

ويبدو أن ثناء رسول الله ﷺ المتزايد على أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أثار غريزة الغيرة عند أمنا عائشة رضي الله عنها، فتبوح بما في مكنونها وتترجم عن مكانة خديجة في نفس رسول الله ﷺ فتقول : ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، مما كنت أسمع من ذكر رسول الله ﷺ لها ، وما تزوجني إلا بعد موتها بثلاث سنين، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب.

إن خديجة رضوان الله عليها خير نساء الأرض في عصرها، فقد اقتعدت مكانة عظمى في سدة الفضائل لم تقتعدها امرأة غيرها، ولهذا قال عنها الحبيب المصطفى ﷺ «خير نسائها خديجة بنت خويلد وخير نسائها مريم بنت عمران» أما وفاء عهد رسول الله ﷺ لخديجة الطاهرة فليس له نظير في دنيا الوفاء وفي دنيا النقاء، وفي دنيا الإخلاص، وكيف لا والحبيب المصطفى ﷺ معقل كل فضيلة، ومعقد كل مكرمة، وموئل كل بركة، فقد كان يود من كان يود خديجة، ومن كانت تود خديجة .

ففي صحيح الإمام مسلم – رحمه الله – عن عائشة – رضي الله عنها ـ أن النبي ﷺ كان إذا ذبح الشاة قال : «أرسلوها إلى أصدقاء خديجة فذكرت له يوماً فقال : إني لأحب حبيبها ) وفي رواية: «إني رزقت حبها »

نعم إن الحبيب المصطفى ليحب من تحب زوجه الوفية خديجة، فإن المحبوب يذكر بالحبيب، وهذا ما حدث في بيت الصديقة ابنة الصديق رضي الله عنها. فقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي ﷺ وهو عندي، فقال لها رسول الله ﷺ : من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزينة.

فقال: بل أنت حسانة المزينة، كيف أنتم، كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟

قالت: بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله .

فلما خرجت قلت يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ قال: «إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإنَّ حُسْنَ العَهْدِ من الإيمان وكان رسول الله ﷺ يبر صدائق خديجة رضي الله عنها بعد موتها، إحياء لذكراها، ووفاء لطهرها وكرمها.

عن سيدنا أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ إذا أتي بالشيء يقول : اذهبوا به إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة وفي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : «أن رسول الله ﷺ كان يذبح الشاة فيتتبع به صدائق خديجة ، فيهديها لهن ).

ولم يغب عن بال المصطفى صوت زوجه البارة خديجة، فكان صوتها الدافىء يسكن في حناياه الشريفة.

ففي الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها مصداق ذلك .. قالت عائشة: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد على رسول الله ﷺ، فعرف استئذان خديجة وتذكره، فارتاع فقال : اللهم هالة بنت خويلد فغرت فقلت : وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر فأبدلك الله خيراً منها ) .

ولكن الحبيب المصطفى غضب لذلك، حتى وعدت عائشة ألا تذكر خديجة إلا بخير، فكان ذلك منها فيما بعد رضي الله عنهما.

نعم، فخديجة نسيج وحدها، ولها خواص لم يلحقها واحدة من نساء أهل البيت ومن أزواج رسول ﷺ ، فمن خواصها ؛ أنها لم تسؤه قط، ولم تغاضبه، ولم ينلها منه إيلاء ولا عتب قط ولا هجر، وكفى بهذا منقبة وفضلاً.

ونحن الآن، ما تزال أمنا خديجة ملء السمع والبصر والقلب – وأين مثل خديجة -؟ نحب سيرتها، ونستروح العبير من زهر رياض حياتها، ونتفيأ بالرياض النضرة لسيرتها، لتكون لنا زاد المسير في طريق الطّهر، وفي درب العطاء، نحبها لنكون يوم القيامة مع من نحبّ – بإذن الله – فعسى أن يحشرنا ربنا معها، وعسى الله عز وجل أن يكرمنا لكرامتها ولكرامة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

اللهم إنا نسألك عملاً صالحاً يقربنا إليك .

اللهم إنا نسألك أن تلهمنا الصواب، وتجعل لنا من أمرنا رشداً، والحمد لله رب العالمين.

(نساء أهل البيت في ضوء القرآن والحديث)

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة