الخاتمة ـ الإسلام والحرب الإجماعيّة

الحرب الإجماعيّة الحديثة

١ــ الحرب الإجماعيّة، أو الحرب الشاملة، مصطلحات عسكريّة معروفة، تدلّ على معنى عسكري واحد.

ومعنى الحرب الإجماعيّة هو حشد الطاقات المادية والطاقات المعنوية كافة للأمة، لا للجيش النظامي وحده، أو للقوات العسكرية النظامية وحدها من أجل المجهود الحربي.

وهذا يعني أنّ الطاقات المادية كلّها: بشرية وطبيعية، وسلاحاً وعناداً، ومعامل ومصانع، ومزارع وحقولا، ووسائل نقل ووسائل تنقل، ومستشفيات وأطباء، وأدوية وعقارات، وألبسة وتجهيزات، ومخازن ومستودعات، وغيرها من الطاقات المادية، الأخرى التي تفيد المجهود الحربي قليلاً أو كثيراً، تحشد كلها لهذا المجهود من أجل إحراز النصر. وهذا يعني أيضاً، أن الطاقات المعنوية كلها: التوجيه المعنوي، خطباء المساجد، رجال الدين، أساتذة ومدرسين، أجهزة إعلام مكتوبة ومسموعة ومرثية، حرباً نفسية، مكافحة للتجسس، قضايا الترفيه، وغيرها من الطاقات المعنوية الأخرى التي تؤثر في المجهود الحربي، تحشد كلها لإحراز النصر.

وقد كانت القوات المسلحة النظامية مسؤولة وحدها عن إحراز النّصر، فأصبح كل قادر على حمل السّلاح مسؤولا عن هذا النصر.

وكانت أموال الدولة ومصانعها الحربية مسؤولة عن تمويل الجيش النظامي وتسليحه وتجهيزه، فأصبحت في الحرب الإجماعيّة كلّ أموال الدولة إفراداً وجماعات، وكل مصانع البلاد الخاصة والحكومية، وكل إنتاج الأمة زراعياً وصناعياً، مسؤولة عن تمويل المحاربين وتسليحهم وتجهيزهم. وحين صدر كتاب: (الأمّة في الحرب) الذي ألّفه المشير لودندروف رئيس هيئة أركان حرب المشير هندنبرغ أبرز قادة ألمانيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ـ١٩١٨)، وأصدره بعد الحرب العالمية الأولى، ظنّ النّاس أن لودندروف أول من وضع أسس الحرب الإجماعيّة في التاريخ العسكري، وسرى هذا الظنّ في الشّرق والغرب قضيّة مسلّمة بها، وكان من الذين صدّقوا هذا الظن الآثم العسكريون العرب والمسلمون بها، فدرسوا هذا الكتاب القيّم ودرّسوه في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات العسكرية: في مدارس ضباط الصف والضبّاط، وفي معاهد إعداد الفنيين العسكريين، وفي كليات إعداد الضباط وكليات الأركان والقيادة، وفي جامعات الدراسات العسكرية العليا.

وكان من حق الجيوش النظاميّة الحديثة أن تدرس هذا الكتاب وتدرّسه في الدول غير الإسلامية، أما في الدول الإسلامية فالحرب الإجماعية معروفة نصاً في الكتاب العزيز وتطبيقاً في عهد الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم(١١هـ ــ١٠٠هـ)، حين كان المسلمون يطبّقون فريضة الجهاد ويلتزمون بمبادئ الإسلام.

والمهم: أن الحرب الإجماعية لم تطبّق إلا خلال الحرب العالمية الثانية(١٩٣٩ـ ١٩٤٥) تطبيقاً كاملاً كما جرى في بعض دول الحلفاء كبريطانيا والاتحاد السوفياتي السابق، وبعض دول المحور كألمانيا الهتلرية واليابان، كما طبّقت هذه الحرب تطبيقاً جزئياً في إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.

أما قبل الحرب العالمية الثانية، فلم تطبّق هذه الحرب في أية دولة غير إسلامية من دول العالم.

الحرب الإجماعية الإسلاميّة في القرآن

٢ــ إنّ الإعتقاد السائد بين المعنيين بالدراسات العسكرية من عسكريين ومدنيين، بأن المشير لودندروف هو الذي وضع أسس الحرب الإجماعية لأول مرة في التاريخ، لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة قريبة أو بعيدة، وهو محض افتراء على حقائق التاريخ العسكري. كما أنّ الفكرة السائدة، بأن المانيا الهتلرية وبريطانيا والاتحاد السوفياتي واليابان، هي التي طبّقت الحرب الإجماعيّة تطبيقاً كاملاً في خلال الحرب العالمية الثانية لأول مرة في تاريخ الحرب، خطأ فاحش لا يمتّ إلى الحقيقة التاريخية بصلة، ويدخل في عداد الجهل المطبّق، بالواقع التاريخي أو في التّزييف المتعمّد لحقائق التاريخ.

إنّ الإسلام هو الذي وضع أسس الحرب الإجماعيّة بنص القرآن الكريم وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون هم الذين طبّقوا هذه الحرب عمليًّا في عهد الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي أيام الفتح الإسلاميّ العظيم في القرن الأول الهجري الذي كان خير القرون.

قال تعالى في كتابه العزيز:{انفروا خِفافاً أو ثِقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون}، وهذه الآية وغيرها من سورة (التوبة) ومن الآيات الأخرى في السّور الأخرى، تقرّر أسس الحرب الإجماعيّة بإحكام رائع وإنجاز غير مخّل.

ذكر المفسّرون، ومنهم الإمام الزمخشريّ في تفسير (الكشاف) تفسيراً لهذا الآية الكريمة في معنى: {خِفافاً وثقالاً}: «خفافاً في النفور لنشاطكم له، وثقالاً عنه لمشقّته عليكم؛ أو خفافاً لقلّة عيالكم وأذيالكم، وثقالاً لكثرتها، أو خفافاً من السلاح، وثقالاً منه؛ أو ركباناً أو مشاة، أز شباباً أو شيوخاً، أو مهازيل وسماناً، أو صِحاحاً ومِراضاً».

المحبّون للنّفير وهم خفاف، والكارهون له وهم ثقال.

وغير المعيلين وهم خفاف، والمعيلون وهم ثقال.

وغير المسلّحين وهم خفاف، والمسلّحون وهم ثقال.

والركبان وهم خفاف، والمشاة وهم ثقال.

والشباب وهم خفاف، والشيوخ وهم ثقال.

والمهازيل وهم خفاف، والسمان وهم ثقال.

والصحاح وهم خفاف، والمرضى وهم ثقال.

والفقراء وهم خفاف، والأغنياء وهم ثقال

.فمن يبقى من الأمة، إذا شهدت الحرب الشباب والشيوخ، والركبان والمشاة، والفقراء والأغنياء، والأصحاء والمرضى، والمعيلون وغير المعيلين؟!.ومعنى ذلك، أن النفير العام للجهاد الإسلاميّ، الذي يطلق عليه الفقهاء مصطلح: (فَرض عَيْن)، ويطلق عليه العسكريون المحدثون(النفير العام)، يشمل جميع القادرين على حمل السّلاح من المسلمين، الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولا يتخلف مسلم عن الجهاد إلا إذا سلك سبيل غير المؤمنين، فينبذه المجتمع الإسلامي، وينظر إليه نظرة لا تشرّفه، ولا يقبل بها مسلم حق.{وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله}، إيضاح لما سبقها في الآية الكريمة: {انفروا خِفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله}، فكل قادر على حمل السلاح يجاهد بنفسه، وكل قادر على الجهاد بالمال يجاهد بماله، وكل قادر على الجهاد بماله ونفسه يجاهد بهما معا.

وهذا هو حشد الطاقات المادية والمعنوية كلها للمجهود الحربي، وهو مانطلق عليه اليوم: الحرب الإجماعية.

وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة في الجهاد بالأموال والأنفس، وفي كلّ آية من تلك الآيات تسبق كلمة (الأموال) كلمة (الأنفس) لأنّ المال عصب الحرب، وبالإمكان الاستفادة منه تمويناً وتسليحاً وتجهيزاً وتنقّلاً في أيام الحرب، وإعداداً للجيش وتأسيساً للمصانع الحربية وإعالة لعوائل المجاهدين وعوائل الشهداء في أيام السّلام والحرب.

الحرب الإجماعية الإسلامية في الحديث

٣ــ أما الأحاديث النبوية التي وردت في الجهاد والحث عليه، فكثيرة جداً.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ: جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم، والجهاد باللسان هو الحرب الدعائية أو الحرب الإعلامية.

وقال : «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، حثاً على إعداد الخيل للجهاد، وهو جزء من إعداد القوة.

وقال عليه الصلاة والسلام: إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة : صانعه يحتسب في صنعه الخير والرامي به، ومنبله … وارموا واركبوا، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها، أو قال : نعمة كفرها»، حثاً على التسليحوالتدريب واستمرارية التدريب .

وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال : مَنْ لم يَغْزُ ولم يجهز غازياً، أو يخلف غازياً في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة»، حث على الجهاد.وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : مَنْ ماتَ ولم يَغْزُ ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق، حثاً على الجهاد في سبيل الله .

وقال رسول الله ﷺ : والذي نفسي بيده، لوَدِدْتُ أني أقتل في سبيل الله فأحيا، ثم أقتل فأحيا، ثم أقتل فأحيا، ثم أقتل.

وقال عليه الصلاة والسلام : الغَدْوَة أو رَوْحَة في سبيل الله، خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب وهذان الحديثان يبرزان أهمية الجهاد في سبيل الله .

وسئل النبي : أي الناس أفضل؟»، فقال: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»، قالوا : ثم مَنْ؟»، قال: «مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره.

وقال رسول الله ﷺ : ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله ، فتمسه النار».

وقال رسول الله ﷺ : واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف.ومالت نفس رجل إلى العزلة، فسأل النبي ﷺ عنها، فقال: لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً.

ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنّة؟ أغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة».

للحرب الإجماعية الإسلامية بالأنفس

ــ وكان التطبيق العملي للحرب الإجماعية في الإسلام على عهد النبي ، في قرنه الذي كان خير القرون رائعاً حقاً.شهد القتال في هذا القرن شباب صغار السن، فقد رد النبي ﷺ أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي يوم (أحد) لصغر سنه، وأجاز يومئذ سَمُرَة بن جُنْدَب الفَزَارِي ورافع بن خديج ذمن بني حارثة ولهما خمسة عشر سنة، ورد أسامة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهما لصغر سنهم، ولكنه عاد فأجازهم عام (الخندق) بعد ذلك بسنة، وكان لعبد الله بن عمر يوم (أحد) أربعة عشر عاماً، وكان سائر من ردّ معه في هذه السن أيضاً .

وشهد عُمير بن أبي وقاص غزوة (بدر)، وهو أخو سعد بن أبي وقاص، قال سعد: رأيت أخي عُمير قبل أن يعرض رسول الله ﷺ للخروج إلى (بدر) يتوارى فقلت : ما لك يا أخي ؟! فقال : إني أخاف أن يراني رسول الله ، فيستصغرني ويردني وأنا أحب الخروج، لعل الله يرزقني الشهادة.

قال: فعرض رسول الله ﷺ فاستصغره، فقال: ارجع ! فبكى عمير فأجازه رسول الله ، فكنتُ أعقد حمائل سيفه من صغره، وقد استشهد يوم (بدر) وهو ابن ست عشرة سنة.

وشهد القتال في هذا القرن كبار وشيوخ وأصحاب عاهات مستدامة كالعرج وضعف البصر والشيخوخة.

فقد خرج النبي ﷺ إلى (أحد)، فرفع حسل بن جابر والد حُذَيْفَة بن اليمان وثابت بن وقش إلى الآكام مع النساء والصبيان، وكانا شيخين كبيرين، فقال أحدهما للآخر: «لا أبالك! ما ننتظر ؟! إنا نحن هامة اليوم أو غد»،فلحقا بالمسلمين ليرزقا الشهادة، فلما دخلا في الناس قتل المشركون ثابت بن وقش، والتقت أسياف المسلمين على حسل والد حذيفة بن اليمان، فنادى حذيفة: «أبي … أبي …»، فقتلوه، وهم لا يعرفونه، فقال حذيفة : يغفر الله لكم»، وتصدق بديته على المسلمين.

وقتل عمار بن ياسر يوم (صفّين ) مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان عمره يومئذ أربعاً وتسعين سنة، وقيل: ثلاث وتسعون سنة، وقيل: إحدى وتسعون سنة.

وعن صفوان بن عمرو أنه قال: كنت والياً على (حمص)، فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل (دمشق) على راحلته يريد الغزو، فقلت: يا عم ! لقد أعذر الله إليك، فرفع حاجبيه وقال: يا بن أخي ! استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، ألا إنه من يحبه الله يبتله».وخرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له : إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.

وشهد القتال في هذا القرن نساء أيضاً، قاتلن في صفوف المسلمين، ونهضن بواجبات إدارية في الميدان لا تقل أهمية عن الواجبات القتالية.

فقد شهدت نسيبة بنت كعب أم عمارة المازنية الأنصارية غزوة (أحد) مع النبي ﷺ قالت نسيبة : خرجت يوم (أحد) ومعي سقاء وفيه ماء، فانتهينا إلى رسول الله ﷺ وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله ، فكنت أباشر القتال وأذب عنهم بالسيف وأرمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إلي»، وكان على عاتقها جرح أجوف له غور.

وشهدت نسيبة معركة (اليمامة) مع خالد بن الوليد، وعاهدت الله أن تموت دون مسيلمة الكذاب أو تقتل، فقاتلت حتى قطعت يدها وجرحت اثني عشر جرحاً، ومعركة (اليمامة) كانت من معارك حروب الردة الفاصلة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما هو معروف، وكانت هذه المعركة الحاسمة سنة إحدى عشرة الهجرية.

وركبت أم أم حرام بنت ملحان زوج عُبادة بن الصامت البحر معزوجها، سنة سبع وعشرين الهجرية في غزوة (قبرس) بقيادة معاوية بن أبي سفيان في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما وصلت إلى أرض الجزيرة قربت لها بغلة، فركبتها، فصرعتها، فماتت.

وركبت في تلك الغزوة أيضاً زوج معاوية – فاختة بنت قرظة من بني نوفل بن عبد مناف، وقيل : كنود بنت قرظة – البحر مع زوجها.وأراد حبيب بن مَسْلَمَة الفِهْرِي، أن يبيت (المُوْرِيَان)، فسمعته امرأته أم عبد الله بنت يزيد الكلبية يذكر ذلك، فقالت له : وأين موعدك؟»، فقال: سرادق (المَوْرِيان) أو الجنّة»، ثم بيتهم، فقتل من أشرف له، وأتى السرادق فوجد امرأته قد سبقت.

وفي صحيح الإمام البخاري : باب جهاد النساء، وباب غزو المرأة في البحر، وباب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه، وباب غزو النساء، وقتالهنّ مع الرجال، وباب حمل النساء القراب إلى الناس في الغزو وباب مداواة النساء الجرحى في الغزو، وباب ردّ النساء الجرحى والقتلى.

التطبيق العملي للحرب الإجماعية الإسلامية بالأموال

٥ــ لقد قرن الإسلام دائماً الجهاد بالأرواح بالجهاد بالأموال والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون)، (مثل الذين يُنفِقُون أموالهم في سبيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ، في كل سنبلة مائة حَبَّةٍ، واللهُ يُضَاعِفُ لمن يشاء، والله واسع عليم، وما لكم ألا تنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهِ مِبْرَاثُ السموات والأرض) تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم)، ولا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فَضْلَ الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة بل يلاحظ في تلك الآيات الكريمة أن (الأموال) تقدم على (الأنفس) دائماً، مما يدل على أهمية الجهاد بالأموال.إن الأموال هي عصب الحرب، وبدونها لا تدور رحى الحرب ولا تؤدي إلى النصر.

وقد كان أغنياء المسلمين، لا يكتفون بالجهاد بأنفسهم، بل يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله : يجهزون أنفسهم بما يحتاجون إليه من سلاح ودواب وأرزاق، ويجهزون إخوانهم المجاهدين بما يحتاجون إليه من سلاح ودواب وأرزاق، ويخلفون المجاهدين من إخوانهم بالخير في عوائلهم وذويهم، ويتفقون عليهم كما ينفقون على من يعولون من عوائلهم وذويهم، ويواسونهم ويسهرون على مصالحهم.كانت غنائم يوم (حنين) أربعة وعشرين ألف بعير، وأربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية من الفضة.

فهل أبقى رسول الله ﷺ لنفسه ولأهله شيئاً من هذا المال أو من غيره من الأموال؟ .بل هل أبقى لنفسه ولأهله شيئاً من ماله الخاص؟.

إنه لم يفكر أبداً بنفسه، كما لم يفكر أبداً بأهله، فعاش فقيراً، ومات فقيراً، وأنفق كل ما يملك في سبيل الله.

وأنفق أبو بكر الصديق رضي الله عنه جميع ماله، وكان له أربعون ألفاً أنفقها كلها على رسول الله ﷺ وفي سبيل الله، وقد أعتق سبعة كانوا يعذبون في الله منهم: بلال بن رباح، فمات متخللاً بعباءته .وأنفق عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف ماله في سبيل الله .

وأنفق عثمان بن عفان أموالاً طائلة جهز جيش العسرة بتسعمائةوخمسين بعيراً، وأتم الألف بخمسين فرساً، ولما قدم المهاجرون المدينة استذكروا الماء، وكان لرجل من بني غفار عين يقال لها، (رؤمة)، وكان يبيع منها القربة بمد، فاشتراها عثمان بخمس وثلاثين ألف درهم وجعلها للمسلمين.

وكان للزبير بن العوام رضي الله عنه ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فما كان يدخل منها بينه درهم واحد، كان يتصدق بذلك كله.

وباع داراً له يستمائة ألف، فقيل له : يا أبا عبد الله غبنت ، فقال: «كلا والله لتعلمن لم أغين … هي في سبيل الله.

وباع عبد الرحمن بن عوف أرضاً من عثمان بن عفان رضي الله عنهما بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك المال في بني زهرة وأمهات المؤمنين وفقراء المسلمين وتصدق على عهد رسول الله ﷺ بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله، وقد وردت له قافلة من تجارة الشام فحملها إلى رسول الله ﷺ.وتصدق سعد بن أبي وقاص يثلث ماله على عهد رسول الله ).

وحين سار المسلمون لفتح الشام، خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يودع المجاهدين، فيصر بخباء عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يضم ثمانية أفراس ورماحاً وعدة ظاهرة، فسلم عليه أبو بكر وجزاء خيراً وعرض عليه المعونة، فقال: لا حاجة لي فيها، معي ألفا دينار، فدعا له بخير.

ولما مات خالد بن الوليد رضي الله عنه، لم يترك إلا سلاحه وفرسه وغلامه، وهو القائد الفاتح الذي خاض خلال اثنتي عشرة سنة إحدى وأربعين معركة في اليمن والحجاز ونجد والعراق والشام لم ترتد له راية أبداً، وما تركه حبسه في سبيل الله.

ولما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام، تلقاه أمراء الأجناد وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي ؟ فقالوا: من؟ فقال: «أبو عبيدة، قالوا: يأتيك الآن فجاء أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه القائد العام في أرض الشام والرجل الثاني بعد عمر أمير المؤمنين على ناقة مخطومة بحبل، فسلم عليه، فقال عمر للناس: انصرفوا عنا!»، وسار عمر مع أبي عبيدة حتى أتى منزله عليه، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه، فقال عمر: لو اتخذت متاعاً – أو قال: شيئاً، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين إن هذا سيبلغنا المقبل ، فقال عمر : غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة.

وكان عمير بن سعد الأنصاري على (حمص) لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فكتب عمر إلى أهل (حمص): اكتبوا لي فقراءكمفكتبوا إليه أسماء فقرائهم، وذكروا فيهم عمير بن سعد.

فلما قرأ عمر اسمه قال: من عمير بن سعداء، فقالوا: أميرنا فقال: «أو فقير هو!! فقالوا: ليس أهل بيت أفقر منها فقال عمر: فأين عطاؤه !!»، فقالوا: يخرجه كله لا يُمسك منه شيئاً !! فوجة إليه عمر بمائة دينار، فأخرجها كلها للفقراء، فقالت له امرأته لو كنت حبت لنا منها ديناراً واحداً، فقال لها: الو ذكرتني فعلت ).ولقد اقتصرت على ذكر أمثلة من جهاد القادة بأموالهم في سبيل الله.

في عهد النبي ﷺ وفي أيام من الفتح الإسلامي حين انهمرت الغنائم على المسلمين انهماراً، وكان بإمكان أولئك القادة أن يتروا بالحلال لا بالحرام ولكنهم عقوا فعف رجالهم، ونسوا مصالحهم الذاتية لأنهم شغلوا بمصالحالمسلمين العليا، فكانوا خير سلف للأجيال المتعاقبة، وبقوا أسوة حسنة لتلك الأجيال.

ذلك هو أحد أسرار الفتوح، التي كانت ولا تزال وستبقى من أعاجيب الدهر، فقد كانت الأسوة الحسنة عاملاً من أهم عوامل انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذن الله.

مقارنة بين الحرب الإجماعية الحديثة والحرب الإجماعية الإسلامية

٦ــ تلك هي الحرب الإجماعية التي طبقها المسلمون الأولون في الصدر الأول للإسلام، فوحد الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام خلال عشر سنوات (۱) هـ – ۱۱ هـ) لأول مرة في التاريخ، شبه الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام.

وامتد الفتح الإسلامي العظيم بعد التحاق النبي ﷺ خلال تسعين سنة (۱۱) هـ . ١٠٠ هـ) حتى شمل دولاً كثيرة لا تغرب عنها الشمس هي أوسع من أي مملكة في التاريخ القديم والحديث.

ولكن شتان بين الحرب الإجماعية الإسلامية التي طبقها المسلمون قبل خمسة عشر قرناً، وبين الحرب الإجماعية التي طبقتها الدول الحديثة في القرن العشرين الميلادي.الحرب الإجماعية في الإسلام، حرب وقائية، هدفها حماية حرية نشر الدعوة الإسلامية، والدفاع عن بلاد المسلمين، وإقرار السلام القوي، سلام الأقوياء

والحرب الإجماعية في الدول الحديثة حرب عدوانية، هدفها استعباد الشعوب واستغلال الطاقات والسيطرة على الموارد الاقتصادية والخامات

والحرب الإجماعية في الإسلام حرب عادلة، هدفها هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وصدق الله العظيم: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ ينصُرُهُ، إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض، أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، والله عاقبة الأمور.

وصدق غوستاف لوبون: لم يعرف العالم فاتحاً أعدل وأرحم من العرب.

والحرب الإجماعية في الدول الحديثة حرب غير عادلة، هدفها التوسع والقهر والتضليل والاستغلال والاستعباد.

والحرب الإجماعية في الإسلام متفوقة فواقاً كاسحاً على الحرب الإجماعية في الأمم الحديثة كماً ونوعاً.

أما تفوقها من ناحية (الكم)، فإن قاعدة التغير العام في الحرب الإجماعية الحديثة تنص على حشد عشرة بالمئة فقط من تعداد السكان للحرب، إذ تبدأ الجندية من من ثمانية عشر عاماً غالباً، وتنتهي خدمةالاحتياط في سن تسع وثلاثين سنة للرجل وأربع وثلاثين سنة للمرأة ).

أما المسلمون في حربهم الإجماعية، فقد استطاعوا حشد أربعين بالمئة من تعداد نفوسهم، إذ تبدأ الجندية في سن السادسة عشر أو الخامسة عشر عاماً، وتشمل كل قادر على الجهاد بما له أو نفسه أو بهما معاً، ولا تنتهي في سن معينة، ويبقى المسلم مجاهداً ما دام قادراً على حمل السلاح.

وكل قادر على حمل السلاح من المسلمين جندي أو قائد في جيش المسلمين، ولا أعلم مسلماً حقاً تخلف عن الجهاد في عهد النبي ﷺ إلا بأمر منه أو لعذر مشروع غير الثلاثة الذي خلفوا عن غزوة تبوك) فقاطعهم المسلمون .

وهجرهم أهلهم الأقربون حتى زوجاتهم، فلما تابوا تاب الله عليهم، بعد أن تحملوا الأهوال من مقاطعتهم.

فإذا قارنا نسبة الطاقة البشرية في الحرب الإجماعية الإسلامية وهي أربعون بالمئة بالنسبة لتعداد المسلمين بنسبة الطاقة البشرية في الحرب الإجماعية الحديثة وهي عشرة بالمئة، وجدنا البون شاسعاً، وأين الثرى من الشريا ؟! .

أما تفوقها من ناحية (النوع)، فإن المسلمين الأولين جنوداً وقادة يؤمنون بعقيدة راسخة، يسترخصون في سبيلها أموالهم وأنفسهم حماية لها ودفاعاً عن حرية نشرها، يعملون تحت إمرة قيادات تمثل أفضل القادرين منهم تقوى وكفاية، يشكلون بأنفسهم لرجالهم أسوة حسنة شجاعة وإقداماً وبدلاً وإنفاقاً .

هؤلاء المجاهدون الصادقون بقياداتهم القادرة، قدموا الشهداء الذين تساقطوا في ميدان الجهاد فبلغت نسبة الشهداء – وبخاصة من الصحابة رضي الله عنهم – ثمانين بالمئة، وهي نسبة عالية جداً لا مثيل لها في تاريخ الحرب قديماً وحديثاً .

لقد شهد معركة (اليمامة) في حروب الردة ثلاثة عشر ألفا بقيادة خالد بن الوليد، وكانت خسائر المسلمين ألفاً ومائتي شهيد، أي عشرة بالمائة من مجموع المجاهدين.

فإذا أحصينا عدد المعارك التي خاضها المسلمون في الغزوات والسرايا على عهد النبي ﷺ وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم، استطعنا أن نقدر مبلغ جسامة عدد الشهداء من المجاهدين.

وكمثال على ذلك، فإن الحارث بن هشام خرج في سبعين من أهل بيته، فرجع منهم أربعة فقط، ومات سائرهم بالطاعون، والشهيد يكون في الطعن والطاعون.

وكان شهداء المهاجرين والأنصار أكثر من نصف الشهداء في معركة (اليمامة)، فقد استشهد منهم من سكان المدينة المنورة يومئذ ثلاثمائة وستون، ومن المهاجرين من غير أهل المدينة ثلاثمائة.

وكان شهداء المهاجرين والأنصار وشهداء التابعين بإحسان الذين كانوا ثلاثمائة شهيد من التابعين، في تلك المعركة ثمانين بالمائة من مجموع الشهداء، إذ يبلغ عدد شهداء المهاجرين والأنصار والتابعين تسعمائة وستين شهيداً من مجموع ألف ومائتي شهيد.

وهذا يدل على أثر الإيمان في تصاعد عدد الشهداء، ويكفي أن نذكر أن عدد الشهداء من القراء في معركة (اليمامة) ثلاثمائة شهيد في روايةأن نسبة الشهداء من القراء في معركة واحدة فقط خمسة وعشرون بالمائة في رواية، وخمسة وأربعون بالمائة في رواية أخرى، وهي نسبة عالية جداً على أي حال.

هذه القدوة الحسنة متمثلة بالقادة الذين يقودون رجالهم من الأمام.

وبالعلماء الذين يعملون أكثر مما يقولون الهيت مشاعر المجاهدين وحرصتهم على القتال، وصدق رسول الله : اصفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء.

ذلك لأن شعار المجاهدين كان يومذاك وقل: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين !؟)) الشهادة أو النصر.

وقد تطورت الأسلحة الحديثة في الجيوش الحديثة التي طبقت الحرب الإجماعية في القرن العشرين، ولم تبق أسلحة بدائية كالسيف والرمح والشهم كما كانت قبل خمسة عشر قرناً، ومع هذا لم يبلغ عدد القتلى في الجيوش الحديثة ثمانين بالمائة من مجموع المقاتلين.

والذين يبحثون في مصادر الصحابة عليهم رضوان الله، يجد واحداً من كل خمسة منهم مات على فراشه وأربعة استشهدوا في ميادين الجهاد .

فلا تعجب من سرعة الفتوح المذهلة في القرن الأول الإسلامي الذي كان خير القرون ومن دوام تلك الفتوح وثباتها، فقد كان السلف الصالح يحرصون على الموت تحرص الخلف الطالح على الحياة.وصدق الله العظيم انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) .

والخير الذي بشر به سبحانه وتعالى، في هذه الآية الكريمة، هو خيرالدنيا وخير الآخرة.وخير الدنيا، هو إحراز النصر، والحياة الكريمة في هذه الحياة أفراداً وجماعات وشعوباً وأمة واحدة، فلا كرامة الضعيف، ولا مكانة الضعيف، والمسلمون حين تخلوا عن الجهاد ذلوا وهانوا واستعبدوا.

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ قال : …. وإذا تركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم، صدق رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ولن يعود المسلمون إلى سالف عزهم ومجدهم، ما لم ينهضوا بفريضة الجهاد بما فيها من تكاليف البذل والتضحية والفداء.

أما خير الآخرة، فجنة عرضها السموات والأرض، ونعيم خالد مقيم فيها للمجاهدين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

تلك هي الحرب الإجماعية في الإسلام، طبقها المسلمون قبل خمسة عشر قرناً خلت، فلا يقولن قائل بعد اليوم : إنها من صنع الأجانب نظرية وتطبيقاً، فقد شرعها الإسلام يوم كان الأجانب يغطون في سبات عميق، فادوا العالم فكرياً وعسكرياً، وقادوا الحضارة العالمية قروناً طويلة.

فلما تخلوا عنها فكراً وتطبيقاً تخلى عنهم النصر، وتكاثرت هزائمهم، وأصبحت بلادهم مستعمرة، وخيراتهم لغيرهم، فما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا .

أعاد الله المسلمين إلى دينهم عوداً حميداً، وإلى الجهاد عوداً مجيداً، ولا غالب إلا الله، وصلى الله على إمام المجاهدين وخاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

(محمود شيت خطّاب، من قادة النّبي صلّى الله عليه وسلم)

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة