من قادة النبي ﷺ: أبو قتادة بن رِبْعِيّ الأنصاري الخَزْرَجِيّ فارس رسول الله وأحد قادة سراياه

 نسبه وأيامه الأولى 

هو أبو قتادة بن رِبْعِيّ بن بَلْدُمَة بن خُنَاس بن سِنَان بن عُبَيْد بن عَدِي بن غنم بن كعب بن سَلِمَة  بن سعد بن علي بن راشد بن سَارِدَة بن تزيد بن جُشَم بن الخزرج. اسمه الحارث، وقيل : النُّعمان، وقيل : عمرو، والمشهور أن اسمه  الحارث، وهو مشهور بكنيته.  وأمه: كَيْشَة بنت مُطَهَّر بن حرام بن سواد بن غنم بن كعب بن سَلِمَة، فهي خزرجية من بنات عم أبيه.  وقد اختلف في شهوده بدراً، فقال بعضهم كان بدرياً، ولم يذكره بعضهم في البدريين، ولا وجود لاسمه في قائمة الذين شهدوا بَدْراً المصادر المعتمدة، واختلاف المؤرخين في شهوده بدراً يدل على أنه أسلم قديماً، فهو من المسلمين الأولين من الأنصار. 

و حسبه أنه نال شرف الصحبة وشرف الجهاد تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم  وشرف قيادة قسم من سراياه عليه الصلاة والسلام.

جهاده

 ا – في السرايا والغزوات

 أ – شهد أبو قتادة غزوة أحد التي كانت في شهر شوّال من السنة الثالثة الهجرية.  

ولما قُتِل حَمْزَة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل به حزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم. فجعل أبو قتادة يريد أن ينال من قريش لما رأى من غم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل حمزة وما مثل به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى أبي قتادة: أن اجلس ثلاثاً، وكان قائماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحتسبك عند الله»، وقال: يا أبا قتادة! إن قريشاً أهل أمانة من بغاهم العواثر كبَّهُ الله لِفِيْهِ، وعسى إن طالت بك مدّة أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم، لولا أن تَبْطَرُ قريش لأخبرتها بما لها عند الله. فقال أبو قتادة : والله يا رسول الله ! ما غضبتُ إلا لله ولرسوله حين نالوا منه ما نالوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدقت بئس القوم كانوا لنبيهم. 

ب – وشهد غزوة حَمْراء الأسد، وكانت يوم الأحد لثمان من شوال من السنة الثالثة الهجرية، وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إلى المدينة يوم الجمعة بعد أن غاب عنها خمسة أيام.  فقد صلى الصبح يوم الأحد، فلما انصرف من الصبح أمر بلالاً أن  ينادي : إن رسول الله يأمركم بطلب عدوّكم، ولا يخرج معنا إلا مَنْ القتال بالأمس. 

وخرج رؤساء الأوس والخزرج والمهاجرين يأمرون رجالهم بالمسير، والجراح في الناس فاشية.  وجاء أبو قتادة بني سَلِمَة وهم يداوون الجراح، فقال: «هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوّكم، فوثبوا إلى سلاحهم وما عرّجوا على جراحاتهم، فخرج من بني سَلِمَة أربعون جريحاً، حتى وافوا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم السلاح، قد صفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم والجراح فيهم فاشية قال: «اللهم ارْحَمْ بني سلمة ».  

ج. وشهد سرية أبي سَلَمَة بن عبد الأسد إلى (قطن) التي كانت   في شهر المحرم من السنة الرابعة الهجرية، ففرقت السرية شمل  المشركين وغنموا إبلاً وشاء . 

د – وشهد غزوة (بَدْر) الموعد التي كانت في شهر شعبان من السنة الرابعة الهجرية، فأخلفت قريش موعدها خوفاً من لقاء المسلمين وكان أبو قتادة في تلك الغزوة فارساً. 

هـ ــ وشهد سرية عبد الله بن عتيك لقتل اليهودي أبي رافع سلام بن أبي الحقيق النَّضْرِيّ ، وكانت في شهر رمضان من السنة السادسة الهجرية، فقتلوا أبا رافع لأنه كان يحرِّض المشركين على المسلمين ونسي أبو قتادة قوسه، فذكرها بعدما نزل فقال له أصحابه : «دع القوس»، فأبى، فرجع وأخذ قوسه وعاد إلى أصحابه، دون أن يخشى حشود يهود الذين تجمعوا لمقتل أبي رافع . 

و – وشهد غزوة (المُرَيْسِيع ) فارساً من فرسان المسلمين من السنة الخامسة الهجرية. التي  كانت في شعبان وكان يحمل لواء المشركين في هذه الغزوة صفوان ذو الشقر، فشدّ عليه، فكان الفتح، وكان شعار المسلمين في تلك الغزوة: يا منصور، أمتْ أُمِتْ.

ز – وشهد غزوة بني قريظة فارساً التي كانت في شهر ذي القعدة  من السنة الخامسة الهجرية. 

 ح ـ كما شهد غزوة ذي (قَرَد ) فارساً، وكانت في شهر ربيع الأول من السنة السادسة الهجرية  فقتل مَسْعَدة بن حَكَمَة بن مالك بن حذيفة الفزاري وحبيب بن عُيَيْنَة بن حصن، وفي هذه الغزوة نودي : “يا خيل الله اركبي، ولم يقل ذلك قبلها”.

قال أبو قتادة: «إني لأغسل رأسي، قد غسلت أحد شقيه، إذ سمعت  فرسي جَرْوَة تصهل وتبحث بحافرها، فقلت: هذه حرب قد حضرت ! فقمت ولم أغسل شقّ رأسي الآخر، فركبتُ وعلي بردة لي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح الفَزَعَ الفَزَعَ قال : وأُدرك المقداد بن عمرو، فسايرته ساعة، ثم تقدمه فرسي وكان أجود من فرسه، وقد أخبرني المقداد – وكان سبقني – بقتل مَسْعَدَة مُحْرِزاً، فقلت للمقداد: أنا أموت أو أقتل قاتل مُحْرِز». ولحقهم أبو قتادة، فوقف له مَسْعدة، فحمل عليه أبو قتادة بالقناة، فدق صلبه وهو يقول: «خذها وأنا الخَزْرَجِيّ!»، فوقع مَسْعَدَة ميتاً، ونزل أبو قتادة، فسجاه ببردته وجَنَّبَ فرسه معه وخرج يُخضر في أثر القوم، حتى تلاحق الناس. ولما مرّ الناس ونظروا إلى بُرْدَة أبي قتادة، عرفوها، فقالوا: هذا أبو قتادة قتيل واسترجع أحدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ، ولكنه قتيل أبي قتادة، وجعل عليه بزدته لتعرفوا أنه قتيله، فخلوا بين أبي قتادة وبين قتيله وسَلبه وفرسه»، فأخذه كله.

وقال أبو قتادة: «لما أدركني النبي يومئذ ونظر إلي قال : اللهم بارك في شَعْرِه وبَشَرِه. وقال: أفلح وجهك ! قلت ووجهك يا رسول الله ! قال : قتلت مَسْعَدَة؟ قلت : نعم، فأعطاني يومئذ فرس مسعدة وسلاحه وقال : بارك الله لك فيه»،  ومُحْرِز الذي قتله مَسْعَدَة، هو مُحْرِز بن نَضْلَة من بني أسد بن خُزَيْمَة، وكان حليفاً لبني عبد شمس.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذي قَرَد : خير فرساننا أبو قتادة، ومن يومها  أصبح فارس النبي صلى الله عليه وسلم.

ط- وشهد غزوة الحُدَيْبِيَّة فارساً وكانت في شهر ذي القعدة من ـ السنة السادسة الهجرية.  قال أبو قتادة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عُمَرَة الحُدَيْبِيَّة، ومِنا المُحِلّ والمُحرم، حتى إذا كنا بالأبواء، وأنا مُحِلٌ، رأيتُ حِماراً وحشياً، فأسرجت فرسي، فركبتُ، فقلت لبعضهم: ناولني سَوْطِي! فأبى أن يناولني، فقلتُ: ناولني رُمْحِي! فأبى، فنزلت فأخذت سوطي ورمحي، ثم ركبت فرسي، فحملت على الحمار فقتلته فجئت به أصحابي المُحْرِمِين والمُحِلّين، فشكّ المحرمون في أكله، حتى أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان تقدمنا بقليل، فأدركناه فسألناه عنه فقال : أمعكم منه شيء؟ قال: فأعطيته الذراع، فأكلها حتى أتى على آخرها وهو مخرم»، فقيل لأبي قتادة : وما خلفكم عن رسول الله؟»، فقال: «طبخنا الحمار، فلما نَضِجَ لحقناه وأدركناه».

وقد صاول أبو قتادة المنافقين من قومه في هذه الغزوة مصاولة لا هوادة فيها قال: لما نزلنا الحُدَيْبِيَّة، والماء قليل، سمعت الجد بن قيس  يقول: ما كان خروجنا إلى هؤلاء القوم بشيء! نموت من العطش عن آخرنا فقلت: لا تَقُل هذا يا أبا عبد الله، فلِمَ خرجت؟ قال: خرجت مع قومي . قلت: فلِمَ خرجتَ تخرج مُعْتَمِراً؟ قال : لا والله ما أَحْرَمتُ . قال أبو قتادة : ولا نَويتَ العُمْرَة قال : لا ! .

فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل فنزل بالسهم، وتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدلو ومج فاه فيه، ثمّ ردّه في البئر، فجاشت البئر بالرواء، فرأيت الجَدَّ مادّاً رجليه على شفير البئر في الماء، فقلت: أبا عبد الله ! أين ما قلت؟ قال: إنما كنت أمرح معك، لا تذكر لمحمد مما قلتُ شيئاً. قال أبو قتادة وقد كنت ذكرته قبل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فغضب الجَدّ ، وقال : بقينا مع صبيان من قومنا لا يعرفون لنا شرفاً ولا سنّاً، لبَطْنُ الأرض اليوم خير من ظهرها ! قال أبو قتادة وقد كنت ذكرت قوله للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابنه خير منه. قال أبو قتادة: فلقيني نفر من قومي، فجعلوا يؤنبونني ويلومونني حين رفعت مقالته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لهم: بئس القوم أنتم! ويحكم! عن الجد بن قيس تذبون؟ قالوا: نعم كبيرنا وسيدنا . فقلت : قد واللهِ طَرَح رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤدده عن بني سَلِمَة، وسوّد علينا بشـر بـن البـراء بـن مغرور، وهدمنا المنامات التي كانت على باب الجد وبنيناها على باب بشر بن البَراء، فهو سيدنا إلى يوم القيامة. فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، فرّ الجدّ بن قيس، فدخل تحت بطن البعير، فخرجت أعدو وأخذت بيد رجل كان يُكلمني فأخرجناه من تحت بطن البعير، فقلت: ويحك! ما أدخلك ههنا؟ أفراراً مما نزل به روح القُدس؟ قال: لا، ولكني رُعِبْتُ وسمعتُ الهَيْعَة.

قال أبو قتادة: “لا نضحت عنك أبداً، وما فيك خير». ولما مرض الجد بن قيس ونزل به الموت لزم أبو قتادة بيته فلم يخرج حتى مات ودفن، فقيل له في ذلك، فقال: «والله ما كنتُ لأُصَلِّيَ عليه وقد سمعته يقول يوم الحديبية كذا وكذا، وقال في غزوة تبوك : كذا وكذا، واستحييت من قومي يرونني خارجاً ولا أشهده»، ويقال: خرج  خنساء   ابنه عبد الله وأحداً، أبو قتادة إلى ماله بالواديين فكان فيه حتى دُفن الجد، ومات الجد في  خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه .

ي – وشهد مع النبي غزوة القَضِيَّة التي كانت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة الهجرية، وقال: سلكنا في عُمْرَة القَضِيّة على (الفُرْع ) وقد أحرم أصحابي غيري فرأيت حماراً وحشياً فشددت عليه فعقرته، فأتيت به أصحابي، فمنهم الأكل والتارك، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كُل!»، قال أبو قتادة : ثمّ حجّ حجة الوداع ، فأحرم من (البَيْدَاء))، وهذه العُمْرة من المسجد لأنّ طريقه ليس على البيداء. 

ك – وشهد سرية مُؤْتَة، التي كانت في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة الهجرية، ويبدو أنّه أبلى في هذه السرية بلاء حسناً، فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم. كما روى أبو هريرة فقال: “خير الفرسان أبو قتادة، وخير الرَّجالة سَلَمَة بن الأكوع”.  وهكذا لم يدخر أبو قتادة وسعاً في الجهاد، وكان له مواقف محمودة  في الغزوات والسرايا . 

والذي يتبع سير الحوادث في هذه الغزوات والسرايا وتواريخ نشوبها، يجد أن أبا قتادة قضى معظم وقته في الجهاد دفاعاً عن الإسلام والمسلمين،  فكأنّه لم يأخذ لنفسه قسطاً من الراحة. 

2 – قائد السريتين

أ – سَرِيّة خَضِرَة:  وكانت في شهر شعبان من السنة الثامنة الهجرية، إلى خَضِرَة، وهي أرض مُحَارب بنجد، وكانت السرية مؤلفة من خمسة عشر رجلاً بقيادة أبي قتادة، إلى غطفان، وأمره الله أن يسيروا الليل، ويكمنوا النّهار، ويشنّوا الغارة، ولا يقتلوا النساء والصبيان .  .  وخطب أبو قتادة رجاله فأوصاهم بتقوى الله عزّ وجلّ، وألف بين كل رجلين وقال: «لا يُفارق كلّ رجل زميله حتى يقتل أو يرجع إلي فيخبرني خبره، ولا يأتني رجل فأسأل عن صاحبه فيقول: لا علم لي به! وإذا كبرت فكبّروا ، وإذا حملت فاحملوا، ولا تُمعنوا في الطلب».  وهجمت السرية على الحاضر، فأحاطت بالمشركين، فصرخ رجل منهم : يا خَضِرَة وقاتل منهم رجال فقتلوا مَنْ أَشْرَف لهم، واستاقوا النَّعم، فكانت الإبل مائتي بعير والغنم ألفي شاة، وسبوا سبباً كثيراً. وجمعوا الغنائم فأخرجوا الخمس فعزلوه، وقسموا ما بقي على أهل السرية، فأصاب كلّ رجل منهم اثنا عشر بعيراً، فعدل البعير بعشر من الغنم. وصارت في سهم أبي قتادة جارية وضيئة، فجاء مَحْمِيَّة بن جَزْء الزبيدي فقال: يا رسول الله ! إنّ أبا قتادة قد أصاب في وجهه هذا جارية وضيئة، وقد كنتَ وعدتني جاريةٌ من أوّل فَيْءٍ يُفِيُّ الله عليك»، فاستوهبها من أبي قتادة رسول الله و فوهبها له فوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَحْمِية بن  جَزْء. 

وغابوا فى هذه السرية خمس عشرة ليلة.  لقد أحرز أبو قتادة في هذه الغزوة انتصاراً رائعاً. وكان من أهم عوامل انتصاره مباغتة المشركين مباغتة كاملة بالزمان، إذ لم يكونوا  يتوقعون هجوم المسلمين عليهم في ذلك الوقت، فلاذوا بالفرار. 

ب – سرية بطنِ إِضَم: وكانت في أول شهر رمضان من السنة الثامنة الهجرية إلى بطن إضم بقيادة أبي قتادة في سرية مؤلفة من ثمانية رجال .  فلما هَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو أهل مكة، بعث أبا قتادة في ثمانية نفر سرية إلى بطن أضَم، وهي فيما بين (ذي خُشُب) و (ذي المَرْوَة)، وبينها وبين المدينة ثلاثة بُرد، ليظن ظان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، توجه إلى تلك الناحية، ولأن تَذْهَبَ بذلك الأخبار . 

وكان في تلك السرية مُحَلَّم بن جَنَّامَة اللَّيْنِي، فمر عامر بن الأضبط الأَشْجَعِي، فسلّم بتحية الإسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه مُحَلَّم بن جَنَّامة فقتله وسلبه بعيره ومتاعه ووَطْبَ لبن كان معه. فلما لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، نزل فيهم القرآن: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا، وَلَا تَقُوْلُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُم السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنَا، تَبْتَغُوْنَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنيا، فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) وانصرف القوم ولم يلقوا جمعاً، حتى انتهوا إلى ذي خُشُب، فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى مكة، فأخذوا على (بين) حتى لحقوا النبي صلى الله عليه وسلم بـ (السُّقْيا)، فشهدوا معه فتح مكة.

في الغزوات والسرايا ثانية

أ ـ شهد أبو قتادة بعد غزوة فتح مكة غزوة حنين، التي كانت في شهر شوّال من السنة الثامنة الهجرية . وكان أبو قتادة يحدث قال: لما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلين يقتتلان: مسلماً ومشركاً، وقد علاه المشرك، فاستدرتُ حتى أتيته من ورائه، فضربته على حَبْل عاتقه وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، وكاد أن يقتلني لولا أنّ الدم نزفه، فسقط وذفَّفتُ عليه ومضيت وتركت عليه سَلَبَه . ولحقت عمر بن الخطاب فقلت : «ما بال الناس؟! قال : أمْرُ الله. ثمّ إنّ النّاس ،رجعوا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ قتل قتيلاً له عليه بينة فله سَلَبه . فقمت فقلت : مَنْ يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال : مَنْ قتل قتيلاً عليه بيّنة فله سَلَبه، فقمت فقلت: مَنْ يشهد لي؟ ثم جلست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قتل قتيلاً له عليه بينة فله سَلَبُه، فقام عبد الله أنيس بن فشهد لي، ثمّ لقيت الأسود بن الخُزاعي فشهد لي، وإذا صاحبي الذي أخذ السلب لا يُنكر أني قتلته، وقد قصصت على النبي صلى الله عليه وسلم  القصة، فقال: يا رسول الله ! سَلَبُ ذلك القتيل عندي، فأَرضِهِ عني! فقال أبو بكر الصديق : لا والله لا يرضيه منك تَعْمدُ إلى أسد من أسد الله ، يقاتل عن دين الله تقاسمه سَلَبه ارْدُد عليه سَلَب قتيله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صَدَق، فأعطه إياه ! فأعطانيه فقال لي حاطب بن أبي بَلْتَعَة: يا أبا قتادة ! أتبيع السلاح ؟ فبعته منه بسبع أواقٍ فأتيت المدينة، فاشتريت به مَخْرَفاً في بني سَلِمَة يقال له الرُّدَيني، فإنّه لأوّل مال لي نلته في الإسلام، فلم نزل نعيش منه إلى يومنا هذا» . 

ب ـ وشهد سرية عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الفُلس التي كانت في شهر ربيع  الآخر من سنة تسع الهجرية.  وقد بعثه قائد السرية مع الحُباب بن المُنْذِر وأبي نائلة، فخرجوا على متون خيل لهم يطوفون حول المعسكر، يتقصون ما حولهم، فأصابوا غلاماً أسود فقالوا: ما أنت؟ قال: «أطلب بغيتي»، فأتوا به عليّاً، فقال: «ما أنت؟»، فقال: «باغ !»، فلما هدّدوه قال: «أنا غلام لرجل من طيء من بني نَبْهَان، أمروني بهذا الموضع وقالوا: إن رأيت خيل محمد فَطِرْ إلينا فأخبرنا، وأنا لا أدرك أسْراً، فلما رأيتكم أردت الذهاب إليهم، ثم قلت : لا أَعجَلُ حتى آتي أصحابي بخبر بين من عددكم وعدد خيلكم وركابكم، ولا أخشى ما أصابني، فلكأني كنتُ مُقيّداً حتى أخذتني طلائعكم»، قال علي: «أصدقنا ما وراءَك؟»، قال: «أوائل الحي على مسيرة ليلة طَرَّادَة، تصبحهم الخيل ومغارُها حين غَدَوا . 

واستشار علي بن أبي طالب أصحابه، فقال جَبَّار بن صَخْر : نرى أن ننطلق على متون الخيل ليلتنا حتى نصبح القوم وهم غارون، فنغير عليهم، ونخرج بالعبد الأسود ليلاً ونُخلّف حُرَيثاً مع العسكر حتى يلحقوا إن شاء الله، فوافق علي على هذا الرأي.  وخرجوا بالعبد الأسود، والخيل تعادى، وهو ردف بعضهم عُقْبَة، ثم ينزل فيُردف آخر عُقْبَة، وهو مكتوف ، فلما انهار الليل كذب العبد وقال : قد أخطأتُ الطريق وتركتُها ورائي»، فقال علي: «فارجع إلى حيث أخطأت!»، فرجع ميلاً أو أكثر، ثمّ قال: أنا على خطأ»، فقال علي: «إنّا منك على خُدعة، ما تريد إلا أن تثنينا عن الحي، قدموه! لتصدقنا أو لنضر بن عنقك»، فقُدِّم العبد وسُلَّ السيف على رأسه، فلما رأى الشرّ قال : أرأيت إن صدقتكم، أينفعني؟»، قالوا: نعم، فقال: «فإني صنعت ما رأيتم إنّه أدركني ما يُدرك الناسَ من الحياء، فقلت: أقبلتُ بالقوم أدلُّهم على الحي من غير مِحْنَة ولاحق فآمنهم، فلما رأيت منكم ما رأيتُ وخفت أن تقتلوني كان لي ،عُذر فأنا أحملكم على الطريق»، قالوا: «اصدقْنَا»، قال: «الحي منكم قريب».  وخرج منهم حتى انتهى إلى أدنى الحي، فسمعوا نباح الكلاب وحركة النَّعَم في المَرَاح والشاء، فقال: “هذه الأصرام”، وهي على فرسخ، فينظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: «فأين آل حاتم ؟ »، قال: «هم متوسطو  الأصرام” . 

وأغارت خيل المسلمين على المشركين فجراً، فقتلوا مَنْ قتلوا وأسروا مَنْ أسروا واستاقوا الذرِّيَّة، والنساء، وجمعوا النَّعَم والشاء. 

وقالت جارية من الحي وهي ترى العبد الأسود – وكان اسمه أسلم – وهو مُؤثَق: “ما لَه هَبِل هذا عمل رسولكم أَسْلَم، لا سلم، وهو جلبهم عليكم ودلّهم على عَوْرَتكم!»، فأجابها العبد الأسود: «أقصري يا ابنة الأكارم، ما دللتهم حتى قُدَّمتُ ليُضْرَب عنقي ! » . 

وعسكر المسلمون، وعزلوا الأسرى، وهم قليل، وعزلوا الدُّرِّيَّة، وأصابوا من آل حاتم أخت عَدِي بن حاتم ونُسَيّاتٍ معها، فعزلوهن على  حدة، فقال أسلم لعلي بن أبي طالب: “ما تنتظر بإطلاقي؟”، فعرض عليه الإسلام، فقال: «أنا على دين قومي هؤلاء الأسرى، ما صنعوا صنعت!»، فقال: «ألا تراهم مُوثَقين فنجعلك معهم في رباطك؟»، فقال: «نعم، مع هؤلاء موثقاً، أحبُّ إلي من أن أكون مع غيرهم ما أصابهم»، فأُوثق وطرح مع الأسرى، فقال: «أنا معهم حتى تَرَوْن منهم ما أنتم راءون»، فقائل يقول :له مرحباً بك ،وأهلاً، ما كان عليك أكثر مما صنعت لو أصابنا الذي أصابك لفعلنا الذي فعلت وأشدّ منه، ثم بنفسك ! وقائل يقول له : لا مرحباً بك، أنت جئتنا بهم ! .  ثم اسَيْتَ  وجاء العسكر واجتمعوا فقربوا الأسرى، وعرضوا عليهم الإسلام، فمن أسلم تُرك، ومن أبى ضربت عُنقه، حتى أتوا على الأسود، فعرضوا عليه الإسلام، فقال: «واللهِ إِنّ الجزَع من السيف للوم، وما من خلود»، فقال له رجل من الحي ممن أسلم : «يا عجباً منك! ألا كان هذا حين أخذت ! فلما قتل مَنْ قُتل، وسُبي مَن سُبي منا، وأسلم منا من أسلم راغباً في الإسلام تقول ما تقول ويحك أسلم واتبع دين محمد»، فأسلم وتُرك، حتى كانت الرَّدَّة، فشهد مع خالد بن الوليد اليمامة، فأبلى بلاء حسناً . وقصة العبد الأسود طويلة، نقلتها دون أن تكون لها صلة بسيرة أبي قتادة، ولكنّها تحمل في طياتها عبرةً لمن يعتبر بالتزام حتى العبيد قبل الإسلام بالخلق الكريم فقلت لنفسي: ليت الأحرار المسلمين يلتزمون  بمثل هذا الخُلق في هذه الأيام!».  وفي الحديث الصحيح: خياركم في الجاهلية، خياركم في الإسلام  إذا فقهوا ولا فائدة للتاريخ، إذا لم يكن عبرة للحاضر والمستقبل، فهو ليس  للتسلية ولا لقضاء الوقت سدى . 

وهدمت السرية الفُلس وخربوه، فوجد في خزانة الفلس ثلاثة أسياف : رَسُوب، والمِخْدَم وسيف يقال له اليماني، وثلاثة أدراع . واستعمل عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه على السَّبي أبا قتادة، واستعمل على الماشية والرنّة عبد الله بن عَتِيْكَ السُّلَمي ، فلما نزلوا (رَكَكَ) اقتسموا الغنائم، وعزل للنبي صلى الله عليه وسلم صفيّاً رسوباً والمِخْدَم، ثم صار له بعد السيف الآخر، وعزل الخمس وعزل آل حاتم فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة. 

وكان في السَّبي أخت عَدِي بن حاتم لم تُقسَم، فأنزلت دار رَمْلَة بنت الحارث، وكان عَدِيّ بن حاتم قد سمع بحركة علي رضي الله عنه، وكان له عين بالمدينة محدّره فخرج إلى الشّام، وكانت أُخت عَدِي إذا مرّ النبي صلى الله عليه وسلم تقول: يا رسول الله هَلَكَ الوالد وغاب الوافد، فامنن علينا مَنَّ الله عليك، كلّ ذلك يسألها رسول الله: “مَنْ وافدك؟”، فتقول:  “عَدِيّ بن حاتم!»، فيقول : الفار من الله ورسوله؟!»، حتى يئست. 

فلما كان اليوم الرابع مرّ النبي صلى الله عليه وسلم فلم تكلم، فأشار إليها رجل:  قومي  فكلميه ! فكلمته فأذن لها ووصلها .  وسألت عن الرجل الذي أشار إليها، فقيل: عَلِيٌّ، وهو الذي سباكم، أما تعرفينه؟! فقالت: «لا ،والله ما زِلْتُ مُدْنِيَةٌ طَرَف ثوبي على وجهي وطَرَف ردائي على برقعي من يوم أُسِرت حتى دخلت هذه الدار، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه،  وهذه عبرة جديدة من التاريخ للعربيات المسلمات، يتعلمنها من فتاة جاهلية لم تسلم ولكنّها ملتزمة بأهداب الشرف الرّفيع . 

جــ  وشهد غزوة تبوك التي كانت في شهر رجب من السنة  التاسعة الهجرية.  وقد تخلّف نفر من المسلمين، أبطأت النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  بهم  حتى تخلّفوا عنه من غير شك ولا ارتياب منهم كعب بن مالك. وذكره رسول الله حين بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم: ما فعل كعب بن مالك؟»، فقال رجل من بني سَلِمَة : يا رسول الله ! حبسه برداه والنظر في عِطْفَيْه!»، فقال مُعَاذ بن جَبَل: “بئسما قلت! والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيراً”، والقائل عبد الله بن أنيس، ويقال: الذي ردّ عليه أبو قتادة، ومُعاذ بن جبل أثبتهما عندنا. 

واشتهى الذين شهدوا غزوة تبوك من المسلمين اللحم، فانطلق عشرة من الأنصار على خيولهم منهم أبو قتادة إلى الصيد، وكان صاحب طرد بالرمح، فقتل أبو قتادة خمسة أحْمِرَة بالرّمح على فرسه، واصطاد أصحابه الظباء، وعادوا بالصيد إلى العسكر مساء، وفرقوه على أصحاب  النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي طريق عودة المسلمين من تبوك إلى المدينة، كان أبو قتادة يسير قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم فَخَفق النبي الله خَفْقَةً وهو على راحلته، فمال على شقه، فدنا منه أبو قتادة ودَعَمَه فانتبه، فقال: «مَنْ هذا؟»، فقال: «أبو قتادة يا رسول الله ! خفت أن تسقط فدعمتك»، فقال: «حَفِظَك الله كما حفظت رسول الله ! »، ثم سار غير كثير، ثمّ فعل مثلها، فدعمه أبو قتادة أيضاً، فانتبه، فقال: يا أبا قتادة هل لك في التعريس »، فقال: ما شئت یا رسول الله!»، فقال: «انظر مَنْ خلفك ! » ، فنظر فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال: «ادعُهم!»، فدعاهم، فعرسوا وهم خمسة رجال.  (أي استراحوا).

ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم، جاءه كعب بن مالك وهو جالس في المسجد، قال كعب فسلّمت عليه، فلما سلّمت عليه تَبَسَّم تبسم المُغْضَب، ثم قال لي : تعال! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي : ما خلفك؟ ألم تكن ابتعتَ ظَهْرَك ؟ فقلت: يا رسول الله ! لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أني سأخرج من سَخَطه بعُذر، لقد أُعطيتُ جَدَلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديثاً كاذباً لِتَرْضَى عَنِّي لَيوشكنّ الله عزّ وجلّ أن يسخط علي، ولئن حدثتك اليوم حديثاً صادقاً تجد علي فيه، إنِّي لأرجو عُقبى الله فيه . ولا والله ما كان لي عذر والله ما كنتَ أقوى ولا أيسر تخلفتُ عنك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد صَدَقَتَ، فَقُمْ حتى  مني حين  ،  يقضي الله عزّ وجلّ فيك! فقمت وقام معي رجال من بني سَلِمَة فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا وقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المُخَلَّفون، فقد كان كافيك ذَنْبَك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا بي يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُكذِّب نفسي، فلقيت مُعاذ بن جَبَل وأبا قتادة، فقالا لي لا تُطع أصحابك وأقِمْ على الصدق، فإنّ الله سيجعل لك فرجاً ومَخْرَجاً إن شاء الله فأما هؤلاء المعذرون، فإن يكونوا صادقين فسيرضى الله ذلك ويعلمه نبيه، وإن كانوا على غير ذلك يذُمّهم أقبح الذم ويكذب حديثهم، فقلت لهم : هل لقي هذا غيري؟ قالوا نعم رجلان قالا مثل مقالتك وقيل لهم مثل ما قيل لك، قلت : مَنْ هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع وهلال بن أُميّة الواقفي، فذكروا لي رَجُلَيْن صالحين فيهما أُسْوَةٌ وقُدْوَة. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين مَنْ تخلّف عنه، فاجتنبنا النّاسُ وتغيّروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي، والأرض فما الأرض التي كنتُ أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا فقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنتُ أشدَّ القوم وأجلدَهم، وكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصّلاة، فأُسلَّم عليه فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا، ثمّ أُصلي قريباً منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك عليّ من جَفْوَة المسلمين، مشيتُ حتى تسوّرت حائط أبي قتادة ـ وهو ابن وأحب الناس إلي – فسلّمتُ عليه فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك الله ! هل تعلمني أُحبّ الله ورسوله؟ فسكت، فعدتُ فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمني أُحبّ الله ورسوله؟ ! فسكت. فعدتُ فنشدته الثالثة فقال : الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، فوثبتُ فتسوّرت الجدار، ثمّ غدوت إلى السوق، فبينا أنا أمشي بالسوق فإذا نبطي من نَبَطِ الشّام ممن قدم بالطعام يبيعه بالسوق يسأل عني يقول : مَنْ يدلني على كعب بن مالك؟ فجعل الناس يشيرون له، فدفع إلي كتاباً الحارث بن أبي شَمِر ملك غَسَّان، أو قال من جَبَلة بن الأَيْهم – في سَرَقَةٍ من من حرير فإذا في كتابه: «أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله في دار هَوانِ ولا مَضْيَعَةٍ، فالحق بنا نُواسِك !».. فقلت حين قرأته : وهذا من البلاء أيضاً، قد بلغ مني ما وقعتُ فيه أن طَمِعَ فِيَّ رجال من أهل الشر فذهبت بها إلى تَنُّورِ فَسَجَرْتَه بها ، وأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تعتزل امرأتك فقلت: أُطلقها أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها فلا تَقْرَبها. فقلت لامرأتي الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ماهو قاض وأما هلال بن أُمية فكان رجلاً صالحاً، فبكى حتى إن كان يُرى أنّه هالك من البكاء، وامتنع من الطعام، فإن كان يُواصل اليومين والثلاثة من الصوم ما يذوق طعاماً، إلا أن يشرب الشربة من الماء أو من اللبن . ويُصلِّي الليل ويجلس في بيته لا يخرج، أحداً لا يكلمه، حتى إن كان الولدانُ لَيَهْجُرونه لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! إنّ هلال بن أُمَيَّة شيخ كبير ضائع لا خادم له وأنا أرفق به من غيري، فإن رأيت أن تدعني أن أخدمه فعلت قال: نعم، ولكن لا تدعيه يصل إليك، فقالت: يا رسول الله ! ما به من حَرَكَةٍ إليّ ! والله ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، وإنّ لِحْيَتَه لتَقْطُر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه، حتى تخوّفت أن يذهب بصره. قال كعب : فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أُمية أن تخدمه. فقلت : والله لا أستأذنه فيها ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنته، وأنا رجل شاب فوالله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثمّ صلّيت الصُّبح على ظهر بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عزّ وجلّ، وقد ضاقت علي الأرض بما رَحُبَت، وضاقت علي نفسي، وقد كنتُ ابتنيتُ خيمة في ظهر (سَلْع ) فكنت فيه، إذ سمعتُ صارخاً أوفى على سَلْع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك! أَبْشِرْ ! قال : فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفَرَج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلّى الصُّبح. قال كعب : فلما سمعت صوته نزعت ثَوْبَيَّ فكسوتهما إياه لبشارته والله ما أملك يومئذ غيرهما! ثم استعرتُ ثوبين من أبي قتادة فلبستهما، ثم انطلقت أتيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يهنئونني بالتَّوْبة يقولون : لِيَهْنِكَ تَوْبَة الله عليك ! حتى دخلت المسجد ورسول الله جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن أبي طلحة فحياني وهنأني ما قام إلي من المهاجرين غيره فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ وَلَدَتْكَ أمك ! قلت : أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله ؟ فقال : من عند الله عزّ وجلّ، قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ يستنير حتى كان فلقة وجهه القمر، وكان يُعْرَف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله ! إِنْ من تَوْبَتي إلى الله وإلى رسوله أن أنْخَلع من مالي إلى الله مالي إلى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك، هو خير لك! قلت: إني ممسك بسَهُمي الذي بخَيْبَر ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا! قلت: النصف! قال: لا! قلت : فالثلث ! قال: نعم قال : إني يا رسول الله أحبس سَهْمِي الذي بخَيْبر . قال كعب قلت: “يا رسول الله ! إنّ الله عزّ وجلّ أنجاني بالصدق، فإن توبتي إلى الله ألا أُحدث إلا صِدقاً ما حييت». قال كعب: «والله ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صِدْق الحديث منذ ذكرتُ لرسول الله أفضل مما أبلاني، والله ما تعمّدت من كذبة منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقى».  وأنزل الله عزّ وجلّ : (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ والمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيْعُ قُلُوْبُ فَرِيْقِ مِنْهُمْ، ثُمَّ  تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ بِهِمْ رءوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِيْنَ خُلْفُوا حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وظَنُّوا أنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)،

قال كعب : فوالله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط إذ هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ، ألا أكون كذبته يومئذ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه حين أنزل عليه الوحي: (سَيَحْلِفُوْنَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ، فَأَعْرِضُوْا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُوْنَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِيْن)، وكنا خُلْفنا أيُّها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه ما قضى، ليس عن الغزوة، ولكن بتخليفه إيانا، وإرجائه أمرنا عَمّن حَلَفَ له، واعتذر إليه، فقبل  منه.

تلك جزء من قصة الثلاثة الذين خُلّفوا ورد فيها شيء من ذكر أبي قتادة، كان من الممكن أن أسلّط الضوء على ما يخص أبا قتادة، ولكنني آثرت نقل ما نقلته ليكون عبرة، ففيه عقاب المتخلفين في الدنيا عن الجهاد، وفيه تصوير للمجتمع الإسلامي في تماسكه وضبطه، وفيه عبر كثيرة أخرى، لعلّ من الأفضل ألا أدلّ عليها، لأترك للدارس فرصة اكتشافها والاستمتاع بلذة الاكتشاف.

وكان أبو قتادة بغزوة تبوك حَرَس النبي صلى الله عليه وسلم. 

بعد النبي صلى الله عليه وسلم

أ ـ حين فرغ خالد بن الوليد من طُلَيْحَة الأسدي ومن معه، سار  يريد مالك بن نُوَيْرَة في (البُطَاح)، ولكن الأنصار في قوات خالد تخلّفوا عنه وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا ! إذ الخليفة عهد إلينا إن نحن فرغنا من (بزاخة ) واستبرأنا بلاد القوم، أن تقيم حتى يكتب إلينا.  فقال خالد: «إِنْ يَكُ عهد إليكم هذا، فقد عهد إلي أن أمضي، وأنا الأمير، وإلي تنتهي الأخبار! ولو أنّه لم يأتني له كتاب ولا أمر، ثم رأيتُ فرصة، فكنت إن أعلمته فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها. كذلك لو ابتلينا بأمر ليس فيه منه عهد ، لم نَدَعْ أفضل ما يحضرنا، ثم نعمل به،  إلى مالك ومَنْ معي ولست أُكْرِهكم . 

ومضى خالد، وندمت الأنصار، وقالوا: إن أصاب القوم خيراً حرمتوه، وإن أُصيبوا ليجتنبنكم الناس»، فلحقوه .  ووصل خالد إلى البطاح ، فلم يجد أحداً، لأن مالك بن نويرة فرّق رجاله ونهاهم عن الاجتماع، فبثّ خالد السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكلِّ مَنْ لم يُجِبْ داعي الحق، فإذا امتنع قتلوه. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد أوصاهم : أن يُؤَذِّنُوا إِذا نزلوا منزلاً، فَإِنْ أَذَّنَ القومُ فَكُفُّوا عنهم، فإن لم يؤذنوا فاقتلوا وانهبوا، فإذا أجابوكم إلى داعية الإسلام، فسائلوهم عن الزكاة، فإن أقروا فاقبلوا منهم، وإن أبوا  فقاتلوهم».  وجاءته الخيل بمالك بن نُوَيْرَة في نفر من بني ثَعْلَبَة بن يَرْبُوع، واختلفت السرية فيهم وكان أبو قتادة فيمن شهدوا أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر خالد بهم فحُبسوا في ليلة باردة، وأمر خالد منادياً فنادى: «أدفئوا أسراكم»، وهي في لغة كنانة : القتل، فظنّ القوم أنه أراد القتل ولم يرد الدفء، فقتلوهم وقتل ضرار بن الأزور  مالك بن نويرة وسمع خالد الواعية، فخرج وقد فرغوا منهم، فقال:  إذا أراد الله أمراً أصابه، وتزوّج خالد أمّ تَمِيم امرأة مالك بن نُوَيْرَة.  وفي رواية أن خالداً بثّ السرايا في بني تميم، وكان منها سرية عليها ضرار بن الأزور الأسدي، فلقي ضرار مالكاً، فاقتتلوا، وأسر وجماعة معه، فأتي بهم ،خالد فأمر بهم فضُربت ،أعناقهم، وتولى ضرار ضرب عنق  مالك وفي رواية : أن السرية عندما جاءت بمالك وصحبه قال لخالد: «أنا آتي الصلاة دون الزّكاة . . !»، فقال خالد: «أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً، لا تُقبل الواحدة دون الأخرى؟!»، فقال مالك: «قد كان صاحبكم يقول ذلك !»، فقال خالد: «أَوَ ما تراه لك صاحباً؟ والله لقد هممت أن أضرب عنقك» … ثم تجادلا في الكلام، فقال خالد: «إني قاتلك»، فقال مالك: أوبذلك أمر صاحبك؟!»، فقال: «وهذه بعد تلك؟!»، ثم أمر  بقتله» (4)  الله عنه ،  ومضى أبو قتادة حتى أتى أبا بكر الصديق رضي فأخبره بمقتل مالك وأصحابه، فجزع من ذلك جزعاً شديداً). كما قص عليه زواج خالد من ليلى زوج مالك، وأضاف أنه أقسم ألا يقاتل تحت لواء خالد أبداً. ولكنّ أبا بكر غضب على أبي قتادة حتى الخطاب، فلم يرض إلا أن يرجع أبو قتادة إلى خالد، فرجع إليه حتى قدم  معه المدينة.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بين الذين اقتنعوا بوجهة نظر أبي قتادة، فاستدعى أبو بكر خالداً، فأقبل خالد من ساحة القتال إلى المدينة ومعه أبو قتادة، وقدّم عذره لأبي بكر، فعذره أبو بكر وتجاوز عنه وودى مالكاً وأمر برد السبي والمال.  رضي  وما زاد خالد على أن يكون تأوّل فأخطأ ـ كما قال أبو بكر الصديق الله عنه، لذلك تجاوز عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.  ولكن أبا قتادة وقف موقفاً صلباً، وحسبه أن يجاهر بالحق ويبدي رأيه بصراحة وصدق وأمانة ،وقوّة وألا يسكت عن قول الحق ولو كان مُرّاً . وهذا دليل على استقامته المطلقة، وأنّه يغضب للحق ولا يغضب من  الحق، وأنه لا تأخذه في الحق لومة لائم .  وكانت معركة البطاح وقتل مالك بن نويرة سنة إحدى عشرة  الهجرية (632 م) . 

الإنسان 

روى أبو قتادة مائة وسبعين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم)، اتفق الإمامان البخاري ومُسْلِم على أحد عشر حديثاً، وانفرد الإمام البخاري بحديثين والإمام مُسلم بثمانية أحاديث، وأحاديثه في الصحاح الستة. 

روى عن النبي الله وعن مُعَاذ بن جَبَل وعمر بن الخطاب رضي  الله عنهم وروى عنه ولداه ثابت وعبد الله ومولاه أبو محمد نافع بن عباس بن الأقرع وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وعبد الله بن رباح الأنصاري ومَعْبَد بن كَعْب بن مالك وأبو سَلَمَة بن عبد الرحمن بن عوف وعمرو بن سليم الزَّرْقِيّ وعبد الرحمن بن مَعْبَد الزَّمانِي ومحمد بن سيرين ونبهان مولى التَّوْءَمَة وكَبْشَة بنت كعب بن مالك وعطاء بن يسار وآخرون . 

وكان أبو قتادة من أصحاب الفتيا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من المُقلِّين في الفتيا.  وهكذا كان لأبي قتادة نشاط مرموق في ميدان العلم، كما كان له  نشاط مرموق في ميدان الجهاد.  وفي أيام الفتنة الكبرى بين عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، شهد مع عليّ رضي الله عنه مشاهده كلّها (3)، وكان على الرجالة في حرب عليّ للخوارج سنة سبع وثلاثين الهجرية.  كما ولّى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبا قتادة مكة المكرمة مدة من الزمن ولكنه عزله وولى قَثَم بن العباس بن عبد المطلب، فلم يزل والياً عليها حتى قتل عليّ بن أبي طالب سنة أربعين الهجرية .  وقد مات بالمدينة المنوّرة سنة أربع وخمسين الهجرية) (673 م)، وعمره سبعون سنة ، ولا أعلم في علمائنا اختلافاً في ذلك. ومما  يؤيد ذلك أن البخاري ذكره فى الأوسط في فصل: مَنْ مات بعد الخمسين إلى الستين، ثم روى بإسناده إلى مروان بن الحكم قال: «لما كان والياً على المدينة من قبل معاوية أرسل إلى أبي قتادة، ليريه مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأجمع المؤرخون على أن أبا قتادة بقي إلى بعد الخمسين. ويدلّ على تأخره أيضاً، أن معاوية بن أبي سفيان لما قدم المدينة تلقاه الناس، فقال لأبي قتادة : تلقاني النّاس كلهم غيركم يا معشر الأنصار» . وقيل: إنه كان قد نزل الكوفة ومات بها وعلي بها وهو صلى عليه وقد مات سنة أربعين الهجرية، فصلى عليه علي وكبر سبعاً، وقيل: ستا وموت أبي قتادة سنة أربع وخمسين الهجرية وله من العمر سبعون سنة هو الأصح، لإجماع العلماء والمؤرخين على ذلك، ولأن الشواهد التاريخية التي سبق ذكرها تثبت ذلك .  وهكذا انتهت حياته الحافلة بجلائل الأعمال. 

القائد 

شهد أبو قتادة غزوة (أُحد) وما بعدها من الغزوات تحت لواء النبي ) ، كما شهد كثيراً من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، وقاد سريتين من سراياه . كما شهد حروب الرِدَّة تحت لواء خالد بن الوليد رضي الله عنه،  وشهد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه مشاهده كلّها في خلافته . ومن دراسة سيرته المفصلة، نجد أن حياته في الجهاد اقتطعت الجانب الأكبر من سني حياته، وبقي الجانب الأقل منها لشؤونه الحياتية الأخرى، مما يدلّ على أن أبا قتادة كانت له تجربة عملية في الجهاد قائداً وجندياً . 

كما أن العربي، كان يحرص على تعلّم الفنون العسكرية النظرية والتدريب على القضايا العسكرية العملية كالرماية والطعن بالرمح والمبارزة بالسيف، فهو قد أحرز المزية الأخرى من مزايا القائد، وهي: العلم  المكتسب . 

ولا نستطيع أن نثبت من دراسة تاريخه العسكري، أنه كان ذا طبع موهوب في القيادة، لأنه لم يَخُضُ معارك كبرى ولا حقق نصراً حاسماً على أعداء المسلمين خارج شبه الجزيرة العربية في الفتح أو في استعادة الفتح، كما فعل غيره من القادة، لذلك يمكن أن نقرر باطمئنان أنه حاز على مزيتين من مزايا القيادة الرئيسية: التجربة العملية، والعلم المكتسب،

وليس بالإمكان إثبات إحرازه المزية الأولى من مزايا القيادة، وهي: الطبع  الموهوب.  والذي يحاول أن يتلمّس في أبي قتادة مزية معرفة مبادىء الحرب، يجد أنه طبق مبدأ: اختيار المقصد وإدامته على أحسن وجه، فهو يعرف مقصده ويحرص على تحقيقه بخطة مُدبّرة بعيدة عن الارتجال.  كما أنه كان قائداً تعرّضياً، لم يعرف الدفاع في حياته العسكرية جندياً ولا قائداً إلا في غزوة الأحزاب، التي كانت غزوة دفاعية ولكنها تمهيد  لاستئناف التعرّض. كما أنه كان يطبق مبدأ المباغتة تطبيقاً رائعاً، وما السريتان اللتان  قادهما إلا تطبيق لهذا المبدأ بشكل مثالي يدعو إلى الإعجاب. وكان يطبق مبدأ: حشد القوّة في الزمان والمكان المناسبين، دون أن ينسى مبدأ الاقتصاد بالمجهود.  كما كان يطبق مبدأ الأمن، فقد استطاع مباغتة أعدائه، ولم يستطع  أعداؤه مباغتة رجاله .  وكانت  خطته : مرنة تصلح للتطبيق عند تبدّل الظروف والأحوال، دون  أن يؤثر ذلك في جوهر الخطة الأصلية. 

وكان يطبق مبدأ التعاون بين أفراد رجاله وبين القيادة وأصحابه، وبين قوته وقوات المسلمين .  ،  وكان يديم معنویات رجاله ويحرص على ذلك، وسبيله إلى إدامتها : العقيدة الراسخة، والقيادة الحكيمة، وإحراز النصر النظام، وغرس الطاعة.  6  وفرض  وكان يحرص على القضايا الإدارية لرجاله قبل المعركة، وفي أثنائها، وبعدها في تقسيم الغنائم بالسوية وإيصال الحقوق إلى أصحابها . تلك هي مجمل مزية معرفة مبادىء الحرب من أبي قتادة، وبالإضافة إلى هذه المزية حرصه على القضايا التنظيمية في قوّته، المؤاخاة بين كل رجلين من رجاله، وفرض الارتباط الوثيق بينهما من جهة وبينهما وبين قوته من جهة ثانية، وتوضيح كيفية تأمين الاتصال الوثيق بين كل رجلين من جهة وبين أفراد القوة من جهة أخرى.  كما أنه كان واضح الأوامر من أجل المحافظة على رجاله أولاً، وتأمين السيطرة عليهم، وفرض الطاعة والضبط عليهم، وقيادتهم للنصر. ومزيتا التنظيم، ووضوح الأوامر، يكاد يتميز بهما أبو قتادة على غيره من القادة الآخرين. 

أما مزاياه القيادية الأخرى، فمشابهة لمزايا إخوته من القادة الآخرين،  ولا عجب في ذلك، فهم خريجو مدرسة واحدة في القيادة هي مدرسة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسّلام، وهم نشأوا في بيئة واحدة، هي البيئة العربية الإسلامية الأصيلة، ومن أصل واحد هو العرب.  فقد كان ذكياً حاضر البديهة، يسعى إلى الحصول على المعلومات عن العدو وعن الأرض التي يقاتل عليها، لذلك كانت قراراته سريعة على أسس سليمة . كما كان شجاعاً مقداماً من غير تهوّر والقاعدة في العربي الشجاعة والإقدام والاستثناء الجبن والإحجام . 

وكان ذا إرادة قوية هي إرادة القتال التي يغرسها الدين الحنيف، تلك الإرادة التي يتمثل تطبيقها العملي في هدفين لا ثالث لهما : النصر، أو الشهادة. وكان ذا نفسية ثابتة لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار، ما دام  الإيمان بالقضاء والقدر هو المسيطر على النفس المؤمنة المطمئنة . وكان يتمتع بمزية سبق النظر، فيُعدّ لكل أمر عدته، ويدخل في  حساباته أسوأ الاحتمالات لئلا يؤخذ على حين غرة . وكان عارفاً بنفسيات رجاله وقابلياتهم معرفة دقيقة، فيكلف كل فرد ما يناسبه من واجبات وأعمال يستطيع إنجازها كما ينبغي بكفاية واقتدار. وكان يثق برجاله ويثقون به، كما كان موضع ثقة القيادة العليا  للمسلمين، وكان يحبّ رجاله ويبادلونه حباً بحب وتقديراً بتقدير . وكان ذا شخصية قوية نافذة متزنة يهابه رجاله ولا يخافونه،  ويلتزمون بتنفيذ أوامره طوعاً لا كرهاً.  وكان يتمتع بقابلية بدنية متميّزة، تعينه على تحمّل المشاق العسكرية  وعلى النهوض بأعباء الجهاد. 

وكان ذا ماض ناصع مجيد، في خدمة الإسلام والمسلمين، وفي الإخلاص الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.  وروح كل هذه المزايا هي إيمانه الراسخ، واستعداده للتضحية بروحه وماله لإعلاء كلمة الله وما كان التاريخ ليذكره وما عرفه الناس في أيامه وبعد موته وحتى اليوم لولا إيمانه الراسخ العميق، الذي رفع ذكره وأعلى قَدْرَه وجعله مجاهداً صادقاً وقائداً متميزاً. 

أبو قتادة في التاريخ 

يذكر التاريخ لأبي قتادة أنّه شهد غزوة أحد وما بعدها من غزوات  النبي صلى الله عليه وسلم.  ويذكر له، أنه شهد ثماني غزوات من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وثلاث سرايا  من سراياه، قبل أن يتولى قيادة سريتين من السرايا النبي صلى الله عليه وسلم. ويذكر له، أنه تولى قيادة سريتين من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، وأبلى في  قيادتهما أعظم البلاء.  ويذكر له أنه شهد غزوتين من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسرية من سراياه  عليه الصلاة والسّلام بعد توليه قيادة السريتين.  ويذكر له أنّه لم يتخلّف عن غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن سرية من سراياه، وأبلى أحسن البلاء في عشر غزوات وثلاث سرايا مجاهداً صادقاً بالإضافة إلى السريتين اللتين قادهما من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم قائداً متميزاً منتصراً.  ويذكر له، أنه قضى حياته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات والسرايا لا يستريح ولا يُريح مجاهداً من أجل التوحيد، وموحداً من أجل الجهاد. ويذكر له أنه شهد حرب الردّة بعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى .تحت لواء خالد بن الوليد فقاتل المرتدين قتال الأبطال. 

ويذكر له، أنه كان مع علي مجاهداً تارة وقائداً تارة أخرى، ووالياً تارة على مكة المكرمة ومستشاراً مقرباً في جميع الأوقات . ويذكر له، أنه كان لا يخشى في الحق لومة لائم، وكان دائماً مع المظلوم على الظالم.  رضي الله عن الصحابي الجليل القائد البطل، أبي قتادة بن ربعي الأنصاري الخزرجي، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

(قادة النبي صلى الله عليه وسلم)

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة