نسبه وأيامه الأولى
هو بشير بن سَعْد بن ثعلبة بن خَلاس ) بن زيد بن مالك الأغرّ بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج
وأُمّه : أَنيسة بنت خَلِيفة بن عَدِيّ بن عمرو بن امرىء القيس بن مالك الأغر من بني الخزرج أيضاً .
وكان البشير من الولد إبراهيم بن بشير شاعر مُكْثِر، والنُّعمان بن بشير أوّل مولود ولد للأنصار بعد الهجرة ) ، وكان بشير يكنى بابنه النعمان، وأبية، وأمُّ النُّعمان وابية عَمْرَة بنت رَوَاحة أخت عبد الله بن رواحة، ولبشير عقب .
وكان بشير يكتب بالعربية في الجاهلية وكانت الكتابة في العربية قليلا في العرب.
شهد بيعة العقبةالعقبة الثانية مع الأوس والخزرج المسلمين، ويقال: إنّه أوّل مَنْ أسلم من الأنصار ، فهو من السابقين الأولين إلى الإسلام من أهل المدينة الأنصار.
ولما هاجر النبي ﷺ والمهاجرون إلى المدينة، أصبح بشير عضواً فاعلاً في المجتمع الإسلامي الجديد مجتمع المهاجرين والأنصار، في ظل المؤاخاة والتعاون الوثيق لخدمة الإسلام والمسلمين.
في سرية فَدَك
شهد بشير بـدرا وأُحـداً والخندق والمشـاهـد كلهـا مع رسول الله ) وفي شهر شعبان من السنة السابعة الهجرية، بعث رسول اللهﷺ بشير بن سعد في ثلاثين رجلاً إلى بني مُرَّة بِفَدَك، فخرج يلقى رعاء الشاء، فسأل عن الناس، فقيل في بواديهم، فاستاق النَّعَم والشاء، وانحدر إلى المدينة.
وخرج الصريخ فأخبر بني مُرَّة، فأدرك بشير بن سعد الدهم منهم عند الليل، فأتوا يرامونهم بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب
بشير وأصبحوا، فحمل المُرِّيُّون عليهم، فأصابوا أصحاب بشير. وقاتل بشير حتى ارتث وضرب كعبه، فقيل : قد مات .
ورجع بنو مُرّة بنعمهم وشَائهم .
وقدم علبة بن زيد الحارثي أحد المسلمين من سرية بشير بن سعد على رسول الله الله بخبر السرية ، ثم قدم من بعده بشير بن سعد في سرية يُمْن وجُبَار لما بلغ النبي ﷺ أن جمعاً من غَطَفان بـ (الجناب) قد واعدهم عُيَيْنَة بن حصن ليكون معهم ليزحفوا إلى رسول الله ﷺ، دعا رسول الله ﷺ بشير بن سعد وعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، إلى
يمن وجُبَار في شهر شوّال من السنة السابعة الهجرية. وسار المسلمون الليل وكمنوا النهار، حتى أتوا إلى يُمْن وجُبَار،
وهي نحو الجناب، والجِنَاب يعارض ( سَلاح ) وخَيْبَر ووادي القُرى،
فنزلوا بسلاح، ثم دنوا من القوم، فأصابوا نَعَماً كثيراً، وتفرق الرعاء، فحذروا الجمع فتفرقوا ولحقوا بعلياء بلادهم
خرج بشير بن سعد في اصحابه حتى اتى محالهم فلم يجد فيها احد. ورجع بشير بالنعم واصاب غطفان رجلين فأسرهما وقدم بهما إلى رسول الله ، فأسلما، فأرسلهما النبيﷺ.
وهكذا استطاع بشير أن يؤدي واجبه على أحسن وجه في هذه السرية.
في قيادة تعبوية
وفي غزوة عُمْرَة القضاء التي كانت في ذي القعدة من السابعة الهجرية حمل رسول الله السلاح والبيض والدروع والرماح، وقاد مائة فرس عليها محمّد بن مَسْلَمَة، وقدّم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد، فقيل: يا رسول الله ! حملت السلاح وقد شرطوا علينا ألا ندخل عليهم إلا بسلاح المسافر : السيوف في القُرُب ! فقال رسول الله ﷺ: «إنا لا
ندخلها عليهم الحرم، ولكن تكون قريباً منا».
وسار رسول الله ﷺ يُلبي والمسلمون يُلبون، ومضى محمد بن مَسْلَمَة بالخيل إلى مَرّ الظُّهْران)، فوجد نفراً من قريش، فسألوا محمد بن مَسْلَمَة فقال: «هذا رسول الله يُصبح هذا المنزل غداً إن
شاء الله»، فرأوا سلاحاً كثيراً مع بشير بن سعد، فخرجوا سريعاً حتى أتوا قريشاً فأخبروهم بالذي رأوا من الخيل والسلاح، ففزعت قريش وقالوا :
والله ما أَحْدَثنا حَدَثاً، ونحن على كتابنا ومدتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه ؟ .
نزل رسول الله ﷺ مر الظهران وقدّم السلاح إلى بطن (يَأْجج) حيث ينظر إلى أنصاب الحرم.
وبعثت قريش مِكْرَز بن حَفْص بن الأحنف في نفر من قريش، حتى قدموا بطن يَأجَج، ورسول الله ﷺ في أصحابه والهدي والسلاح، قد تلاحقوا، فقالوا: يا محمد ! والله ما عُرِفْتَ صغيراً ولا كبيراً بالغَدْر! تدخل بالسلاح الحَرَم على قومك ؟! وقد شرطتَ ألا تدخل إلا بسلاح المسافر :
السيوف في القُرب ! فقال رسول الله ﷺ: «لا ندخلها إلا كذلك»، فرجع مكرز سريعاً بأصحابه إلى مكة، فقال: «إنّ محمّداً لا يدخل بسلاح، وهو على الشرط الذي شرط لكم»
واستطاع بشير بقيادته التعبوية هذه بإمرة النبيﷺ ، في غزوة من غزواته، أن يؤثر في معنويات ،قريش وأن يجعلها لا تفكر بالغدر، لأنّ المسلمين مسلّحون، كما استطاع النبيﷺ أن يطبق مبدأ: الأمن، وذلك بإعداد السَّلاح لاستخدامه عند الحاجة في حالة نقض قريش لعهودها، فكان عليه الصلاة والسلام كما هو معهود فيه متسماً ببعد النظر، فأدخل في
حسابه أسوأ الاحتمالات، دون أن يغدر أو يفكر بالغدر، لأن الوفاء بالعهود من المبادىء الإسلامية الثابتة ومن تعاليم الإسلام المقررة المعروفة .
الإنسان
يُعد بشير من أهل المدينة ، فهو الأنصاري الخزرجي المدني وقد روى عنه ابنه النعمان وجابر بن عبد الله ومن حديث جابر قال سمعت عبد الله بن رواحة يقول لبشير بن سعد : يا أبا النُّعمان»،
في حديث ذكره وروى عنه مُرْسَلاً عُرْوَة والشَّعْبِي لأنهما لم يدركاه. كما روى عنه ابنه محمّد أيضاً فتكون روايته عنه مرسلة لأنه لم يدركه أيضاً. وروى محمد بن إسحق عن الزُّهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن النعمان بن بشير عن أبيه أنه أتى النبي ﷺ بابن له يحمله،
فقال : يا رسول الله ! إني نحلت ابني هذا غلاماً، وأنا أحب أن تشهد»،
قال: «لك ابن غيره؟»، قال: «نعم»، قال: «فكلهم نحلت مثل ما نحلته؟»، قال: «لا»، قال: «لا أشهد على هذا». وقد روى عن الزهري نحوه، وقال عن النعمان: إن أباه بشير بن سعد جاء بالنعمان ابنه إلى رسول الله ، جعله في مسند النُّعمان أخرجه الثلاثة وهو مذكور في المهذب، وغيره في باب الهبة)، وله ذكر في صحيح مسلم وغيره في قصة الهبة لولده، وحديثه في النسائي . . كما روى عنه محمد بن كعب القُرَظِيّ .
وروى النعمان عن أبيه أن النبي ﷺ أنه قال: «رحم الله عبداً سمع مقالتي فحفظها، فربّ حامل فقه وليس بفقيه وربّ حامل فقه إلى من هو افقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل الله عزّ وجلّ، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين وعن طريق الطبراني عن يشير أن النبيﷺ قال: منزلة المؤمن من المؤمن منزلة الرأس من الجسد، متى اشتكى له الرأس اشتكى له الجسد».
وهو الذي ثبت في الصحيح أنه قال: يا رسول الله! أمرنا أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟» ، فسكت رسول الله ، حتى تمنينا أنه لم يسأله، فقال رسول الله ﷺ: (قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. والسلام كما
علمتم. لقد كانت له صحبة ورواية عن النبيﷺ.
ويبدو أنه كان شاعراً وتنسب إليه القصيدة التالية، فإذا كان شاعراً حقاً، فمن المحتمل أن أكثر شعره قد ضاع، أو كان شاعرا مقلاً .
والقصيدة التي تروى له طويلة، نذكر قسماً منها :
لِعَمْرَةَ بالبَطْحاء بين معرف وبين المطاف مسكن ومحـاضـر ,
لعمري لحــي بيــن دار مزاحم وبين الجُثَا لا يجشم السَّيْر حاضِر
وحي حلالٌ لا يُرَوَّعَ سَرْبُهُم لهم من وراء القاصيات زوافر
أحق بها من فتية وركائب يقطع عنها الليـل عــوج ضــوامـرُ.
تقول وتذري الدمع عن حر وجهها لعلك نفسي قبل نفســك بـاكــر
أباح لها بطريق فارس غائطاً لها من ذُرى الجُوْلان بقل وزاهر
فقربها للرحل وهـي كـأنها ظليم نعـــام بــالسماوة نـــافـــر
فأوردها ماء فما شرب به سوى أنه قد بُلَّ منها المشافِر “
فباتت سُراها ليلة ثم عرست بيثرب والأعراب باد وحاضر
ولم يشكك ابن عساكر في نسبة القصيدة إلى بشير أبي النعمان، بل جزم بذلك ولكن القصيدة تنسب لغير بشير أيضاً)، ولا يقلل من قدر أن تكون لغيره، ولا يزيد من قدره أن تكون له، وهي على كل حال مشكوك في نسبتها إليه، ولو كان شاعراً حقاً لسمعنا صوته عالياً كما سمعنا أصوات شعراء النبي ، ولما بقي ساكتاً في موقف يحسن فيه الكلام.
ـ ولعلّ أعظم مواقف بشير في خدمة الإسلام والمسلمين، هو مبادرته لمبايعة أبي بكر الصديق بعد انتقال النبي
ﷺ إلى الرفيق الأعلى، فكان أوّل مَن بايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة من الأنصار ولإبراز أهمية مبادرة بشير في البيعة التي وضعت حداً للفتنة المحتملة بين المهاجرين والأنصار لا بد من ذكر مختصر ما حدث في سقيفة
ساعدة، فقد كانت بيعة أبي بكر فتنة ولكن الله وقى شرها ، كما وصفها عمر بن الخطاب .
فقد اجتمعت الأنصار في في سقيفة بني ساعدة وأخرجوا سعد بن عبادة ليولّوه الأمر ، وكان مريضاً، وذلك لما قبض النبي ﷺ. وقال سعد بن عبادة بعد أن حمد الله : يا معشر الأنصار! لكم سابقة وفضيلة ليست لأحد من العرب، إن محمداًﷺ ، لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم، فما آمن به إلا القليل ما كانوا يقدرون على منعه ولا على
إعزاز دينه ولا على دفع ضيم حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ورزقكم الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ النّاس على عدوه، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغراً، فدانت لرسوله بأسيافكم العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راض قرير العين. استبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنّه لكم دونهم.
فأجابه الأنصار بأجمعهم : أن قد وفَّقْتَ وأصبتَ الرأي، ونحن نوليك هذا الأمر، فإنّك مقنع ورضاً للمؤمنين .
ثم إنهم ترادوا الكلام فقالوا: وإن أبى المهاجرون من قريش، وقالوا: نحن المهاجرون وأصحابه الأولون وعشيرته وأولياؤه! فقالت
طائفة منهم : نقول : منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا أبداً، فقال سعد: هذا أوّل الوهن.
قال عمر : «فأتيناهم، وقد كنتُ زوّرت كلاماً أقوله لهم، فلما دنوت أقول، أسكتني أبو بكر، وتكلّم بكل ما أردتُ أن أقول، فحمد الله، وقال:
إن الله قد بعث فينا رسولاً شهيداً على أُمته ليعبدوه ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى من حجرٍ وخشب»، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين بتصديقه والمواساة له والصبر معه على شدّة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم وكل الناس لهم مخالف زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عَدَدهم وشَنَف الناس لهم، فهم أوّل مَن عبد الله في هذه الأرض وآمن بالله وبالرسول وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده لا ينازعهم إلا ظالم وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته ، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تفاوتون بمشورة، ولا تُقضى دونكم الأمور».
وقام الحُباب بن المُنْذِر بن الجموح فقال : يا معشر الأنصار! املكوا عليكم أمركم، فإن الناس في ظلكم، ولن يجترىء مجترىء على خلافكم، ولا يصدروا إلا عن رأيكم. أنتم أهل العزّ وأولو العدد والمنعة وذوو البأس، وإنما ينظر الناس ما تصنعون ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم، أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنكم أمير . فقال عمر : هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها مَنْ كانت
النبوة فيهم، ولنا بذلك الحجّة الظاهرة مَنْ ينازعنا سلطان محمد، ونحن أولياؤه وعشيرته !؟».
فقال الحباب بن المنذر : يا معشر الأنصار! املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فأجلوهم عن هذه البلاد وتولّوا عليهم الأمور، فأنتم والله أحق بهذا فإنّه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين أنا جُذَيْلُها المُحَكَّك ، وعُذَيْقُها المُرَجب ، أنا أبو شبل في عرينه الأسد، والله لو شئتم لنعيدنها جَذَعَةٌ »
فقال عمر: «إذاً ليقتلك الله»، فقال: «بل إياك يقتل». فقال أبو عُبَيْدَة : يا معشر الأنصار ! إنكم أوّل مَنْ نصر، فلا تكونوا
أوّل مَنْ بدل وغَيَّر !».
وقام بشير بن سعد فقال : يا معشر الأنصار ! إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في الدين ما أردنا به إلا رضى ربنا
وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به الدنيا. ألا إن محمداً من قريش، وقومه أولى به، وايم الله !
لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، فاتقوا الله ولا تخالفوهم».
فقال أبو بكر: «هذا عمر وأبو عبيدة فإن شئتم فبايعوا»، فقالا:
والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين، وخليفة رسول الله ﷺ في الصلاة، وهي أفضل دين المسلمين. ابسط يدك نبايعك»،
فلما ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد ،فبايعه فناداه الحباب بن المنذر : عَقَتْكَ عَقَاقِ ! أَنَفِسْتَ على ابن عمك الإمارة؟!»، فقال: «لا والله، ولكنني كرهت أن أنازع القوم حقهم».
ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد، قال بعضهم لبعض ، وفيهم أُسَيْد بن حُضَيْر، وكان نقيباً: «والله لئن وليتها الخزرج مرّة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة. ولا جعلوا لكم فيها نصيباً أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر فبايعوه، فانكسر سعد بن عبادة والخزرج وما أجمعوا عليه، وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب، فبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار.
لقد كان موقف بشير في سقيفة بني ساعدة موقفاً رائعاً حقاً، فكان مفتاحاً لكل خير، مغلاقاً لكل شر، قال قولة الحق في أحرج المواقف، ولم تؤثر فيه عصبية للخزرج ولا لابن عمه سعد بن عبادة .. بل كان خالصاً الله ولدينه مما يستحق أعظم التقدير وأعمق الإعجاب.
هاجر بشير إلى المدينة مع المهاجرين إليها، وكان نزل (وَدَّان) ، فهو من المهاجرين باعتباره هاجر من ودان إلى المدينة، وهو من الأنصار باعتباره من الخزرج ومن الذين بايعوا بيعة العقبة الثانية كما ذكرنا .
ولا نعرف متى ولد، ولكنه استشهد في معركة (عين التمر) تحت راية خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد شهدبشير مع خالد حروبه، وكان استشهاده سنة اثنتي عشرة الهجري (٦٣٣ م) ، ودفن في عين التمر.
وبشير هو أخو سماك بن سعد من أمه وأبيه، وكان سماك بدريا ايضا. وكان طويلاً فارع الطول، معدوداً من الذين إذا ركبوا الفرس تخطّ إبهاماه في الأرض” ، وصفاً له بالطول الفارع.
وهكذا انتهت حياة بشير، بعد أن قدّم كلّ ما يملك لإعلاء كلمة الله، حتى روحه قدمها في خدمة الإسلام والمسلمين، دون أن يأخذ شيئاً جزاء ما قدم أو يطالب بشيء، فكان بحق من الذين يعملون لقلوبهم، لا من الذين يعملون لجيوبهم، ومن الذين يعملون لدينهم، لا من الذين يعملون لدنياهم، ومن الذين لا يضحون بالآخرة من أجل الدنيا، ولا بما عند الله
من أجل ما عند الناس.
القائد
قاد بشير سريتين مستقلتين من سرايا النبيﷺ ، أخفق في قيادة سريته الأولى حتى كاد يفقد حياته فيها، ونجح في قيادة سريته الثانية، فحقق أهدافه تحقيقاً كاملاً .
وما كان إخفاقه في قيادة السرية الأولى عن تقصير منه أو أحد من رجاله، فقد قاتل وقاتلوا بعناد وبسالة لا مزيد عليهما، حتى استشهدوا وكاد، ولكن إخفاقه كان بسبب صراع بين قوتين غير متكافئتين عدداً وعُدَداً، فقد كان المسلمون في ثلاثين مجاهداً، وكان المشركون في حشود ضخمة جداً، وما كان بمقدور المسلمين أن يفعلوا أكثر من الثبات والقتال إلى أن فنيت نبالهم إلى آخر نبال وآخر رمق، وعلى رأسهم قائدهـم الشجاع، وهذا ما فعلوه، فتغلبت الكثرة الكثيرة على القلة القليلة بعد ثبات عجیب وقتال شديد وتضحية فائقة .
أما نجاحه في قيادة سريته الثانية فكان بتأثير المباغتة بالزمان للمشركين، فقد كان المسلمون يسرون ليلاً ويكمنون نهاراً، فباغتوا أعداءهم، واستطاعوا تحقيق أهداف سريتهم كاملة .
ولو كان إخفاق بشير في قيادة سريته الأولى نتيجة لنقص في كفايته القيادية، لما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة إحدى سراياه من جديد. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ولاه إحدى قدماته التعبوية في إحدى غزواته كما ذكرنا، وهذا دليل على أن إخفاق بشير في قيادة سريته الأولى لم يكن لتقصيره أو عجزه، بل لان ظروفه الراهنة جعلته في موقف عصيب للغاية، وليس أمامه إلا الشهادة أو الهزيمة، فاختار الشهادة دون تردّد وهذا دليل على شجاعته الفائقة . وكان نجاح بشير في قيادة القَدَمة التعبوية التي تولاها في غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم لا يقل عن نجاحه في قيادة سريته الثانية. وكان دليلاً على ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بكفايته القيادية ورضاه عنها .
ومن طبيعة السّريتين التي تولى قيادتها يبدو طابع (الغارة) عليهما، للتأثير المعنوي على المشركين بالدرجة الأولى والغارة تحتاج إلى قائد سريع القرار صائبه، سريع الحركة والتنقل يتحمّل المشاق بسهولة ويسر، يتمتع بمرونة خططه القتالية، ذكي حاضر البديهة. كما أن طبيعة قيادته القَدَمَة التعبوية في غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تتسم بالتأثير المعنوي في المشركين، هي بحاجة إلى قائد .سريع القرار صائبه،سريع الحركة والتنقل أيضاً، يتميز بالشجاعة والإقدام. لقد كان بشير قائداً عقائدياً ذا إرادة قوية ثابتة، ونفسية رصينة لا تتبدل في حالتي الاندحار والنصر يتحمل المسؤولية ولا يتهرب منها ولا يلقيها على عواتق الآخرين يتمتع بمزية سبق النظر الدالة على الذكاء والاتزان، يعرف نفسيات رجاله وخواصهم ويكلّف كل فرد منهم بما يطيق النهوض به يثق برجاله ويثقون به وتثق به القيادة العليا، ويحبّ رجاله ويحبونه له شخصية قوية مسيطرة وقابلية بدنية متميزة، وماض ناصع مجيد .
وهذه المزايا القيادية هي نتيجة من نتائج عقيدته الراسخة وإيمانه العميق، التي جعلت منه قائداً جيداً ومجاهداً صادقاً.
وعند تطبيق مزاياه القيادية على مبادىء الحرب المعروفة، نجد أنه يطبق مبدأ اختيار المقصد وإدامته، وكان قائداً تعرضياً يؤمن بأن أنجع وسائل الدفاع هو التعرض، يطبق مبدأ المباغتة أهم مبادىء الحرب على الإطلاق، كما فعل في سريته الثانية، حيث طبق مبدأ المباغتة بالزمان بشكل رائع حقاً، وكان يطبق مبدأ المرونة ومبدأ ،التعاون، كما يطبق مبدأ إدامة المعنويات . وكان يتحلى بمزية الطاعة المطلقة، وهو الضبط المتين الذي يميز القائد الجيد والجندي الجيد عن القائد الرديء والجندي الرديء . وكان يستشير رجاله ولا يستبد دونهم في تصريف الأمور، ويساويهم بنفسه في الأمور كافة ولا يرضى أن يتميّز عليهم بشيء استغلالاً لمنصبه القيادي . لقد كان أحد خريجي مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة القيادية، وكان أحد قادة خير القرون في التوحيد من أجل الجهاد والجهاد من أجل التوحيد .
بشير في التاريخ
يذكر التاريخ البشير أنه كان أوّل الأنصار إسلاماً، وأحد السابقين الأولين للإسلام وأحد الذين شهدوا بيعة العقبة الثانية . ويذكر له أنه كان من البدريين وشهد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كافة وجاهد تحت لوائه جندياً وقائداً ومرءوساً. ويذكر له، أنه قاد سريتين من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وقدمة تعبوية في إحدى غزواته عليه الصلاة والسلام.
ويذكر له أنه جاهد المرتدين بعد أن التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وكان ذلك في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه تحت لواء خالد بن الوليد، فاستشهد في معركة عين التمر .
ويذكر له، أنه أوّل أنصاري من الخزرج بايع أبي بكر الصديق بالخلافة بعد التحاق النبي الله بالرفيق الأعلى، فقضى ببيعته على اختلاف محتمل بين المهاجرين من جهة والأنصار من جهة ثانية .
رضي الله عن الصحابي الجليل، القائد الشهيد، بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي.
(قادة النبي صلى الله عليه وسلم)