نسبه وأيامه الأولى
هو عبد الرَّحمن بن عَوْف بن عبد عَوْف بن عبد حارث بن زُهْرَة بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لُؤيّ بن غالِب بن فِهْر بن مالك بن النّضر بن كِنَانة القُرَشِي الزُّهْرِي، يُكْنَى: أبا محمّد، و كان اسمه فى الجاهلية: عبد عمرو، و قبل: عبد الكعبة، فسماه رسول الله ﷺ: عبد الرحمن.
و أمّه: الشِّفاء بنت عوف بن عبد بن الحارث بن زُهْرة بن كِلاب بن مُرَّة، و قُتل أبوه عَوْف بالغُمَيْصَاء، قتله بنو جُذَيْمَة.
يجتمع نسبه مع نسب رسول الله ﷺ فى كِلاب بن مُرَّة، و ينسب إلى زُهْرة بن كِلاب، فيقال: القُرَشِي الزُّهْرِي، و هو من أخوال النبىّ ﷺ،
لأن بنى زُهرة أخوال النبىّ ﷺ، و آمِنَة بنت وَهْب بن عبد مَنَاف بن زُهْرَة هى أمّ النبىّ ﷺ من بنى زُهرة.
ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، و كان عام الفيل سنة (٥٧١ م)، و هو عام مولد النبىّ ﷺ، أى أن مولد عبد الرّحمن بن عَوْف كان سنة (٥٨١ م)، فهو أصغر سنّاً من النبىّ ﷺ بعشر سنين.
أسلم قديماً على يدي أبي بكر الصدِّيق رضى الله عنه قبل أن يدخل رسول الله ﷺ دار الأرقم بن أبى الأرقم، و كان أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام و أحد الخمسة الذين أسلموا على يدي أبي بكر و هم: عُثمان بن عفّان، و الزُّبير بن العوّام، و عبد الرحمن بن عوف، و سَعْد بن أبي وقّاص، و طلحة بن عُبَيْد الله، و قد كان أيو بكر رجلاً مؤلفاً لقومه مُحَبَّباً سَهٌلاً، و كان أنسب قُرَيش لقريش، و أعلم قريش بها و بما كان فيها من خيرٍ و شرِّ، و كان رجلاً تاجراً ذا خلقٍ و معروفٍ، وكان رجال قريش يأتونه و يألفونه لغير واحدٍ من الأمر: لعلمه، و تجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام مَنْ وَثِقَ به من قومه ممَّن يَغْشَاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه أولئك الخمسة، الذين أصبح لهم فى الإسلام شأن أىّ شأن، فجاء بهم إلى رسول الله ﷺ حتى استجابوا له، فأسلموا و صلّوا.
و لما رأى رسول الله ﷺ ما يصيب أصحابه من البلاء، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم ممّا هم فيه من البلاء، قال لهم: “لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكاً لا يُظْلَمُ عنده أحدٌ، و هى أرض صِدْقٍ، حتى يجعل الله لكم فَرَجاً ممَّا أنتم فيه”، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله ﷺ إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، و فراراً إلى الله بدينهم، فكانت أوّل هجرة فى الإسلام، وكان من أول مَنْ خرج من المسلمين من بنى زُهْرَة عبدالرحمن بن عوف، و كان أحد العشرة الأوائل الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين.
وبلغ أصحاب رسول الله ﷺ الذين هاجروا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكّة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دنوا من مكّة، بلغهم أن ما كانوا تحدّثوا به من إسلام أهل مكّة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحدٌ إلّا بجوارٍ أو مُسْتَخْفِياً، فكان عبد الرحمن أحد العائدين من أرض الحبشة إلى مكّة.
و قد هاجر عبد الرحمن إلى أرض الحبشة من مكّة الهجرتين جميعاً، و قال المِسْوَر بن مَخْرَمة: “بينما أنا أسير فى ركْب بين عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف، و عبد الرحمن قُدّامى عليه خَمِيْصَة سوداء، فناداني عثمان: يا مِسْوَر! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! فقال:
“مَنْ زَعَم أنه خير من خالك فى الهجرة الأولى و فى الهجرة الآخرة، فقد كَذَب”، و يقصد بالهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، و بالهجرة الآخرة الهجرة إلى المدينة المنّورة.
و كان النبىّ ﷺ قد آخى بين أصحابه المهاجرين قبل الهجرة على الحق و المساواة و ذلك بمكة، فآخى بين عثمان بن عفّان و عبد الرحمن بن عوف، فقال عثمان: “إنّ لى حائطين فاختر أيهما شئت”، فقال عبد الرحمن: “بارك الله لك فى حائطيك، ما لهذا أسلمت، دلّنى على السوق”، فدلّه عثمان، فكان يشترى السّمنة و الأُقَيْطَة والإهاب، فجمع فتزوج.
و أمر رسول الله ﷺ أصحابه من المهاجرين من قومه ومَنْ معه بمكّة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللُّحوق بإخوانهم الأنصار وقال: ” إن الله عزّ و جلّ قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها”، فخرجوا أرْسالاً، وأقام رسول الله ﷺ بمكّة ينتظر أن يأذن له ربُّه في الخروج من مكّة و الهجرة إلى المدينة.
وهاجر عبد الرحمن من مكّة إلى المدينة، فنزل فى رجال من المهاجرين على سعد بن الرّبيع الخزرجى.
و بعد أن هاجر النبىّ ﷺ من مكّة إلى المدينة، آخى بين المهاجرين والأنصار بعد بنائه المسجد، وقيل: إنّ المؤاخاة كانت و المسجد يُبْنى، و كانت على المساواة والحق، فكانوا يتوارثون بذلك دون القرابات، حتى نزلت: {و أُولو الأَرْحَام بعضُهم أَوْلَى ببعض فى كتاب الله}، فنسخت هذه الآية ما فرضته هذه المؤاخاة من التوارث، أما ما ورائها من الحق و المساواة فقد ظلَّا قائمين، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف و سعد بن الربيع آخى بني الحارث بن الخزرج.
و من الواضح أن النبىّ ﷺ آخى بين المهاجرين فى مكّة قبل الهجرة إلى المدينة، و آخى بين المهاجرين و الأنصار فى المدينة بعد الهجرة إليها، و بالنسبة لعبد الرّحمن آخى بينه و بين عثمان بن عفان فى مكّة، و بينه وبين سعد بن الرّبيع الخزرجي فى المدينة، و لا تناقض بين المؤاخاة المكيّة والمؤاخاة المدنيّة، كما توهّم قسم من المؤرخين وكُتّاب السِّير، فالأمر واضح لا لبس فيه.
لقد كان عبد الرحمن من المهاجرين الأوّلين إلى الحبشة وإلى المدينة.
ولما آخى النبىّ ﷺ بين عبد الرحمن وسعد بن الرّبيع الخزرجي الأنصاري قال سعد: “أخي! أنا أكثر أهل المدينة مالاً، فانظر شَطْرَ مالى فَخُذْهُ، و تحتي امرأتان، فانظر أيهما أعجب إليك حتى أُطلِّقها لك”، فقال عبد الرحمن: “بارك الله لك فى أهلك و مالك، دلّوني على السَوق”، فدلّوه على السّوق، فاشترى و باع فربحَ، فجاء بشئٍ من أَقِطِ و سَمْن. ثمّ لبث ما شاء الله أن يلبث، فجاء و عايه رَدْعٌ من زعفران، فلما سأله النبىّ ﷺ عن أثر الطيب فيه، قال: “يا رسول الله! تزوجت امرأة”، قال: “فما أَصْدَقْتَها؟”، قال: “وَزْنَ نواة من ذهب”، قال: “أَوْلِمْ و لو بشاةِ”، قال عبد الرحمن: “فلقد رأيتني و لو رفعت حَجَراً رجوتُ أن أُصيبَ تحته ذَهَباً أو فضّة”.
و كان رسول الله ﷺ خطّ الدّور بالمدينة، فخطّ لبنى زُهْرَة فى ناحية من مؤخّر المسجد، فكان لعبد الرحمن الحَشّ، و الحَشّ نخل صغار لا يُسقى.
كما تزوج امرأة من الأنصار على ثلاثين ألف درهم.
و هكذا استقرّ المهاجر فى بلد أمين، فى منزل مريح، فى أهل و ولد، و فى تجارة رابحة، ليبدأ صفحة جديدة من حياته، هى صفحة الجهاد فى سبيل الله.
جهاده
فى عزوة بدرٍ الكبرى
خرج المسلمون من المدينة إلى موقع (بَدْرٍ) يوم السّبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من السنة الثانية الهجرية، و كانت إبل المسلمين سبعين بعيراً، فكانوا يتعاقبون عليها: البعير بين الرجلين و الثلاثة و الأربعة، فكان بين أبى بكر و عمر و عبد الرحمن بعير يعتقبونه. قال عبد الرحمن: “عَبَّأنا رسول الله ﷺ بليل، فصنّفنا، فأصبحنا و نحن على صفوفنا. و بينما أنا واقف فى الصف يوم بدرٍ، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، فتمنّيت أن أكون بين أضلع منهما. فغمزني أحدهما فقال: يا عم! أتعرف ألا جهل؟ قلت: نعم، و ما حاجتك إلبه يا ابن أخى؟ قال: أُنْبِئْتُ أنه يسبّ رسول الله ﷺ، و الذى نفسي بيده، لو رأيته لا يفارق سواده سواده حتى يموت الأعجل منا. و غمزني الآخر، فقال مثلها، فلم ألبث أن نظرت إلى أبى جهل يجول فى النّاس، فقلت: ألا تريان! هذا صاحبكما الذى تسألان عنه، فابتدراه بأسيافهما، فضرباه حتى قتلاه. ثم انصرفا إلى رسول الله ﷺ فأخبراه، فقال: أيّكما قتله؟ فقال كلّ واحد منهما: أنا قتلته، قال: هل مسحتما سيفكما؟ قالا: لا، فنظر فى السيفين فقال: “كلاكما قتله”، و قد استُشهد هذان البطلان الصغيران يوم بدرٍ، وهما ابنا عَفْراء، عَوْف بن الحارث الخزرجي الأنصاري، و مُعَوِّذ بن الحارث الخزرجي الأنصاري.
كما روى عبد الرحمن قصة قتل أُميَّة بن خلف فقال: “كان أُميَّة بن خلف صديقاً لى بمكة، و كان اسمى عَبْد عَمْرو، فتسمّيت حين أسلمت: عبد الرحمن، و نحن بمكّة، فكان يلقاني إذ نحن بمكّة فيقول: يا عَبْد عَمْرو، أرغبتَ عن اسم سمّاكه أبواك؟ فأقول: نعم، فيقول: فإنى لا أعرف الرحمن، فاجعل بينى و بينك شيئاً ادعوك به، أنا أنت فلا تجيبني باسمك الأول، و أما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف، فكان إذا دعاني يا عبدَ عَمْرو لم أُجبه! فقلت: يا أبا علىّ! اجعل ما شئت! قال: فأنت عبد الإله، قلت:
نعم! فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله، فأجيبه، فأتحدث معه. حتى إذا كان يوم بدرٍ مررت به و هو واقف مع ابنه علىّ بن أُميَّة آخذ بيده، و معى أدراه لى قد استلبتها، فأنا أحملها. فلما رآنى قال لى: يا عبد عمرو! فلم أجبه! فقال: يا عبد الإله! فقلت: نعم، قال: هل لك فِيَّ، فأنا هير لك من هذه الأدراع التى معك؟ فطرحت الأدراع من يدي، و أخدت بيده و يد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط!!! أما لكم حاجة فى اللَّبن؟! و قال لى أُميّة بن خلف: يا عبد الإله! مَنْ الرَّجلُ المُعْلّمُ بريشة نعامة فى صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطّلب! قال: ذاك الرجل الذى فعل بنا الأفاعيل! والله إنى لأقودهما، إذ رآه بِلالٌ معي، و كان هو الذى يُعَذِّب بلالاً بمكّة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رَمْضَاء مكة إذا حميت، فَيُضْجِعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: رأسُ الكفر أُميَّة بن خلف، لا نجوتُ إنْ نجا! فقلت: أىْ بلال! أبأسِيْرِي؟ قال: لا نجوتُ إنْ نجا! ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله! رأسُ الكفر أُميَّة بن خلف، لا نجوتُ إنْ نجا، فأحاطوا بنا، حتى جعلونا كالمَسَكَة، و أنا أَذبّ عنه، فأخلف رجل السَّيف، فضرب رجل ابنه فوقع. و صاح أُميَّة صيحة ما سمعتُ بمثلها قط، فقلت: انْجُ بنفسك و لا نجاء بك، فوالله ما أُغني عنك شيئاً! فَهَبَرُوهما بالسُّيوف حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بِلالاً! ذهبت أدراعي، و فَجَعَني بأسِيرى.
وقد أسر السائب بن أبي حبيش الأسدي يوم بدر كما قتل السائب بن أبي رفاعة من بني أمية بن المُغيرة من بني مخزوم.
لقد كان عبد الرحمن بدرياً من البدريين الفاعلين : قاتل، وقتل، وأسر، وغنم، مما يدل على أثره البارز في هذه الغزوة الحاسمة .
في غزوة أحد
وكانت هذه الغزوة في شهر شَوّال من سنة ثلاث الهجرية .
وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في عصابة صبروا معه أربعة عشر رجلاً، سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار، وكان عبد الرحمن أحد السبعة المهاجرين الذين ثبتوا يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فجُرح يومئذ إحدى وعشرين جُراحة، وجرح في رجله وسقطت ثنيتاه، وجُرح في رجله فكان يعرج منها، وسقطت ثنيتاه فكان أهتم، وقتل أسيد بن أبي طلحة، وهو من بني عبد الدار من قريش، فكان مَنْ قتل في هذا اليوم من بني عبد الدار عشرة نفر ومولى لهم وقيل : إنه قتل كلاب بن أبي طلحة أيضا من بني عبد الدار ،
وعرج عبد الرحمن من جراحه برجله إلى أن مات.
لقد كان عبد الرحمن بحق أحد أبطال المسلمين في غزوة (أحد)، فقد استقتل في الدفاع عن النبي ، وثبت ثبات الرواسي في المعركة في موقف خطير للغاية، فأدى واجبه في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي الثبات على
أحسن ما يكون عليه الدفاع البطولي والثبات العنيد.
في الغزوات الجديدة
أ ـ شهد غزوة الحُدَيْبِيَّة التي كانت في ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية، فساق قوم من أصحاب رسول الله له الهَدْي من أهل الغنى، منهم عبد الرحمن، وكان أحد شهود صلح الحديبية بين المسلمين وقريش، ثم نحر بدنات له ساقها من المدينة، وعاد مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة .
ب ـــ وشهد غزوة خَيْبَر التي كانت في شهر المحرم من السنة السابعة الهجرية، فوقع سهم عبد الرحمن مع قسم من الصحابة في (الشَّقِّ) من خيبر، وقد جعل على كلَّ مائة رأس من المسلمين رأس يُعرَف يَقْسِم على أصحابه ما خرج من غلتها، فكان عبد الرحمن أحد الرؤساء.
جـــ وشهد غزوة فتح مكة التي كانت في شهر رمضان من السنة الثامنة الهجرية، فلما طلعت كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضراء، ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته القصواء بين أبي بكر وأُسيد بن حضير وهو يحدثهما، فقال العباس لأبي سفيان بن حرب هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار فيها الرايات والألوية، مع كلّ بطن من الأنصار راية ولواء في الحديد لا يُرى منهم إلا الحَدَق»، ويقال كان في الكتيبة ألف دارع وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته سعد بن عبادة وهو أمام الكتيبة، فلما مرّ سعد براية النبي صلى الله عليه وسلم نادى : يا أبا سفيان! اليوم يوم المَلْحَمَة، اليوم تُسْتَحلّ الحُرمة اليوم أذل الله قريشاً!»، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه : يا رسول الله ! أمرت بقتل قَوْمك؟! زعم سعد ومَنْ معه حين مرّ بنا قال : يا أبا سفيان اليوم يوم المَلْحَمة ! اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرمة اليوم أذلّ الله قريشاً! وإني أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس، وأرحم الناس وأوصل الناس».
قال عبد الرحمن ابن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول الله ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صولة»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اليوم يوم المرحمة! اليوم أعزّ الله فيه قريشاً»، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سَعْدِ فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد بن عبادة .
د ــ وبعد فتح مكة بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على سرية داعياً لا مقاتلا، إلى بني جَدِيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد : ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا.
في الغزوات الأخرى
شهد عبد الرحمن تحت لواء النبي المشاهد كلها ، فشهد غزوة بني النَّضِير من يهود التي كانت في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة الهجرية، فأعطى له رسول الله صلى الله عليه وسلم (سُؤَالَة) وهو الذي يقال له مال سليم .
كما شهد غزوة الخندق، التي كانت في شهر شوال من السنة الخامسة الهجرية، وشهد غزوة بني المُصْطَلِق (غزوة المُرَبِّسِيع) التي كانت في شعبان من السنة الخامسة الهجرية، وكان فارساً.
وشهد غزوة بني قُرَيْظَة من يهود التي كانت في شهر ذي القعدة من سنة خمس الهجرية، وكان فارساً، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ للفرس سهمين ولصاحبه سهماً واحداً. ولما سُبيَ بنو قُرَيْظة، باع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف طائفة.
وشهد غزوة (ذي قرد) التي كانت في شهر جمادى الأولى من السنة السادسة الهجرية وكان لعبد الرحمن إبل ترعى في (الغابة).
كما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاح ترعى في الغابة أيضاً، فأغار عيينة بن حضن في أربعين فارساً على سَرْح المدينة، فأخطأ مكان إبل عبد الرحمن بن عوف واهتدى إلى لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقها، فطارده المسلمون وهرب المشركون.
قائد سرية دومة الجندل
كانت في شهر شعبان من سنة ست الهجرية، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف، فأقعده بين يديه وعمّمه بيده، وقال: «اغْرُ بسم الله وفي سبيل الله، فقاتل مَنْ كفر بالله لا تَغُل، ولا تغدر، ولا تقتل وليداً». وبعثه إلى بني كَلْبٍ بِدُوْمَة الجَنْدَل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصْبَغ بن عمرو الكلبي وكان رأسهم وأسلم . معه ناس كثير من قومه، وأقام مَنْ أقام على إعطاء الجزية، وكان الأصبغ نصرانياً. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لعبد الرحمن: إن استجابوا لك، فتزوج ابنة ملكهم، فتزوج عبد الرحمن تُمَاضر بنت الأصْبَغ، وقدم بها إلى المدينة، وهي أم أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن بن عوف.
ولا نعلم شيئاً عن عدد أفراد هذه السرية، وهي على كل حال من سرايا الدعوة، أدّى فيها عبد الرحمن واجبه أداء كاملاً .
ولكن خالداً وجد السلاح على بني جذيمة، فسألهم: «ما أنتم؟»،
قالوا: «مسلمون قد صلينا وصدّقنا بمحمّد، وبَنَيْنا المساجد في ساحاتنا، وأذنا فيها»، قال: «فما بال السلاح عليكم!»، فقالوا: «إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا ،هم فأخذنا السلاح!»، قال: «فضعوا السلاح»، فوضعوه، فأسرهم وفرقهم في أصحابه. فلما كان في السحر نادى خالد: «مَنْ كان معه أسير، فَلْيُدافه، والمدافة الإجهاز عليه بالسيف، فأما بنو سُلَيْم فقتلوا مَنْ كان في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار، فأرسلوا أسراهم، فبلغ النبي الله ما صنع خالد فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»، وبعث علي بن أبي طالب فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره.
وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام في ذلك، فقال له عبد الرحمن: «عَمِلتَ بأمر الجاهليّة في الإسلام»، فقال: «إنما ثَأَرْتُ بأبيك»، فقال عبد الرحمن: «كذبت، قد قتلتُ قاتل أبي، ولكنك ثأرتَ بعمك الفاكه بن المغيرة، حتى كان بينهما شرٌّ. وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَهْلاً يا خالد دَع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أُحد ذهباً، ثمّ أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا رَوْحَته.
وكان الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وعوف بن عبد عوف، وعفّان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس قد خرجوا تجاراً إلى اليمن، ومع عفان ابنه عثمان، ومع عوف ابنه عبد الرحمن، فلما أقبلوا حملوا مال رجل من بني جذيمة بن عامر هلك باليمن إلى ورثته، فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام ولقيهم بأرض جذيمة قبل أن يصلوا إلى أهل الميت فأبوا عليه فقاتلهم بمن معه من قومه على المال ليأخذوه، وقاتلوه فقتل عوف بن عبد عوف، والفاكه بن المغيرة، ونجا عفان بن أبي العاص وابنه عثمان وأصابوا مال الفاكه بن المغيرة، ومال عوف بن عبد عوف، فانطلقوا به، وقتل عبد الرحمن بن عوف خالد بن هشام قاتل أبيه. وهمت قريش بغزو بني جذيمة، فقالت بنو جذيمة: ما كان مصاب أصحابكم على مَلأ منا، إنما عدا عليهم قوم بجهالة فأصابوهم، ولم نعلم ، فنحن نَعْقِلُ لكم ما كان لكم قبلنا من دم أو مال، فقبلت قريش ذلك ووضعوا الحرب.
هــ وشهد غزوة حُنَيْن التي كانت في شهر شوّال من السنة الثامنة الهجرية وحصار الطائف التي كانت في شوّال من السنة الثامنة الهجرية أيضاً، فنال عبد الرحمن امرأة من سبي هوازن فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة
السبي إلى هوازن أعاد عبد الرحمن المرأة التي كانت عنده إلى أهلها.
و ـ وشهد غزوة تبوك التي كانت في شهر رجب من السنة التاسعة الهجرية، فحض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على القتال والجهاد وأمرهم بالصدقة، فحمل عبد الرحمن من جملة من حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالا، مائتي أوقية، وهي أربعة آلاف درهم كما يبدو.
وفي طريق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى تبوك، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه في سفرة سافرها ركعة من صلاة الفجر قال المغيرة بن شعبة: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما كان في السَّحَر ضربَ عُنق راحلتي فظننت أن له حاجة، فعدلت معه، فانطلقنا حتى تبرزنا عن الناس، فنزل عن راحلته ثمّ انطلق فتغيب عني حتى ما أراه، فمكث طويلاً ثم جاء. فقال: حاجتك يا مُغِيرَة! قلت : ما لي حاجة! قال: فهل معك ماء؟ قلت: نعم، فقمت إلى قربة أو قال سطيحة معلقة في آخر الرحل، فأتيته بها فصَبَبْتُ عليه فغسل يديه فأحسن غسلهما، وأشُكّ دَلَكَهُمَا ، بتراب أم لا ، ثمّ غسل وجهه، ثم ذهب يحسر عن يديه وعليه جُبَّة شامية ضيقة الكم، فضاقت فأخرج يديه من تحتها إخراجاً، فغسل وجهه ويديه، ثم مسح بناصيته ومسح على العمامة ومسح على الخُفَّين، ثم ركبنا، فأدركنا الناس وقد أقيمت الصلاة فتقدّمهم عبد الرحمن بن عوف، وقد صلى ركعة وهم في الثانية، فذهبت أوذنه فنهاني، فصلينا الركعة التي أدركنا وقضينا التي سبقتنا، وكان هذا في تبوك، وكان المغيرة يحمل وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى خلف عبد الرحمن بن عوْف: «ما قبض نبي قط، حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته».
جهاده بالمال
كان عبد الرحمن كثير الإنفاق في سبيل الله، وقد تصدق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف درهم ثم تصدق بأربعين ألفاً الدراهم، ثم تصدق بأربعين ألف دينار ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة، وكان كثير المال محظوظاً بالتجارة.
وحين حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف درهم قال: «كان عندي ثمانية آلاف، فأمسكت أربعة آلاف لنفسي وعيالي وأربعة آلاف أقرضها ربي عزّ وجلّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت»
فنزلت في عثمان بن عفان وفي عبد الرحمن الآية الكريمة (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُشْبِعُوْنَ مَا أَنْفَقُوا مَنَا وَلَا أَذَى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
هذا هو مبلغ جهاد عبد الرحمن المُعْلَن بالمال الذي كان معروفاً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مبلغ جسيم ولا شك، وبخاصة في تلك الأيام، ولا بدّ أن يكون له جهاد غير مُعلَن ،بالمال، لا يعلمه غير الله .
لقد أدّى عبد الرحمن واجبه مجاهداً بالأموال والنفس.
المستشار الأمين
مع الشيخين
أصبح عبد الرحمن بعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى من أقرب المقربين إلى خليفتيه الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب الله عنهما، والمستشار الأمين لهما .
ولما نزل بأبي بكر الصديق رضي الله عنه الموتُ، دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: «أخبرني عن عمر ، فقال : إنه أفضل من رأيت، إلا أنه فيه غِلْظَة»، فقال أبو بكر : ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه، لترك كثيراً مما هو عليه، وقد رمَقتُهُ فكنتُ إذا غضبتُ على رجل أراني الرضاء عنه، وإذا لنْتُ له أراني الشدّة عليه». ودعا عثمان بن عفان رضي الله عنه له : «أخبرني عن عمر فقال : سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله»، فقال أبو بكر لهما: «لا تذكرا ممّا قلتُ لكما شيئاً، ولو تركته ما عدوتُ عثمان، والخيرة له ألا يلي من أموركم شيئاً، ولوددت أني كنتُ أموركم خِلْوا، وكنتُ فيمن مضى من سلفكم.
واستشارة أبي بكر الصديق عبد الرحمن في أخطر أمور الدولة، في تولية خليفته دليل على ثقته البالغة به وأنه كان المستشار الأمين له . ولما تولى الخلافة عمرُ، حج عبد الرحمن معه، فسمع رجلاً بمنى يقول لعمر: «لو مات عمر لبايعتُ فلاناً»، فقال عمر: «إني لقائم العشية في الناس، أحدرهم هؤلاء الرّهط الذين يريدون أن يغتصبوا الناس أمرهم»، فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وهم الذين يغلبون على مجلسك وأخاف أن تقول مقالة لا يَعُوها ولا يحفظوها ويطيروا بها، ولكن أمهل حتى تقدم المدينة وتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول ما قلتَ فَيَعُوا مقالتك»، فقال: «والله لأقومن بها أوّل مقام أقومه بالمدينة»، وهكذا انصاع عمر لرأي عبد الرحمن الحصيف.
وحشد الفرس حشوداً ضخمة لحرب المسلمين في العراق، فبلغ ذلك المثنى بن حارثة الشيباني، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب، فقال: «والله لأضر بن ملوك العجم بملوك العرب»، فلم يَدَعْ رئيساً ولا ذا رأي وذا شرف وبسطة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به فـرمـاهـم بـوجـوه الناس وغُرَرهم .
ولما اجتمع الناس إلى عمر خرج من المدينة حتى نزل ماء يدعى: (صِرَاراً) فعکسر به ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يُقيم! وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء، رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف، فإن لم يقدر هذان على علم شيء مما يريد ثلثوا بالعباس بن عبد المطلب. وسأله عثمان عن سبب حركته فأحضر النّاس وأعلمهم الخبر، واستشارهم في المسير إلى العراق فقال العامة: سِرْ وسِرْ بنا معك، فدخل معهم في رأيهم، وقال: «اغدوا واستعدوا فإني سائر إلا أن يجيء رأي هو أمثل من هذا». ثم جمع عمر وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل إلى علي بن أبي طالب، وكان استخلفه على المدينة فأتاه وإلى طَلْحَة وكان على المقدمة، فرجع إليه، وإلى الزبير وعبد الرحمن وكانا على المجنبتين، فحضرا. ثم استشارهم، فأجمعوا على أن يبعث رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرميه بالجنود، فإن كان الذي يشتهي فهو الفتح، وإلا أعاد رجلاً وبعث آخر، وفي ذلك غيض العدو.
وجمع عمر الناس وقال لهم: إلي : كنت عزمت على المسير، حتى صرفني ذوو الرأي منكم، وقد رأيتُ أن أقيم وأبعث رجلاً، فأشيروا عليّ برجل».
وأشاروا عليه بسعد بن أبي وقاص، فقاد جيش المسلمين في معركة القادسية الحاسمة.
ولما أراد عمر وضع الديوان وفرض العطاء، في سنة خمس عشرة الهجرية، قال له عليّ بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف: «ابدأ بنفسك، قال: «لا، بل أبدأ بعم رسول الله ، له الله ، ثم الأقرب فالأقرب»، ففرض للعباس وبدأ به، ثمّ فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف، ثمّ فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر من أهل الردّة ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، في ذلك من شهد الفتح وقاتل مع أبي بكر ومَنْ ولي الأيام قبل القادسية، كلّ هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، ثمّ فرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاء النازع منهم ألفين وخمسمائة ألفين وخمسمائة.
وفي سنة ثمان عشرة الهجرية، قدم عمر الشام، فلما كان بـ (سَرْغ) لقيه أمراء الأجناد فيهم أبو عُبَيْدة بن الجَرَّاحِ، فأخبروه بالوباء وشدته، وكان معه المهاجرون والأنصار، خرج غازياً، فجمع المهاجرين والأنصار فاستشارهم، فاختلفوا عليه فمنهم القائل: خرجت لوجه الله، فلا يصدك عنه هذا! ومنهم القائل: إنّه بلاء وفناء فلا نرى أن تقدم عليه ! فقال لهم : قوموا»، ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم، فلم يختلفوا عليه وأشاروا عليه بالعود، فنادى عمر في الناس: إني مصبح ظهر»، فقال أبو عُبَيْدَة: «أفراراً من قدر الله !»، قال: «نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله ! أرأيت لو كان لك إبل، فهبطت وادياً له عذوتان، إحداهما خِصْبَةٌ والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع ببلد وأنتــم بـه فـلا تخرجوا فراراً منه – رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما – فانصرف عمر بالناس إلى المدينة .
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين فلما أن ولي عُمر قال: «إن الناس قد دنوا من الرّيف، فما ترون في حدّ الخمر؟»، فقال عبد الرحمن بن عوف : «نری أن نجعله كأخفّ الحدود، فجلد فيه ثمانين جلدة . ورجع عمر إليه في أخذ الجزية من المجوس. رواه البخاري.
واستخلفه على الحج سنة ولي ،الخلافة أي سنة ثلاث عشرة الهجرية (١). وفي سنة ست عشرة الهجرية حين قدم الخُمس على عمر من الفتوح قال : والله لا يجنّه سقف حتى أقسمه»، فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الأرقم يحرسانه في المسجد فلما أصبح جاء عمر في الناس، فكشف عن أموال الخُمس، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بکی، فقال له عبد الرحمن: «ما يُبْكِيكَ يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا لموطن شكر»، فقال عمر: «والله ما ذلك يُبكيني، وبالله ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم.
وجاء عمر بن الخطاب إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي في بيته ليلاً، فقال له عبد الرحمن: ما جاء بك في هذه الساعة؟»، قال: «رفقة نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سرّاق المدينة، فانطلق فلنحرسهم»، فأتيا السوق، فقعدا على نشز من الأرض يتحدثان. وأخيراً لما طعن عمر أخذ بيد عبد الرحمن، فقدمه، فصلّوا الفجر يومئذ صلاة خفيفة.
لقد كان عبد الرحمن موضع ثقة الشيخين المطلقة إلى أبعد الحدود، كما كان موضع ثقة النبي وثقة المسلمين كافة.
مع الشورى
استشهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لثلاث بقين أو أربع من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين الهجرية، فلما وجد عمر حرّ السلاح سقط وأمر عبد الرحمن بن عوف فصلى بالناس، وعمر طريح، فاحتمل فأدخل بيته. ودعا عبد الرحمن، فقال له: «إني أريد أن أعهد إليك»، قال: «أتشير علي بذلك؟»، قال: «اللهم لا»، فقال عبد الرحمن : «والله لا أدخل فيه أبداً، قال: «فهبني صمتاً حتى أعهد إلى النفر الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض»، ثم دعا عليّاً وعثمان والزبير وسعداً، فقال: «انتظروا أخاكم طلحة ثلاثاً، فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم»، قال: «فإن أصابت سعداً فذاك، وإلا فأيهم استخلف فَلْيَسْتَعِنْ به، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وجعل عبد الله بن عمر معهم يشاورونه وليس له من الأمر شيء، وهكذا كان عبد الرحمن وهكذا كان عبد الرحمن أحد الستة الشورى، فلما دفن عمر كان عبد الرحمن أحد الذين نزلوا في قبره ولما مات عمر وأخرجت جنازته جمع المقداد بن الأسود أهل الشورى، وأمروا أبا طلحة الأنصاري أن يحجبهم .
وقال عبد الرحمن لزملائه: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلّدها على أن يوليها أفضلكم؟»، فلم يُجِبْهُ أحد، فقال: «فأنا أنخلع منها»، فقال عثمان : «أنا أوّل مَنْ رضي، فقال القوم: رضينا»، وعلي ساكت. فقال: «ما تقول يا أبا الحسن؟»، قال: «أعطني موثقاً لتؤثرنّ الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم، ولا تألو الأمة نُصحاً»، فقال: «أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على مَنْ بدل ،وغيّر، وأن ترضوا مَنْ اخترتُ لكم، وعلي ميثاق الله أن لا أخصّ ذا رَحم ،لرحمه ولا آلو المسلمين»، فأخذ منهم ميثاقا وأعطاهم مثله.
وفي رواية أخرى، أن عبد الرحمن حين قال لأصحاب الشورى: هل لكم إلى أن أختار لكم وأتقصى منها ؟ ، فقال علي: «نعم، أنت أمين أهل السماء، وأمين في أهل الأرض»(۱)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وبدأ بعلي فقال له : تقول إني أحق مَنْ حضر بهذا الأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تُبعد ولكن، أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر مَنْ كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق به؟»، قال: «عثمان». وخلا بعثمان فقال: «تقول شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمه، ولي سابقة وفضل فأين يُصرف هذا الأمر عني؟ ولكن، لو لم تحضر أي هؤلاء الرهط تراه أحق به؟»، قال: «علي». ودار عبد الرحمن لياليه يلقي أصحاب رسول الله ، ومَنْ وافي المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم، حتى إذا كان الليلة التي صبيحتها تستكمل الأجل الذي حدّده عمر بن الخطاب ثلاثة أيام، دعا الزبير وسعداً، وبدأ بالزبير فقال له: «خل بني عبد مناف وهذا الأمر»، قال: نصيبي لعليّ». وقال السعد: اجعل نصيبك لي»، فقال: «إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعليّ أحبّ إلي. أيها الرجل! بايع لنفسك وأرحنا وارفع رءوسنا»، فقال له : «قد خلعت نفسي على أن أختار، ولو لم أفعل لم أردها».
واستدعى عليّاً، فناجاه طويلاً، ثم أرسل إلى عثمان، فتناجيا أيضاً. ولما صلوا الصبح جمع الرّهط وبعث إلى مَنْ حضره من المهاجرين والأنصار وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى التحم المسجد بأهله، فقال: «أيها الناس! إنّ الناس قد أجمعوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، فأشيروا عليّ، فرشح جماعة عليّاً ورشح آخرون عثمان، وتعصبت كل جماعة لمرشحها، فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن! افرغ قبل أن يفتتن الناس»، فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورتُ، فلا تجعلُنَّ أيّها الرهط على أنفسكم سبيلاً».ودعا عليّاً وقال: «عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، قال: «أرجو أن أفعل، فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي».
ودعا عثمان، فقال له مثل ما قال لعليّ فقال: «نعم، نعمل»، فرفع رأسه إلى سقف المسجد، ويده في يد عثمان، فقال: «اللهم اسمع واشهد، اللهم إنّي قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان.وبايع عثمان وبايعه الناس.
لقد تمكن عبد الرحمن بكياسته وأمانته واستقامته ونسيانه نفسه بالتخلّي عن الطمع في الخلافة والزهد بأعلى منصب في الدولة، أن يجتاز هذه المحنة، ولا يزال الناس مختلفين حتى اليوم في: هل أصاب عبد الرحمن أم أخطأ، ولكن لا يختلف أحد بأنّه قاد رَكْبَ الشُّورى بمهارة وتجرد، مما يستحق أعظم التقدير .
مع عثمان
حج عثمان سنة تسع وعشرين ،الهجرية وضرب فسطاطه بمنى، وكان أوّل فسطاط ضربه عثمان بمنى، وأتم الصلاة بها وبِعَرَفَة، فكان أوّل ما تكلّم به الناسُ في عثمان ظاهراً حين أتَمَّ الصَّلاة بمِنّى فعاب ذلك غير واحد من الصحابة. قال له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ما حدث أمر ولا قدم عهد، ولقد عهدت النبي، وأبا بكر وعمر، يصلون ركعتين، وأنت صدراً من خلافتك، فما أدري ما ترجع إليه؟»، فقال: «رأي رأيته».
وبلغ الخبر عبد الرحمن بن عوف وكان معه في الحج، فجاءه وقال له: له : ألم تُصَلِّ في هذا المكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ركعتين وصليتها أنت ركعتين؟»، قال عثمان : بلى، ولكني أُخبرتُ أن بعض مَنْ حج من اليمن وجفاة الناس قالوا: إن الصلاة للمقيم ركعتان، واحتجوا بصلاتي، وقد اتخذت بمكة أهلاً ولي بالطائف مال»، فقال عبد الرحمن: ما في هذا عذر! أما قولك اتخذت بها أهلاً، فإن زوجك بالمدينة تخرج بها إذا شئت وإنما تسكن بسكناك. وأما مالك بالطائف وبينك وبينه مسيرة ثلاث ليال. وأما قولك عن حاج اليمن ،وغيرهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي والإسلام قليل ثم أبو بكر وعمر، فصلوا ركعتين، وقد ضرب الإسلام بحرانه»، فقال عثمان: «هذا رأي رأيته».
وخرج عبد الرحمن، فلقي عبد الله بن مسعود فقال: «أبا محمّد! غُيَّرَ ما تعلم»، قال: «فما أصنع؟!»، قال: اعمل بما ترى وتعلم»، فقال ابن مسعود الخلاف شر، وقد صليت بأصحابي أربعاً»، فقال عبد الرحمن: «قد صليت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف أصلي أربعاً .لقد نصح عثمان، فلما أصرّ عثمان على رأيه، تابعه عبد الرحمن خوفاً من الفتنة، فما كانوا يحبّون الفتنة ولا يعملون لها، ويخشون الوقوع فيها أشدّ الخشية .وكان عبد الرحمن صهر عثمان، فقد تزوّج عبد الرحمن أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي معيط، وهي أخت عثمان لأمه التي خلف عليها عُقبة بعد والد عثمان. وقد بلغ عبد الرحمن أنّ عثمان وهب بعض إبل الصدقة لبعض بني الحكم، فأخذها منهم وقسمها بين الناس وعثمان في الدار .
وعن عُرْوَة بن الزبير، أنّ الزبير جاء إلى عثمان وقال: «إن عبد الرحمن بن عوف زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا، وإني اشتريت نصيب آل عمر، فقال عثمان : «عبد الرحمن بن عوف جائز الشهادة له وعليه»، أخرجه الإمام أحمد بن حنبل. وتزكية عثمان هذه لعبد الرحمن بهذا الشكل وهذا الأسلوب، يدل على مبلغ ثقته به ثقة عظيمة بلا حدود.
الإنسان
۱ ـ عمره
ولد عبد الرحمن بعد عام الفيل بعشر سنين، أي أنه ولد سنة (٥٨١ م)، كما ذكرنا، وتوفي بالمدينة المنوّرة سنة اثنتين وثلاثين الهجرية (٦٥٢ م)، وهو ابن خمس وسبعين سنة قمرية، وفي رواية: وهو ابن اثنتين وسبعين سنة قمرية ..وفي رواية : أنه توفي سنة إحدى وثلاثين الهجرية، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين ،الهجرية وهو ابن خمس وسبعين سنة قمرية .وفي رواية : أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين الهجرية أو سنة إحدى وثلاثين الهجرية وعاش اثنتين وسبعين سنة قمرية .
ولا خلاف أنه ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، والأكثر أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين الهجرية، ومعنى ذلك، أنّه عاش إحدى وسبعين سنةشمسية ( ٥٨١ م – ٦٥٢م) ، وما يقرب من خمس وسبعين سنة قمرية..وشيعه إلى مثواه الأخير في (البقيع) سعد بن أبي وقاص وهو يقول: «واجبلاه»، ووضع السرير على كاهله.وسمع علي بن أبي طالب يقول يوم مات عبد الرحمن بن عوف :اذْهَبْ ابن عوف فقد أدركتَ صَفْوَهَا وَسَبَقْتَ رَنْقَها.
وقد دفن بالبقيع مدفن أهل المدينة ولا يزال البقيع كذلك، وصلّى عليه عثمان بن عفان.
۲ ـ وصيته وتركته
أوصى عبد الرحمن بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وألف فرس في سبيل الله، وأوصى لمن بقي ممن شهد بَدْراً لكل رجل أربعمائة دينار، وكانوا مائة فأخذوا وأخذها عثمان فيمن أخذوا وخلف مالاً عظيماً – وكان عامة ماله من التجارة – من ذهب قُطِعَ بالفؤوس حتى مَجلَت منه . وترك بعير وثلاثة آلاف شاة بالبقيع ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بـ (الجُرْف) على عشرين ناضحاً ، وكان يُدخل قوتَ أهله من ذلك كل سنة .
وقد أصاب تَمَاضر بنت الأَصْبَعَ رُبْعَ الثمن، فأخرجت بمائة ألف، وهي إحدى أربع، وقد ترك ثلاث نسوة، فأصاب كل واحدة مما ترك ثمانون ألفاً ثمانون ألفا.
فإذا بلغ ربع الثمن من تركة عبد الرحمن مائة ألف درهم على أكثر تقدير وثمانين ألف درهم على أقل تقدير فإنّ تركته بلغت (۳۲۰۰۰۰۰) درهم على الأكثر (٢٥٦٠٠٠٠) درهم على الأقل، وهو مبلغ جسيم وبخاصة بالنسبة لتلك الأيام الخالية يمكن أن تكون فيه مبالغة واضحة، وبخاصة وأن عبد الرحمن كان كثير الإنفاق من أمواله، كما سنذكر ما سجله له المؤرخون من إنفاق وشيكاً.
ومهما تكن المبالغة في ضخامة تركته فإنّه كان غنياً ميسوراً، ولكنه لم يقصر أبداً في دفع الزكاة والصدقة، وكان مصدر ثروته حلالاً لا شك فيه
٣ ـ إنفاقه
ذكرنا نفقاته المعلنة للجهاد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أما غير المعلنة فلا يعرفها أحد من الناس. وقد أعتق ثلاثين عبداً في يوم واحد، وقد ذكروا أنه أعتق ثلاثين ألف نسمة في حياته، ومهما قيل في المبالغة بهذا العدد، فإنّه كان يعتق كثيراً .وروت عائشة أم المؤمنين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَمْرِكُنَّ لَمِمَّا يهمني بعدي، ولن يصبر عليكنّ إلا الصَّابرون»، يخاطب زوجاته أمهات المؤمنين، ثم تقول عائشة لأبي سَلَمَة بن عبد الرحمن بن عوف: «سقى الله أباك سلسبيل الجنّة»، تريد عبد الرحمن بن عوف، وكان وصل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمال بيع بأربعين ألفاً، أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحیح وعزم أن يتنازل عن جميع ماله في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يضيف الضَّيْفَ ويطعم المسكين ويعطي السائل، ويبدأ بمن يعول، فإنه إذا فعل كان تزكية لماله .
وقالت أم سَلَمَة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه: إن الذي يحافظ عليكن بعدي لهو الصادق البار، اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سَلْسَبيلِ الجنّة» .
وقد باع أمواله من (كَيْدَمَة)، وهو سهمه من بني النضير، بأربعين ألف ,دينار، فقسمها على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وباع أرضاً له من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك في فقراء بني زُهرة وفي ذي الحاجة من الناس، وفي أمهات المؤمنين، فلما تسلّمت عائشة نصيبها قالت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يَحْنُو عَلَيْكُنَّ بعدي إلا الصابرون سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.
وتبرع ببمائة راحلة جاءته من مصر على فقراء المدينة في عهدالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم وردت له قافلة من تجارة الشّام، فحملهـا إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
وكان أهل المدينة عيالاً على عبد الرحمن بن عوف: ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم بماله وثلث يَصِلهم. ودخل يوماً على أُمَّ سَلَمَة أمّ المؤمنين فقال: «يا أمه! قد خفت أن يهلكني كثرة مالي»، فقالت: يا بني ! أنْفِقُ، فأطلق يده في الإنفاق، كأنه لا يخشى الفقر . وقدمت عِير لعبد الرحمن بن عوف فكان لأهل المدينة يومئذ رُبَّة، فقالت عائشة أم المؤمنين: ما هذا؟ قيل لها هذه عِيْرُ عبد الرحمن بن عوف قدمت»، فقالت عائشة: «أَمَا إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط، يميل به مرة ويستقيم أخرى، حتى يُفْلِتَ ولم يكد»،
فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فقال: «هي وما عليها صَدَقَة»، وما كان عليها أفضل منها وهي يومئذ خمسمائة راحلة.
لقد كان عظيم التجارة، مجدوداً فيها كثير المال، ولكن ماله كان في يده لا في قلبه، لذلك لم يجمع المال بوسائل غير مشروعة، وأعطى حق المال في الزكاة والصدقات وفي ميدان الجهاد وميدان السلام .
٤ ـ ورعه
كان إنفاق عبد الرحمن فيضاً متدفقاً، وهو إن دل على شيء، فإنّمايدل على ورعه وتقواه وقد رآه أحد الصالحين يطوف بالبيت وهو يقول : “اللهم قِنِي شُحَّ نفسي”.
ووصفه أحد المقربين إليه، فقال: «كان جليساً لنا ونِعْمَ الجليس،6فانقلب بنا ذات يوم إلى منزله فدخل فاغتسل ثم أتانا بقصعة فيها خبز وطعم ثم بكى فقلنا ما يبكيك يا أبا محمّد! قال : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهله من خبز الشعير، ولا أرانا أُخُرُنا لما هو خير لنا» (١)..وأتي بطعام وكان صائماً، فقال: «قتل مُصْعَب بن عُمير وهو خير مني، فكفن في بردته إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطّي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا ما بسط، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ، ثم جعل يبكي. (۲)وكان إذا أتى مكة، كره أن ينزل منزله الذي هاجر منه، وهو منزله الذي كان ينزله في الجاهلية (۳)، ولا ينزله ورعاً بعد إسلامه .عبدوقد ذكر المِسْوَر بن مَخْرَمة بن نوفل بن عبد مناف بن زهرة، وأمه أخت عبد الرحمن بن عوف. وكان يُعدل بالصحابة وليس منهم (٤)، أن . الرحمن لما وَلِيَ الشورى، كان أحبّ الناس إلى المِسْوَر أن يلي عبد الرحمن الخلافة، فإن تركها فسعد بن أبي وقاص، قال: «فلحقني عمرو بن العاص، فقال: ما ظنّ خالك بالله إن ولي هذا الأمر أحداً وهو يعلم أنه خير منه؟ فأتيتُ عبد الرحمن فذكرت له ذلك ، فقال : مَنْ قال ذلك لك؟ فقلت : لا أخبرك ! فقال : لئن لم تخبرني لا أكلمك أبداً. فقلت: عمرو بن العاص، فقال: فوالله لأن تُؤخذ مُدْيَة فتوضع في حَلْقي، ثمّ يُنْفَذ بها إلى الجانب الآخر، أحب إلي من ذلك (٥)، وما كان خوفه من تولي السلطة إلا ورعاً.
وكان يصلي قبل الظهر صلاة طويلة، فإذا سمع الأذان، شدّ عليه ثيابه وخرج إلى المسجد للصلاة.
وكان عبد الرحمن أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنّة، وأحد الستة الذين جعل عمر الشورى فيهم وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه في سفره، وروي عنه أنه قال : عبد الرحمن بن عوف سيد من سادات «المسلمين، وروي عنه عليه السلام أنه قال : «عبد الرحمن بن عوف أمين في السماء وأمين في الأرض». وكان أمين النبي على نسائه، فكان يخرج بهن، ويحج معهن، ويجعل على هوادجهنّ الطيالسة، وينزل بهنّ في الشعب الذي ليس له منفذ، وقد كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ومعه عثمان بن عفان، وكانت سنة عشر الهجرية.
ولما استخلف عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة، بعث تلك السنة على الحج عبد الرحمن بن عوف فحج بالناس، وحج مع عمر أيضاً آخر حجّة حجّها عمر سنة ثلاث وعشرين، وأذن عمر تلك السنة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج، فحُمِلْنَ في الهوادج، وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فكان عثمان يسير على راحلته أمامهن فلا أحداً يدع يدنو منهن، وينزلن مع عمر كلّ منزل، فكان عثمان وعبد الرحمن ينزلان بهنّ في الشعاب فيُقبلانهنّ الشُّعاب، وينزلان هما في أوّل الشعب، فلا يتركان أحداً يمرّ عليهن,
ويبدو أن عبد الرحمن كان كثير الحج، فقد حج سنة تسع الهجرية أيام النبي صلى الله عليه وسلم وكان على الحج أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر الهجرية كما ذكرنا سنة إحدى عشرة الهجرية,
وحج سنة إحدى عشر الهجرية بالنّاس، وقيل: حج بالناس عتاب بن وحج أسيد، ومهما يكن من أمر فإذا كان أمير الحج أو لم يكن، فقد شهد موسم الحج هذه السنة، وكان ذلك على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وفي سنة اثنتي عشرة الهجرية، حجّ بالناس أبو بكر الصديق واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وقيل: حج بالناس عمر بن الخطاب أو عبد الرحمن بن عوف، فهو قد شهد الموسم أميراً أو مأموراً على كل حال .ولما استخلف عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة الهجرية، بعث تلكالسنة على الحج عبد الرحمن بن عوف، فحج بالناس.
وفي سنة أربع عشرة الهجرية حجّ عبد الرحمن بن عوف بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وأقام الحج سنة أربع عشرة الهجرية إلى سنة ثلاث وعشرين الهجرية، عمر بن الخطاب في أيام خلافته ، وكان يعتبر موسم الحج مؤتمراً إسلامياً عاماً لمحاسبة الولاة والأمراء والاتصال المباشر بالرعية القادمين من أقطار الإسلام البعيدة والقريبة .
ولما استخلف عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين، بعث تلك السنة على الحج عبد الرحمن بن عوف، فحج بالناس.
وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وهو دليل على استعداده الطبيعي للخير قبل الإسلام.
وولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات بني كلب، لأنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان عليه الصّلاة والسّلام يفضّل أن يولي أحد المسلمين من أحد منهم القبيلة صدقاتها، فهو أعرف بها من غيره ومن الواضح أنه لا يمكن تولية مثل هذا المركز غير المسلم الصادق الأمين النزيه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يثق بإيمان عبد الرحمن، ويوكله إلى إيمانه. أن لقد كان عبد الرحمن من حواري رسول الله ، فلا عجب يكون على جانب عظيم من الورع والتقوى وقد دخل الفضل بن العباس وأسامة بن زيد، فتكلّم بعضهم، فدخل عبد الرحمن بن عوف إذ أنهم دخلوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم عند دفنه .
لقد كان بحق تعاليم الإسلام مجسّدة في إنسان يمشي على الأرض ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق بشراً سوياً، فانتقل ورعه إلى غيره من المسلمين بالمثال الشخصي والقدوة الحسنة فكان خير مثال وخير قدوة لا للذين عايشوا حسب بل لأجيال المسلمين كافة.
٥. علمه
في حجة الوداع، قال النبي لعمر بن الخطاب: «إنك رجل قوي، إن وجدت الركن خالياً فاستَلِمْهُ، وإلا فلا تزاحم الناس عليه فتُؤْذِيَ وتُؤذى»، وقال لعبد الرحمن بن عوف: وكيف صنعـت بـالـركـن يا أبا محمد؟»، قال: «استلمتُ وتركتُ»، قال: «أصبت» . وفي رواية : أنه قال لعبد الرحمن: كيف فعلت يا أبا محمد في استلام الحَجَر؟»، فقال: كلّ ذلك فعلتُ : استلمت وتركت»، فقال: «أَصَبْتَ»، مما يدل على أنه يجتهد بما ليس فيه نص من أمور الدين.
وأقبل رجل من المسلمين كان في المدينة، فلقي المهاجرين من أصحاب رسول الله إلا عبد الرحمن بن عوف الذي أُخبر أنه في (الجُرْف) في أرضه، فسار حتى إذا جاء عبد الرحمن وجده يحول الماء بمسحاة في يده، وقد وضع رداءه، وهو يعمل في مزرعته. فلما رآه عبد الرحمن استحى فألقى المسحاة وأخذ رداءه، فوقف عليه الرّجل وسلّم، ثمّ قال: جئتك لأمر ثمّ رأيت أعجب منه : هل جاءكم إلا ما جاءنا؟ وهل علمتم إلا ما علمنا؟»،
قال عبد الرحمن: «ما جاءنا إلا ما جاءكم، وما علمنا إلا ما علمتم»، فقال الرجل: فما لنا نزهد في الدنيا وترغبون فيها، ونخفق في الجهاد وتتثاقلون عنه، وأنتم خيارنا وسلفنا وأصحاب نبينا ؟»، فقال له عبد الرحمن: “إنّه لم يأتنا إلا ما جاءكم، ولم نعلم إلاما قد علمتم، ولكننا ابتلينا بالضرّاء فصبرنا وابتلينا بالسرّاء فلم نصبر” وهذا يدل على فهم عبد الرحمن للإسلام فهماً أصيلاً واقعياً، فهو دين للدنيا والآخرة، فلا بد للمرء أن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته، ضمن الحدود المشروعة التي نصّ عليها الدين الحنيف .
لذلك كان عبد الرحمن ممن يُفتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد رأينا كيف رجع عمر بن الخطاب من سَرَغ إلى المدينة، استناداً إلى حديث رواه عبد الرحمن عن النبي ) ، ورجوع عمر إلى رأي عبد الرحمن في جلد شارب الخمر ، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن في لبس الحرير من شرى كان به أو من حكة كان يجدها بجلده أو لأنه شكى إليه القُمَّل، فكانت رخصة للمسلمين الذين يعانون ما كان يعاني، وهي رخصة بسبب عبد الرحمن والزبير بن العوام أيضاً.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وستون حديثاً اتفق البخاري ومسلم على حديثين وانفرد البخاري بخمسة أحاديث ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر بن الخطاب، وروى عنه أولاده إبراهيم وحُمَيْد وعمر ومُصْعَب وأبو سَلَمَة وابن ابنه المِسْوَر بن إبراهيم وابن أخته المِسْوَر بن مَخْرَمة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وجُبَيْر بن مُطْعِم وأنس ومالك بنأوس بن الحدثان وعبد الله بن عامر بن ربيعة ومُجالد بن عبدة وآخرون. روى عنه عمر فقال: فيه العدل «والرضىومن(1)الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم : افضل العالم على العابدسبعين درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» .
لقد كان عبد الرحمن فقيهاً في الدين من أصحاب الفتيا محدثاً، فكان عالما بأمور الدين، عالماً بأمور الدنيا، لرأيه وزن ثقيل لدى الخليفة والمسلمين، فهو جائز الشهادة له وعليه.
٦ – صفته
كان عبد الرحمن رجلاً طويلاً حسن الوجه، رقيق البشرة، أبيض اللون، مشرباً بحُمْرة، لا يُغَيّر لحيته ولا رأسه، ضخم الكفين، غليظ الأصابع، أقنى، جعدا له جُمّة من أسفل أذنيه، أغنق، ساقط الثنيتين، أعرج، أصيب يوم أحد فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر أصاب بعضها رجله فعرج، أعين أهدب الأشفار، طويل النابين الأعليين، ربما أدمى شفتيه. لقد كان لطيف المنظر كما كان لطيف المَخبَر، يدلّ مظهره على الرجولة والنبل، وكانت مناقبه كثيرة .
٧. أهله
أ. كان لعبد الرحمن من الولد سالم الأكبر، مات قبل الإسلام، وأمه أم كلثوم بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس .وأم القاسم، ولدت أيضاً في الجاهلية وأمها بنت شيبة بن ربيعة ابنعبد شمس .ومحمد، و به كان يُكنّى، وإبراهيم وحُمَيْد وإسماعيل وحَمِيْدة وأمة الرحمن، وأمهم أُمّ كلثوم بنت عُقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أُمية ابنعبد شمس .ومَعَن، وعُمَر، وزيد وأمة الرحمن الصغرى، وأمهم سهلة بنت عاصم بن عدي بن الجدّ بن العَجْلان من بَلِيّ من قضاعة، وهم من الأنصار. وعُرْوَة الأكبر، قتل يوم إفريقية، وأمه بحرية بنت هانىء بن قبيصة ابن هانىء بن مسعود بن أبي ربيعة من بني شيبان. وسالم الأصغر، قُتل يوم فتح إفريقية، وأمّه سَهْلَة بنت سُهَيْل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي .
وأبو بكر، وأمه أم حكيم بنت قارظ بن خالد بن عُبيد بن سويد حليفهم من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة .وعبدالله بن عبد الرحمن، قتل بإفريقية يوم فتحت، وأمه ابنة أبي الحيس بن رافع بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل من الأوس الأنصار . وأبو سلمة، وهو عبد الله الأصغر، وأمّه تماضر بنت الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن حِصْن بن ضَمْضَم بن عَدِيّ بن جناب من كلب، وهي أول كلبية نكحها قرشي.وعبد الرحمن بن عبد الرحمن، وأمه أسماء بنت سلامة بن مَخْرَمَة بن جَنْدَل بن نَهْشَل بن دارم .ومُصْعَب، وآمنة، ومريم، وأمهم أم حُرَيث مِن سَبْيِ بَهْراء . وسُهَيْل، وهو أبو الأبيض، وأمّه مَجد بنت يزيد بن سلامة ذي فائش الحميرية .وعثمان، وأمّه غزال بنت كسرى أمّ وَلَد من سبي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يوم المدائن .وعُرْوَة، ويحيى، وبلال، لأمهات أولاد.وأم يحيى بنت عبد الرحمن وأمها زينب بنت الصباح بن ثعلبة بن عوف بن شبيب بن مازن من سَبي بهراء أيضاً. وجُوَيْرة بنت عبد الرحمن، وأمّها بادية بنت غَيْلان بن سَلَمَة بن مُعْتَب الثقفي، وهي زوج المِسْوَر بن مَخْرَمَة ابن أخت عبد الرحمن بن عوف.
فكان لعبد الرحمن من الذكور ثمانية وعشرون ذكراً، ومن الإناث ثماني بنات.
ومات عبد الرحمن وترك ثلاث نسوة فأصاب كل واحدة مما ترك ثمانون ألفاً ثمانون ألفاً، أما الرابعة وهي تماضر بنت الأصبغ، فقد طلقها في مرض موته، فصولحت بثمانين ألفاً في رواية وبمائة ألف في رواية أخرى.
وكان عبد الرحمن سالف رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل سَوْدَة بنت زَمْعَة، إذ كانت عنده أم حبيبة بنت زَمْعَة أخت سَوْدة، وسالفه أيضاً مرة أخرى من قبل زينب بنت جحش، إذ كانت عنده أم حبيبة بنت جحش لم تلد، فسالفه عبد الرحمن مرتين كانت أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيْط زوج عبد الرحمن من المبايعات رسول الله صلى الله عليه وسلم بایعت في مكة قبل الهجرة، ثم هاجرت إلى المدينة وحدها في الهدنة، فتزوجها الزبير بن العوام فطلقها، ثم تزوجها بعده عبد الرحمن، فولدت له إبراهيم وحميداً، ثم مات عنها. وفي رواية : أنّ أمّ كلثوم هذه تزوجت زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عبد الرحمن بن عوف، ثم الزبير بن العوام، ثم عمرو بن العاص وهذا هو الأصح.
وخلف على أم حكيم بنت خالد بن قارظ بعد عبد الرحمن، عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، ثمّ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وأصهار عبد الرحمن على بناته معروفون أيضاً .
ب -أما محمد بن عبد الرحمن فكان شديد الغيرة، وولد عبد الواحد، وله عقب. وأما إبراهيم بن عبد الرحمن، فكان سيد القوم، وكان قصيراً، وتزوج سكينة بنت الحسين، فلم يرض بذلك بنو هاشم، فخلعت منه، وكان يكنى أبا إسحق ومات سنة ست وتسعين الهجرية، وهو ابن خمس وسبعين سنة . وأما حُمَيْد بن عبد الرحمن، فكان له مال وجاه، وحمل عنه الحديث، وكان يكنى أبا عبد الرحمن. وأما أبو سَلَمَة بن عبد الرحمن، فكان فقيهاً، يُحمل عنه الحديث، ومات أبو سلمة سنة أربع وتسعين الهجرية وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، ويقال : إنه مات سنة أربع ومائة الهجرية .
وأما مُصْعَب بن عبد الرحمن فكان شجاعاً. قال عبد الملك بن مروان لرجل من أهل الشّام : أي فارس لقيته قط أشد؟»، قال: «مُصْعَب». وقتل مصعب مع عبد الله بن الزبير، وكان قبل ذلك مع مروان بنالحكم على شُرطته في المدينة، وفيه يقول ابن قيس الرقيات:
حال دون الهوى ودون سرى الليل مُصْعَبُ
وسياط على أكـ ف رجال تقلب
وقال الواقدي: قتل مصعب بن عبد الرحمن من أصحاب الحصين بن نمير بيده خمسةً، ثم رجع وسيفه مُنْحَنٍ وهو يقول:
إنا لنـوردها بيضاً ونُصْدِرها حُمْراً
وفيها انحناء بعد تقويم
وكان الواقدي يذكر أنه توفي ولم يقتل. وأما سهيل بن عبد الرحمن، فكان تزوّج الثريا امرأة من بني أُمية الصغرى وهي التي يشبب بها عمر بن ربيعة فقال:
أيها المُنْكِحُ القُريَّا سُهَيْلاً عَمْرَك الله كيف يَلْتَقِيَـــانِ
هــي شــاميــة إذا ما اسْتَقَلت وسُهَيْل إذا استقـــل يـمـــان
ولسهيل عقب في المدينة .وأما عمر بن عبد الرحمن، فكان من جُلداء قريش، وهو أحد من عمل في أمر الحجاج بن يوسف، حتى عزله عبد الملك عن المدينة . وأما زيد بن عبد الرحمن، فلا عقب له.
وأما المِسْوَر بن عبد الرحمن، فقتل يوم الحرّة. وأما عثمان بن عبد الرحمن فله عقب في البصرة.
وإخوة عبد الرحمن بن عَوْف: الأسود بن عوف، هاجر قبل الفتح، وأمهما: الشَّفاء بنت عوف بن الحارث بن زُهرة، وقد هاجرت. وعبد الله بن عوف، لم يُهاجر ولم يدخل المدينة، وعاش في الجاهلية ستين سنة. وفي الإسلام ستين سنة، وأوصى ابن الزبير، وأمه : زينب ابنة مقيس بن قيس بن عَدِيّ بن سَهُم ) بن سروات قريش، وابنه طلحة بن عبد الله بن عوف، وله عقب في المدينة .
هذا ما سجّله المؤرخون عن عائلة عبد الرحمن بن عوف، وكما بارك الله له في المال والتجارة، بارك له في الولد ذكوراً وإناثاً. ولكن لم يكن أحد من أولاده مثله في فضائله وسجاياه، ولم يستطع أن يملأ الفراغ الذي خلفه بموته، فقد كان رجلاً في أمة، وأمة في أحدهم رجل، وكان نسيج وحده.
۸. مجمل مزاياه
لقد كان عبد الرحمن مثال المسلم الحق في فهمه للإسلام، فقد كان لا يُعرف من بين عبيده في أوقات الجد والعمل والعبادة، يعمل كما يعملون في أكثر جدية منهم ويتعبد كما يتعبدون في أكثر ورعاً وإيماناً منهم، ولكنه كان في أوقات الراحة وبين أهله وفي المناسبات يلبس البرد أو الحُلَّة تساوي خمسمائة درهم أو أربعمائة درهم وهو يومئذ مبلغضخم، فقد كانت الشاة بنصف درهم.، وقد ارتحل عن هذه الحياة قبل الفتنة فغبطه على رحيله علي بن أبي طالب الذي قال يوم مات عبد الرحمن: اذْهَبْ ابن عوف! فقد أدركت صفوها، وسَبَقْتَ رَنْقَها»، كما غبطه عمرو بن العاص الذي سُمع يوم مات عبد الرحمن يقول: «أَذْهَبُ عَنْكَ ابن عوف، فقد ذهبت ببطنَتِكَ ما تَغَضْغَض منها من شيء، فعصمه الله من الفتنةومن معاناتها .
لقد كان أميناً نزيها ماله ليس ،ماله بل يبذل للفقراء والمساكين ما وسعه البذل، عالماً في أمور الدين عالماً في أمور الدنيا، ورعاً أشد الورع تقياً أعظم التقوى، متواضعاً غاية التواضع، عاقلاً متزناً حصيفاً، عفيفاً يعتمد على عمله، ويده دائماً هي العليا، ناسكاً في الليل بزازا. في النهار يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، ويعمل لأخراه كأنه غداً يموت.
إنه مثال للمسلم الحق في مزاياه، ولمزايا الإسلام في تطبيقها العملي دنيا وآخرة، مادة وروح عمل ومسجد، وليس دنيا وحدها ولا آخرة وحدها، ولا مـادة بلا روح ولا روحاً بلا مادة، ولا عملاً بلا مسجد، ولا مسجداً بلا عمل وتلك هي مزايا الإسلام الخالدة، التي جعلته يصلح لكل زمان ومكان.
۹. القائد
أثبت عبد الرحمن بن عوف كفاية قتالية متميزة في كل غزوة خاضها تحت لواء الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسّلام، فأسر في بعض تلك الغزوات أسرى من المشركين وقتل منهم قتلى، وباشر القتال في الصفوف الأمامية، وثبت مع عدد قليل من المسلمين ثبتوا إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم واستقتل في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصيب بأكثر من عشرين جرحاً، أحدها في ثنيتيه فهتم، وفي رجله فعرج كلّ حياته، فكان عَرَجُهُ برجله بعد إصابته يوم أحد شاهداً على ثباته العنيد ووساماً على شجاعته وبطولته .
لقد أبلى بلاء حسناً في كلّ غزوة خاضها، وبخاصة غزوة أحد وأبدى شجاعة نادرة في تلك الغزوة وفي غيرها من الغزوات، حتى أصبح معدوداً من شجعان المسلمين المعدودين الذين يشار إليهم بالبنان ، ويرشحون القيادة السرايا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقيادة الجيوش بعد انتقاله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى. ولم يكن مجاهداً من الطراز الأول بنفسه حسب، بل كان مجاهداً من الطراز الأول بماله أيضاً، وقد ذكرنا جهاده بالمال نقداً وإبلاً وخيولاً، حتى نزلت فيه وفي عثمان بن عفان آية من آيات الذكر الحكيم كما ذكرنا ذلك في جهاده بالمال أيضاً.
لقد كان ذكياً ألمعي الذكاء، آلفاً مألوفاً يحب رجاله ويحبونه، ويثق بهم ويثقون به، ذا شخصية قوية متزنة ملتزماً بتعاليم الدين الحنيف في الحرب العادلة، فلا يغدر ولا يغلّ ولا ينقض عهداً ولا يقتل وليداً ولا امرأة ولا يعتدي على أحد فكان يجاهد لإعلاء كلمة الله ولتكون كلمة الله هي العليا ولحماية الإسلام والمسلمين والدفاع عنهم وحماية حرية نشر العقيدة. وكان ذا إرادة قوية ثابتة يتحمّل المسؤولية ولا يلقيها على عواتق الآخرين أو يتهرب منها له نفسية لا تتبدّل في حالتي النصر والهزيمة، عارفاً بنفسيات رجاله وطاقاتهم وقدراتهم وكفاياتهم، له ماض ناصع مجيد.
وكان عارفاً بمبادىء الحرب، مطبقاً لها، يختار مقصده اختياراً دقيقاً، وكان قائداً تعرضياً، يطبق مبدأ المباغتة على خصمه، ويحرمه من تطبيق هذا المبدأ على رجاله يحشد قوته قبل المعركة، ويقتصد بالمجهود ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويحرص على أمن رجاله حرصاً بغير حدود، خططه مرنة، يتعاون تعاوناً وثيقاً مع القيادة من جهة ومع رجاله من جهة
أخرى، ويديم معنويات قواته ويؤمن لها أمورها الإدارية.
يتحلّى بالطاعة والضبط المتين، ولا يخالف الأوامر التي تصدر إليه، ولا يحب الفتنة ولا يحبّ أهلها ولا يسعى إليها بسيفه أو يده أو لسانه أو بها جميعاً، فمصلحة المسلمين ووحدة كلمتهم وصفوفهم هي هدفه الأعلى الذي يسعى إلى تحقيقه بكل ما يستطيع من قوة وتصميم وعزم .
ولم يكن يحبّ الإمارة ولا يسعى إليها، ولكنه لا يمتنع عن توليها باعتبارها تكليفاً لا تشريفاً .
لقد كان من أولئك القادة الذين يعملون لعقيدتهم ولإخوانهم في العقيدة، ولا يعملون لأنفسهم ولذوي قرباهم فمصلحته الخاصة لا شيء بالنسبة للمصلحة العامة للإسلام والمسلمين وماله وروحه في خدمة الإسلام والمسلمين.
ولولا الإسلام لم يكن عبد الرحمن شيئاً مذكوراً، لذلك وهب كل شيء يملكه ويقدر عليه للإسلام.
عبد الرحمن في التاريخ
يذكر التاريخ لعبد الرحمن أنّه كان أحد الثمانية الذين سبقوا للإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق . ويذكر له، أنه كان من المهاجرين الأولين إلى الحبشة، وإلى المدينة المنوّرة .
ويذكر له، أنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب الخلافة فيهم، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي وهو عنهم راض.
ويذكر له، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلفه في غزوة تبوك .
ويذكر له أنه من القلائل الذين ثبتوا يوم أحد دفاعاً. عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإسلام.
ويذكر له، أنّه قاد سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني كَلْب في دُوْمَة الجندل، فنجح في مهمته أعظم نجاح. ويذكر له أنه أخرج نفسه من الخلافة واختار للمسلمين خليفتهم الجديد.
ويذكر له، أنه جاهد بماله جهاداً كبيراً، كما جاهد بنفسه في سبيل الله.
رضي الله عن الصحابي الجليل القائد الشجاع، المحدث الفقيه، التقي النقي، الغني المُنْفِق، عبد الرحمن بن عوف الزُّهْرِي.
(قادة النبي صلى الله عليه وسلم)