نسبه وأيامه الأولى
هو المنذر بن عمرو بن خُنيس بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة.
أمه هند بنت المنذر بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة من بني الخزرج، أيضاً من بني حرام الخزرجية الأنصارية، وكانت من النساء المبايعات لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا ذكر للمنذر قبل الإسلام، ولا نعلم عن أخباره شيئاً في الجاهلية، ولكن اسمه لمع بعد إسلامه، فقد شهد البيعة الثانية الكبرى بالعقبة، في ثلاث وسبعين رجلاً وامرأتين من الأنصار، فاختاره النبي صلى الله عليه وسلم نقيباً من بني اثني عشر نقيباً، فهو عقبي نقيب.
ولما علمت قريش بأخبار بيعة العقبة الثانية، خرجوا في طلب الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأدركوا سعد بن عبادة بـ أذاخر، والمنذر بن عمرو، وكلاهما كان نقيباً، فأما المنذر ففاتهم.
ولما ظفر المشركون بسعد بن عبادة سألوه: أنت على دين محمد؟ فقال: نعم، فأوثقوه رباطاً، حتى خلّصه مطعم بن عدي، وكان له صديقاً.
وكان المنذر أشرف أن يؤخذ، فقال ضرار بن الخطاب الفهري:
تداركت سعداً عَنوَةً فأخذتُهُ
وكان شفاءٌ لو تداركتُ منذرا
ولو نلتُهُ طُلَّتْ هناك جراحُهُ
وكان حرياً أن يُهان ويُهدَرا
فأجابه حسّان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليه، فقال:
ولستَ إلى سعدٍ ولا المرءِ منذرِ
إذا ما مطايا القوم أصبحن ضُمَّرا
فلولا أبو وهبٍ لمُرَّتْ قصائدٌ
على شرفِ البرقاءِ يهوين حُسَّرا
أتفخرُ بالكتّان لما لبستَهُ
وقد تلبسُ الأنباطُ ربطاً مُقصَّرا
فلا تكُ كالوسنانِ يحلمُ أنَّهُ
بقريةِ كسرى أو بقريةِ قيصرا
ولا تكَ كالثكلَى وكانت بمعزلٍ
عن الثكل لو كانَ الفؤادُ تفكَّرا
ولا تكَ كالشاةِ التي كان حتفُها
بحفرِ ذراعيها فلم تَرضَ محفرا
ولا تكَ كالغَاوي فأقبلَ نحرَهُ
ولا يخشَهُ سهماً من النبلِ مضمرا
فإنا ومن يهدي القصائدَ نحوَنا
كمستبضعٍ تمراً إلى أهلِ خيبرا
فلما قدم الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة المدينة، أظهروا الإسلام بها.
ولما هاجر النبي من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وصل إلى المدينة، تلقاه المسلمون يعرضون عليه النزول عندهم، كل واحد منهم يتمنى أن يحل عنده، وكلّ جماعة من الأنصار تتمنى أن تنال هذا الشرف العظيم، وكان المنذر من جملة الذين عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل بينهم، فقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته بدار بني ساعدة قوم المنذر من الخزرج، فاعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة، فقالوا: «يا رسول الله! هلمّ إلينا إلى العدد والعدة والمنعة»، فقال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة»، يريد خلوا سبيل ناقته القصواء فإنها مأمورة.
وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين طليب بن عمير بن وهب والمنذر بن عمرو، وفي رواية: أنه آخى بين أبي ذر الغفاري والمنذر بن عمرو، والرواية الأولى هي الصحيحة، وإنما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه قبل غزوة بدر الكبرى، وأبو ذر يومئذ غائب عن المدينة، ولم يشهد بدراً ولا أحداً ولا الخندق، وإنما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بعد ذلك.
وبدأ الصراع الحاسم بين الإسلام والشرك وبين المسلمين والمشركين، فشهد المنذر غزوة بدر الكبرى، كما شهد غزوة أحد، وكان على ميسرة المسلمين في هذه الغزوة.
وهكذا أدى المنذر واجبه في الدعوة إلى الإسلام، وفي الدفاع عنه، وفي الجهاد مجاهداً وقائداً مرءوساً، وكان من رؤساء الخزرج من الأنصار، ومن الذين جندوا رئاستهم لخدمة المسلمين جندياً وقائداً وداعية ومرشداً.
سرية بئر معونة
بعد غزوة أحد، أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة من السنة الثالثة الهجرية، والمحرم من السنة الرابعة الهجرية، ثم بعث أصحاب بئر معونة في تمام السنة الثالثة للهجرة وأوائل السنة الرابعة للهجرة على رأس أربعة أشهر من غزوة أحد.
وكان سبب ذلك أن أبا براء الكلابي من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ويُعرف بمُلاعِب الأسنة، واسمه عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فلم يُسلم ولم يُبعد، وقال: «يا محمد! لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، لرجوت أن يستجيبوا لك»، فقال: «إني أخشى عليهم أهل نجد»، فقال أبو براء: «أنا جارٌ لهم.»
,بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو، أحد بني ساعدة، وهو الذي يُلقب: «المُعنِق ليموت»، لقب غلب عليه، والأكثر يقولون: «أعنق ليموت»، في أربعين من المسلمين، وقيل في سبعين من خيار المسلمين، منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان – أخو أم سليم وهو خال أنس بن مالك – وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، وغيرهم.
فنهضوا ونزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم، وهي إلى حرّة بني سليم أقرب، وأمّر النبي على جميعهم المنذر بن عمرو.
وحين وصلت السرية إلى بئر معونة، بعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه، ثم عدا عليه فقتله، ثم استنهض إلى قتال الباقين بني عامر، فأبوا أن يُجيبوه، لأن أبا براء أجارهم، فاستغاث عليهم بني سليم، فنهضت معه عُصيّة ورِعل وذَكوان، وهم قبائل من بني سليم، فأحاطوا بهم، فقاتلوا، فقتلوا كلهم رضوان الله عليهم، إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار، فإنه تُرك في القتلى وفيه رمق، فارتُثّ من القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق رضوان الله عليه.
وكان عمرو بن أمية الضمري في سَرْح المسلمين الذين كانوا في تلك السرية، ومعه المنذر بن محمد بن عقبة بن أُحيحة بن الجُلاح، فنظرا إلى الطير تحوم على العسكر، وكانا في سرح المسلمين، فنهضا إلى ناحية أصحابهم، فإذا الطير تحوم على القتلى، والخيل التي أصابتهم لم تزل بعد، فقال المنذر بن محمد لعمرو بن أمية: «فما ترى؟» فقال: «أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر.» فقال الأنصاري: «ما كنتُ لأرغب بنفسي عن موطنٍ قُتل فيه المنذر بن عمرو»، فقاتل حتى قُتل، وأُخذ عمرو بن أمية أسيراً، فلما أخبرهم أنه من مضر، جزّ ناصيته عامر بن الطفيل، وأطلقه عن رقبة كانت على أمه، وذلك لعشرين بقين من صفر.
ورجع عمرو بن أمية، حتى إذا كان بالقَرْقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر، وقيل: من بني سليم، حتى نزلا معه في ظلّ هو فيه، وكان معهما عهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم به عمرو بن أمية، وكان قد سألهما حين نزلا: «ممن أنتما؟» قالا: «من بني عامر»، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب منهما ثأره من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، قال: «لقد قتلتَ قتيلين كان لهما مني جوارٌ، لأدينّهما؛ هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً متخوّفاً.»
ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة.
وبلغ أبا براء ما صنع عامر بن الطفيل، فشقّ عليه إخفاؤه إيّاه، ولا حركة به من الكبر والضعف، فقال: « أحضرني ابن أخي من بين بني عامر.»
وركب ربيعة بن أبي براء، ولحق عامراً، وهو على جملٍ له، فطعنه بالرمح، فأخطأ مقاتله. وتصايح الناس، فقال عامر بن الطفيل: «إنها لم تضرّني! إنها لم تضرّني!» وقال: «قضيت ذمّة أبي براء.» وقال: «قد عفوت عن عمي، هذا فعله!»
لقد كان أكثر أفراد هذه السرية شببة، يُسمّون القُرّاء؛ كانوا إذا أمسوا أتوا ناحية من المدينة، فتدارسوا وصلّوا، حتى إذا جاء الصبح استعذبوا من الماء وحطبوا من الحطب فجاؤوا به إلى حُجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أهلوهم يظنّون أنهم في المسجد، وكان أهل المسجد يظنون أنهم في أهليهم، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السرية، فخرجوا فأُصيبوا في بئر معونة؛ والقرّاء هم علماء الأمة الذين نذروا أنفسهم للعلم، وللعمل به، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وعمل الخير، وكان على رأسهم أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم: المنذر بن عمرو.
وقد قُتل أصحاب المنذر، فعُرض عليه المشركون أن يؤمّنوه، ولكنه قاتلهم حتى قُتل، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: «أَعنق ليموت»، فلقب: «المُعْنِق ليموت» ـ كما ذكرنا.
لقد كانت سرية بئر معونة ملحمة من ملاحم المجاهدين في الله الذين يعتبرون الشهادة أمنية من أغلى أمانيهم، فحين طعن المشرك جبار بن سُلْمى مولى أبي بكر الصديق عامرَ بن فُهَيْرَة، سمعه القاتل يقول: «فزتُ والله»، فأعلن حينذاك القاتل إسلامه، لأنه رأى تضحية لا يمكن أن تكون إلا لله وحده.
وكان على رأس المجاهدين الصادقين: المنذر بن عمرو.
الإنسان والقائد
١ ـ وكما وجد النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء بئر معونة وجداً عظيماً، كان وَجد المسلمين عليهم عظيماً كذلك، فقال حسّان بن ثابت يبكي قتلى بئر معونة، ويخص بالذكر منهم المنذر بن عمرو:
على قَتْلى مَعُونَة فاستَهِلِّي
بدمعِ العينِ سحًّا غيرَ نَزْرِ
على خيلِ الرسولِ غداةَ لاقَوْا
ولاقَتْهم مَنَايَاهُم بقَدْرِ
أصابَهُمُ الفناءُ بعقدِ قومٍ
تخونُ عهودَ حبلِهمُ بغدرِ
فيا لهفي لمُنذِر إذ تولّى
وأعنقَ في منيتِه بصبرِ
وَكَائِنْ قَدْ أُصِيبَ غَدَاةَ ذَاكُم
مِنْ أَبْيَضَ مَاجِدٍ مِنْ سِرِّ عَمْرِو
لقد كان المنذر من رجالات قومه، وحَسْبُه أن النبي ﷺ اختاره لهم نقيبًا، لأنه كان أتقاهم ومن رؤسائهم.
ولم يكن وحده من آل بيته متميّزًا بالتقوى، فقد كانت أخته مندوس بنت عمرو، وهي أم سلمة بنت مُخَلَّد، وأخته سَلْمَى بنت عمرو من المبايعات لرسول الله ﷺ، وكانت أمه من المبايعات أيضًا، فهو من بيت تقوى انتشر الإسلام فيه مبكرًا، وأثر المنذر في هذا البيت ظاهر العيان.
وفي المنذر قال النبي ﷺ: «أعنق ليموت»، أي مشى للموت وهو يعرفه.
وكان المنذر يكتب في الجاهلية، يوم كان الذين يكتبون قليلين، فهو من علماء المسلمين الأولين، وكانت الكتابة في العرب قليلة.
وقد استُشهد أول سنة أربع الهجرية (625م)، ولا عقب له، وروى حديثًا واحدًا عن النبي ﷺ.
ولا نعلم سنة مولده، والأغلب أنه استشهد وهو في ريعان الشباب.
٢ – أما سمات المُنذر القيادية، فهو قائد من قادة العقيدة، اختاره النبي صلى الله عليه وسلم نقيباً يدعو إلى الله، فعاش نقيباً واستشهد نقيباً، وكان في سريته نقيباً، يضرب لهم في نفسه أروع الأمثال في البذل والتضحية والفداء.
ولعلّ قولة أحد رجاله: «ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قُتل فيه المنذر بن عمرو!!» خير دليل على تعلق رجاله به وتعلقه بهم، لأنه أعلمهم بالدين وأتقاهم وأصبرهم وأكثرهم شجاعة وإقداماً، فأعنق ليموت، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أسرع إلى الموت مُقبلاً غير مُدبر، فرحاً بلقاء الله، طالباً الشهادة، وقع على الموت، ولم يقع الموت عليه، فسقط شهيداً ولم يسقط السيف من يده.
لقد كان المنذر أحد اللبنات القوية المتينة التي شُيد عليها صرح الإسلام القوي المتين، وليس كالشهداء من أجل عقيدتهم لبنات تُشيد عليها صروح العقيدة التي لا يمكن أن تُقهر أبداً.
المنذر في التاريخ
يذكر التاريخ أنّ المنذر كان من السابقين الأولين إلى الإسلام من بني الخزرج الأنصار.
ويُذكر له أنه كان نقيب قومه من بني ساعدة الخزرج، اختاره النبي صلى الله عليه وسلم ليقود ركب الدعوة في قومه بخاصة وفي الأنصار بعامة بالمدينة المنورة.
ويُذكر له أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فكان من الذين مهدوا لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة إلى المدينة.
ويُذكر له أنه نال شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وشرف الجهاد تحت لوائه، فشهد بدرًا مجاهدًا، وشهد أحدًا قائدًا مرؤوسًا.
ويُذكر له أنه قائد سرية الدُعاة من الشباب القُرّاء، الذين استشهدوا في سبيل الله.
ويُذكر له أنه تهيأت له في بئر مَعُوْنَة فرصة الحياة، فآثر الموت على الحياة، وما عند الله خير مما عند الناس.
رضي الله عن الصحابي الجليل العقبيّ النقيب، البدري الشهيد القارئ الفقيه، المُعْنِق ليموت، المُنْذِر بن عمرو السَّاعِدِي الخزرجي الأنصاري.