نسبه وأيامه الأولى
هو عبد الله أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مُرّة بن كعب بن لؤيّ القرشيّ.
أمه: بَرّة بنت عبد المطلب بن هاشم، فهو ابن عمة النبي ﷺ، وأخوه في الرضاعة، أرضعت ثويبة مولاة أبي لهب حمزة بن عبد المطلب، ثم رسول الله ﷺ، ثم أبا سلمة، وثويبة أول من أرضع للنبي ﷺ، وأرضعت حمزة وأبا سلمة.
ويبدو أنه كان أصغر سنًا من النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، ولا ذكر لسنة مولده، ولكن يمكن استنتاج سنة مولده من أن ثويبة أرضعته بعد النبي ﷺ، فإذا كان النبي ﷺ قد وُلد عام الفيل (٥٧١م)، فإن سنة مولد أبي سلمة في هذه السنة أو سنة (٥٧٢م)، أي أنه أصغر سنًا من النبي صلى الله عليه وسلم بسنة واحدة.
أسلم بعد أبي عبيدة بن الجراح، وقبل الأرقم بن أبي الأرقم، فقد أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأولون السابقون إلى الإسلام دار الأرقم بن أبي الأرقم، أسلم بعد عشرة أنفس، فكان الحادي عشر من المسلمين.
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك المسلمون إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، وكان أبو سلمة ومعه امرأته أم سلمة بنت أمية بن المُغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم مع أوّل من هاجر من المسلمين إلى الحبشة.
وبلغ أصحاب النبي ﷺ الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فعادوا إليها، حتى إذا دنوا من مكة علموا أن ما بلغهم باطل، وكان أبو سلمة وامرأته أم سلمة من العائدين إلى مكة، مع ثلاثة وثلاثين رجلًا من صحابة رسول الله ﷺ.
ودخل أبو سلمة مكة بجوار خاله أبي طالب، فمشى إلى أبي طالب رجال من بني مخزوم. فقالوا: «يا أبا طالب، ما هذا؟ منعت منا ابن أخيك محمدًا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟!» فقال: «إنه استجار بي، وهو ابن أختي، وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي»، فقام أبو لهب فقال: «يا معشر قريش! والله لقد أكثرتُم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لَتَنْتَهُنَّ عنه أو لَنَقُومَنَّ معه في كلِّ ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد»، فقالوا: «بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة»، وكان لهم وليًّا وناصرًا على رسول الله ﷺ، فأبقوا على ولائه لهم.
وكان أبو سلمة أوّل مَنْ هاجر إلى الحبشة من المسلمين، وقد هاجر إلى أرض الحبشة مرتين ومعه امرأته أم سلمة، واسمها هند، فولدت له بالحبشة زينب بنت أبي سلمة، وعمر بن أبي سلمة.
وكانت قريش قد عَدَت على من أسلم منهم، فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاء عليهم، وعظُمت الفتنة فيهم، فاحتمى أبو سلمة بأبي طالب، فمنعه وحماه وأسبغ عليه رعايته وحمايته.
وفي أبي سلمة وعثمان بن مظعون نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، كما ذكروا.
لقد أدّى أبو سلمة واجبه في خدمة دينه، والصبر على الأذى والغربة، وحسن إسلامه، فاستحقّ مثل هذا الذكر والثناء العظيمين.
الهجرة إلى المدينة
لما شخص السبعون من يثرب الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة، اشتد ذلك على قريش، ورأوا أنه صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منعة ودار هجرة. فَضَيَّقُوا على المسلمين وآذوهم، ونالوا منهم من الشتم والتناول ما لم يكونوا ينالونه وشكى المسلمون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألوه الهجرة . فقال : «إنّه لم يُؤذن لي في ذلك بعد». ثمّ إنّه خرج عليهم بعد ذلك مسروراً، فقال: «قد أخبرتُ أنّ دار هجرتكم يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج، فإنَّ البلاد قريبة، وأنتم بها ،عارفون وهي طريق عيركم إلى السّام». فجعلوا يتجهزون إلى المدينة بكتمان وستر، ويتسللون فيقال: إنه كان بين أولهم وآخرهم في الهجرة أكثر من سنة. وجعلوا يترادفون بالمال والظهر، ويترافقون. وبلغ من بالحبشة من المسلمين هجرة إخوانهم، فقدم مَنْ قدم مكة للهجرة مع النبي الله صلى الله عليه وسلم، وكان ممن قدم مكة أبو سَلَمَة. ثم هاجر إلى المدينة، فكان الثالث منهم بعد مُصْعَب بن عُمَيْر وابن أم مكتوم. وكان مصعب أوّل من قدم المدينة، ثم تلاه ابن أُمّ مَكْتُوم، وهناك مَنْ يذكر أن أبا سلمة هاجر قبل ابن أم مكتوم، والخبر الأول أثبت .
وكان أوّل مَنْ قدم المدينة مهاجراً أبو سلمة، ولا خلاف بين الروايتين، فقد بعث النبي الله مصعب بن عمير ليفقه مسلمي المدينة في الدين، وكان ذلك قبل الإذن بالهجرة إلى المدينة، فلما أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة، كان أوّل مهاجر إلى المدينة أبو سلمة ، أي أن هجرته بعد مُصْعَب .
وقد قدم أبو سلمة المدينة لعشر خلون من المحرم، وقدم رسول الله الا الله و المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من من شهر ربيع الأول، فكان بين أوّل مَنْ قَدِم من المهاجرين فنزلوا في بني عمرو بن عوف، وبين هجرة النبي صلى الله عليه وسلم شهران.
وفي رواية أخرى أنّ أبا سلمة أوّل من هاجر من مكة إلى المدينة، هاجر إليها قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبَلَغه إسلام مَنْ أسلم من الأنصار، خرج من مكة إلى المدينة مهاجراً ونزل أبو سلمة في (قُبَاء) على مُبَشِّر بن عبد المُنْذِر من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.
وكانت أم سلمة زوج أبي سلمة أوّل ظعينة وردت المدينة، وكان زوجها أبو سلمة لما أراد الهجرة رَحَل لها بعيره وحملها عليه، وفي حجرها ابنها سلمة، فلما رآه رجال بني المغيرة قالوا: «هذه نفسك غلبتنا عليها، فما بال صاحبتنا !؟ لا ندعك تسير فيها في البلاد»، ثم انتزعوا خطام البعير من يده وأخذوها إليهم وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد من هلال، وقالوا : “والله لا نترك ابنها عندكم إذا نزعتموها من يد صاحبنا”، يعنون أبا سلمة وتجاذبوا سلمة بينهم حتى خلعوا يده، فكانت مخلوعة حتى مات، ثم انطلقوا به، وكانت أم سلمة وهي عند أهلها من بني المغيرة، تخرج فتقعد على (الصَّفَا) ثم تقول:
یارخُم الجو ألا استقلـي وفــي بنـي عبد الأسد فحلّي
ثم هلالاً وبنيه فلي
ثم تدعو عليهم أن تأكل الرخم لحومهم، فروي عنها أنها قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بـ (الأبْطَح) ، فما أزال أبكي حتى أُمسي، حتى مر بي رجل من بني عَمِّي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي، فرحمني، وكلّم بني المغيرة في وقال : ألا ترون ما بهذه المسكينة من الجهد لتفريقكم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لي الحقي بزوجك إن شئت، وردّ عليّ
علي بنو عبد الأسد ابني، فرحلت بعيري، ووضعت ابني في حجري، خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله، فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقْدَمَ على زوجي، حتى إذا كنت بـ (التَّنْعِيم) لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال لي : إلى أين يا بنت أبي أُمَيَّة؟ فقلت: أريد زوجي بالمدينة قال: أَوَمَا مَعَكِ أحد؟ فقلت: لا والله إلا الله وبني هذا ! قال : والله مالكِ من مَتْرَك ! فأخذ بخطام البعير، فانطلق بي يهوي بي، فوالله ما صَحِبْتُ رجلاً من العرب قط أرى أنه أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت عنه استأخر ببعيري عنه ثم قيَّده في الشجرة، ثم تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرَّواحُ قام إلى بعيري فقدمه فرَحَلَهُ، ثم استأخر فقال : اركبي! فإذا ركبتُ فاستويتُ على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عَوْف بقُباء، قال : زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلاً، فَادْخُلِيْها على بركة الله ثم انصرف راجعاً إلى مكة، والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصابت آل أبي سلمة، وما رأيتُ صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة، وقد كان عثمان بن حين شيع أم سلمة من مكة إلى المدينة كافراً .
وكان مَنْ تقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة إلى المدينة ومن نزلوا عليه بقباء، بنوا مسجداً يصلّون فيه والصّلاة يومئذ إلى بيت المقدس، فجعلوا قبلته إلى ناحية بيت المقدس فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم فيه، وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين من مكة إلى المدينة، ثمّ أمهم بالمدينة لأنه أقرؤهم، وإن فيهم لعمر بن الخطاب، وذلك قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخى النبي صلى الله عليه وسلم بعد بنائه المسجد بين الأنصار والمهاجرين، وقيل: إن المؤاخاة كانت والمسجد يُبْنَى، بين المهاجرين والأنصار على المواساة والحق، فكانوا يتوارثون بذلك دون القرابات. حتى نزلت: ﴿وأولو الأرْحامِ بعضُهم أوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ) فأخى بين أبي سلمة وسعد بن خَيْثَمة.
وفي شهر جمادى الآخرة من السنة الثانية الهجرية، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة (ذي العُشَيْرة )، فاستخلف على المدينة أبا سَلَمَة. وشهد أبو سلمة غزوة (بدر) الكبرى، وشهد غزوة وشهد غزوة (أحد)، فجُرح هذه الغزوة، وكان الذي جرحه أبو أسامة الجُشَمِيّ، رماه بمَعْبَلَة في عَضُده، فمكث شهراً يداويه، فبرأ فيما يُرى، وقد اندمل الجرح على بغي
لا يعرفه، فانتقض به الجرح فاشتكى، ثم مات، كما سيرد تفصيله الحديث عن أبي سلمة إنساناً.
وهكذا صدق أبو سلمة ما عاهد الله عليه فتحمل الأهوال في هجرته، وأعان النبي صلى الله عليه وسلم في حربه جندياً وقائداً، وفي سلمه إدارياً.
سريته إلى قطن
شهد أبو سلمة (أحداً)، وكان نازلاً في بني أُمية بن زيد بالعالية إحدى مواحي المدينة، بعد أن تحوّل من قباء، ومعه زوجته أم سلمة بنت أبي أمية، فجُرح جرحاً في عضده، فرجع إلى منزله.
وجاءه الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إلى حَمْراء الأسد، فركب حماراً وخرج يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه حين هبط من (العَصْبَة) بالعقيق، فسار مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حَمْراء الأسد.
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، انصرف أبو سلمة مع المسلمين، فعاد من موضع العَصْبَة إلى داره حيث استقر فيها شهراً يداوي جرحه، فلما كان هلال المحرّم على رأس خمس وثلاثين شهراً من الهجرة، أي في السنة الرابعة الهجرية، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اخرج في هذه السرية، فقد استعملتك عليها وعقد له لواء، وقال: «سِرْ حتى تَرِدَ أرض أسد، فأغرُ عليهم قبل أن تلاقى عليك جُموعهم»، وأوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، فخرج معه في تلك السرية خمسون ومائة، منهم : أبو سَبْرَة بن أبي رُهم، وهو أخو أبي سلمة لأمه، وأَرْقَم بن أبي الأرْقم، وأبو عُبَيْدَة بن الجراح ، وسعد بن أبي وَقَاص ، وغيرهم.
والحافز المباشر لهذه السرية أنّ رجلاً من بني طييء هو الوليد بن زُهير بن طريف الطائي عمّ زينب الطائية، وكانت تحت طُلَيْب بن عُمَيْر القُرشي العبدي، قدم المدينة لزيارة ابنة أخيه الطائية، فنزل على صهره الذي هو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أن طُلَيْحَة وَسَلَمَة ابني خُوَيْلِد تركهما قد سارا في قومهما ومَنْ أطاعهما بدَعْوَتهما إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون أن يدنوا للمدينة، وقالوا: نَسير إلى محمد في عُقْرِ داره، ونُصِيب من أطرافه، فإنّ لهم سَرْحاً يرعى جوانب المدينة، ونخرج على متون الخيل، فقد أرْبَعنا – رعاها في الربيع – خيلنا، ونخرج على النجائب المَخْبُورَة، فإن أصبنا نَهْباً لم نُدْرَك، وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عُدَّتها : معنا خيل ولا خيل معهم، ومعنا نجائب أمثال الخيل، والقوم منكوبون، قد أوقعت بهم قريش حديثاً، فهم لا يستبلّون دهراً، ولا يثوب لهم جَمْع».
وقام فيهم رجل منهم يقال له قيس بن الحارث بن عُمَيْر، فقال: يا قوم! والله ما هذا برأي ! ما لنا قِبَلَهم وِتْرٌ وما هم نُهْبَة لِمُنْتَهب. إنّ دارنا لبعيدة من يثرب، وما لنا جَمْع كجمع قريش مكثت قريش دهراً تسير في العرب تستنصرها، ولهم وِتْرُ يطلبونه، ثمّ ساروا وقد امتطوا الإبل وقادوا الخيل وحملوا السلاح مع العدد الكثير – ثلاثة آلاف مقاتل سوى أتباعهم – وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاثمائة رجل إن كملوا، فتُغرُون بأنفسكم وتخرجون من بلدكم، ولا آمن أن تكون الدائرة عليكم».
وكاد كلام هذا الرجل الحصيف أن يشكك بني أسد في المسير إلى المسلمين، وهم على ما هم عليه بعد، لم يخرجوا خطتهم إلى حيز التنفيذ .
وخرج طليب بن عُمَيْر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالوليد بن زهير بن طريف الطائي، الذي نقل له خبر نيات بني أسد العدوانية على المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره ما أخبر به الرجلُ الطائي .
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم، أبا سَلَمَة، فخرج في أصحابه، وخرج معه الطائي دليلاً، فأغذوا السير، ونكب بهم عن سَنَن الطريق، وعارض الطريق، وسار بهم . ليلاً ونهاراً، فسبقوا الأخبار، وانتهوا إلى أدنى قطن ـ ماء من مياه بني أسد ـ وهو الذي كان عليه جَمْعُهم، فوجد المسلمون سَرْحاً، فأغاروا على الشرح فضموه، وأخذوا رِعاءٌ لهم مماليك ثلاثة، وأفلت سائرهم، فجاءوا جَمْعَهم فخبروهم الخبر وحذروهم جَمْعَ أبي سَلَمَة، وكثروه عندهم، فتفرق الجمع في كل وجه .
وورد أبو سلمة الماء، فوجد جمع بني أسد قد تفرّق، فعسكر وفرق أصحابه في طلب النَّعَم والشاء، فجعلهم ثلاث فرق : فرقة أقامت معه، وفرقتان أغارتا في ناحيتين شتى، وأوعز إليها ألا يمنعوا في طلب، وألا يبيتوا إلا عنده إن سَلِموا وأمرهم ألا يفترقوا، واستعمل على كل فرقة قائداً منهم . وعادت الفرقتان إلى أبي سلمة جميعاً سالمين، قد أصابوا إبلاً وشاء، ولم يلقوا أحداً.
وانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة راجعاً، ورجع معه فلما ساروا ليلة قال أبو سلمة : اقتسموا غنائمكم، وأعطى أبو سلمة الدليل رضاه من المَغْنَم، ثم أخرج صفيّاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً، ثم أخرج الخُمس، ثم قسم ما بقي بين أصحابه، فعرفوا سُهمانهم، ثم أقبلوا بالنَّعم والشّاء يسوقونها حتى دخلوا المدينة.
وفي رواية أخرى أنّ الطائي رجع مع أبي سلمة دليلاً، وكان خريتا، فسار بهم أربعاً إلى قطن وسلك بهم غير الطريق، حتى يُعمّي الخبر على القوم، فجاءوا القوم وهم غارون على صِرمة، فوجدوا الصِّرَم قد نذروا بهم وخافوهم فهم ،مُعِدّون فاقتتلوا فتساقط الجرحى بين الجانبين، ثم افترقوا.
وفي رواية ثالثة : أن سرية أبي سلمة كانوا يسيرون ليلاً ويكمنون نهاراً، حتى وردوا قطن، فوجدوا القوم قد جمعوا جمعاً، فأحاط بهم أبو سلمة في عماية الصبح، وقد وعظ القومَ وأمرهم بتقوى الله، ورغبهم بالجهاد وحضّهم عليه، وأوعز إليهم في الإمعان بالطلب، وألف بين كل رجلين وانتبه بنو أسد قبل حملة المسلمين عليهم، فتهيئوا وأخذوا السلاح، أو مَنْ أخذه منهم، وصفوا للقتال، وحمل سعد بن أبي وقاص على رجل منهم، فضربه فأبانَ ،رجله ثم قتله وحمل رجل من الأعراب على مسعود بن عُرْوَة بالرُّمح وقتله، فخاف المسلمون على صاحبهم أن يُسْلَب من ثيابه، فحازوه إليهم.
وصاح سعد: «ما يُنتظر؟»، فحمل أبو سَلَمَة، فانكشف المشركون على حاميتهم، وتبعهم المسلمون وتفرّق المشركون في كل وجه، وأمسك أبو سلمة عن الطلب وواروا صاحبهم، وأخذوا ما خَفٌ لهم من متاع، ثم انصرفوا راجعين إلى المدينة. حتى إذا كانوا من ماء قطن على مسيرة ليلة أخطأوا الطريق، فوجدوا نَعَماً لبني أسد فهجموا عليه، فاستاقوا النعم واستاقوا الرعاء، فكانت غنائمهم سبعة أبعرة.
ومن الواضح أن الرواية الأولى هي الصحيحة، لإجماع المؤرّخين الثقاة عليها، ولأنّها أقرب إلى المنطق والعقل، فقد باغت أبو سَلَمة المشركين من بني أسد، فهربوا خوفاً من إبادتهم، وخلفوا وراءهم إبلهمومواشيهم، فغنمها المسلمون .بنيوقد كان هدف النبي صلى الله عليه وسلم من هذه السرية، هو تشتيت حشود أسد، وتفريق شملهم وتحطيم معنوياتهم، حتى لا يهاجموا المسلمين في المدينة، والهجوم أنجع وسائل الدفاع كما هو معلوم، فحقق أبو سلمة هدف النبي صلى الله عليه وسلم تحقيقاً كاملاً وعاد إلى المدينة على رأس سريته سالماًغانماً .الإنسان والقائد١ – ولد أبو سَلْمَة : سَلمَة وعُمَر ، ودُرّة، وزينب. وأمهم: أم سَلَمَة التي أصبحت زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، خلف عليها بعد أبي سلمة، وقد روى عمر بن أبي سلمة عن النبي ، وزوج النبي صلى الله عليه وسلم سَلَمَة بن أبي سَلَمَة بنتَ حمزة بن عبد المطلب، وكانت زينب بنت أبي سَلَمَة عند عبد الله بن بن الأسود بن المطلب بن : المطلب بن أسد بن عبد العُزَّى فولدت له. وليس لسلمة ولا لدرة ابني أبي سلمة عَقب ولعمر وزينب ابني ابن سَلَمَة عَقب (۲)زَمْعَةوولد عبد الأسد والد أبي سلمة أبا سلمة وسفيان بن عبد الأسد، والأسود بن عبد الأسد الذي قُتل كافراً يوم بدر، قتله حمزة بن عبد المطلب، وكان قد حلف يوم بدر ليكسِرَنَّ حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فقاتل حتى وصل إلى الحوض، فأدركه حمزة، وهو يكسر الحوض، فقتله، واختلط دمه بالماء، وأم سفيان بن عبد الأسد والأسود بن عبد الأسد من كندة وشهد غزوة بدر أبو سلمة، وهو والد زينب بنت أبي سلمة وعمها أبو سَبْرَة بن أبي رهم وهو أخو أبي سلمة لأمه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وشهدها عمها الآخر الأسود بن عبد الأسد مع المشركين وشهدها خالها حمزة بن عبد المطلب مع النبي صلى الله عليه وسلم، وخالها مسعود بن أمية بن المغيرة مع المشركين. وكان أبو سلمة من البدريين الذين كانوا يدخلون على صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنَّه كان لها محرماً، لأنّ أمّ أبي سلمة برة بنت عبد المطلب أخت صَفِيَّة بنت عبد المطلب.
روى أبو سَلَمَةعن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً في الاسترجاع عند المصيبة، فقد جاء أبو سلمة إلى أُمّ سلمة فقال: «لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً أحب إلي من كذا وكذا سمعته يقول : لا يصيب أحداً مصيبة فيسترجع عند الله ثمّ يقول : “اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه، اللهم، اخلفني فيها، إلا أعطاه الله، واسترجع أي قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.” وروت عنه أُمّ سلمة، وكان من أصحاب الفتيــا مــن الصحابة، وكان على جانب عظيم من التقوى والورع والإيمان، ونزل فيه قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِيْنِهِ فيقول هَاؤُمُ اقْرَؤُا كِتَابِيَة) … الآيات، وفي حديث ابن عبّاس: «أوّل مَنْ يُعطى كتابه بیمینه أبو سلمة بن عبد الأسود، وأوّل مَن يُعطى كتابه بشماله أخوه سفيان بن عبد الأسد» وحين عاد أبو سلمة من سريته إلى قطن بعد غيابه عن المدينة المنورة بضع عشرة ليلة انتقض به جرحه فاشتكى وكان قد أصيب بهذا الجرح أحد، فمات لثلاث ليال مضين من جمادى الآخرة سنة أربع الهجرية يوم (٦٢٥ م)، فغسل في (اليُسَيْرَة) بئر بني أُمية بن زيد بالعالية، غُسل بين قرني البئر، وكان اسمها في الجاهليّة: (العَبير)، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُسَيْرَة)، ثم حُمل من بني أمية بن زيد، فدفن بالمدينة(٥).وأتى النبي صلى الله عليه وسلم أبا سلمة يعوده، فوافق دخوله عليه خروج نفسه، فبسط النبي صلى الله عليه وسلم كفيه على عيني أبي سلمة فأغمضهما.وقالت النساء عند موت أبي سَلَمَة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مه! لا تدعون على أنفسكن إلا بخير، فإنّ الملائكة تحضُر الميّت – أو قال أهل الميت – فيؤمنون على دعائهم، فلا تدعون على أنفسكنّ إلا بخير»، ثم قال: «اللهم افسح له في قبره، وأضيء له فيه، وعظم نوره، واغفر ذنبه. اللهم ارفع درجته في المهديين واخلفه في تركته في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين».
وهكذا مات أبو سَلَمَة شهيداً من شهداء أحد للجرح الذي جُرح يومأحد ثم انتقض به، فاستراح الرّاحة الأبدية، بعد أن أتعب أهله، وأتعب نفسه في خدمة الإسلام والمسلمين، وصدقت أم سَلَمَة في ما ذكرته : واللهما أعلم آل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سَلَمَة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الدور بالمدينة. جعل لأبي سَلَمَة موضع داره عند دار بني عبد العزيز الزهريين فباعوه بعد وتحوّلوا إلى بني كعب في المدينة، ويبدو أنه تحوّل بعد ذلك إلى منطقة أمية بن زيد بالعالية قرب بئر اليسير، حيث مات هناك (٤)، دون أن يترك درهماً ولا ديناراً ولا داراً، وترك أكبر من كلّ ذلك : أثره الباقي في خدمة الإسلام والمسلمين، ومثاله الشخصي الذي يمكن أن يكون أسوة حسنة لغيره من المسلمين، والشهادة في سبيل الله .۲ ـ أما سمات قيادته، فتحمّل المشاق والكتمان الشديد، وتطبيق المباغتة الكاملة بالزمان .وبالرغم من أنه قاد سرية واحدة من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم لمرة واحدة فقط، ثم انتهت حياته وذهب إلى جوار الله إلا أنّ أفراد سريته كانوا من أبرز المسلمين ومن قادة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وقادة الفتح الإسلامي بعد التحاق النبي بالرفيق الأعلى، مما يدلّ على قوة شخصيته وتميزه فيسماته القيادية .
ولم يكن أبو سلمة قائداً متميزاً من قادة النبي صلى الله عليه وسلم حسب، بل كان إدارياً متميزاً أيضاً من إداريي النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان يستخلفهم على المدينة المنوّرة حين كان يغادرها للجهاد.لقد كان أبو سَلَمَة إنساناً مثالياً وإدارياً متميزاً وقائداً فذاً .أبو سَلَمَة في التاريخيذكر التاريخ لأبي سَلْمَة، أنّه كان من أوائل المسلمين الأولين، الذين اعتنقوا الإسلام ودافعوا عن الإسلام والمسلمين .
ويذكر له، أنه كان أوّل مَنْ هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين الأولين، وأنه من أوائل مَنْ هاجر إلى المدينة المنوّرة من المهاجرين . ويذكر له، أنه تحمّل أذى قريش والمشركين صابراً محتسباً، وما أصاب آل بيت في الإسلام ما أصاب آل أبي سَلَمَة، في سبيل الدينالحنيف .ويذكر له، أنه كان قائداً لامعاً وإدارياً حازماً، وإنساناً عظيماً.
ويذكر له، أنّه ختم حياته بالشهادة، فكان من أقدم لبنات صرح الإسلام منذ كان الإسلام.
رضي الله عن الصحابي الجليل، الإداري الحازم، القائد الفذ، الشهيد البطل، أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي القُرَشِي.