نسبه وأيامه الأولى
هو عبد الله بن جُبَيْر بن النعمان بن أُمَيّة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، ولقب امرىء القيس البرك وبه يعرف.
وهو من بني ثعلبة بن عمرو بن عوف، وأمه من بني عبد الله بن غَطَفَان، ولم يُذكر اسمها، وهو أخو خَوَّات بن جُبَيْر لأبيه وأمه، وعمّهما الحارث بن النعمان بن أُميّة، شهد بدرا أيضاً.
يكنى عبد الله بن جُبَيْر : أبا المُنْذِر، أسلم قديماً، وشهد بيعة العقبة الثانية مع مسلمي الأوس والخزرج الذين شهدوها هناك.
ولما هاجر النبي من مكة إلى المدينة، وآخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة، آخى بينه وبين الحصين بن الحارث. وكان هو وسهيل بن حُنَيْف يكسران أصنام المشركين في المدينة ويأتيان بها المسلمين ليستوقدوا بها، مما يدلّ على شدة إخلاصه للإسلام والمسلمين.
جهاده
١- في غزوة بدر الكبرى
شهد عبد الله بن جُبَير غزوة بدر هو الكبرى وأسر يومئذ أبا العاص بن ربيع وهو زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله ﷺ في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة أم المؤمنين، يقال: إنّها من جَزْع ظَفار كانت خديجة بنت خويلد أدخلتها بها على أبي العاص حين بَنَى بها. فلما رأى رسول الله ﷺ القلادة عرفها ورق لها وذكر خديجة وترحم عليها وقال: « إن رأيتم أن تُطلقوا لها أسيرها ، وتردّوا إليها متاعها فعلتم فقالوا: نعم يا رسول الله! » ، فأطلقوا أبا العاص بن الربيع وردوا إلى زينب متاعها ، وأخذ النبي ﷺ على العاص أن يُخلي سبيل زينب ابنته فوعده ذلك. وقدم في فدائه عمرو بن الربيع أخوه ، وكان أبو العاص أسير عبد الله بن جبير الذي أطلقه بدون فداء إكرامًا لرسول الله ﷺ
۲ ـ في غزوة أحد:
شهد عبد الله بن جُبَيْر غزوة أحد، فولّاه النبي ﷺ على الرماة ، وعددهم خمسون رجلاً ، وجعل موضعهم على جبل (عَيْنَيْن) وجعل النبي ﷺ أحداً خلف ظهره ، واستقبل المدينة.
وأوعز النبي ﷺ إلى الرماة ، فقال: « قوموا على مَصَّافكُم (٥) هذا ، فاحموا ظهورنا ، فإن رأيتم قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتم نقتل فلا تنصرونا ». ولما بدأت معركة أحد جعل الرماة يرشقون المشركين ، فما يقع سهم من سهامهم إلا في رجل أو فرس في رجل أو فرس، وكان النبي ﷺ قد رتب الرماة خلف جيش المسلمين ، وأمر عبد الله بن جُبَيْر أن يَنْضَح المشركين بالنَّبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم.
وجعلت قريش على ميمنتهم في الخيل خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم في الخيل عِكْرِمة بن أبي جَهْل وكان عكرمة وخالد يتربصان بالمسلمين دون جدوى ، لأن الرماة يحمون ظهور المسلمين حماية كاملة فلما انصرف الرماة، وبقي مَنْ بقي، نظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكرّ بالخيل، وتبعه عِكْرِمة بالخيل، فانطلقا إلى موضع الرماة ، فحملوا على من بقي منهم، فرماهم القوم حتى أصيبوا. ورامی عبدالله بن جُبير حتى فَنِيَت نَبلُه، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه، فقاتلهم حتى قتل (۱). فلما وقع جَرْدوه، ومثلوا به أقبح المثل ، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه حتى خرقت ما بين سُرَّته إلى خاصرته إلى عَانَتِهِ ، فكانت حُشْوَته قد خرجت منها. وحمله أخوه خوّات ودفنه وقد قتل عبد الله بن جبير يوم أحد عِكْرِمة بن أبي جهل.
وما قصر عبد الله بن جبير في طاعته المطلقة، وفي نصح اصحابه الرماة ، وفي استقتاله دفاعاً عن موضع الرماة والباقين منهم، وعن الإسلام والمسلمين مما يدعو إلى أعمق التقدير والإعجاب. وكان من نتيجة مخالفة الرماة خسارة غزوة أُحد بالنسبة للمسلمين. وقد استشهد عبد الله بن جبير يوم وليس له عقب فرحل عن الدنيا دون أن يترك درهماً ولا ديناراً ، ولا دارًا ولا عقارًا ، ولا ولداً من ذكر أو أنثى ، ولكنه ربح عقيدته ولم يخسرها في المعركة ، فنزل فيه ومن ثبت معه من الرماة: ( مِنكُم مَنْ يُرِيدُ الآخِرَة).
الإنسان والـقــائــد
١- ليس له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حديثه في أهل المدينة الذين نقلوا قصته في غزوة أحد كما في رواية الإمام البخاري في صحيحه ، وقد ثبت ذكره في حديث البَراء بن عازب في الصحيح، وفيه: أن المشركين لما انهزموا ذهب الرماة ليأخذوا من الغنيمة، فنهاهم عبد الله بن جبير، فمضوا وتركوه,
ومن الواضح أنه لم تكن له رواية عن النبي ﷺ، لأنه استشهد مبكرًا في أُحد فلم يبق مع النبي ﷺ لمدة كافية ليتلقّى عنه ويروي عنه، ويبدو المدة القليلة التي بقيها في صحبة النبي ﷺ كانت عامرة بالجهاد، فشغلته عن التلقي والرواية.
يكفي أنه نال شرف الصُّحبة وشرف الجهاد تحت لواء النبي ﷺ، وبذل نفسه في سبيل دينه رخيصة وأدّى واجبه في الجهاد حق الأداء.
ولم يذكر مؤرخو سيرته موعد ، مولده ولكنه استشهد في شهر شوال من السنة الثالثة الهجرية، ( ٦٢٤م)، لأنه استشهد في غزوة أُحد التي جرت في هذا الشهر وهذه السنة. ويمكن تقدير سنة مولده بشكل قريب من الصواب لا بشكل جازم ، فقد ورد أنّه كان أسنّ من أخيه خَوّات بن جُبَيْر) ، وهو أخو خَوات لأبيه وأمه، وأن خَوّات مات بالمدينة سنة أربعين الهجرية ٦٦٠م ابن اربع وسبعين سنة اي أنه ولد سنة اربع وثلاثين قبل الهجرة.
وقد كانت الهجرة سنة ( ٦٢٢ م) كما هو معروف، فإذا كان قد ولد قبل الهجرة بأربع وثلاثين سنة قمرية، لأنهم كانوا يسجلون الأعمار بالسنوات القمرية لا بالسنوات الشمسية فهي أربع وثلاثون سنة قمرية وثلاث وثلاثون سنة شمسية ، أي أن خَوّات بن جُبَيْر ولد سنة ( ٥٨٩ م).
فإذا كان عبد الله أسنّ من خَوّات ، وهو أخوه لأمه وأبيه ، فمن المحتمل أن يكون أكبر منه سنتين على الأقل. أي أنه ولد سنة (٥٨٧ م) ، واستشهد سنة ( ٦٢٤ م) ، فعاش سبعاً وثلاثين سنة شمسية و ثمان وثلاثين سنة قمرية تقريباً لا على الجزم. لقد كان مؤمناً قوي الإيمان، راسخ العقيدة، كثير التقوى، شديد الورع، مخلصاً للإسلام والمسلمين محباً لله ورسوله، شهماً غيوراً كريمًا، فكان جماع سجايا العربي الأصيل والمسلم الحق ، كانت تلك السجايا تمثلت فيه رجلاً سوياً يمشي على الأرض ، فعاش من أجل تلك السجايا ، ومات من أجلها عليه رحمة الله.
٢ ــ أما سجاياه القيادية التي أهلته لتولي قيادة الرماة في أخطر غزوة من غزوات النبي ﷺ ، والذي يتوقف على جهوده وجهود رجاله النصر أو الهزيمة ، كما حدث في التطبيق العملي لسير الحوادث في القتال، فيمكن تلخيصها بثلاث سجايا بارزة هي مهارته في الرمي، أولا؛ وشجاعته وإقدامه ثانياً؛ وطاعته المطلقة وشدة ضبطه ثالثاً وأخيراً. لقد كان الرماة الماهرون معروفين في صفوف المسلمين بأسمائهم وكفايتهم المتميزة بالرمي، وهم الذين نطلق عليهم اليوم بموجب المصطلحات العسكرية الحديثة وصف الهدّافين، جمع هدّاف وهو الرّامي الماهر بالرمي.
وكان اعتماد النبي ﷺ في غزواته- وبخاصة غزواته الأولى- على الرماة الماهرين عظيماً جداً ، لأنّ المسلمين حينذاك كانوا يفتقرون إلى الخيول، بعكس المشركين الذين كانوا أغنياء بخيولهم، فكان المسلمون يعوضون بدقة الرمي عن نقص الخيول في صفوفهم، فلا بد أن يكون عبد الله بن جبير ماهراً بالرّمي ليتولى قيادة الرّماة في تلك الغزوة، ليكون قدوة لرجاله ، ولكي يستطيع قيادتهم بكفايته المتميزة على كفايتهم في الرمي.
ولكن القول بأنه كان من الرماة الماهرين لا يغني عن كل قول ، فلا بد أن يكون متميزاً بشجاعته وإقدامه ليضرب لرجاله في هذا المجال أروع الأمثال.
ولعلّ أكبر دليل على شجاعته وإقدامه ثباته العنيد مع عشرة من رجاله فقط، تجاه هجوم فرسان المشركين المؤلف من مائتي فارس بقيادة خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل فقد كانت المعركة بين عشرة من المشاة من جهة ومائتي فارس من جهة ثانية معركة غير متكافئة، لأن التفوق كمية ونوعية بجانب المشركين على المسلمين، فكانت المعركة معروفة النتائج سلفًا: الشهادة بالنسبة للرّماة العشرة المسلمين ، ولكنه ثبت ثبات الراسيات وقاتل قتال الأبطال ، واستقتل في الدفاع عن عقيدته، فربح شرف المعركة وشرف الثبات وخسر نفسه ولا تعد خسارته هذه شيئاً مذكوراً تجاه ثباته وشجاعته وإقدامه. أما سجّيته الثالثة ، فهي طاعته المطلقة وشدّة ضبطه المتين ، مما كان ولا يزال وسيبقى مثالاً رائعاً للطاعة المطلقة والضبط المتين لكل عسكري يعتد بشرفه العسكري قائدًا وضابطًا وضابط صف وجنديًا.
تلك هي مزايا عبد الله بن جُبَيْر القيادية وهي ثمرة من ثمرات عقيدته الراسخة وإيمانه العميق
عبد الله بن جُبَيْر في التاريخ
يذكر التاريخ لعبد الله بن جُبَيْر ، أنّه كان من المسلمين الأولين السابقين إلى الإسلام من الأنصار، وأنه بايع النبي ﷺ في بيعة العقبة الثانية، فوفى بما بايع عليه أعظم الوفاء.
ويذكر له، أن قيادته المتميزة للرماة في أحد جعلت المسلمين ينتصرون على المشركين في الصفحة الأولى من صفحات القتال، فلما خالف الرماة خسر المسلمون المعركة. ويذكر له أنه ثبت ثبات الأبطال بعد مخالفة الرماة، فقاتل لآخر سهم وآخر رمق، حتى استُشهد في ساحة القتال. ويذكر له أن طاعته المطلقة لرؤسائه مثال يجب أن يحتذى به في كل زمان ومكان لكل عسكري في كل جيش- ما دامت طاعته في طاعة الله ورسوله- وأن مخالفة قسم من الرماة مثال يجب أن نتجنبه في الحرب والسلام.
رضي الله عن الصحابي الجليل القائد الشهيد البطل الصنديد عبد الله بن جُبَيْر الأنصاري الأوسي.
(من كتاب قادة النبي صلى الله عليه وسلم)