نسبه وأيامه الأولى
هو زيد بن حارثة بن شَراحِيْل بن عبد العُزَّى بن امرىء القيس بن عامر بن النعمان بن عامربن عَبْدوُدّبن عَوْف بن كِنانة بن عَوْف بن عُذْرَة بن زيد اللات بن رُفَيْدَة بن ثَوْر بن كَلب بن وَبَرَة بن تغلب بن حلوان بن الجاف بن قضاعة بن مالك بن عمروبن مُرَّة بن مالك بن حِمْيَر بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان وإلى قحطان جماع (اليمن) وربما اختلف
الذين نسبوه في الأسماء وتقديم بعضها على بعض وزيادة شيء فيها ونقص شيء فيها.
ومن المعلوم أن العرب كانوا ولا يزالون يهتمون بحفظ أنسابهم تسجيلاً ورواية، ومصادر الأنساب في التراث العربي كثيرة جداً وحتى اليوم إذا زرت حياًمن أحياء العرب، وسألت طفلاً من أطفالهم عن نسبه، سرد عليك نسبه إلى بضعة أسماء أو أكثر وحفظ الأنساب غير معروف عند غير العرب من الأمم الأخرى، فلا غرابة في تشكيكهم باستمرار في صحة
الأنساب العربية ودقتها، والمرء عدو ما جهل.
ولا مجال للعربي الأصيل أن يتقبل تشكيك غير العربي بصحة أنساب العرب، ولكن الشك ينحصر في دقتها، وبخاصة إذا ارتفعت إلى عهود سحيقة في القدم.
وأم زيد: سُعدى بنت ثعلبة بن عبد عامر بن أفلت من بني مَعْنٍ من وزارت سُعدى أم زيد قومها وزيد معها فأغارت خيل لبنى القين بن جسر في الجاهلية، فمروا على أبيات بني مَعْن رهط أم زيد، فاحتملوا زيداً، إذ هو يومئذ غلام يَفَعة قد أَوْصَفَ فوافوا به سوق عُكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه منهم حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ لعمّته خديجة بنت خُوَيْلِد بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهبته له فقبضه رسول الله.
وفي رواية أخرى، أن زيداً كان قد أصابه سباء في الجاهلية، فاشتراه حكيم بن حزام في سوق حُبَاشة، وهي سوق بناحية مكة كانت مَجْمَعاً للعرب يتسوقون بها في كل سنة اشتراه حكيم لخديجة بنت خويلد، فوهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: رآه النبي يُنادى عليه بالبطحاء ، فذكره لخديجة، فقالت له يشتريه فاشتراه من مالها لهاثم وهبته للنبي صلى اللهع عليه وسلم ويقال: إن رسول الله ﷺ كان ابتاع زيداً بالشام لخديجة حين توجه مع مَيْسَرَة قيمها، فوهبته له.
والمتفق عليه، أنّ زيداً أصابه سباء، وكان حرًا فأصبح عبداً لخديجة ثم أصبح للنبي صلى الله عليه وسلم ولا أهمية للاختلاف في مَنْ اشتراه ولا في مكان بيعه.
وقد كان أبوه حارثة حين فقده قال :
بكَيْتُ على زيدٍ وَلم أَدْرِ ما فَعَلْ أَحَيُّ فَيُرْجَيْ أَم أَتَى دونَه الأجلْ
فوالله ما أدري وإن كنتُ سائلاً أغَالَكَ سَهْلُ الأَرض أَمْ غالَكَ الجَبَلْ
فيا ليت شعري هل لكَ الدَّهْرَ رجعةٌ فحسبي من الدنيا رُجوعُكَ لي بَجَلْ
تذكرنيـه الشمسُ عند طلوعها وَتَعرض ذكراه إذا قاربَ الطَّفل
وإِن هَبَّتِ الأرواحُ هيجن ذكره فيا طول ما حزني عليه ويا وَجَلْ
سأعمل نص العيس في الأرض جاهداً ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتي أو تأتي علي منيتي وكلّ امرىء فان وإن غره الأمل
وأوصي به قيساً وعَمْرًا كليهما وأوصي يزيداً ثم من بعدهم جَبَلْ
يعني جبلة بن حارثة أخا ،زيد وكان أكبر من زيد، ويعني بيزيد أخا زيد لأمه، وهو يزيد بن كعب بن شراحيل.
ثم إن ناساً من بني كلب حجوا ، فرأوا زيداً فَعَرَفهم وعرفوه، فقال: بلغوا أهلي هذه الأبيات فإني أعلم أنهم جزعوا عليّ، وقال:
أحن إلى قومي وإن كنتُ نائباً بأنـي قطيــن البيـت عنـد الـمـشـاعـر
من الوجد الذي قد شجاكُمُ ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فكفوا فإني بحمدالله في خَيْرِ أُسرَةِ كرام مَعمَدٌ كابرا بعد كابر
وانطلق الكلبيّون إلى ديارهم وأعلموا أباه بمكانه. ووصفوا له موضعه وعند مَّنْ هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل بفدائه، وقدما مكّة؛ فسألا عن النبى صلى الله عليه وسلم فقيل: هو في المسجدء فدخلا عليه؛ فقالا:
ايا ابن عبد الله! يا ابن عبد المطلب! يا ابن هاشم! يا ابن سيد قومه! أنتم أهل الحَرّمْ وجيرانه وعند بيته، تفْكُونَ العاني، وتُطعمون الأسيرء جئناك في ابننا عندك، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه؛ فإنا سنرفع لك في الفداء.
قال: مَنْ هو؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهل لغير ذلك؟.
قالواما هو؟ فقال: “ادَعُوه فخيّروه فإن اختاركم فهو لكما بغير فداء وإن اختارني، فوالله ماأنا بالذي أختار على
منْ اختارني أحداً”.
قالا: زدتنا في النصف وأحسنت، ودعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: هل تعرف هؤلاء؟
قال: نعم قال: من هُما؟
قال: «هذا أبي وهذا عَمّي»قال: «فأنا مَنْ قد علمت ورأيتّ صُحْبتي لك فاخترني أواخترهما» فقال زيد: «ما أنا بالذي أختار عليك أحداً أنت مني بمكان الأب والأم».
فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبوديّة على الحرّية وعلى أبيك وعَمّك وأهل بيتك؟ قال: «نعم! إني قد رأيت من هذا الرّجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا».
فلما رأى رسول الله ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: «يا مَنْ حضَر! اشهدوا أن زيدا ابني أرثه ويرثني، فلما رأى ذلك أبوه وعمّه طابت أنفسهما وانصرفاء فدعِي: زيد بن محمّد حتى جاء الله بالإسلام!
ويبدو من سياق هذا الحديث أنه جرى قبل مبعثه عليه الصّلاة والسّلام وكان قدوم حارثة وأخوه مكّة لفداء زيد قبل الإسلام أيضاً.
ومما يلفت النظرء أنّ زيداً قال لأبيه وعمّه: «إني قد رأيت من هذا الرّجل شيئاً؛ ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبدا» فما الذي رآه زيد في النبيّ ﷺ؟
حسن الخلق؛ وحسن المعاملة؟ ذلك صحيح» ولكته لا يكفي لاختياره، لأنّه اختيار صعب جداً؛ لا يكون إلا من أجل العقيدة وحدها فهي وحدها تدفع المرء المؤمن بها إلى التضحية بغير حدود.
وأرجّح أنّ قدوم حارثة وأخيه لفداء زيد كان بعد الإسلام. وأنّ زيداً كان قد أعلن إسلامه وارتبط ارتباطاً مصيرياً بالنبي ﷺ فهذا هو الذي راه زيد من هذا الرجل : «النبوّة».
ولعلّ الدليل على ذلك؛ ما جاء في مصدر واحد: «أنّ حارثة والد زيد أسلم حين جاء في طلب زيدء ثم ذهب إلى قومه مسلما”’ فإسلام زيد هو الذي جعله يختار النبي ﷺ على أبيه وأهله؛ وإسلام أبيه حارثة هو الذي جعله تطيب نفسه فينصرف راضياً.
إسلام زيد
كان الزّهريّ يقول: «أوّل مَنْ أسلم زيد بن حارثة»”» وكان يقول: «أول مَنْ أسلم من النساء خديجة» ومن الرّجال زيد بن حارثة»» وقال غير الزهري: إن أوّل من أسلم زيد بن حارثة!”.
وكان زيد وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه» يلزمان النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان كَل يخرج إلى الكعبة أوّل النّهار ويصلي صلاة الصّحى»؛ وكانت قريش لا تنكرها وكان إذا صلّى غيرها قعد علي وزيد بن حارثة يرصدانه!”.
وقيل : إنه أسلم بعد عليّ بن أبي طالب رضي لله عنه؛ فكان أوّل ذكر أسلم وصلّى بعد علي بن أبي طالب”.
وقيل: أوّل مَنْ أسلم خديجة» وأسلم علي بن أبي طالب بعد خديجة؛ ثم أسلم بعده زيد» ثم أبو بكر رضي الله عنهم جميعاًٌ
وقيل: أوّل مَنْ أسلم خديجة؛ ثم آمن من الصبيان علىٌ؛ ثم آمن من الرجال أبو بكر الصديق؛ ثم زيد بن حارثة”.
ولا أرى تناقضاً في تلك الآراء» فأوّل مَنْ أسلم من النساء خديجة أم المؤمنين رضي الله عنهاء وأوّل مَنْ أسلم من الرّجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه» وأوّل مَنْ أسلم من الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأول مَنْ أسلم من الموالي زيد بن حارثة رضي الله عنهم, فهؤلاء هم الأوائل في الإسلام.
وكان هؤلاء النّفر هم الذين سبقوا إلى الإسلام ثم تتابع الناس في الإسلام حتى فشا ذكر الإسلام بمكّة وتحدّث به الناس.
وفي مسألة إسلام أولئك النفر السّابقين خلاف مشهور ولكنّ تقديم زيد على الجميع ضعيف» ولا مسوّغ للخلاف فكلّهم أوائل في الإسلام. كل فرد منهم الأوّل على أمثاله من الناس، فإذا لم يكن زيد أوّل مَنْ أسلم فقد كان بالإجماع من أوائل مَنْ أسلم.
في الطّائف
تُوفي أبو طالب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وخديجة أمّ المؤمنين قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد خروجهم من الشّعب، شعب أبي طالب.
توفي أبو طالب في شؤّال أو في ذي القعدة وعمره بضع وثمانون سنة؛ وكانت خديجة ماتت قبله بخمسة وثلاثين يوماً؛ وقيل: كان بينهما خمسة وخمسون يوما وقيل: ثلاثة أيَامْ.
وعظمت المصيبة على رسول الله ﷺ بهلاكهما فقال رسول الله ﷺ: «ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب»» وذلك أنّ قريشاً وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى مالم يكونوا يصلون إليه في حياته.
فلما اشتدّ عليه الأمر بعد وفاة أبي طالب؛ خرج ومعه زيد بن حارثة إلى تَقِيْف يلتمس منهم التصر. فلما انتهى إليهم في مدينة الطائف؛ عَمَدِ إلى ثلاثة نفر منهم؛ وهم يومئذ سادة ثقيف؛ وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل ومسعود وحبيب؛ وبنو عمرو بن عُمَيْر؛ فدعاهم إلى الله وكلمهم في نصرته على الإسلام والقيام معه على مَنْ خالفه ولكنّهم ردّوه ردًا غير
كريم .
وقام النبيّ ﷺ وقد يئس من خير ثقيف وقال لهم: «إذا أبيتم فاكتموا علي ذلك»؛ وكره أن يبلغ قومه خبر إخفاقه؛ فلم يفعلوا. وأغروا به سفهاءهم» فاجتمعوا إليه والجؤوه إلى حائط لعْتْبّة وشيبة ابْنيْ ربيعة؛ وهو البستان وهما فيه. ورجع السُفهاء عنه؛ فجلس إلى ظلٌ نخلة وقال:
اللَهِمَ إليك أشكو ضعف قوتي وقلّة حيلتي وهواني على الناس! اللهم يا أرحمٌ الرّاحمين أنتّ ربّ المستضعفين وأنت ربي» إلى مَنْ تَكِلي؟ إلى بعيدٍ يتجهّمني أو إلى عدوٌ ملكت أمري؛ إنْ لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ! ولكنّ عافيتك هي أوسع. إني أعوذ بك بنور وجهك الذي أشرقث به الظلمات وصلحَ عليه أمرٌُ الدنيا والآخرة» من أن تُنزل بي غضبك أو تُحلّ بي سخطك.
وعاد النبيّ يِه أدراجه إلى مكّة؛ وعاد معه زيد الذي كان يلازمه ملازمة الظل ولا يفارقه طرفة عين بعد أن شهد رحلة النبيّ ﷺ إلى الطائف ورأى بعينيه ما لاقاه من صدود وأذى من أجل الدّعوة إلى الإسلام وفي سبيل الله.
الهجرة
لما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة المنوّرة هاجر زيد إليها فنزل على سعد بن خيثمة”.
وقيل: نزل حمزة بن عبد المطلب؛ وحليفه أبو مَرْثد كَناز بن حُصَيْن العْنَوِيٍّ وزيد بن حارثة الكلبيّ مولى رسول الله ﷺ على كلثوم بن الهدْم أخي بني عمرو بن عوف ِقباء ويقال: على سعد بن خيثمَة.
ومهما يكن الاختلاف في اسم الأنصاري الذي نزل عليه في المدينة أو في ضواحيها؛ فقد وجد له مستقراً يأوي إليه؛ ليستأنف جهاده في خدمة الإسلام. وفي المدينة آخى النبي بينه وبين أُسَيْد بن حضير” وقيل: آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين زيد وحمزة واخى بين زيد وأُسَيْد بن خُضَيْر.
وقيل: اخى بين زيد وحمزة.
ويبدو أنّ النبيّ ﷺ آخى بين زيد وبين حمزة قبل الهجرة وإليه أوصى حمزة يوم أحُد حين حضره القتال، إن حدث به حادث الموت.
أما مؤاخاة المدينة التي كانت بعد الهجرة إليها فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين زيد وأُسيْد بن خضير.
أما المؤاخاة بين زيد وبين جعفر بن أبي طالب فقد كان جعفر مهاجراً إلى الحبشة؛ وعاد منها هو وصحبه من المهاجرين ومَنْ دخل في الإسلام هناك وقدموا على رسول الله ﷺ في خَيبر، وكانت غزوة خيبر في شهر محرّم من السنة السابعة الهجرية. فمن المشكوك فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم آخى بين زيد وبين جعفر في تلك السنة المتأخرة من الهجرة؛ بينما جرت المؤاخاة بعد الهجزة مبكّراً.
وهكذا أصبح لزيد في موطنه الجديد قاعدة المسلمين الأمينة: المدينة مستقر يأوي إليه؛ وأخ يشدَ عضده؛ ومجتمع يتعاون معه في السرّاء والضرّاء.
في غزوة بدر الكبرى
خرج رسول اللهﷺ من المدينة باتّجاه موقع (بَدر) يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهراً من مُهاجّره؛ أي في السنة الثانية الهجريّة.
وكان مع المسلمين سبعون بعيراً فكانوا يتعاقبون عليها: البعير بين الرجلين والثلاثة والأربعة. وكان بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة بعير. وفي رواية أخرى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ بن أبي طالب ومَرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيراً؛ وكان حمزة وزيد وأبو كَبْشّة وأنّسة موالي رسول الله كل يعتقبون بعيرا. والرواية الثانية هي المعتمدة لإجماع أكثر المؤرخين عليها.
وكان من الرماة المذكورين من أصحاب النبيّ ﷺ في غزوة بدر الكبرى وكان لهؤلاء الرماة الأثر العظيم في إحراز المسلمين النصر في هذه الغزوة الحاسمة عند المشركين.
وقد قتل من المشركين يوم بدر حَنْظَلَة بن أبي سفيان بن صَخْر بن حرب بن أمية: وكان من مشاهير مشركي قريش.
وكان زيد البشير الذي أوفده النبيّ َﷺ إلى المدينة بفتح بدر، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيدبن حارثة إلى أهل (السافلة) من المدينة وبعث عبد الله بن رٌوَاحة إلى أهل (العالية) بشيرين بنصر المسلمين على المشركين في بدر. قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقَيّة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خَلَفنِي عليها مع عثمان أن زيد بن حارثة قَدِمَ؛ فجئته وهو واقف بالمصلّى وقد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبّة بن ربيعة؛ وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام وزَمعَة بن الأْسوّد، وأبو الَبحْتَرِيِ العاص بن هشام؛ وأمية بن خُلّف؛ وَنبيهٌ وُمنبه ابنا الحجّاج! قلت: يا أبتٍ!
أحق هذا؟! قال: نعم والله يا بني،!”.
وكان رجل من المنافقين قد قال لأسامة بن زيد: «قتل صاحبكم وَمَنْ معه وقال آخر منهم لأبي لبابَة: «قد تفرّق أصحابكم تفرّقاً لا يجتمعون بعده، وقتل محمّد وهذه ناقته نعرفها وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب،. قال أسامة بْن زيد: فأتيتُ أبي؛ فكذّب قول المنافقين، وهكذا استطاع زيد أن يبدّد مخاوف أهل المدينة؛ ويكذِّب إشاعات المنافقين المغرضة، ويعيد الهدوء والاطمئنان إلى المديئة.
لقد كان دور زيد في غزوة بدر الحاسمة دوراً بارزاً حقاً.
قائد سرية القَرّدَة
هي أوّل سريّة خرج فيها زيد أميراً وخرج لهلال جمادى الآخرة على رأس سبعة وعشرين شهرا من مُهاجّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في السّنة الثالثة الهجريّة.
وكانت قريش قد حذرت طريق الشام أن يسلكوها وخافوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وكانوا قوماً تجّاراً فقال صَفُوان بن أميّة: إنّ محمّداً وأصحابه؛ قد عوّروا علينا متجرنا فما ندري كيف تصنع بأصحابه، لا يبرحون السّاحل. وأهل السّاحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك، وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا ونحن في دارنا هذه. ما لنا بها نفاق. إنما نزلناها على التجارة: إلى الشام في الصّيف وفي الشتاء إلى أرض الحبشة؛ فقال له الأسود بن المطلب: فنكب!” عن السّاحل، وخذ طريق العراق،. ولم يكن صفوان عالماً بطريق العراق؛ فاستأجر دليلاً يدعى:
فرات بن حَيَّانَ الِعجْلِيَ الذي قال لصفوان: أنا أسلك بك طريق العراق، ليس يطأها أحد من أصحاب محمّد؛ إنما هي أرض نَجْدٍ وفياف. فقال صفوان: فهذه حاجتي، أما الفيافي فنحن شاتون، وحاجتنا إلى الماء اليوم قليل.
وتجهّز صفوان، وأرسل معه أبو زمعة بثلاثماثة مثقال ذهب ونقر فضّة، وبعث معه رجال من قريش ببضائع، وخرج معه عبد الله بن أبي ربيعة وخُوَيْطِبٍ بن عبد العُرّى في رجال من قريش، وخرج صفوان بمال كثير:
نُقر فضّة وآنية فضّة وزن ثلاثين ألف درهم وخرجوا على (ذات عِرق). وقدم المدينة نعيم بن مسعود الأشْجّعِيَ؛ وهو على دين قومه؛ فنزل على كنانة بن أبي الحُقَيْقَ في بني النّضير من يهود؛ شرب معه؛ وشرب معه سَليط بن النعمان بن أسلم – ولم تحرّم الخمر يومئذٍ – وهو يأتي بني الَّنضيْر ويصيب من شرابهم، فذكر نُعيْمِ خروج صَفوانَ في عِيره وما معهم من الأموال. فخرج من ساعته إلى النبيّ صل الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم
زيد بن حارثة في مائة راكب، فاعترضوا عِيْر قريش وأصابوهاوأفلتّ أعيان قريش وأسروا رجلا أو رجلين.
وقدم زيد بالعِير على النبيّ صلى الله عليه وسلم فخمسها فكان الخمس يومئذٍ قيمة عشرين ألف درهم، وقسم ما بقي على أهل السريّة. وكان في الأسرى، فرات بن حَيَان، فأتي به؛ فأسلم.
وهكذا صعّد النبيّ كَل بهذه الغزوة الحصار الاقتصادي على قريش، فهدد طريق تجارتهم إلى العراق أيضاً بعد أن هدّد طريق مكّة – الشام وطريق مكة – الطائف في غزواته وسراياه السابقة.
سرية زيد إلى سُلَيِم بالجّموم
بعث النبيّ صل الله عليه وسلم إلى بني سُلَيِم بِالجَمُومْ في شهر ربيع الآخر من سنة ست الهجريّة زيدا، فسار على رأس سريته التي لا نعرف تعداد رجالها حتى ورد الجّعُوم ناحية (بطن نّخل) عن يسارها وبطن نخل من المدينة على أربعة برد فأصابوا عليه امرأة من مُزينةَ يقال لها حليمة؛ فدلتهم على محلّة من محال بني سُليم، فأصابوا في تلك المحلة نَعَماً وشاءً وأسرى. فكان فيهم زوج حليمة المُزنيَّة. فلما قفل زيد بما أصاب، وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمُزنيّة نفسّها وزوجها فقال بلال بن الحارث في ذلك شعراً:
لعَمَركً! ما أخنى المّسُول ولا وَنَتْ حليمة حتى راح رَكبُهُمامعا
وكان الهدف من هذه السّرية تأمين المدينة القاعدة الأمينة للإسلام وفرض سيطرة المسلمين على القبائل التي حولها وتشديد وطأة الحصار الاقتصادي على قريش وحلفائها.
قائد سريّة العيص
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيداً إلى العيص وبينها وبين المدينة أربع ليالٍ؛ وبينها وبين ذي المَرْوَة ليلة؛ في جمادى الأولى سنة ست الهجريّة. فقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عِيراً لقريش قد أقبلت من الشّام، فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب يتعرّض لها فأخذوها وما فيهاوأخذوا يومئذٍ فضّة كثيرة لصفوان بن أميّة وأسروا أناساً ممن كان في العير منهم أبو العاص بن الربيع.
وقدم زيد بهم المدينة؛ فاستجار أبو العاص بزينب بنت رسول الله ﷺ فأجارته. ونادت زينب في الناس حين صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر: «إني قد أجرتُ أبا العاص!»» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما عملتٌ بشيءٍ من هذا وقد أجرنا مَنْ أَجَرْتِ»؛ ورد عليه ما أخذ منه.
وهكذا شدّد النبي صلى الله عليه وسلم الخناق في حصاره الاقتصادي على قريش التي تعيش على التجارة وتموت بدونها.
قائد سريّة الطرّف
بعث النبيّ ﷺ زيداً على سرية إلى الطَرّف في جمادى الآخرة من سنة ست الهجريّة؛ والطرف ماء قريب من المراض دون النخيل على ستة وثلاثين ميلا من المدينة طريق البُقّرة على المحجّة. وخرج زيد إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا فأصاب نَعَماً وشاء،
وهربت الأعراب، وصبّح زيد بالنّعم المدينة؛ وهي عشرون بعيراً، ولم يلق كيدا وغاب أربع ليالٍ؛ وكان شعارهم: أمت. . . أمت. …
وكان هدف هذه السريّة؛ تأمين المدينة القاعدة الأمينة للإسلام، وفرض سيطرة المسلمين على القبائل، بالهجوم عليهاء لأن الهجوم أنجع وسائل الدفاع، إذ أن الأعراب إذا لم يُهاجموا من المسلمين هاجموا المسلمين كما هو دأبهم.
قائد سريّة حسمى
بعث النبيّﷺ زيداً على سرية إلى حسمّى؛ وهي وراء وادي القُرى، في جمادى الآخرة من السنة السّادسة الهجريّة. وسبب بعث هذه السرية، أنّ دِحْيّة بن خليفة الكلبيّ – وكان مسلماً ومن كبار الصحابة – أقبل من عند قيصر الرُوم وقد أجاره وكساه؛ فلقيه الهُنيْد بن عارض وابنه عارض بن الهنيدِ في ناس من بني جُذَام بحسمى، فقطعوا عليه الطريق، ولم يتركوا عليه إلآ سَمَل ثوب، فسمع بذلك نفرٌ من بني الضبيب، فنفروا إليهم، واستنقذوا لدحية متاعه.
وقدم دحية على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة في خمسمائة رجل، ورد معه دحية. وكان زيد يسير اليل ويكمن النهار، ومعه دليل من بني عُذْرَة؛ فأقبل بهم حتى هجم بهم مع الصّبح على القوم. فأغاروا عليهم وقتلوا فيهم فأوجعوا وقتلوا الهُنيدِ وابنه؛ وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم، فأخذوا من النعم ألف بعير، ومن الشّاء خمسة آلاف شاة؛ ومن السبي مائة من النساء والصبيان.
ورحل زيد بن رفاعة الجذَامِيّ في نفرٍ من قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه الذي كان كتب له ولقومه ليالِيَ قدم عليه فأسلم، وقال: «يا رسول الله! لا تُحَرمْ علينا حلالاً ولا تُحلَ لنا حراماً»؛ فقال: «كيف أصنع بالقتلى؟»؛ قال أبو يزيد بن عمرو: «اطلِقّ لنا يا رسول الله مَنْ كان حي وَمَنْ قتل فهو تحت قدميّ هاتين»؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدّق أبو يزيد».
وبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ إلى زيد بن حارثة، يأمره أن يخلّي بينهم وبين حُرمهم وأموالهم فتوجّه عليّ؛ فلقي رافع بن مَكِيْث الجْهَنِي – بشيرٌ زيد بن حارثة – على ناقة من إبل القوم، فردّها علي على القوم، ولقي زيدا بالفُخْلتَيْن، وهي بين المدينة وذي المَّرْوَة؛
فأبلغه أمر رسول الله كل فردّ إلى الناس كل ما كان أخذ لهم وكان الهدف من هذه السرية؛ تأديب بني جُذام الذين اعتدوا على دحية بن خليفة الكلبيّ؛ وهم يعلمون أنّه أحد المسلمين، وليس النبيّ صلى الله عليه وسلم بالذي يرضى باعتداء أحد على مسلم من المسلمين، لأنّ الاعتداء عليه اعتداء على المسلمين كافة.
قائد سريّة وادي القُرى
بعث النبيّ ﷺ زيد بن حارثة على رأس سرية إلى وادي القُرى في رجب من السنة السادسة الهجريّة!، لتأديب بني فزارة؛ فأصييت هذه السرية وتسلّل زيد من بين القتلى وعاد إلى المدينة؛ فآلى على نفسه ألا يمنّ رأسه غسل جنابة حتى يغزو بني فزارة.
وفي رواية أن زيداً خرج في تجارة إلى الشام؛ ومعه بضائع لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان دون وادي القُرى ومعه ناس من أصحابه، لقيه ناس من بني فزارة من بني بدر،؛ فضربوه وضربوا أصحابه حتى ظنوا أن قد قتلوه وأخذوا ما كان معه. ثم استبل زيد؛ فعاد زيد إلى المدينة؛ وهذه الرواية أقرب إلى المنطق والعقل وسير الحوادث.
ويبدو أن المسلمين لم يكتفوا بقطع الطريق التجاريّة: مكة – الشّام على تجارة قريش، بل أرادوا استغلال هذه الطريق لتجارتهم بهدف تحسين أوضاعهم الاقتصادية، ولكنّهم أخفقوا في ذلك. إذ تبيّن لهم أن الوقت لا يزال مبكّراً لاستغلال هذه الطريق.
قائد سريّة أم قِرْفة بوادي القرى
بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم زيدا على رأس سريّة إلى أم قِرْفة بوادي القرى على سبع ليالٍ من المدينة؛ في شهر رمضان من السّنة السّادسة الهجريّة؛ وهي من فزارة من بني بدر.
وخرج المسلمون من المدينة؛ يكمنون النهار ويسيرون اليل وخرج بهم دليلٌ لهم. ونذرت بهم بنو بدر من فزارة، فكانوا يجعلون ناطورا لهم حين يُصبحون، فينظر على جبل لهم مشرفٍ وجة الطريق الذي يرون أنهم يأتون منه؛ فينظر قدر مسيرة يوم؛ فيقول: اسرحوا فلا بأس عليكم هذه ليلتكم.
فلما كان زيد وأصحابه على مسيرة ليلة؛ أخطأ بهم دليلهم الطريق، فأخذ بهم طريقاً أخرى، حتى أمسوا وهم على خطأ. وعرفوا خطاهم؛ ثم صمدوا لهم في الليل حتى صبّحوهم، وكان زيد نهاهم عن المطاردة؛ ثم أمرهم ألا يتفرّقوا وقال: «إذا كِبَرَتُ فكبّروا»؛ ثم أحاط بفزارة في بيوتهم» وكبّر وكبروا فخرج مَسْلَمَة بن الأكوّع؛ فطلب رجلا منهم حتى قتله؛ وأخذ جارية بنت مالك بن حُذّيفة بن بدر وجدها في بيت من بيوتهم؛ وهي ابنة أم قِرْفَة. واسم أم قَرْفّة: فاطمة بنت ربيعة بن بدر. كما أخذوا أم قرفة فقتلها قيس بن المُحسّر؛ وقتل النعمان وعبيد الله ابني مَسْعّدة بن حَكَمَة بن مالك بن بدر.
وكانت العرب تقول: “لو كنت أعز من أم قرفة”؛ لأنّها كانت يُعلَق في بيتها خمسون سيفاً كلّهم لها ذو محرم.
وعاد زيد إلى المدينة؛ فقرع باب النبيّ صلى الله عليه وسلم فخرج إليه مسرعاً واعتنقه وقبّله؛ فأخبره زيد بانتصاره وغنمائه.
أما جارية ابنة أم قرفة؛ فقد وهبها مَسْلَمَةَ بن الأُكوّع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبها لحَزْن بن أبي وَهْب خال النبيّ صلى الله عليه وسلم فولدت له امرأةً ليس له منها ولد غيرها.
وهكذا أخذ زيد بثأر المسلمين الذين قتلتهم فزارة؛ وأعاد هيبة المسلمين إلى تلك المنطقة؛ ولقّن فزارة درساً لا ينسونه أبداً كما لقن غيرها من القبائل مثل هذا الدرس.

قائد سريّة مؤْتَة
بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم زيداً على سرية إلى مُؤْتَةَ في جمادى الأولى سنة ثمان الهجرية؛ وكان سبب بعث هذه السرية أنّ النبيّ ﷺ بعث الحارث بن عُمَيْر الأزدِيَ أحد بني لِهبٍ إلى ملك بصرّى بكتاب؛ فلما نزل مُؤْتة عرض له شُرحبيْل بن عمرو الثاني فقتله ولم يُقْتَلْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ غيره، فاشتدّ ذلك عليه وندب الناسّ فأسرعوا وعسكروا بالجُْرف وهم ثلاثة آلاف. فقال رسول الله ﷺ: «أمير النّاس زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قل فعبد الله بن رواحة؛ فإن قُيِل فليرتضٍ المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه عليهم».
وعقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لواءً أبيض دفعه إلى زيد وأوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا مقتل الحارث بن عُمير وأن يَدْعُوا مَنْ هناك إلى الإسلام. فان أجابوا وإلاّ استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم. وخرج مشيّعاً لهم
حتى بلغ (ثنية الوَدَاع)؛ فوقف وودّعهم؛ فلما ساروا من مُعُسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكم ورذكم صالحين غانمين! فقال عبد الله بن رٌواحة :
لكنني أسأل الرحمّن مغفرة
وضَرْبَةٌ ذات فرع تقذف الزبدا
ولما فصلوا من المدينة؛ سمع العدو بمسيرهم فجمعوا لهم؛ وقام فيهم شُرَحْبِيل بن عمرو، فجمع أكثر من ماثة ألف، وقدّم الطلائع أمامه.
ونزل المسلمون (معّان)”من أرض الشام، وبلغ الناسّ أن هَرَقْلِ قد نزل (مَآب)”” من أرض البلقاء في مائة ألف من بَهْراء ووائل وبكْر ولَحُم وجُذام .
وأقام المسلمون ليلتين لينظروا في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر. . . فشجّعهم عبد الله بن رٌواحة على المُُضِيٌ؛ فمضوا إلى مُؤْتة.
ووافاهم المشركون، فجاء ما لا قبل لأحدٍ به من العّدد والّسلاح والكراع والديباج والحرير والذّهب. فالتقى المسلمون والمشركون؛ وقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل، وقاتل المسلمون معه على صفوفهم، حتى قتل طعناً بالرّماح رحمه الله. ثم أخذ اللواءً جعفر بن أبي طالب، فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها. فكانت
أوّل فرس عُرْقبت في الإسلام. وقاتل حتى قتل رضي الله عنه؛ ضربه رجل من الروم فقطعه بنصفين. فوجد في أحد نصفيه بضعة وثلاثون جرحا ووجد في بَدَن جعفر اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح. ثم أخذ اللواء عبد الله بن رَواحة؛ فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
واصطلح الناس على خالد بن الوليد؛ فسحب قوّات المسلمين من ساحة المعركة وحمى بالسّاقة انسحابهم فكانت عملية الانسحاب التي طبّقها خالد من العمليات الانسحابية الفذّة في تاريخ الحروب.
ولما سمع أهل المدينة بجيش مُؤْتة قادمين تلقوهم بالجُرف فجعل الناس يُحْثون في وجوههم الترابٌ ويقولون: يا فرّار! أفررتم في سبيل الله؟
فيقول رسول الله كي “ليسوا بِفرَار ولكنهم كُرّار إن شاء الله”.
وهكذا ضحى زيد بروحه رخيصة في سبيل الله مُقبلاً غير مُدبر؛ رافعاً لواء الإسلام عالياً. لم يعفّره بالتراب في حياته؛ فلما استُشهد لم يُعفْر بالتراب المجبول بدم الشهيد؛ بل رفعه فوراً للقائد الجديد.
الإنسان
استُشهد زيد في مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان الهجريّة 629م وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من زيد بعشر سنين, أي أنّ زيداً ولد سنة (581 م)؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل وهو سنة (571 م)؛ ومعنى
ذلك أن زيداً عاش ثماني وأربعين سنة شمسيّة ونحو خمسين سنة قمريّة.
ولكن هناك نصوص على أنه استُشهد وله من العمر خمس وخمسون سنة والرواية الأولى أرجح لأنّها المعتمدة عند أكثر المؤرخين المعتمدين .
وكان زيد رجلا قصيراً آدم شديد الأدمة؛ في أنفه فطس وفي رواية: أنه كان أبيضٌ أحمر؛ والتناقض بين الروايتين واضح. والرواية الأولى هي الصحيحة؛ لاعتمادها من أكثر المؤرخين الثقاة.
ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر قتل جعفر وزيد بكى وقال: «أخواي ومؤنساي ومحدّثاي»؛ وشهد له رسول الله ﷺ بالشهادة.
ولما أصيب زيد، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم أهله؛ فجهشت زينب بنت زيد في وجهه؛ فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتحب، فقال له سعد بن عُبادة:
«يا رسول الله! ما هذا؟»» قال: «هذا شوق الحبيب إلى حبيبه» ولا عجب في ذلك فقد كان زيد ِحب رسول الله ومولاه.
وقد دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم لزيد وجعفر وابن رواحة بعد استشهادهم فقال:
«اللّهم اغفر لزيد اللّهم اغفر لزيد اللّهم اغفر لزيد اللّهم اغفر لجعفر وعبد الله بن رواحة».
وقال حسّان بن ثابت يرثي زيداً:
عَيْنِ جودي بدمعك المَنْزُورِ واذكري في الرَّخاءٍ أهلّ القبور
واذكري مُؤْتَّةٌ وماكانً فيها يومّ راحوا في وقعَةِ التّغوِير
حين راحوا وغادروا ثمٌ زَيْداً نعم مأوى الضرِيكِ والمأسور
حب خير الأنام طرا جميعاً سيّدٍ الناس حبّه في الصُّدور
ذاكمو وأحمد الذي لا سواه ذاك حُزْني له معآ وسروري
إنّ زيداً قد كان منا بأمرٍ ليس أمر المكّذَّبٍ المغرور
ثم جودي للخزرجي بدمع سيُّداكان ثَم غيرَ نَزُورا
قد أتانا من قتلهم ما كفانا فبحْرْنٍ بيت غير سرور
وقد كان لزيد صلة مباشرة متينة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فقد آثره زيد على أهله كما ذكرنا في قصّة محاولة فدائه فتبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زيد: دما كنا ندعوه إلا زيد بن محمّد حتى نزلت: «اذعُوْهُم لأبائهم”؛ فدعي: زيد بن حارثة. ودعي الأدعياء إلى آبائهم. فدعي المقداد بن عمرو وكان يقال له قبل ذلك المقداد بن الأسود لأنّ الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه.
وكان زيد يسمى: زيد الحبّ؛ لأنّه حب رسول الله َ وأبو حبّه أسَامة بن زيد الذي فرض له عمر في العطاء أكثر مما فرض
لابنه عبد الله بن عمر وعلّل ذلك عمر لابنه: إنّه كان أحبّ إلى رسول الله منك. وإنّ أباه كان أحبٌ إلى رسول الله من أبيك.
وقال رسول الله صلى الله عليه: يا زيد! أنت مولايٍّ ومني وإليّ وأحبٌ القوم إلي» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» وقال: «أنت مولاي؛ ومني وأحبٌ القوم إلي».
وكانت عائشة أم المؤمنين تقول: «ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم، ولو بقي بعده استخلفه . وكان النبي الله إذا لم يَغْزُ لم يعط سلاحه إلا لعلي أو لزيد .
ذلك مبلغ حبّ النبي صلى الله عليه وسلم لزيد وتقديره له، ولن يكون هذا الحب وهذا التقدير إلا لشخصية لها سجاياها المتميزة وإخلاصها النادر وإيمانها العميق .
وزوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنة عمته زينب بنت جحش زيداً، وهي التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زيد، فتكلّم المنافقون والمشركون وقالوا: محمد يحرم نساء الولد، وقد تزوّج امرأة ابنه فأنزل الله عزّ وجلّ : (ما كانَ محمد أبا أَحَدٍ من رِجَالِكُمْ ولكن رسولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمًا ) ونزلت : (ادْعُوْهُمْ لَآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّيْنِ وَمَوَالِيْكُمْ)، فدعي يومئذ زيد بن حارثة، ونُسب كلّ مَنْ تبنّاه رجل من قريش إلى أبيه.
وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تقول: «لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية: ﴿وَإِذْ تَقُوْلُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عليهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: أَمْسِكْ عليكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيْهِ، وتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُوْنَ على الْمُؤْمِنِيْنَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِم إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً )، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها ـ يعني زينب بنت جحش – قالوا : إنّه تزوج حليلة ابنه ، فإنّ العرب إذا تبنت غلاماً أنزلته منزلة الولد حتى في الإرث وتحريم نكاح
زوجته، وكان من سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم ،وطريقته، إذا نسخ الله شيئاً من الجاهلية أن يُسرع إلى الفعل، ليقتدي به، فلما زوّج زينب بنت جحش من زيد، وأذن الله بنسخ عادة الجاهلية أمر الله أن يطلقها زيد ويتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبطل عادة الجاهلية بالفعل للعلّة التي ذكرها الله في كتابه العزيز : (لِكَيْ لا يَكُوْنَ على المؤمنينَ حَرَجٌ في أزواج أدعيائهم).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أحبُّ النّاس إليَّ مَنْ أَنْعَمَ الله عليه وأنعمت عليه ـ يعني زيد بن حارثة – أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتق.
ومن الواضح، أن النبي زوج زيداً زينب بنت جحش، وهي ابنة عمته، ليبطل عادة جاهلية في الترفع على الموالي وعدم تزويجهم الحرائر وبنات الأشراف، وكان زواجها بزيد شديداً على نفسها، قالت زينب رضي الله عنها : خطبني عدّة من قريش، فأرسلت أختي حَمْنَة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستشيره، فقال: أين هي ممّن يعلمها كتاب الله وسنة نبيها؟ قالت : ومَنْ هو يا رسول الله؟ قال زيد فغضبت حمنة غضباً شديداً وقالت : يا رسول الله ! أتزوّج ابنة عمتك مولاك !! فجاءت فأخبرت زينب، فغضبت أشدّ من غضب أختها وقالت أشدّ من قولها، فأنزل الله تعالى : (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أنْ يكونَ لَهُمُ الخِيَرَة من أمرهم) ، فأرسلت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول : زوجني مَنْ شئت، فزوجني من زيد».
لقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم تقاليد الترفع عن تزويج الموالي بالحرائر من بنات الأشراف وتقاليد تحريم الزواج بامرأة الابن بالتبني، وأعتقد أنه لو لم يطبق إبطال تلك التقاليد عملياً بنفسه وعلى نفسه لصعب تطبيقها على غيره، وهي تقاليد جاهلية بالية أبطلها الإسلام، فجعل التفاضل بالتقوى لا بالأحساب وبالتمسك بالدين لا بالتمسك بالأنساب .
ولست أنسى حديثاً سمعته في المدينة المنورة من شيخ معروف من الشيوخ المسلمين، يستنكر فيه إقدام شخصيات من عوائل عريقة في المدينة على تزويج قسم من بناتهم الشريفات برجال قدمهم علمهم ومناصبهم الحكومية وأخرهم نسبهم وحسبهم، وقد مضى على الإسلام خمسة عشر قرناً، وذهبت تقاليد الجاهلية إلى غير رجعة، وهذا يدل على مبلغ التضحية التي أقدم عليها النبي صلى الله عليه وسلم وعظم الشجاعة التي حققها بإقدامه على زواج زينب من ،مولاه وزواجها بعد أن طلقها مولاه .
إن التضحية والشجاعة المعنويتين اللتين تحملهما الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسّلام في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها لا تقلان عن أي تضحية وشجاعة ماديتين إن لم تكونا أعظم أثراً وأبلغ تأثيراً، فكان القدوة الحسنة والمثال الشخصي في تطبيق أصعب تشريعات الإسلام على نفسه قبل غيره فاجثت بذلك تقاليد جاهلية بالية، ولكن لا تزال آثارها باقية بين العرب المسلمين حتى اليوم وهناك مَنْ لا يتحمّل تطبيق اجتثاثها على نفسه من العرب المسلمين غير المؤمنين حقا من الطيبين الأخيار .
وما دمنا قد تطرقنا إلى زواج زيد بالسيدة زينب، فلا بد من إكمال الحديث عن زواجه بنسائه الأخريات. فقد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم مولاته أم أيمن فولدت له أسامة بن زيد حب رسول الله وابن حِبَّه، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاته، وكان اسم أم أيمن بركة، كانت قد تزوّجت بمكة في الجاهلية عُبيد بن عمرو بن بلال بن أبي الحرباء بن قيس بن مالك بن ثعلبة بن جشم بن مالك بن سالم بن غنم بن عوف بن الخزرج، فولدت له أَيمن بن عُبَيْد، فكنيت به . واستشهد أيمن يوم حُنَيْن، ومات عُبَيْد عن أم أيمن، فكانت فارغة لا زوج لها، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا.
وتزوج زيد أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيْط ، فقد أقبلت أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيْط، وأمّها أَرْوَى بنت كريز بن ربيعة، وأم أروى هي أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب – مهاجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم – فخطبها الزبير بن العوام، وزيد بن حارثة وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، فاستشارت أخاها لأمها عثمان بن عفان، فأشار عليها أن تأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فأتته، فأشار عليها بزيد بن حارثة فتزوجته، فولدت له زيدا ورقية، فهلك زيد وهو صغير، وماتت رقية في حجر عثمان. وطلّق زيد أم كلثوم، فخلف عليها عبد الرحمن بن عوف ثمّ الزبير، ثم عمرو بن العاص وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير وكان قد تزوج قبلها دُرّة بنت أبي لهب ثم طلقها.
وتسلسل زوجات زيد بحسب الأقدمية أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وحاضنته، ثم زينب بنت جحش ولما طلّق زينب زوجه أم كلثوم بنت عُقْبَة، ثم طلق أم كلثوم وتزوّج دُرَّة بنت أبي لَهَب بن عبد المطلب، ثم طلقها وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير ، وهكذا سعى النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوج زيداً كرائم النساء وأقربهنّ نسباً به، لأنه حبه ومؤتمنه وموضع ثقته، ولكي يجتث تقاليد جاهلية عريقة بالية في الزواج، ولكن بعض المسلمين عادوا إلى تلك التقاليد الجاهلية البالية فعادت إلى الحياة من جديد.
وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم زيداً على المدينة المنورة مرتين: المرة الأولى في خروجه إلى غزوة (بواط)
في شهر ربيع الأول سنة اثنتين الهجرية. والمرة الثانية في غزوة بني المُصْطَلِق من خُزاعة في (المُرَيْسِيع) قرب مكة التي كانت في شهر شعبان سنة خمس الهجرية، وهذا دليل على اعتماد النبي على كفاية زيد الإدارية .
وأوفده النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة مع أبي رافع مولاه، فحملا سَوْدة بنت زَمْعَة، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأم كلثوم ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم زيد وأبو رافع بزوج النبي وابنتيه المدينة والمسجد يبنى. وأوفده مع رجل من الأنصار إلى مكة لحمل زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقال لهما : كونا ببطن (يَأْجِج) حتى تمرّ بكما زينب، فتصحباها حتى تأتياني بها، فخرجا إلى مكة بعد غزوة بدر الكبرى بشهر أو قريب منه، فاستلمها زيد وصاحبه، وقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل على ثقته العالية بأمانة زيد وحسن تصرّفه ورجاحة عقله.
ولم يسم الله سبحانه وتعالى أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب غيره من الأنبياء إلا زيد بن حارثة ، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا).
روى أربعة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية أخرى أنه روى حديثين فقط.
ومضى أبو أسامة حب رسول الله وأبو حِبّه إلى جوار ربه بعد أن عاش خمسين سنة قمرية. كان فيها منذ عَقِل إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم المولى والأخ والحبيب فأدى ما عليه من واجبات جسام كأحسن ما يكون الأداء، فاستحق تقدير النبي وحبه ورضاه وتقدير المسلمين وحبهم ورضاهم في الماضي والحاضر والمستقبل، وكان ولا يزال وسيبقى أسوة حسنة للمؤمنين المخلصين الصادقين.
وقد ترك زيد آثاره الباقية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، كما ترك آثاره الباقية في خدمة الدين الحنيف داعياً ،ومجاهداً، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء وفي السّلام والحرب، رضي الله عنه وأرضاه.
القائد
بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من حَجَّة الوداع، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر من السنة الحادية عشرة الهجرية (٦٣٢ م)، فأمر بتجهيز جيش كبير فيه أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وسعد بن أبي وقاص وأبو عُبَيْدَة بن الجراح رضي الله عنهم، وجعل هذا الجيش بأمرة أسامة بن زيد، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء، والداروم من أرض فلسطين .
وتأخر تجهيز هذا الجيش لمرض النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، ثم قال : أيّها النّاس انفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته، لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله وإنه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقاً لها، وفي رواية الإمام البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “أَنْ تَطْعُنُوا في إمارته، فقد كنتم تَطْعُنُون في إمارة أبيه من قبل. وايْمُ اللَّهِ، إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإنَّ هذا لمن أحب الناس إلي بعده”.
وهذا تقويم لكفاية زيد القيادية وكفاية ابنه أسامة القيادية أيضاً، يفوق كل تقويم، لأنه تقويم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعادله ولا يقاربه أي تقويم آخر . وقد كانت عائشة أم المؤمنين أقرب المقربين للنبي صلى الله عليه وسلم وأعرفهم به تقول: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم، وتقول: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم ولو بقي بعده لاستخلفه.
ذلك هو مبلغ تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لكفاية زيد القيادية وثقته الكاملة به واعتماده المطلق عليه، وهو تقدير عظيم وثقة بالغة واعتماد هائل، استحقه زيد بمزاياه القيادية أولاً وقبل كل شيء، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي ثقته الكاملة إلا لمن يستحقها بجدارة، وكان يبني الإنسان المسلم بالعقيدة الراسخة، والأسوة الحسنة التي يضربها للمسلمين كافة بشخصه الكريم، وبتولية الرجل المناسب للعمل المناسب ليقود الأمة أفضل رجالها عقيدةً واقتداراً بالنسبة للواجبات والمسؤوليات التي يتقلدونها.
فما الذي يستطيع القادة أن يتعلموه من سجايا زيد القيادية؟
كان من الرماة المعدودين المذكورين من بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أي أنه كان هدافاً من الهدافين كما نطلق على أمثاله في المصطلحات العسكرية الحديثة، وقد استغلّ هذه المزية في غزوة بدر الكبرى، فقتل أحد أبرز سادات قريش ممن ذكرهم المؤرخون، وقتل غيره ممن أغفل التاريخ كما استغل هذه المزيّة في الغزوات التي شهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم وهي غزوة بدر والخندق والحُدَيْبِيَّة وخَيْبَر وغيرها، كما استغلها في السرايا التي قادها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي تسع سرايا، ورد ذكرها في هذا البحث . وكان من الفرسان الماهرين تدرب على الفروسية كأي عربي آخر في محيطه فبرع بها وأتقنها إتقاناً متميزاً.
ومن دراسة السرايا التي قادها ،زيد تظهر لنا بوضوح أنها (غارات) لها تأثير معنوي على الأعداء بالدرجة الأولى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوخى من تلك السرايا إثبات قوة المسلمين عمليّاً، حتى يحول دون مهاجمة المسلمين من أولئك الأعداء، وكان بهذه السرايا يطبق الفكرة السوقية المعروفة: الهجوم أنجع وسائل الدفاع. لقد كان واجب زيد في سراياه هو خوض معركة معنويات بالدرجة الأولى، تعتمد على المباغتة والاندفاع والحرب الخاطفة، ومثل هذا الواجب بحاجة إلى قائد يتميّز بالشجاعة الخارقة التي تضمن الإقدام والاندفاع، ويتميز بالعقيدة الراسخة التي تستهين بالأخطار.
ويتميز بالعقلية الراجحة التي تتبصر بالعواقب، وتتميّز بعد كلّ ذلك بالفتوة التي تتحمل المشاق ولا تبالي بالأهوال .
وقد لمسنا شجاعة زيد في الغزوات التي شهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي سراياه التي قادها ولمسنا شجاعته في الواجبات الأخرى التي ألقاها على عاتقه النبي صلى الله عليه وسلم في استصحاب بناته وزوجته في الهجرة، في وسط يعج بالأعداء والحاقدين والموتورين من المشركين .
وقد نشأ زيد في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فآمن أوّل مَنْ آمَن أو مع أوّل من آمن، وأصبح مستعداً للتضحية بكل شيء في سبيل عقيدته التي آمن بها . أما عقليته الراجحة، فقد ظهرت بوادرها منذ نعومة أظفاره، وما تفضيله النبي صلى الله عليه وسلم على أبيه وإخوته وعمه وآل بيته، إلا نموذج من نماذج عقليته الراجحة الحصيفة، وطالما استشاره النبي صلى الله عليه وسلم في معضلات الحرب والسلام .
أما شبابه وفتوته، فيكفي أن نذكر أنه مات في الخمسين من عمره، وهو في أوج قوته وعطائه .
وما أشبه سماته القيادية تلك بسمات قيادة ابنه أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه .
لقد قضى الإسلام – مع ما قضى عليه من تقاليد الجاهلية، على الأنفة من تأمير مَنْ لم تُقَدِّمه السن، والاستمساك بعرى التفاضل بالأنساب والأحساب والعشائر والقبائل .. إنّ التفاضل في الإسلام يخضع للتقوى وصالح الأعمال، بالإضافة إلى الكفايات المناسبة للعمل المناسب.
وقد رفعت مزايا زيد القيادية وإيمانه الراسخ العميق إلى الإمارة .
لقد كان لزيد قابلية فذة لإعطاء قرار سريع صحيح في الوقت والمكان المناسبين، وكانت كلّ سراياه بحاجة ماسة إلى إصدار قرارات سريعة وصحيحة، وحين وجد العدو في سريّة مُؤْتَة قد حشد له ما لا قبل للمسلمين به عزم أن يتريث في قبول المعركة غير المتكافئة ويستشير النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف الجديد، ولكنّ المتحمسين من المجاهدين الذين خرجوا للجهاد طلباً للشهادة وعلى رأسهم عبد الله بن رواحة، أرادوا لقاء العدو مهما تكن نتائج هذا اللقاء، فانصاع زيد لنداء العاطفة، ويبدو أنّ الأحداث تطوّرت بسرعة عظيمة فاضطرت المسلمين إلى قبول المعركة، فكانت سرية مؤتة إخفاقاً تعبوياً ولكنّها كانت نصراً سَوْقياً، جعلت الرّوم جيران المسلمين في الشمال يلمسون عملياً بأن العرب بالإسلام أصبحوا خلقاً جديداً، فأصبحت حربهم ليست حرباً عابرة، بل هي حرب لها ما بعـدهـا كـأيـة حـرب نظاميّة تتميّز بإرادة القتال وبالنظام والتنظيم والاستمرارية .
وكان زيد ذا إرادة قوية ثابتة، استطاع أن يتغلب بسهولة ويسر على كثير من المصاعب والعقبات في سراياه التي كان أكثرها يَتَّسِمُ بالمغامرة والمشاق، فنجح بفضل إرادته على ما صادفه من معضلات ومشاق . وكان من أولئك القادة الذين يتحملون المسؤولية ويتقبلونها قبولاً حسناً، ولا يتملّصون منها بإلقائها على عواتق الآخرين .
وكان ذا نفسيّة ثابتة لا تتبدّل : لا يطربها النصر فيؤدي بها إلى مزالق الشطط، ولا يقلقها الاندحار فيحملها إلى مهاوي الانهيار، والشطط والانهيار تلحق الكوارث بالقائد ورجاله . وما دام المرء لا يعمل لنفسه بل يعمل للمصلحة العامة، وتكون نيته خالصة لوجه الله فإن نفسيته تكون ثابتة لا تتغيّر. وكان عارفاً بنفسيات رجاله وقابلياتهم، لأنه نشأ بينهم وعمل معهم، وعايشهم طويلاً في حالتي الحرب والسلام إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المقربين وآل بيته الطاهرين، فكان يكلف كلّ فرد منهم بما يناسب نفسيته وقابليته .
وكان يثق برجاله ثقة مطلقة، ويثق به رجاله ثقة مطلقة، والثقة الأساس القوي للتعاون بين القائد وجنوده، ولا تعاون بدون ثقة متبادلة. وكان يحبّ رجاله حبّ الأخ لأخيه، ويحبه رجاله حباً لا مزيد عليه، والحبّ المتبادل هو العامل الحيوي لإرساء أسس التعاون الوثيق الذي يقود إلى النصر .
وكان يتمتع بشخصية قوية نافذة جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يوليه السرايا التي فيها أمثال أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم ويوليه إمرة المدينة المنورة في بعض غزواته مما يدلّ على شخصيته القوية النافذة.
وكانت له قابلية بدنية فائقة، ساعدته على قطع المسافات الشاسعة بسرعة، وتحمّل أعباء السفر والقتال دون كلل ولا ملل ولا تعب ولا إنهاك .
وكان له ماض ناصع مجيد في خدمة الإسلام والمسلمين، وخدمة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان يساوي بينه وبين رجاله لا يستأثر دونهم بالخير، ويترك لهم المتاعب، بل يؤثرهم بالأمن والدعة والاطمئنان ويستأثر دونهم بالأخطار والمصاعب والمشاق . وكان يستشير أصحابه وبخاصة ذوي الرأي منهم، ويأخذ بآرائهم ويضمها في حيز التطبيق العملي .
واستناداً إلى مبادىء الحرب، فقد كان زيد يختار مقصده ويديمه، ويفكر في أقوم وسيلة للوصول إليه، ثم يقرر الخطة المناسبة للحصول عليه. وكانت سرايا زيد كلّها تعرضيّة تشيع فيها روح المباغتة، وكانت جميع سراياه عدا سرية مُؤتَة مباغتة كاملة لأعداء المسلمين، لذلك استطاع الانتصار عليهم بالرغم من قلة قواته بالنسبة إلى كثرة قواتهم، وبالرغم من وجودهم في بلادهم بينما كانت خطوط مواصلات زيد بعيدة عن المدينة قاعدة عمليات المسلمين الرئيسة .
كما أن زيداً كان يحشد قواته قبل الإقدام على خوض المعركة، وكان يديم معنويات تلك القوات ويمكن اعتبار سراياه في هدفها الرئيس سرايا معنويات بالدرجة الأولى كما ذكرنا من قبل.
وكان يطبق مبدأ الأمن، فلم يستطع العدو مباغتة سرايا زيد في أية معركة خاضها، وحتى سرية مُؤْتَة لم يُبَاغَت بتفوّق القوات المعادية على قوات المسلمين عَدَداً وعُدَداً، ولكنه اختار لنفسه الشهادة، فكان له ما أراد . وكانت سرايا زيد تتحلّى بالطاعة المطلقة، وهي ما نسميه اليوم: الضبط المتين، كما امتازت سراياه بالشجاعة والإقدام والجلد والصبر والمصابرة وتحمّل المشاق، وهي الصفات المعنوية الباقية على الزمان لكل جيش متماسك في كل زمان ومكان.
وكان زيد يتحلّى بنفس مزايا جيشه المعنوية، وكان مثالاً شخصياً رائعاً لسراياه في كل تلك المزايا والصفات.
لقد كان زيد قائداً متميزاً حقاً.
زيد في التاريخ
يذكر التاريخ لزيد أنّه أصابه سباء في الجاهلية، فطوّحت به الأقدار بعيداً عن أهله ليصبح في كنف النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. وأن أباه وعمه وإخوته أرادوا فداءه، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم على أبيه وعمه وإخوته، فارتبط مصيره بالإسلام والمسلمين.
وأنه كان أوّل مَنْ أسلم أو من أوّل مَنْ أسلم، فكان أوّل من أسلم من الموالي بدون خلاف.
وأنه رافق النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدينة الطائف لدعوة بني ثقيف إلى الإسلام، فشهد أقسى ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من ثقيف في رحلته الصعبة الشاقة.
وأنه هاجر إلى المدينة المنوّرة، وحمل معه قسماً من بنات النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته.
وأنه شهد بدراً وأحداً والخندق وغيرها من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وأبلى فيها أعظم البلاء.
وأنه تولى قيادة تسع سرايا من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم فكان أكثر قادة النبي صلى الله عليه وسلم في قيادة سراياه .
وأنه الوحيد الذي ذكر بالاسم من بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب النبيين والمرسلين في القرآن الكريم.
وأنه كان حب رسول الله الله وأبا حِبّه أسامة بن زيد الكلب. وأنه توج حياته الحافلة بالجهاد المتواصل بالشهادة، فضحى بنفسه فداءً لعقيدته، ولم يُضَحَ بعقيدته فداءً لنفسه .
رضي الله عن الصحابي الجليل القائد الشهيد، الإداري الحازم، حب رسول الله زيد بن حارثة الكلبي.
(من كتاب قادة النبي صلى الله عليه وسلم)