“منا خير فارس في العرب، عبد الله بن جحش” (محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)
“كان عبد الله بن جحش خيراً مني” (سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه)
نسبه وأيامه الأولى
هو عبد الله بن جَحْش بن رئاب بن يَعْمَر بن صَبِرَة بن مُرَّةَ بن كَثِير بـ غَنْم بن ذُوْدَان بن خُزَيْمَة الأَسَدِي.
أمه: أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وهو حليف لبني عبد شمس، وقيل : حليف حَرْب بن أُمَيَّة بن عبد شمس، وإذا كان حليفاً لحرب بن أمية، فهو حليف لعبد شمس، لأنه منهم، فهو حليف لعبد شمس على كل حال .
كان من المسلمين الأولين السابقين إلى الإسلام)، فقد أسلم قبل دخول رسول الله دار الأرقم بن أبي الأرقم ، فهو أحد السابقين إلى الإسلام.
وكان عبد الله هو وأخوه أبو أحمد عبد بن جحش من المهاجرين الأولين ممن هاجر الهجرتين إلى الحبشة الهجرة الأولى، ولكنه عاد إلى مكة لما بلغه إسلام أهل مكة، وهاجر إلى أرض الحبشة المرة الثانية هو وأخوه عبيد الله ابنا جحش وكانت مع عبيد الله زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فتنصر عبيد الله بأرض الحبشة ومات بها، ورجع عبد الله إلى مكة ، فتزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي في الحبشة.
وحين أذِنَ النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، كان ثالث من هاجر إليها عبد الله، فقد احتمل بأهله وبأخيه عبد بن جحش، وهو أبو أحمد، وكان أبو أحمد رجلاً ضرير البصر، وكان يطوف مكّة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعراً، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، فنزل على مُبَشِّر بن عبد المنذر بن زنبر في بني عمرو بن عوف من الأنصار بقباء بالقرب من المدينة. وكان بنو غنم بن دودان عشيرة عبد الله أهل إسلام، هاجروا جميعاً رجالاً ونساءً إلى المدينة وتركوا دورهم مغلقة، فعدا أبو سفيان على دار بني جحش وباعها.
وفي المدينة المنوّرة أخى النبي صلى الله عليه وسلم بين عبد الله وبين عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح واسمه قيس.
وهكذا تحمّل عبد الله وآل بيته وعشيرته ما تحمل من هجرة ومصاعب و شدائد في سبيل الإسلام.
سرية نَخْلَة
بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى نَخْلَة في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مُهاجره، في السنة الثانية الهجرية سرية عليها عبد الله بن جحش الأسدي في اثني عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين منهم يعتقبان بعيراً، ليس فيهم من الأنصار أحد .
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله كتاباً، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به ولا يَسْتَكْرِه من أصحابه أحداً، وهذا النوع من الرسائل، هو الذي نطلق عليه : الرسائل المكتومة، في المصطلحات العسكرية الحديثة .
وكان أصحاب عبد الله من المهاجرين : أبو حُذَيْفَة بن عتبة بن ربيعة، وعُكاشة بن مِحْصَن الأسدي، وعُتبة بن غَزْوَان بن جابر، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمي، وخالد بن البكير الليثي، وسُهَيْل بن بيضاء الفِهْرِي، وهؤلاء الذين ذكرهم ابن هشام في سيرته.
فلما سار عبد الله يومين بسريّته فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا نصه : “إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل (نخلة) بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً وتَعَلَّم لنا من أخبارهم”.
وقال عبد الله بعد قراءة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : “سمعاً و وطاعة”، ثم قال لأصحابه: «قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن أمضي إلى نخلة، أرصد بها قريشاً حتى آتیه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطق ومَنْ كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ومضى عبد الله، ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد، فلما كان بـ (بخران) أضل سعد بن أبي وقاص وعُتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا. عليه في طلبه .
وواصل عبد الله مسيرته نحو هدفه حتى نزل بنَخْلَة، فمرت به عِيْرٌ لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة قريش، عليها عمرو بن الحَضْرَمِي، وفيها عثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نَوْفَل بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كَيْسَان مولى هشام بن المغيرة، فلما رأى المشركون المسلمين هابوهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رآه المشركون أمنوا وقالوا عُمَّارٌ لا بأس عليكم منهم . وتشاور المسلمون فيما بينهم فقالوا: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة لَيَدْخُلُنَّ الحَرَم فَلَيَمْتَنِعُنَّ منكم به ولئن قتلتموهم لَتَقْتَلُنَّهُمْ في الشهر الحرام. وتردّد المسلمون وهابوا الإقدام على المشركين حرمة للشهر الحرام، ثم شجّعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل مَنْ قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحَضْرَمِي فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وأفلت بسهم نوفل بن عبد الله فأعجزهم.
وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
وقال عبد الله لأصحابه : “إنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس»، وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخُمس من المغانم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه .
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فوقف العير والأسرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً. وسُقط في أيدي القوم، وظنّوا أنّهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا .
وقالت قريش قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال.
وردّ على قريش قسم من المسلمين الذين كانوا بمكة : إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان لا في رجب.
واستغل يهود هذا الموقف، فأخذوا يشنعون على المسلمين، ويحرضون قريش على المسلمين والإسلام.
ولما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: (يَسْأَلُونَكَ عن الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فيه، قُلْ قِتَالُ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌ عَن سَبِيْلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ منه أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ)، أي: إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدّوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم : (والفِتْنَةُ أكبرُ مِنَ القَتْل) ، أي : قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردّوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل، (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُودُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا) ، أي : ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين.
فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين .
وبعثت إليهم قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كَيْسَان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا نفديكموهما حتى يَقْدَمَ صاحبانا»، يعني: سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، “فإنّا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم”، فقدم سعد وعتبة ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسُنَ إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُتِل يوم بئر معونة شهيداً، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافراً. وهذه السرية كان فيها أوّل غنيمة غنمها المسلمون، وعمرو بن الحضرمي أوّل مَنْ قتله المسلمون وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أوّل مَنْ أسر المسلمون.
وكان عبد الله أوّل من قسم المغنم وأعطى الخمس في الإسلام، وأول من سُمِّي : أمير المؤمنين في الإسلام في هذه السرية .
ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم من هذه السرية أن تنشب القتال، بل كان هدفه من بعثها الاستطلاع فقط، ولكن حماسة عبد الله واندفاعه أدى إلى نشوب القتال في الشهر الحرام مما يخالف تقاليد العرب المرعية حينذاك، فانتهزتها قريش فرصة سانحة كما انتهزها يهود والمشركون كافة للدعاية ضد المسلمين .
وبالإضافة إلى تأثير نتائج هذه السرية معنوياً في قريش بخاصة، إذ لم تكن تظن أن المسلمين قادرون على التغلغل بالعمق إلى مشارف مكة والطائف، فأثر إقدام المسلمين في هذه السرية في معنويات قريش فتزعزعت، فإن من نتائج هذه السرية فرض الحصار الاقتصادي على قريش ليس بالنسبة لطريق مكة – الشّام، وهو طريق حيوي جداً لتجارة قريش، بل امتد هذا الحصار على طريق مكة – الطائف التجاري، وهو طريق ثانوي بالنسبة لطريق مكة – الشّام، وبذلك أحكم المسلمون الطوق على طرق تجارة قريش، فلم يبق أمامها طريق تأمنه غير طريق الجنوب : طريق مكة -اليمن .
وكان اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم بالدرجة الأولى في هذه السرية على كفاية عبد الله في تحمّله المشاق والصعوبات فقد خطب المسلمين وقال: “لأبعثن عليكم رجلاً ليس بخيركم ولكنه أصبركم للجوع والعطش”، فبعث عبد الله. وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لأعطين الراية رجلاً هو أصبر على الجوع والعطش منكم، فأعطاها عبد الله “، فقال : يا رسول الله ! أسير بها وأنا غلام حدث !؟”، فقال له «سر»، فسار، ففتح الله عليه.
لقد كان واجب سرية عبد الله أشبه بواجبات المغاوير أو القوات الخاصة في الجيوش الحديثة، تلك التي تدرّب تدريباً شاقاً عنيفاً على تحمل الأهوال واجتياز العقبات والصبر على الجوع والعطش.
وهؤلاء يجري اختيارهم من الأقوياء الأشداء، ويجري اختيار قائدهم من أقواهم وأشدهم، وهذا هو عبد الله في قوته وصلابته وصبره وشجاعته وإقدامه .
في غزوة بدر الحاسمة
شهد عبد الله في اليوم السابع عشر من رمضان من السنة الثانية الهجرية، غزوة بدر الكبرى الحاسمة، فهو من البدريين عليهم رضوان الله .
وقد أبلى في بدر بلاء عظيماً، وبذل قصارى جهده لإحراز النصر على المشركين وقد أسر في هذه الغزوة الوليد بن الوليد بن المغيرة، فقدم في فدائه خالد بن الوليد وأخوه هشام بن الوليد، ولكنه أفلت منهما وأسلم، وهاجر إلى المدينة قبل الفتح.
وقد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله وأبا بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهم في أسارى بدر، ويبدو أن رأيه كان كرأي أبي بكر الذي قال: «قومك وأهلك، استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك».
واستشارة النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله دليل على حصافة رأيه ومكانته السامية بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ودليل على بلائه الحسن في غزوة بدر بخاصة وفي خدمة المسلمين بعامة .
الشهيد
ذكر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: «قعدت أنا وعبد الله بن جحش صبيحة يوم (أحد) نتمنى، فقلت: اللهم لقني من المشركين رجلاً عظيماً كُفْرُه، شديداً حَرْدُه، فيقاتلني، فأقتله، فأخذ سَلَبَه. فقال عبد الله بن جحش : اللهم لقني من المشركين رجلاً عظيماً كفره، شديداً حَرْده، فأقاتله، فيقتلني، فيسلبني، ثمّ يجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلت: يا عبد الله بن جحش ، فِيمَ جُدِعتَ؟ قلتُ : فيك يا ربي. فوالله لقد رأيته آخر ذلك النهار وقد قُتِل، وإنّ أنفه وأذنه لفي خيط واحد بيد رجل من المشركين، وكان سعد يقول: «كان عبد الله بن جحش خيراً مني. وكان سعد يقول : كانت دعوة عبد الله خيراً من دعوتي.
أحد يدعو الله بقوله: «اللهم أقسم عليك أن نلقى وقد سمع يوم العدو، وإذا لقينا العدو أن يقتلوني ثم يبقروا بطني، ثم يمثلوا بي، فإذا لقيتك سألتني: فيمَ هذا؟ فأقول فيك». فلقي العدو وقتل وبقروا بطنه ومثلوا به. قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه : «فإني أرجو أن يبر الله آخر قسمه”.
وكان عبد الله قد قاتل قتال الأبطال في أحد، واستقتل استقتالاً شديداً لينال الشهادة، فانقطع سيفه الذي كان يقاتل به يوم أحد، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً جديداً يسمى العرجون ولم يزل هذا السيف ينتقل من يد إلى أخرى، حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار، يوم كانت الشاة بنصف درهم.
ونال الشهادة كما أراد في غزوة أحد، فقد قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق ، ودفن هو وحمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم في قبر واحد، وكان له يوم قتل نيف وأربعون سنة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما قتل عبد الله مَثَل به المشركون فجدعوا أنفه، وقطعوا أذنيه، وبقروا بطنه، فكان يقال له : المجدَّع في الله وعرف بهذا الوصف بعد استشهاده، وولي تركته رسول الله ، فاشترى بـ (خَيْبَر ) لابنه مالاً. وكان عبد الله باستشهاده اللبنة الأولى في صرح الإسلام، والأسوة الحسنة للمسلمين في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم . وكان استشهاد عبد الله في أحد في السنة الثالثة الهجرية (٦٢٤ م).
الإنسان
أحدثت سرية عبد الله إلى نَخْلَة أثراً بالغاً في المشركين ويهود، باعتبار أن المسلمين استحلوا الأشهر الحرم فشنوا حرباً دعائية على المسلمين، واستغلوا هذا الحادث أبشع استغلال.
وكان هجوم تلك المدّة على الشعر والنثر، وكان المسلمون يردّون على تخرصات أعدائهم شعراً ونثراً أيضاً.
المشركين في حربهم الدعائية وهجوم يهود، يقتصر في
وكان عبد الله ممن شارك بشعره في هذه الحرب الدعائية، فقال:
تَعُدُّونَ قَتْلاً في الحَرَامِ عَظِيمَةٌ
وأَعْظَمُ منه لو يَرَى الرُّشْدَ رَاشِدُ
صُدُودُكُمُ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ وَكُفْرٌ به واللَّهُ رَاءِ وَشَاهِدُ
وإخْرَاجُكُمْ من مسجدِ اللَّهِ أهله لئلا يُرى للهِ في البيت ساجِدُ
فإنّا وإنْ عَيَّرْتُمونا بِقَتْلَةٍ وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سَقَيْنَا مِنَ ابْنِ الحَضْرَمِي رَماحَنَا بنَخْلَة لما أوقد الحرب واقد
دماً وابنُ عبد اللَّهِ عُثْمَانُ بينَنَا يُنَازِغُهُ غُـل مـن القـد عـانـد
وهذه الأبيات التي نسبت إليه، إذا صحت نسبتها إليه، تدلّ على أنه كان شاعراً، وأنه لم يسخّر سيفه وماله لخدمة الإسلام حسب، بل سخر لسانه أيضاً، وهكذا سخّر كل طاقاته المادية والمعنوية لخدمة الإسلام والمسلمين.
ويبدو أن لعبد الله عقباً، ولا أعرف عددهم ولا أسماءهم، إذ لم أجد لهم ذكراً في المصادر المعتمدة المتيسرة لدي .
ولعبد الله أخوان : عبد أبو أحمد كفّ ،بصره، ومات على عهد عثمان كما ذكرنا، وعبيد الله الذي هاجر إلى الحبشة فتنصر ومات على النصرانية، ويقال : إنّه غرق في البحر وهو سكران، ويقال: غرق في الخمر، وكانت معه رملة بنت أبي سفيان بن حرب، فولدت له جارية سمتها حَبِيبَة، فقيل : أم حبيبة فأقامت على الإسلام، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه وجّه عمرو بن أُمية الضَّمْرِي إلى (أصحمة) النجاشي بكتاب منه يدعوه فيه إلى الإسلام وأمره أن يخطب عليه أم حبيبة فوكلت خالد بن سعيد بن العاص بتزويجها، وكان وأخوه أقرب من بالحبشة إليها، فزوجها إياه .
وأبو أحمد عبد بن جحش الذي جعل يوم فتح مكة يمر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمَرْوَة وهو يقول :
يا حبذا مكة من وادي أرض بها أهلـــــي وعــــــوادي
إني بهـــا تـــرشـــح أوتـــادي إني بها أمشي بـلا هـــادي
وقد روى الحديث عن حبيبة بنت أم حبيبة رضي الله عنهما .
وعبد الله ممن كان يدخل على صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها من البدريين وكان لها محرماً، لأنّ أم عبد الله أُمَيْمَة بنت عبد المطلب هي أخت صفية بنت عبد المطلب عمّة النبي ، فصفية خالة عبد الله .
وكان أوّل مغنم في الإسلام مغنم عبد الله، وأوّل مَنْ قسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس المغنم قبل أن ينزل به القرآن، وأوّل مَنْ سُمي أمير المؤمنين”.
وكانت حَمْنة بنت جحش أخت عبد الله المرأة الوحيدة التي قتل أخوها عبد الله وخالها حمزة بن عبد المطلب وزوجها مُصْعَب بن عُمير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، فصبرت صبراً جميلاً وحمدت الله وأثنت عليه كثيراً. ذلك مبلغ تضحية عبد الله وأقربائه في سبيل الإسلام، وحسبه أن يعرف بالمُجَدَّع في الله. وكان يوم قتل ابن بضع وأربعين سنة، وكان رجلاً ليس بالطويل ولا بالقصير، كثير الشعر.
روى عن عبد الله سعد بن أبي وقاص وروى عنه سعيد بن المُسَيِّب، ولم يُسْمَع منه، وهو صهر النبي صلى الله عليه وسلم بأخته زينب بنت جحش رضي الله عنها .
وفارق الحياة شهيداً وهو في أوج عطائه وبداية كهولته، ولكن ذكره بقي عطراً في التاريخ.
القائد
كان من أبرز سمات عبد الله القيادية : الشجاعة الفائقة والجرأة النادرة، والصبر العظيم على تحمّل أعباء القتال.
فقد كانت سريته مختارة من ناحية أفرادها من أشجع شجعان المهاجرين، فهم مغاوير المهاجرين دون منازع، وقد سجل التاريخ لكل فرد منهم صفحات في الفتوح وفي الشجاعة والإقدام .
لقد كانت سرية عبد الله مؤلّفة من قمم شجعان المهاجرين، وكان عبد الله قمة القمم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره قائداً لتلك السرية . وحسبنا قولة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد الله : “منا خير فارس في العرب : عبد الله بن جحش”.
أما جرأته النادرة، فقد استطاع أن يتغلغل بسريته المؤلفة من أفراد قلائل إلى طريق مكة – الطائف، بعيداً عن قاعدة المسلمين الأمينة: المدينة المنورة . وقد قدر النبي صلى الله عليه وسلم خطورة مُهمّة سرية عبد الله إلى نخلة، فأمره ألا يستكره أحداً من رجاله على مصاحبته في مهمته، وأن يترك لهم الخيار، إن شاء وا رافقوه، وإن شاءوا لم يرافقوه وعادوا أدراجهم إلى المدينة المنورة غير ملومين .
ولا أعرف سرية كانت لها خطورة سرية عبد الله إلى نخلة في مثل قلة عددها وضعف مددها، في مثل ذلك الوقت المبكر من جهاد المسلمين. ولكن عبد الله اندفع بجرأة خارقة، وحقق أهداف السرية، وذهب إلى مدى أبعد من تحقيق أهدافها المرسومة فحقق بجرأته واندفاعه المذهل حقا أهدافا لم تكن في الحسبان .
أما الصبر العظيم في تحمّل أعباء القتال، فقد تحدى عير قريش وحراسها، وقاتلهم بحرب خاطفة مصغرة، فقتل مَنْ قَتَلَ، وأسر مَنْ أسر، وعاد بالغنائم منتصراً إلى المدينة المنوّرة.
ولكن القول على صبره في القتال لا يُغني عن كل قول، فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم: بأنه أصبر المسلمين على الجوع والعطش، وهي شهادة لها وزن عظيم في كل ميزان .
وكان يتمتع بضبط متين إلى أبعد الحدود، وهي صفة الجندي المتميز وصفة من صفات القائد المتميز ، فما كاد يقرأ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم المكتومة، إلا وهتف من صميم قلبه : “سمعاً وطاعة”. ثم مضى لتنفيذ واجبه لا يلوي على شيء في تصميم وإصرار عجيبين .
وكان سريع القرار صائبه، فقد بادر المشركين بالهجوم عليهم، قبل أن يأتيهم المدد ويشتد عضدهم فتغدّى بهم قبل أن يتعشوا به ـ كما يقول المثل العربي المشهور .
وكان ذا إرادة قوية، يتلقى الأوامر، وينفّذها بدون تردد ولا خوف مهما تكن تلك الأوامر صعبة التنفيذ تكتنفها الأخطار والمصاعب.
وكان يتحمّل المسؤولية كاملةً ويحب تحمّل المسؤولية مهما تكن بالغة الخطورة ثقيلة النتائج، ولا يتهرب منها خوفاً وجزعاً ويلقيها على عوائق الآخرين.
وكان ذا نفسية رصينة لا تتبدّل في حالتي النصر والاندحار، فلم يكن يعمل لشخصه بل لمصلحة الإسلام والمسلمين.
وكان يسبق النظر، فقد قطع المسافة بين نخلة والمدينة قبل أن تستطيع قريش مطاردته لاسترداد أموالها وأسيريها فوصل إلى المدينة قبل أن أن المسافة بين نخلة والمدينة أضعاف المسافة بين نخلة يصلوا إليه، مع ومكة موطن قريش.
وكان على معرفة تامة بنفسيات رجاله وقابلياتهم، لأنه عاش معهم بتماس شديد ردحاً طويلاً قبل الإسلام وبعده.
وكان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم له الكاملة، وكان عليه الصلاة والسلام هو القائد الأعلى للمسلمين، كما كان موضع ثقة رجاله به والمسلمين كافة، وكان يبادلهم ثقة بثقة، فقد كانت أهدافهم واحدة، هي إعلاء كلمة الله، والدفاع عن الإسلام والمسلمين.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه حباً عظيماً، كما كان أصحابه يحبونه، ويبادلهم حباً بحب، في مجتمع الأخوة الإسلامي السائد حينذاك. وكان ذا شخصية قوية نافذة تؤثر في الرجال والأحداث، ولا تتأثر بها إلا في الحق ومن أجل الحق وقد كان أبرز المسلمين من بني أسد الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم : «أسد خطباء العرب»
وكان يتمتع بقابلية بدنية فذة، بل كان مثالاً رفيعاً يحتذى به في هذا المجال .
وكان ذا ماض ناصع مجيد في خدمة الإسلام والمسلمين، وفي الإخلاص للدعوة والدعاة وفي العمل للمصلحة العامة للمسلمين. وكان على علم لمبادىء الحرب، يطبقها تطبيقاً قادراً وينفذها فيالقتال وقبله وبعده.
وكان يساوي نفسه مع أصحابه، بل كان يستأثر بالخطر، ويؤثرهم بالأمن والاطمئنان. فلا عجب أن يثق به النبي صلى الله عليه وسلم ثقة مطلقة، ويوليه على أبرز أصحابه وأخطر سراياه وأكثرها أهمية .
لقد كان عبد الله قائداً مجيداً.
عبد الله في التاريخ
يذكر التاريخ لعبد الله أنّه كان من المسلمين الأولين السابقين إلى الإسلام. ويذكر له أنه هاجر الهجرتين إلى الحبشة وهاجر إلى المدينة وقاد أخطر سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت معه رسالة مكتومة استعملت بهذا الأسلوب الجديد لأول مرة في التاريخ.ويذكر له أنه قائد السرية التي قتلت أوّل قتيل من المشركين في الإسلام، وأسرت أول أسيرين من المشركين في الإسلام، وأنه صاحب أوّل مغنم في الإسلام، وأوّل من قسم الرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس المغنم قبل أن ينزل به القرآن، وأوّل من سُمِّيَ : أمير المؤمنين في الإسلام.ويذكر له، أنه قاتل قتال الأبطال في غزوة بدر الحاسمة وفي غزوة أحد، وأنه تمنّى على الله أن ينال الشهادة فاستُشهد في أ أحد .
ويذكر له، أنه كان يُعرف بالمُجَدَّع في الله، وأنه ضحى بروحه من أجل عقيدته، ولم يُضَحُ عقيدته من أجل روحه .
ويذكر له أنه مات واقفاً كما تموت النخلة، فسقط مضرجاً بدمائه دون أن يسقط سيفه من يمينه.
رضي الله عن الصحابي الجليل البطل الفارس، القائد الشهيدعبد الله بن جحش الأسدي .
(من كتاب قادة النبي صلى الله عليه وسلم)