يشمل الهدي والسلوك جانباً مهماً من جوانب الشخصية، ولذا فقد عني السلف بتحقيق هذا الأمر، حتى صار قريناً لمسائل العلم الأخرى وأبوابه.
قال ابن سيرين: «كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم».
وقال الحسن: « إن كان الرجل ليخرج في أدب واحد السنة والسنتين. وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: «يا بني اصحب الفقهاء وتعلم منهم وخذ من أدبهم؛ فإنه أحب إلي من كثير من الحديث. ولم تكن هذه الحقيقة غائبة عن الجيل الأول كيف لا وهو جيل القمة والسمو، لذا فقد سطرت فتيات أصحاب النبي الله صفحات ناصعة في هذا الميدان، ومن صور رعايتهن للهدي والسلوك:
1 – التأسي به:
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها – أنها قالت: “ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً وهدياً ودلاً وقال الحسن حديثاً وكلاماً ولم يذكر الحسن السمت والهدي والدل – برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة رضي الله عنها – كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها”. رواه أبو داود والترمذي.
لقد كان من تمام تأسي فاطمة -رضي الله عنها – برسول صلى الله عليه وسلم أن صارت أشبه الناس ،بهديه توصف بذلك وتذكر به.
إن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم عبادة عظيمة تفتح لصاحبها أبواباً من الخير والعمل الصالح الذي لا يكلفه عنتاً أو مشقة؛ إذ حملت لنا دواوين السنة رصيداً من أخباره وأحواله وهديه في أمور الحياة كلها في النوم والاستيقاظ والمشي والجلوس، ودخول المنزل والخروج منه … إلخ أمور اليوم والليلة، وهي أمور لا بد للمسلم من فعلها، فحين يسعى للتعرف على سننه وأحواله فيها يصبح في نومه واستيقاظه وطعامه وشرابه وسائر أحواله، بل حتى في قضاء حاجته، يصبح في ذلك كله في عبادة لله تبارك وتعالى، وتأس بالنبي صلى الله عليه وسلم دون أن يحتمل مشقة لا يحتملها غيره من الناس.
والتأسي به يورث محبته صلى الله عليه وسلم التي هي من أعظم أبواب الإيمان، بل من شروطه كما قال: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”. رواه البخاري ومسلم.
فهنيئاً لفاطمة رضي الله عنها هذه المنزلة والمكانة، وحري بفتيات المسلمين اليوم أن يسرن على خطاها؛ فمن تشبه بقوم فهو منهم، ومن أحب قوماً حشر معهم.
2- التقوى وخشية الله
لا غرو أن نجد ذاك الجيل الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم الجيل الخشية الله والتقوى. قال القاسم: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة -رضي الله عنها – فأسلم عليها، فغدوت يوماً، فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ {فَمَنْ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم} (الطور (۲۷) وتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي وكانت أسماء رضي الله عنها – تخشى شؤم الذنب ووبال المعصية، فكانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول : بذنبي وما يغفر الله أكثره، لقد تلقت هذا الأدب من قوله تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كثير} [الشورى ٣٠).
3- الورع
عن عائشة – رضي الله عنهما – في حديث الإفك :« وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: يا زينب ما علمت ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلا خيراً قالت: وهي التي كانت تساميني فعصمها الله بالورع”. رواه البخاري ومسلم.
وتتطلع أسماء رضي الله عنها – إلى الصدقة، لكنها لا تملك إلا أن تتصدق مما يدخل عليها الزبير فتتورع رضي الله عنها عن ذلك – فتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقول: ما لي مال إلا ما أدخل عليَّ الزبير فأتصدق؟ قال: «تصدقي ولا توعي فيوعى عليك” (رواه البخاري ومسلم).
وتروي لنا الورع والسؤال عن امرأة أخرى تدعوها الغيرة والطبيعة البشرية إلى فعل لكنها تخشى أن يكون مما يغضب الله.
عن أسماء -رضي الله عنها – أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور” رواه البخاري ومسلم.
إن الورع حين يستقر في القلوب وتتربى عليه النفوس يختصر خطوات كثيرة ربما كافحنا في اجتيازها وقطعها، فهو الذي يحول دون أن يتسلط الهوى على صاحبه فيتجاوز أمر الله وحدوده، وهو الذي يحول دون القفز على النصوص الشرعية باسم المصلحة ومجاراة الواقع… إلخ هذه الحجج.
وثمة ظواهر تتجدد اليوم في عالم المرأة في صور متسارعة لا تمثل إلا مظاهر للتحرر المبطن، والتجاوزات التي نراها في حجاب المرأة اليوم صورة بعد أخرى ليست إلا نموذجاً من ذلك.
وحين نسعى لمواجهة هذه الصور من التجاوزات بتربية الإيمان والورع في النفوس فهذا أجدى من السعي لاستصدار فتوى في تحريم كل صورة تطرأ من هذه الصور الشاذة؛ إذ يُحوِّل أولئك الذين يرق دينهم هذه الفتوى إلى مجرد اجتهاد فقهي يقابله غيره، أو يدرجونها ضمن قائمة التشديد في الدين وتحريم مالم يحرمه الشرع، أما النفوس التي تربت على الورع والتقوى فهي تملك حساً مرهفاً يحول بينها وبين الترخص الصادر عن الهوى ومجاراة الواقع، دون أن تحتاج لفتوى تمنعها من ذلك.
والورع والإيمان يجعلان الامتثال صادراً عن اقتناع ومحبة للحكم الشرعي، وإدراك المقاصد الشرع، وشتان بين سلوك صاحبه وسلوك من يشعر أنه يقاد بسياط الفتوى والمنع والتحريم، ويشعر أنها قيود يتمنى التخفف منها. فليت الأخوات الداعيات وليت المهتمين بقضايا المرأة ينطلقون من هذه النقطة ويعنون بهذه القضية : غرس الإيمان والورع في النفوس.
4- التوبة
لقد خلق الله تبارك وتعالى الناس وهو أعلم بهم، لذا فقد جاء شرعه عز وجل متَّسقاً مع فطر الناس وطبيعتهم، ومهما بلغ المرء من الصلاح والتقى والخوف منه وخشيته فلا بد أن يلابس الذنب ويقع في المعصية، وقد قال :«والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» رواه مسلم.
وحين حضرت أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه – الوفاة قال: “كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون يغفر لهم» رواه مسلم والترمذي.
وقد قال أيضاً: “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”. رواه مسلم والترمذي.
لذا فقد كان لفتيات الصحابة رضوان الله عليهن – مبادرة للتوبة والرجوع إلى الله تبارك وتعالى، كما تحكي عائشة عن زينب -رضي الله عنهما – قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله له، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى ما عدا سَوْرة من حدة كانت فيها تسرع منها الفيئة. رواه مسلم.
قد يغلب خلق ما على المرء فيوقعه في المحظور أو فيما لا ينبغي فعله، والبشر ليس مطلوب منهم العصمة من الخطأ، إنما الحذر منه والبعد عن أسبابه، وحين تغلبهم نفوسهم فيواقعونه فعليهم سرعة الفيئة والرجوع إلى الله تبارك وتعالى.
5- حفظ السر
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي فقال النبي : مرحبا بابنتي ، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثاً فبَكَتْ، فقلت لها : لم تبكين؟ ثم أسر إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن! فسألتها عمـا قـال فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله له حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألتها فقالت: أسر إلي: «إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقـاً بــي، فبكيت، فقال: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين؟ فضحكت لذلك”. رواه البخاري ومسلم.
لقد كان من حق عائشة رضي الله عنها – السعي لمعرفة ما أسره لفاطمة صاحب الرسالة، أما فاطمة رضي الله عنها – فكانت ترى أنه لا يسوغ لها أن تفشي سره حال حياته .
إن الفضول قد يدفع بالمرء أحياناً إلى التطلع لمعرفة ما لا يعنيه، وحب الحديث والتشبع بمالم يعط قد يدفعه إلى الحديث عما تطلع إليه وعلمه، وهو مسلك يأباه الأوفياء، وذلك ليس دعوة لأن تعيش الفتاة في صمت مطبق يحول
بينها وبين السؤال والتعرف على أحوال الناس، ويمنعها من الحديث والإخبار لكن كم هي الأخبار وأسرار البيوت التي كان إفشاء المرأة لها سبباً في فسار عريض لا تستطيع إصلاحه؟ وما أحوج الفتاة إلى أن تضع نصب عينيها دوماً وصية النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت”. رواه البخاري ومسلم.
وثمة مجالات للحديث والحوار والنقاش الجاد المثمر تضيق عنها المجالس مهما طالت يمكن أن تكون بديلا للثرثرة والحديث اللامسؤول عن أسرار الناس.
أما الفتاة الصالحة المتدينة فيتأكد الأمر في حقها؛ إذ هي قدوة لمن حولها والجميع يرقب تصرفها.
(من كتاب فتيات الصحابة رضي الله عنهن)