فتيات الصحابة رضي الله عنهن: طلب العلم

طلب العلم

إنك لست بحاجة إلى مزيد جدل وحوار أو استعراض للأدلة والنصوص لإقناع أحد بأهمية العلم والحاجة إليه، فالجميع يدرك ذلك، والدليل على هذا أنه لا ينسب أحد للجهل إلا اعتبر ذلك ذماً ونقصاً ولو كان هو جاهلاً فعلاً، ولا ينسب أحد للعلم إلا اعتبر ذلك محمدة وثناء، بل إن العلم أفاد الحيوان البهيم؛ فصيد الكلب المعلم يحل وصيد غير المعلم لا يحل فإذا كان هذا الشأن في الحيوان، فكيف بالإنسان الذي كرمه الله وأعلى منزلته؟ وحيث كان العلم بهذه المنزلة التي جعلته يفضل على نوافل العبادات وجعلت فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، فقد كان لنساء الصحابة القدح المعلى وقصب السبق في ذلك، ومن صور عنايتهن بالتعلم مايلي:

1 – حفظ القرآن

في وقت لم تكن الوسائل المتاحة أمام الناس تيسر لهم أسباب التعلم، فالقارئ والمتعلم للكتابة فيهم قليل، والمصحف ليس مهياً مجموعاً للناس يحفظون ويقرؤون منه كما أرادوا، ناهيك عن أجهزة التسجيل التي كسرت حاجز الأمية وأتاحت استماع القرآن لكل الفئات والأعمار، وفي أي وقت يشاءالمستمع. لكن حين تعلو الهمة وترتفع العزيمة تهوي كل تلك الصعاب، وتزول كل تلك العقبات وغيرها ، فلنر نموذجاً من عناية فتيات الصحابة بحفظ القرآن الكريم، وكيف يغتنمن الفرصة ويستثمرنها. فعن بنت الحارثة بن النعمان قالت: ما حفظت (ق) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل جمعة قالت: وكان تنورنا وتنور رسول صلى الله عليه وسلم واحداً. رواه مسلم.

فأين فتياتنا اليوم من الاعتناء بحفظ القرآن الكريم وتعلمه، لاسيما وقد تيسرت السبل وتعددت الوسائل ولم يبق لأحد عذر في التخلف؟


2- السؤال عن العلم

كانت بعض فتيات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يستثمرن فرصة قربهن من النبي صلى الله عليه وسلم فيسألن عما يشكل عليهن من أمور الدين، وحين ترى إحداهن أمرا لا تدرك وجهه ومأخذه تسأله صلى الله عليه وسلم عنه، وقد نقلت لنا من عنايتهن – رضوان الله عليهن – بالسؤال أخبار عدة يضيق المقام عن استيعابها، وهذه طائفة منها : عن فاطمة – رضي الله عنها – قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل عرقاً، فجاء بلال بالأذان، فقام ليصلي فأخذت بثوبه فقلت: يا أبه، ألا تتوضأ؟ فقال: «مم أتوضأ يا بنية ؟ فقلت: مما مست النار، فقال لي: «أوليس أطيب طعامكم ما مسته النار ؟. رواه أحمد.
وحين رأت حفصة – رضي الله عنها – الناس في الحج أحلوا ولم يحل صلى الله عليه وسلم تشوفت إلى معرفة الحكم في ذلك فتوجهت له صلى الله عليه وسلم بالسؤال، فعن ابن عمر عن حفصة زوج النبي – ورضي الله عنها – أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحره». رواه البخاري ومسلم.

ولإدراكهن – رضوان الله عليهن – أن تلاوة كتاب الله تبارك وتعالى لا يسوغ أن تقف عند مجرد ترداد ألفاظه بل لا بد من التدبر وإدراك المعاني، فقد حفظت لنا السنة مواقف عدة من سؤالهن للنبي صلى الله عليه وسلم عن معاني ما قد يشكل عليهن من كتاب الله تبارك وتعالى.

فأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها – تحكي عن نفسها أنها أول الناس سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى آية من كتاب الله تبارك وتعالى.

فعن مسروق قال كنت متكئاً عند عائشة – رضي الله عنها – فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئاً فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، ولا تعجليني، ألم يقل اللّه عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}، ﴿وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرى﴾ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقـه مـا بين السماء إلى الأرض».
ثم استدلت -رضي الله عنها – على ما تقول بآيات من كتاب الله تدل على علمها وفقهها، فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول ﴿ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ ؟ أو لم تسمع أن الله يقول {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلَيٌّ حَكِيمٌ}؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله يقول {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلِّغْتَ رِسَالَتَهُ} قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله يقول {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }. راه مسلم.
ومع الأهمية المنحة للسؤال وضرورته نرى أن بعض فتيات المسلمين اليوم يُفَوِّتن على أنفسهن فرصاً نادرة للتعلم والاستزادة؛ إذ قد يوفق الله بعض الفتيات أن تكون بنتاً أو أختاً لأحد طلبة العلم فتكون أقل الناس استفادة منه، ورحم الله عكرمة إذ يقول : «إن أزهد الناس في عالم أهله». رواه الدارمي.

وقد أمر الله تبارك وتعالى من لا يعلم بالسؤال فقال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل: ٤٣]

وها هو حبر الأمة ابن عباس -رضي الله عنهما – يقول: إن كنت لأسال عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي الاول (سير أعلام النبلاء) ، ووصفه عمر بن الخطاب – الله عنه – بقوله : «ذاكـم فتى الكهول، إن له لساناً سـؤولاً ، وقلباً رضي عقولاً (رواه الحاكم والطبراني وأبو نعيم)

3- المراجعة والمناقشة

والعلم عندهن – رضوان الله عليهن – لم يكن قاصراً على مجرد الحفظ للأخبار والروايات، بل كان مقروناً بالفهم والفقه، ولهذا حين يرد على إحداهن نص تعيه وتفهمه ثم تقوم بربطه بسائر النصوص الشرعية، وحين يبدو لديها لبس أو لا تفهم التوفيق بين هذه النصوص تراجع النبي صلى الله عليه وسلم وتناقشه في ذلك. فعن حفصة رضي الله عنها – قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية قالت: فقلت: أليس الله عز وجل يقول {وَإِنْ مِنكُمْ إِلا وَارِدُهَا } قال: فسمعته يقول {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَكَذَرُ الظَّالِمِينَ فيها جييًّا } (رواه أحمد وابن ماجه) وتحفظ لنا السنة أيضاً موقفاً آخر لأم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها ترى أن ما سمعته منه له الله قد يتعارض مع قاعدة شرعية مستقرة لديها فتسأله تجلية هذا الإشكال.

فعنها -رضي الله عنها – قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي جيش من قبل المشرق يريدون رجلاً من أهل مكة، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم فرجع من كان أمامهم لينظر ما فعل القوم فيصيبهم مثل ما أصابهم فقلت:

يا رسول الله، فكيف بمن كان منهم مستكرها؟ قال: «يصيبهم كلهم ذلك ثم يبعث الله كل امرئ على نيته. (رواه أحمد والنسائي مختصرا وأصله في مسلم دون موضع الشاهد).
وهذا الفقه منها -رضي الله عنها – لم يكن قاصراً على ما تسمعه من نصوص قولية؛ بل يتجاوز ذلك إلى أن ترقب أفعاله الله ثم تسأل عما أشكل عليها. فعنها -رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قد وضع ثوبه بين فخذيه فجاء أبو بكر فاستأذن فأذن له وهو على هيئته، ثم عمر بمثل هذه القصة، ثم علي، ثم ناس من أصحابه والنبي على هيئته، ثم جاء عثمان فاستأذن فأذن له فأخذ ثوبه فتجلله، فتحدثوا ثم خرجوا، قلت: يا رسول الله جاء أبو بكر وعمر وعلي وسائر أصحابك وأنت على هيئتك، فلما جاء عثمان تجللت بثوبك؟ فقال: ألا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة؟ رواه أحمد. ولقد كان هذا الفقه لديها -رضي الله عنها – يعطيها زاداً يدفعها إلى أن تصحح ما تراه من أفعال أصحابه الله يخالف نصاً ربما لم يبلغهم، أو كان لهم عذر آخر في مخالفته. فعن نافع قال: لقي ابن عمر رضي الله عنهما – ابن صائد في بعض طرق المدينة فقال له قولاً أغضبه، فانتفخ حتى ملأ السكة، فدخل ابن عمر على حفصة وقد بلغها، فقالت له : رحمك الله ما أردت من ابن صائد ؟ أما علمت أن رسول الله الله قال: «إنما يخرج من غضبة يغضبها ؟.

وتحدثنا صهيرة بنت جعفر عن شيء من علم صفية أم المؤمنين رضي الله عنها – فعنها قالت: حججنا ثم انصرفنا إلى المدينة فدخلنا على صفية بنت حيي عنها – فوافقنا عندها نسوة من أهل الكوفة فقلن لها : إن شئتن سألتن وسمعنا ، وإن شئتن سألنا وسمعتن، فقلنا : سلن فسألن عن أشياء من أمر المرأة وزوجها ومن أمر المحيض ثم سألن عن نبيذ الجر فقالت: أكثرتم علينا يا أهل العراق في نبيذ الجر، وما على إحداكن أن تطبخ تمرها ثم تدلكه ثم تصفيه فتجعله في سقائها وتوكئ عليه، فإذا طاب شربت وسقت زوجها ) رواه أحمد.


ويستشهد ابن عباس -رضي الله عنهما-في مسألة من مسائل الحج بقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما – مما يعطي شهادة بسعة علمها وحفظها -رضي الله عنها -. فعن مجاهد قال قال عبد الله بن الزبير – رضي الله عنهما – أفردوا بالحج، ودعوا قول هذا يعني ابن عباس – فقال ابن العباس – رضي الله عنهما ألا تسأل أمك عن هذا؟ ، فأرسل إليها فقالت: صدق ابن عباس خرجنا مع رسول الله الله حجاجاً فأمرنا فجعلناها عمرة فحل لنا الحلال حتى سطعت المجامر بين النساء والرجال. رواه أحمد.


4- الفقه

ومع الحفظ والجمع للأخبار كن رضوان الله عليهن أهل فقه وفهم للنصوص، وهذا من علامة الخير كما قال : من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) رواه البخاري ومسلم.

وها هي شواهد من فقههن رضوان الله عليهن عن عروة قال: سألت عائشة -رضي الله عنها – فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن ا} (البقرة : ١٥٨) فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، يَطَّوَّفَ بِهِمَا قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما ، ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله له عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى { إِنَّ الصفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله… الآية، قالت عائشة -رضي الله عنها – : وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما …). رواه البخاري ومسلم.

ومع عروة في موقف آخر وهو يسأل عائشة عن آية من كتاب الله، فمن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة -رضي الله عنها – عن قول الله تعالى {وَإِنْ خفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا } إلى ورباع} فقالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ في النِّسَاءِ} إلى قوله {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال فيها {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكَحُوهُنَّ } يعني : هي رغبة أحدكم ليتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن (رواه البخاري ومسلم) ويسألها في موقف ثالث عن آية أخرى، فعن عروة أنه سأل عائشة رضي الله عنها – زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت قوله { حَتَّى إِذَا اسْتَيْسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كذبُوا} أو ( كذبوا )؟
قالت : بل كذبهم قومهم، فقلت: والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم وما هو بالظن فقالت: يا عُريَّة، لقد استيقنوا بذلك، قلت: فلعلها أو كذبوا} قالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، وأما هذه الآية قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأست ممن كذبهم من قومهم، وظنوا أن أتباعهم كذبوهم، جاءهم نصر الله. رواه البخاري. وعن عباد بن عبد الله بن الزبير أن عائشة -رضي الله عنها – أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه فأنكر الناس ذلك عليها فقالت: ما أسرع ما نسي الناس ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد. رواه مسلم.

وعن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة فقلنا : يا أم المؤمنين رجلان من أصحاب محمد أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة، قالت: أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قال: قلنا : عبد الله يعني ابن مسعود – قالت: كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
إن الحفظ للنصوص أمر لا بد منه، وهو مبدأ العلم وأول خطوة فيه، لكنه ليس الخطرة الأخيرة وليس النهاية بل لا بد من الفقه والفهم، وقد أثنى تبارك وتعالى على أحد أنبيائه وأخبر أنه رُزق الفهم فقال {فَفَهُمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } ثم يعقب حتى لا يظن أحد أن في ذلك غمطاً لشأن داود عليهما السلام – فيقول { وَكُلا وَآتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (الأنبياء : ٧٩). و يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفقه في الدين دلالة على إرادة الله الخير لعبده فيقول: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين. رواه البخاري ومسلم. وحين كافاً ابن عباس رضي الله عنهما – على صنيعه دعا له بهذا الدعاء اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل. رواه البخاري ومسلم.

وجيل صحوتنا المباركة اليوم أحوج ما يكون إلى إدراك هذا المعنى وهو يعيش يقظة علمية مباركة بإذن الله.
إن جمع النصوص في الموضوع الواحد ، وإدراك مقاصد التشريع وحكمته، والتعرف على أسباب نزول الآيات والوقائع، كل ذلك مما يعين على الفهم والفقه السليم للنصوص، وهو يحول دون خطأ وخلط أولئك الذين يستدلون بالنصوص على واقعهم الفاسد، ويحول أيضاً دون أولئك الذين تخف لديهم عظمة النص الشرعي وهيبته فيقفزون عليه ويلتفون عليه باسم الفقه والمصالح وتغير الزمان.

5- سعة العلم

لقد بلغ من سعة علم عائشة -رضي الله عنها – أن تكون مرجعاً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونها عما أشكل عليهم.
عن أبي بردة عن أبي موسى -رضي الله عنه – قال: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله الله حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً، رواه الترمذي. ولم يقف علم عائشة -رضي الله عنها – عند فهم كتاب الله، والعلم بأخبار النبي الله وسنته ، بل تجاوز ذلك إلى مدى يجعل ابن أختها عروة بن الزبير يملكه العجب فيسألها عن ذلك.
فعن هشام بن عروة قال كان عروة يقول لعائشة : يا أمتاه، لا أعجب من فهمك أقول زوجة رسول الله الله وبنت أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول : ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس أو ومن أعلم الناس) ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو ؟ ومن أين هو ؟ قال: فضربت على منكبه وقالت: أي عُريَّة إن رسول الله الله كان يسقم عند آخر عمره (أو في آخر عمره) فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات وكنت أعالجها له فمن ثم (رواه أحمد).

وبعد فهذه الأخبار غيض من فيض، وقطرة من بحر مما ورد من عناية فتيات الصحابة رضوان الله عليهن بالعلم الذي هو ضرورة ملحة لكل مسلم ومسلمة في كل زمان ومكان.
ها هي أختي المسلمة نساء أصحاب النبي الله وعنايتهن بالعلم والفقه في دين الله، فأصبحن قدوة لغيرهن، فحفظ لنا التاريخ مواقف من عناية نساء المسلمات بالعلم والفقه في دين الله.
فمع عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء، ورغم أنهن يحضرن مشاهد العلم والخير فيشهدن الصلاة معه، ويسمعن القرآن والذكر، ويشهدن العيد حتى ذوات الخدور ويخصهن فيه بخطاب خاص، إلا أن ذلك لم يكن ليشبع تطلعهن ونهمهن بالعلم، فيرين أن الرجال فاقوهن في تحصيل العلم وإدراكه، فيتطلعن إلى مجلس خاص منه لا له ، ويعبرن له عن هذه الرغبة وهذا الطلب.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه – قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يومـاً لـقـيـهـن فـيـه فـوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: «ما منكن امرأة تُقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار، فقالت امرأة واثنتين؟ فقال: “واثنتين”. رواه البخاري ومسلم.
وها هي أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها – تشهد بهذه الشهادة لنساء الأنصار إذ تقول: «نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين”. رواه مسلم.


ويحفظ لنا التاريخ بين صفحاته صوراً من عناية بعض النساء بالعلم، بل تمیزهن ،به ومن ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير عن أم زينب فاطمة بنت عباس (وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية، فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعت الشيخ تقي الدين يثني عليها، ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيراً من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها، وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها » (البداية والنهاية). وفي زماننا يتأكد هذا الأمر، إذ على الأمة اليوم أن تستنفر طاقاتها وتستجمع قواها، والنساء جزء له أهمية في هذا الميدان، وثمة أمور عدة تؤكد أهمية العلم والعناية به لدى الفتاة المسلمة اليوم نعرض بعضاً منها فيما يلي:

الأمر الأول: حين تحمل المرأة المسلمة زاداً من العلم الشرعي فهو وسيلة بإذن الله لتربية أبنائها وتعاهدهم ورعايتهم وتعليمهم ما يجهلون من دينهم، وما أجمل أن تعتني الأم بتعليم أولادها أحكام العبادات ،وآدابها، وتوقفهم على سنة النبي ، فهي تراهم يتطهرون وتراهم يصلون، وتعيش معهم سائر أمور اليوم والليلة. هي كذلك تمثل مرجعاً مهماً وقريباً لبناتها خاصة في المسائل التي يستحيين من سؤال آبائهن ومعلماتهن، وتكون قلباً مفتوحاً لهن يستمع وينصح ويوجه ويعلم.
الأمر الثاني: تحتاج الفتاة اليوم لرصيد من العلم يكون زاداً يمكن أن تملأ به المجالس بديلاً للهو والحديث غير المفيد، وما أكثر الهموم التي يجب أن تطرح للنقاش والحوار في مجالسنا.
الأمر الثالث: تحتاج الفتاة أيضاً للعلم حين تكون معلمة ، فلا يقف دورها حينئذ عنـد مجرد قراءة الكتاب المدرسي وسرد ما فيه، بل تصبح مرجعاً لطالباتها، وحين تقدم لهن النصيحة يشعرن أنها تتكلم بعلم لا بمجرد عواطف.

ولئن كانت طبيعة المرأة تحول بينها وبين بعض الفرص للتعلم، فإن التقنية المعاصرة اليوم قد هيأت أسباباً ووسائل كثيرة يمكن أن تستفيد منها الفتاة في تحصيل قدر من العلم ربما كان يصعب عليها فيما سبق. فالكتب اليوم غدت سهلة وميسرة وفي متناول كل منا، وقلما يخلو منها بيت أو منزل، والأشرطة المسجلة التي تحوي دروس أهل العلم وأقوالهم وفتاواهم صارت في متناول الجميع، بل إن الفتاة تستطيع الاستماع إليها وهي تقضي ساعات في إعداد الطعام وكيّ الثياب وغير ذلك من الأعمال.. وغير هذه الوسائل كثير.
فما بالنا مع هذه الفرص نرى بعض الفتيات الفاضلات يشتكين من الفراغ ويبحثن عما يقضين به أوقاتهن؟ لذا فهن يمضين أوقاتاً طويلة في قراءة الصحف أو المكالمات الهاتفية مع الصديقات والقريبات.

(كتاب فتيات الصحابة)

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة