تحمل المشاق في سبيل الله
لقد جعل الله في هذه الدنيا مباهج وزينة تأخذ بلب الناس وتفعل فعل السحر في نفوسهم، وتسهم هذه المظاهر الساحرة الفاتنة في بناء المنطلقات والمعايير لدى بعض أهل الدنيا ، وتؤدي دورها في ترتيب الأولويات لديهم.
أما الذين منَّ الله عليهم بسلامة البصيرة فهم يضعون هذه المباهج موضعها، ويدركون أنها متاع زائل وأن الباقي إنما هو في الدار الآخرة.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:14- 15].
وقد أدرك هؤلاء ببصيرتهم حين استضاءوا بنور الوحي أن حقيقة مباهج الدنيا هي كما أخبر عنها خالقها ﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مقتدراً} [الكهف :45]
وفي آية أخرى يصفها تبارك وتعالى بقوله {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} {الحديد 20}.
ولم تكن هذه المعاني لتغيب عن شأن فتيات أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فهاهي نماذج من سيرهن وصفحات من تاريخهن.
مع زوجات صاحب الرسالة
عن عبيد بن السباق قال: إن جويريه زوجة النبي (صلى الله عليه وسلم) أخبرته وأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل عليها فقال: “هل من طعام؟” قالت: “لا والله يا رسول الله، ما عندنا طعام إلا عظم من شاة أعطيته مولاتي من الصدقة، فقال: “قربيه فقد بلغت محلها”. رواه مسلم.
ويأمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخير زوجاته بين زينة الحياة الدنيا ومتاعها، وبين البقاء معه -صلى الله عليه وسلم- ذلك أن الرسالة والنبوة تعني تحمل تبعات ومشاق لا يطيقها كل الناس، وأولئك الاتي رضين واخترن العيش في بيت النبوة يدركن تمام الإدراك أن هذا الشرف لا يتهيأ لمن يبحثن عن الشهرة و الأضواء.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:28)
فيخترن -رضوان اللهُ عليهن- الله ورسوله والدار الآخرة، ويودعن به مباهج الدنيا وزخرفها.
وينظرن لغيرهن وهن يتقلبن في النعيم ومتاع الدنيا، وهن يسعدن بالعيش مع أزواجهن وأبنائهن، فيدركن أنهن أكثر نعيما وأهلا أعيش فما هي إلا أيام ويودعن هذه الدار بما فيها ثم يلقين الله بهذا العمل الصالح، وهن ينتظرن وعده تبارك وتعالى {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (الحاقة: 24) حينها فماذا تعني متع الدنيا بأسرها؟
وهاهي إحدى هنا تعبر عن شيء من تلك الحياة التي كانت تعيشها مع النبي صلى الله عليه وسلم.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلمنار، فقلت: يا خالة، ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسود التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كانت لهم منائح، وكانوا يمحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا. رواه البخاري ومسلم.
مع بنت المصطفى وزوج ذي النورين
وهاهي رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلملم تكن فتاة مغمورة، إنما كانت بنت خير البشر سليلة بيت النبوة والشرف، ولم تكن زوجة رجل يعيش على هامش الأحداث إنما كانت زوجة ذي النورين، الذي يكفيه شرفا وفخراً أن يتزوج اثنتين من بنات المصطفى صلى الله عليه وسلم_ ها هي رضي الله عنها تختار الغربة والمشقة فراراً بدينها، فتهاجر إلى الحبشة، إلى بلاد لا تعرف لسان أهلها، وليس لها هناك أنيس ولا معين إلا الله تبارك وتعالى، وهي إذا تفعل ذلك لم تكن فتاة متبلدة المشاعر والأحاسيس إنما كانت تشعر أن الأمر جد، والقضية تتطلب منها أن تعيش لله وتتحمل المشاكل في سبيله.
مع ذات النطاقين
كم كان حديثاً ممتعاً مما ساقه الأستاذ محمد حسن برينش وهو يتحدث عن ذات النطاقين فنورد هاهنا شيئاً مما قاله تاركين ما بقي اختصاراً لا زهداً “تزوجت أسماء المسلمة التقية البرة من الزبير ابن العوام فارس المسلمين وبطل الزحوف، وانتقلت من بيت أبيها إلى بيتها المتواضع البسيط، ولم تحمل معها أحلام الغانيات المترفات في حياة الرغد وبسطة العيش وزينة الحياة، بل كانت تفكر في مستقبل الإسلام ومصير الدعوة، كانت تدرك أنها وزوجها في معركة مع الجاهلية والشرك، وإنهما في جهاد لا ينقطع حتى تعلو كلمة الله، وتخفق راية التوحيد فوق العالمين، ولا بد لآمال كهذه أن ينقطع لها أن ينقطع لها صاحبها من دون فعل الرغبات.
لهذا لم تكن أسماء عبئاً على الزبير في أول الزواج ولا في أي وقت من الأوقات بما لها من مطالب دنيوية ورغبات ذاتية، لأنها لم تطلب الدنيا للمتعة، ولم تحرص على أمر يتعارض مع واجباتهما نحو الدعوة وفي تلك المرحلة المهمة، وكذلك لم تطلب من زوجها أن يكون لها وحدها يستجيب لمطالبها ويحقق رغباتها، ويسعى لتوفير السعادة لها كما تتصورها النساءحتى ينقطع لها ويقوم على خدمتها.. أنها تقوم بخدمة الزوج وتهيئة كل دواعي رضاه لأن ذلك جزء من واجباتهما نحو الدعوة، وهو على ثغر خارج البيت، وهي على ثغر داخل البيت، وهذه هي القسمة العادلة. (ذات النطاقين).
يرحم الله أم إسماعيل
إن عيش المرأة لقضية الدعوة أمر لم يكن خاصاً بالنساء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فها هي هاجر هاجر عليه السلام يحدثنا عنها صلى الله عليه وسلم إذا جاء إبراهيم بها وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه الإنسان ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: أالله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم ، قالت:إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عندك الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال رب {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} حتى بلغ {يَشكُرُون} وجعلت أم إسماعيل ترضى إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى وقال يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا؟ فلم ترى أحداً، فهبط من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً؟ فلم ترى أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فذلك سعي الناس بينهما”.
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه-أو قال بجناحه- حتى ظهر الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم:” يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم- أو قال لو لم تغرف من الماء- لكانت زمرم عيناً معيناً” قال: ” فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله.
وعلى مدى تاريخ الإسلام كان لزوجات المصلحين دور لا ينكر في الوقوف معهم ودعم قضيتهم، لقد دفعوا حريتهم ومتاع الدنيا وزخرفها، دفعوا ذلك كله ثمناً يرجون به وجه الله ، فتعيش معهم نساؤهم وبناتهم قضيتهم، وتستهين بهذه المشاق حين تعلم أنها في سبيل الله ، بل تقف معهم وفي صفهم معينة ومسددة ومثبتة وهي تقول لهم: لا تخافوا علينا فالله ويرعانا، وسيروا في طريقكم فنحن معكم، كما قالت خديجة -رضي الله عنها- لصاحب الرسالة :”والله لا يخزيك الله أبداً” ويشعرن حينها أنهن يقمن بدور عظيم، وأن من نعمة الله عليهن أن اقترنَّ بهؤلاء.
(من كتاب فتيات الصحابة)