في السنة الثالثة للهجرة النبوية وبعد غزوة أحد، وما خلفته من آلام وجراح، كانت غزوة حمراء الأسد التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم من خلالها أن يعيد لأصحابه روح التفاؤل والثّقة، وأن يبعث برسالة لأعداء الإسلام بأن المسلمين لا زالوا أعزّة قادرين على المواجهة، وأن جراحهم وآلامهم لا يمكن أن توقفهم عن مواصلة الدعوة والجهاد لنشر دين الله عز وجل. ولذلك فإن غزوة حمراء الأسد تعتبر امتداداً لغزوة أحد وصفحة من صفحاتها. قال ابن إسحاق: “كان أحُد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد يوم الأحد سادس عشر من شوال: أذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأن لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فاستأذنه جابر بن عبد الله في الخروج معه فأذن له، وإنما خرج مرهباً للعدو، وليظنوا أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن طلب عدوهم”. سار النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه الذين شاركوا في غزوة أحد حتى وصلوا إلى حمراء الأسد ـ على بعد ثمانية أميال من المدينة المنورة ـ، وعَسْكروا وأقاموا بالقرب من جيش المشركين الذي كان عائدا إلى مكة بعد غزوة أحد، ولم يحدث قتال بينهم، وآثر المشركون السلامة فرجعوا إلى مكة، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وقد استطاع أن يحقّق أهدافه من هذه الغزوة، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران:174).
وفي طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم أسَرَ المسلمون أبا عزة الجُمحي الذي سبق وأن أسروه في غزوة بدر، وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم سراحه حينئذ.
يقول ابن القيم في هديه صلى الله عليه وسلم في الأسْرى: “كان يَمُنّ على بعضهم (يطلق سراحهم بلا فداء)، ويقتل بعضهم، ويفادي بعضهم بالمال، وبعضهم بأسارى المسلمين، فعل ذلك كلّه بحسب المصلحة”، وقال: “ذكر أحمد عن ابن عباس أن بعضهم (الأسرى) لم يكن له مال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، فدل هذا على جواز الفداء بالعمل”. وفي غزوة بدر عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدد من الأسارى فأطلقهم بغير فداء، منهم: أبو عزة الجُمَحِى، فقد كان فقيراً، ووالد بنات، فقال للنبي الله عليه وسلم: “لقد عرفت مالي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال” فامنن عليَّ”، فمنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطلق سراحه، وأخذ عليه عهدا أن لا يقاتله، ولا يظاهر (لا يعين أحداً عليه)، فنقض أبو عزة الجمحي عهده مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقاتل مع المشركين في غزوة أحد.
لا يُلدغ المؤمن مِنْ جُحْرٍ واحد مرتين:
لمَّا وقع أبو عزة الجمحي في أسْر المسلمين في غزوة حمراء الأسد، وقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يطلب عفوه مرة ثانية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، وقال كلمته التي صارت مثلاً: (لا يُلدغ المؤمن مِنْ جُحْرٍ واحد مرتين) رواه البخاري. اللدغ: يكون من ذوات السموم كالعقرب والحيَّة.
قال القاضي عياض: “ومعناه: المؤمن الممدوح هو الكَيِّس (العاقل) الحازم، الذى لا يُسْتْغَفل فيُخْدَع مرة بعد أخرى، وهو لا يفطن بذلك”.
وقال ابن بطال: “ينبغى للمؤمن إذا نُكِبَ (أصيب) من وجه أن لا يعود لمثله. وترجم له فى كتاب الأمثال باب المحاذرة للرجل من الشىء قد ابتلى بمثله مرة. وفيه: أدب شريف، أدَّب به النبى صلى الله عليه وسلم أمته ونبههم كيف يحذرون ما يخافون سوء عاقبته، وهذا الكلام مما لم يُسْبَق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله لأبي عزةالشاعر، وكان أُسِرَ يوم بدر فسأل النبىَّ صلى الله عليه وسلم أن يَمُنَّ عليه (يطلق سراحه بلا فداء) وذكر فقراً، فمنَّ عليه النبى صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه عهداً أن لا يحض عليه ولا يهجوه (ينتقص منه في شعره)، ففعل، ثم رجع إلى مكة فاستهواه صفوان بن أمية وضمِن له القيام بعياله، فخرج مع قريش وحضَّ على النبى صلى الله عليه وسلم فأُسِر، فسأل النبىَّ أن يمن عليه فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يُلْدَغ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين، لا تمسح عارضيك بمكة وتقول: سخرت من محمد مرتين ثم أمر به فقُتِل)”. العارضان: صفحتا الخد، وقيل: مسحهما فيه كناية عن الزهو والاستخفاف.