إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي بِحُبِّ أَرْبَعَةِ وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ : عَلِيَّ، وَالْمِقْدَادُ، وَأَبُو ذَرِّ، وَسَلْمَانُ.
المِقداد بن عَمرو رضي الله عنه
أَصَابَ عَمْرُو بْنُ ثَعْلَبَةَ دَمَا فِي قَوْمِهِ؛ فَكَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُغَادِرَ مَوَاطِنَ قَبِيلَتِهِ بُهْرَاءَ، أَوْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلتَّأْرِ ..فَآثَرَ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ، وَوَلَّى هَارِبًا إِلَى حَضْرَمَوْتَ، وَاتَّخَذَ لِنَفْسِهِ فِيهَا مقاماً، ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ تَزَوَّجَ مِنْ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ، وَوُلِدَ لَهُ صَبِيٌّ دَعَاهُ الْمِقْدَادَ. وَرِثَ الْمِقْدَادُ عَنْ أَبِيهِ جُلَّ صِفَاتِهِ الْخَلْقِيَّةِ وَالْخُلُقِيةِ، فَكَانَ طَوِيلًا بَائِنَ الطُّولِ؛ أَسْمَرَ شَدِيدَ السُّمْرَةِ حَتَّى لَيَصِحُ أَنْ يُنْعَتَ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ جسيمًا يَمْلَأُ عَيْنَ رَائِيهِ مَهَابَةٌ وَرَوْعَةٌ. وَكَانَ إِلَى ذَلِكَ شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ قَوِيَّ الْعَزِيمَةِ. مُمْتَلِيًّا حَمِيَّةٌ وَمُرُوءَةً وَحِدَّةً. وَفِي ذَاتِ يَوْمِ اخْتَصَمَ المِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو مَعَ سَيِّدٍ مِنْ سَادَاتِ القَوْمِ فِي حَضْرَمَوْتَ هُوَ أَبُو شَمْرِ بْنِ حَجَرٍ … فَتَدَّتْ مِنَ الشَّيْخِ الْحَضْرَمِي كَلِمَةٌ قَاسِيَةٌ جَرَحَتْ كِبْرِيَاءَ الْفَتَى وَأَثَارَتْ حَفِيظَتَهُ، فَامْتَشَقَ حُسَامَهُ وَأَهْوَى بِهِ عَلَى الشَّيْخِ الْحَضْرَمِي، فَبَتَرَ ساقه. عِنْدَ ذَلِكَ، وَجَدَ الْمِقْدَادُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْلُوَ عَنْ حَضْرَمَوْتَ كَمَا جَلَىٰ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ عَنْ دِيَارِ قَبِيلَتِهِ بُهْرَاء؛ فَوَلَّى وَجْهَهُ شَطْرَ مَكَّةَ. أَدْرَكَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو مُنْذُ وَطِئَتْ أَقْدَامُهُ مَكَّةَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْع أَحَدٍ أَنْ يَعِيشَ في هَذَا الْمُجْتَمَعِ الْقُرَشِيّ آمِنًا مُطْمَئِنَّا إِلَّا إِذَا كَانَتْ لَهُ قَبِيلَةٌ تَحْمِيهِ ، أَوْ عَصَبِيَّةٌ تَمْنَعُهُ. أَمَّا الْغُرَبَاءُ أَمْثَالُهُ ؛ فَمَا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَخْتَارُوا بَيْنَ اثْنَتَيْنِ : فَإِمَّا أَنْ يُحَالِفُوا سَيْدًا مِنْ سَادَاتِ الْقَوْمِ ؛ فَيَعِيشُوا فِي كَنَفِهِ ، وَيَأْمَنُوا فِي حماه، وَإِمَّا أَنْ يُعَرِّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلذَّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ، فَحالَفَ سَيْدًا مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشِ هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ.
لَكِنَّ الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ مَا لَبِثَ أَنْ رَأَى فِي الْفَتَى الْحَضْرَمِيِّ مِنْ سمَاتِ الرَّجُولَةِ، وَشَمَائِلِ الْمُرُوءَةِ، وَخَصَائِل الشَّجَاعَةِ وَالنَّجْدَةِ؛ مَا مَلَأَ قَلْبَهُ حُبًّا لَهُ، فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ، وَمَضَى بِهِ إِلَى مَجَالِسِ قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ أَعْلَنَ تَبَنِّيهِ لَهُ،
وَقَالَ: اشْهَدُوا – يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ – أَنَّ هَذَا ابْنِي أَرِثُهُ وَيَرِثُنِي. فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ اسْمَ : الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ أَبْطَلَ التَّبَنِّي فِيمَا بَعْدُ ؛ فَقَدْ ظَلَّ أَكْثَرُ النَّاسِ يُنَادُونَهُ كَذَلِكَ ، لِكَثْرَةِ مَا تَرَدَّدَ هَذَا الاِسْمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَفَرْطِ مَا تَدَاوَلُوهُ بَيْنَهُمْ. لَمْ يَكُنِ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرِو – أَوِ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ كَمَا كَانُوا يُنَادُونَهُ – مُرْتَاحًا إِلَى ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ الْجَاهِلِيّ الَّذِي تُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ ظُلْمًا وَبَغْيًا، وَتُسْتَبَاحُ فِيهِ الْحُرُمَاتُ عُدْوَانًا وَجَوْرًا ، وَيَسْتَذِلُّ فِيهِ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَتَسُودُهُ الْعَصَبِيَّاتُ الْعَمْيَاءُ. فَهُوَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ سَيْدًا مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ قَدْ تَبَنَّاهُ ـ مَا يَزَالُ فِي نَظَرِ الْقَوْمِ شَرِيدًا طَرِيدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصْهِرَ لِأَيِّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ فِي عُرْفِهِمْ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِأَيِّ بِنْتِ مِنْ بَنَاتِهِمْ مَهْمَا دَنَتْ مَنْزِلَتُهَا وَكَانَ الْمِقْدَادُ يَسْمَعُ مَا يَدُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكُهَّانِ وَمَا يَرْوِيهِ أَحْبَارُ يَهُودَ : مِنْ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ أَطَلَّ زَمَانُهُ سَيَمْلَأُ الدُّنْيَا بِرًّا وَخَيْرًا وَعَدْلًا ؛ فَيَقُولُ فِي نفسه : عَسَى وَلَعَلَ. لَمْ يَمْضِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ قَلِيلٍ؛ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بدين الْهُدَى وَالْحَقِّ …. فَمَا إِنْ سَمِعَ بِهِ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو حَتَّى بَادَرَ إِلَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدَيْهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ثُمَّ مَضَى إِلَى مَجَالِسِ قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَأَعْلَنَ إِسْلَامَهُ عَلَى مَلَإٍ مِنَ القوم فَكَانَ سَابِعَ سَبْعَةٍ أَعْلَنُوا إِسْلَامَهُمْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. لَمْ يَكُنِ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو حِينَ تَوَجَّهَ إِلَىٰ مَجَالِسِ قُرَيْشٍ لِيُعْلِنَ دُخُولَهُ فِي دين اللَّهِ جِهَارًا نَهَارًا؛ يَجْهَلُ وَقْعَ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْفَىٰ عَلَيْهِ مَا سَيُنْزِلُونَهُ بِهِ مِنَ الْأَذَى وَالنَّكَالِ … لكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ دَعْوَةً كَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ قَرَابِينَ: فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَحَدَ شُهَدَائِهَا وَضَحَايَاهَا صَبَّتْ قُرَيْسٍ عَلَى الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ بَطْشِهَا وَنَكَالِهَا مَا يُزَلْزِل الجبال فَلَمْ يَتَزَعْزَعُ ، وَلَمْ يَتَضَعْضَعْ. وَمَا كَانَ يَزِيدُهُ الْعَذَابُ إِلَّا صَلابَةٌ فِي دِينِهِ، وَرُسُوحًا فِي إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ. وَلَمَّا أَذِنَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لِأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ ؛ أَبَتْ قُرَيْش عَلَى الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو أَنْ يُغَادِرَ سِجْنَهَا الْكَبِيرَ.
فَقَدْ كَانَ حِقدُهَا عَلَيْهِ يَتَكَافَأُ مَعَ تَحَدِّيهِ لَهَا وَلِذَا كَانَ مِنْ أَوَاخِرِ الْمُسْلِمِينَ هِجْرَةً، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ التَّخَلُصَ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا بِحِيلَةٍ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ فَرِحَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَقْدَمِهِ؛ إِذْ كَانَ يُحِبُّهُ حُبًّا جَمَّا وَيَقُولُ : (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي بِحُبِّ أَرْبَعَةِ ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبُهُمْ : عَلِيٌّ ، وَالْمِقْدَادُ ، وَأَبُو ذَرُ، وَسَلْمَانُ). قَسَّمَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَشَرَاتٍ، وَجَعَلَ كُلَّ عَشَرَةٍ فِي بَيْتٍ .. فَكَانَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو مِنَ الْعَشَرَةِ الَّتِي سَعِدَتْ بِمُسَاكَنَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ونَعِمَتْ بِكَرِيمٍ شَمَائِلِهِ، وَلَقِيَتْ مِنْ بِرِّهِ وَعَطْفِهِ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ. حَدَّثَ الْمِقْدَادُ قَالَ: كُنْتُ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونُوا مَعَهُ فِي بيته وَكَانَتْ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ ثَلَاثُ أَعْنُزِ يَحْتَلِبُونَهَا وَيُوَزِّعُونَ لَبَنَهَا بَيْنَنَا، وَكُنَّا نَرْفَعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَصِيبَهُ. وَفِي ذَاتِ لَيْلَةٍ جِئْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لي، وَكَانَ الْجُوعُ قَدْ نَهَكَنَا حَتَّى أَوْشَكْنَا أَلَّا نَسْمَعَ وَلَا نبصِرَ. أَمَّا صَاحِبَايَ؛ فَقَدْ شَرِبَا نَصِيبَهُمَا وَنَامَا، وَأَمَّا أَنَا فَلَمْ يَكْفِنِي مَا شَرِبْتُهُ، وَبَقِيتُ خَاوِيَ الْبَطْنِ لَا أَسْتَطِيعُ النَّوْمَ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ. فَقَالَ لِي الشَّيْطَانُ : مَاذَا عَلَيْكَ لَوْ شَرِبْتَ هَذِهِ الْجُرْعَةَ الَّتِي رُفِعَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَأْتِي إِلَيْهِ الأَنْصَارُ؛ فَيُهْدُونَ لَهُ أَمْثَالَهَا إِذَا شَاءَ. وَمَا زَالَ بِي يُغْرِينِي بِهَا حَتَّى شَرِبْتُهَا فَلَمَّا شَرِبْتُهَا؛ جَاءَنِي الشَّيْطَانُ يُنَدِّمُنِي عَلَى مَا فَعَلْتُ وَيَقُولُ: مَاذَا صَنَعْتَ بِنَفْسِكَ ؟!! الآن يَجِيءُ مُحَمَّدٌ فَلَا يَجِدُ شَرَابَهُ؛ فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلَكُ. وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ بَارِدَةٌ، وَكَانَتْ عَلَيَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَىٰ رَأْسِي بَدَتْ مِنْهَا قَدَمَايَ، وَإِذَا غَطَّيْتُ بِهَا قَدَمَيَّ انْكَشَفَ رَأْسِي. وَكَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَ فِي اللَّيْلِ؛ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُ الْيَقْظانَ، وَلَا يُوقِظُ النَّائِمَ. فَمَا هُوَ إِلَّا قَلِيلٌ؛ حَتَّى جَاءَ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُصَلِّي. وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ تَحْتِ الشَّمْلَةِ. ثُمَّ تَفَقَّدَ شَرَابَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ ؛ فَرَفَعَ يَدَهُ ….فَقُلْتُ : الْآنَ يَدْعُو عَلَيَّ فَأَهْلَكُ. لَكِنَّهُ قَالَ اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي ، وَاسْقِ مَنْ سَقَانِي ). فَقُلْتُ فِي نَفْسِي أَنَا أُطْعِمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَفُوزُ بِدَعْوَتِهِ. فَتَسَلَّلْتُ مِنْ مَكَانِي وَأَخَذْتُ شَفْرَتِي، وَقُلْتُ: أَذْبَحُ لَهُ وَاحِدَةً مِنَ الْأَعنز، وَلْيَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَكُونُ. ثُمَّ مَضَيْتُ إِلَى الْأَعْنُز وأَخَذْتُ أَجُسُّهُنَّ لِأَرَىٰ أَيُّهُنَّ أَسْمَنُ؛ فَإِذَا ضُرُوعُهُنَّ قَدْ حَفِلَتْ بِاللَّبَنِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُنَّ حُلِيْنَ وَشِيكًا. فَأَخَذْتُ إِنَاءً وَحَلِبْتُ إِحْدَاهُنَّ حَتَّى امْتَلَأ وَعَلَتْهُ الرَّغْوَةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِي فَشَرِبْتُ ص مَّ نَاوَلْتَهُ فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِي فَشَرِبْتُ، ثُمَّ ضَحِكْتُ فَقَالَ لِيَ: (إِنَّهَا إِحْدَى فِعْلَاتِكَ يَا مِقْدَادُ؛ مَا الَّذِي يُضْحِكُكَ ) ؟! فَحَدَّثْتُهُ بِمَا صَنَعْتُ؛ فَقَالَ : ( مَا كَانَتْ إِلَّا رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لَوْ كُنْتَ أَيْقَظْتَ صَاحِبَيْكَ ؛ فَأَصَابَا مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي شَرِبْنَا مِنْهُ ). فَقُلْتُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُبَالِي إِذَا شَرِبْتَ مِنْهُ أَنْتَ ، وَشَرِبْتُ أَنَا مِنْ فَضْلَتِكَ، أَلَّا يَشْرَبَ أَحَدٌ. اسْتَقَرَّ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فِي الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَزَوَّجَ بَعْدُ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَن: مَا لَكَ لَا تَتَزَوَّجُ يَا مِقْدَادُ ؟
فَقَالَ الْمِقْدَادُ: زَوِّجْنِي ابْنَتِكَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : ابْنَتِي !! لَا أُزَوِّجُكَ ابْنَتِي ، وَأَسْمَعَهُ كَلِمَةٌ لَمْ تُرْضِهِ. فَقَامَ الْمِقْدَادُ وَهُوَ يَقُولُ أَمَا زَالَتْ فِينَا بَقِيَّةٌ مِنْ جَاهِلِيَّةٍ ؟! أَمَا سَوَّى الْإِسْلَامُ بَيْنَ أَبْنَائِهِ، وَجَعَلَ أَكْرَمَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ ثُمَّ مَضَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَفَلَا يُرْضِيكَ أَنْ تُصَاهِرَ رَسُولَ اللَّهِ يَا مِقْدَادُ. فَلَمْ يُصَدِّقِ الْمِقْدَادُ أُذُنَيْهِ، وَقَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ مَنْ لِي بِذَلِكَ الشَّرَفِ ؟! فَقَالَ أَنَا لَكَ بِهِ ) ..وَزَوَّجَهُ ابْنَةَ عَمِّهِ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَغَدَا صِهْرًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَسْبُهُ بِذَلِكَ مَجَادَةً وَفَخْرًا. ثُمَّ كَانَتْ بَدْرٌ حَيْثُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَبِضْعَةً عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ ؛ وَهُمْ لَا يَنْرُونَ أَنْ يَخُوضُوا حَرْبًا شَامِمَةٌ … فَلَمَّا وَجَدَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ مُضْطَرًا لِخَوْضِهَا. كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَنَالَ مُوَافَقَةً رِجَالِهِ ؛ فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ .. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَأَحْسَنَ. وَقَالَ عُمَرُ وَأَحْسَنَ. لكِنَّ الْمَوْقِفَ ظَلَّ يَحْتَاجُ إِلَى كَلِمَةٍ حَاسِمَةٍ حَازِمَةٍ تُنْهِي التَّرَدُّدَ وَتَشُدُّ الْعَزَائِمَ ؛ فَكَانَ شَرَفُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِلْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو … حَيْثُ تَوَجَّهَ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِقَامَتِهِ الْفَارِعَةِ وَصَوْتِهِ الْجَهُورِيِّ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إمْض لِمَا أَرَاكَ اللهُ فَنَحْنُ مَعَكَ. وَاللَّهِ ! لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ. وَلَكِنْ نَقُولُ لَكَ : اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا … إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ … وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ! لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ دُونَهُ ؛ حَتَّى تَبْلُغَهُ. فَأَشْرَقَ وَجْهُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ الله بِالْفَرْحَةِ وَقَالَ لَهُ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ. وَكَانَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ الْمُجَاهِدَ الْوَحِيدَ الَّذِي خَاضَ بَدْرًا عَلَىٰ فَرَسِ ؛ إِذْ كَانَ الْبَاقُونَ إِمَّا مُشَاةٌ وَإِمَّا عَلَى الْجِمَالِ … فَسَجَّلَ لَهُ تَارِيخُ الْجِهَادِ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَدَا عَلَىٰ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ الله. تَذَوَّقَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو لَذَّةَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ بَدْرٍ … فَآلَىٰ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَظَلُّ مُجَاهِدًا لإعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ مَا بَقِيَ سَيْفُهُ مُسْتَمْسِكًا بِيَدِهِ، وَقَدْ بَرَّ بقسمه. فَقَدْ رؤيا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ رَضِيَ الله عنهما صُندُوقٍ مِنْ صَنَادِيقِ الصَّيارِفَةِ فِي أَحَدٍ أَسْوَاقِ حِمْصَ وَقَدْ كَبِرَتْ سِنْهُ حَتَّى قَارَبَتْ عَلَى السَّبْعِينَ، وَتَرَهَّلَ جَسَدُهُ حَتَّى فَاضَ عَنِ الصُّنْدُوقِ، وَكَانَ سَيْفُهُ فِي حجره. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : مَا تَفْعَلُ هُنَا يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟! فَقَالَ: أَنْتَظِرُ خُرُوجَ الْغُرَاةِ إِلَى التَّغُورِ لِأَكُونَ مَعَهُمْ. فَقَالَ لَهُ : هَلَّا عُدْتَ إِلَى بَيْتِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكَ؛ بَعْدَ أَنْ بَلَغْتَ مِنَ السِّنِّ مَا بَلَغْتَ. فَقَالَ: هَيْهَاتَ يَا بُنَيَّ ؛ لَقَدْ أَبَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ الْبُعُوثِ [ يُرِيدُ سُورَةَ الْأَنْفَالِ ] … أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ تَعَالَى : انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا …؟! أتجد فيها أن الله استثناني؟ عَاشَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو حَتَّى بَلَغَ الثَّالِثَةَ وَالسَّبْعِينَ مِنْ عُمُرِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَازِفًا عَنِ الْإِمَارَةِ. وَلَمَّا أَتَاهُ الْيَقِينُ وَارَتْهُ الْبَقِيَّةُ الْبَاقِيَّةُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي لَحْدِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ عَادَ إِلَى غِمْدِهِ بَعْدَ طُولِ عَنَاءٍ وَحُسْنِ بَلاء.
صور من حياة الصحابة