لقد وفى أصحابُ رَسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعُهودِ والمَواثيقِ، والتَزَموا بالمُبايعاتِ التي أخَذَها عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
(فقد بايعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَحابَتَه في عِدَّةِ مُناسَباتٍ، وهذه هي العُهودُ والمَواثيقُ التي ذَكرَها اللهُ في أكثَرَ من آيةٍ؛ حَيثُ خُصَّ بَعضُها بالذِّكرِ كبَيعةِ الرِّضوانِ… وأخَذَ عليهم العَهدَ في بَيعَتَيِ العَقَبةِ، وبَيعةِ الرِّضوانِ، وبايعَهم على الإسلامِ، وبايعَ النِّساءَ بَيعةً خاصَّةً، كما بايعَ بَعضَ صَحابَتِه على الجِهادِ، وبايعَ آخَرينَ على السَّمعِ والطَّاعةِ، وبايعَ بَعضَهم على إقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والنُّصحِ لكُلِّ مُسلمٍ.
ومِمَّا يجدُرُ التَّنبيه إليه هنا ما ذَكرَه سُبحانَه في سورةِ الأحزابِ مادِحًا أصحابَ تلك العُهودِ والمَواثيقِ، ومُثنيًا عليهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] ، نَعَم، لقد وفى صَحابةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعُهودِهم، والتَزَموا مَواثيقَهم، ولم يكونوا كبَني إسرائيلَ الذين أصبَحَت الخيانةُ والغَدرُ من سِماتِهم وأبرَزِ سَجاياهم وطِباعِهم.
لقد كان من وفاءِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ أحَدَهم يسقُطُ سَوطُه وهو راكِبٌ على دابَّتِه، فينزِلُ ليأخُذَ سَوطَه، ولا يطلُبُ من أحَدٍ أن يُناوِلَه؛ لأنَّه بايعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ألَّا يسألَ النَّاسَ شَيئًا، أعطَوه أو مَنَعوه!
هذه هي الطَّاعةُ، وهذا هو الوفاءُ، وبمِثلِ هؤلاء تَسعَدُ البَشَريَّةُ وتَصِلُ إلى مَدارِجِ الرُّقيِّ وسُموِّ الأخلاقِ، لقد كان جيلًا قُرآنيًّا فذًّا، لم تَعرِفِ البَشَريَّةُ جيلًا كذلك الجيلِ، ولا صَفوةً كتلك الصَّفوةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18] ) .
وفاء أبو بَكرٍ في إنفاذِ جَيشِ أُسامةَ رَضِيَ اللهُ عنهما
قامَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بإنفاذِ جَيشِ أُسامةَ بنِ زَيدٍ، الذي قَرَّرَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليسيرَ إلى تُخومِ البَلقاءِ من الشَّامِ.
(فخَرَجوا إلى الجرفِ فخَيَّموا به، وكان بَينَهم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -ويُقالُ: وأبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ- فاستَثناه رَسولُ اللهِ منهم للصَّلاةِ، فلمَّا ثَقُل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقاموا هنالك، فلمَّا ماتَ عَظُمَ الخَطبُ، واشتَدَّ الحالُ، ونَجَم النِّفاقُ بالمَدينةِ، وارتَدَّ من ارتَدَّ من أحياءِ العَرَبِ حَولَ المَدينةِ، وامتَنَعَ آخَرونَ من أداءِ الزَّكاةِ إلى الصِّدِّيقِ، ولم يبقَ للجُمُعةِ مَقامٌ في بَلدٍ سِوى مَكَّةَ والمَدينةِ! وكانت جواثا من البَحرَينِ أوَّلَ قَريةٍ أقامَت الجُمعةَ بَعدَ رُجوعِ النَّاسِ إلى الحَقِّ… وقد كانت ثَقيفٌ بالطَّائِفِ ثَبَتوا على الإسلامِ، لم يفِرُّوا ولا ارتَدُّوا، والمَقصودُ أنَّه لمَّا وقَعَت هذه الأُمورُ أشارَ كثيرٌ من النَّاسِ على الصِّدِّيقِ ألَّا يُنفِذَ جَيشَ أُسامةَ؛ لاحتياجِه إليه فيما هو أهَمُّ؛ لأنَّ ما جُهِّزَ بسَبَبِه في حالِ السَّلامةِ، وكان من جُملةِ من أشارَ بذلك عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فامتَنَعَ الصِّدِّيقُ من ذلك، وأبى أشَدَّ الإباءِ إلَّا أن يُنفِذَ جَيشَ أُسامةَ، وقال: واللهِ لا أُحِلُّ عُقدةً عَقدَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو أنَّ الطَّيرَ تَخطَفُنا، والسِّباعَ مِن حَولِ المَدينةِ، ولو أنَّ الكِلابَ جَرَّت بأرجُلِ أُمَّهاتِ المُؤمِنينَ لأُجَهِّزَنَّ جَيشَ أُسامةَ!) .
– وعن قَيسِ بنِ أبي حازِمٍ قال: (دَخَلتُ مَعَ أبي على أبي بَكرٍ في مَرَضِه…قال: يا أبا حازِمٍ قد أجَزتُ لك فرَسَيك. قال: وكان وعَدَني ووعَدَ أبي فرَسًا) .
وفاء عمر َضِيَ اللهُ عنه
قال عُمَرُ بنُ الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه لمَّا طُعِنَ: (أُوصي الخليفةَ مِن بَعدي بالمُهاجِرينَ الأوَّلينَ، أن يعرِفَ لهم حقَّهم، ويحفَظَ لهم حُرمتَهم، وأوصيه بالأنصارِ خيرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر: 9] أن يُقبَلَ مِن مُحسِنِهم، وأن يُعفى عن مُسيئِهم، وأوصيه بأهلِ الأمصارِ خيرًا؛ فإنَّهم رِدْءُ الإسلامِ، وجُباةُ المالِ، وغَيظُ العدُوِّ، وألَّا يُؤخَذَ منهم إلَّا فَضلُهم عن رِضاهم، وأوصيه بالأعرابِ خيرًا؛ فإنَّهم أصلُ العربِ، ومادَّةُ الإسلامِ، أن يُؤخَذَ مِن حواشي أموالِهم، ويُرَدَّ على فُقَرائِهم، وأوصيه بذمَّةِ اللهِ، وذمَّةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُوفَى لهم بعَهدِهم، وأن يُقاتَلَ مِن وَرائِهم، ولا يُكلَّفوا إلَّا طاقتَهم) . رواه البخاري (3700).
نَماذِجُ أُخرى من وفاءِ الصَّحابةِ
عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (خَرَجتُ مَعَ جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ البَجَليِّ في سَفرٍ، فكان يخدُمُني، فقُلتُ له: لا تَفعلْ! فقال: إنِّي قد رَأيتُ الأنصارَ تَصنَعُ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيئًا، آليتُ ألَّا أصحَبَ أحَدًا منهم إلَّا خَدمتُه!). وكان جَريرٌ أكبَرَ من أنَسٍ . رواه البخاري (2888)، ومسلم (2513) واللفظ له.
– وعن نافِعٍ قال: لمَّا خَلعَ أهلُ المَدينةِ يزيدَ بنَ مُعاويةَ جَمعَ ابنُ عُمَرَ حَشَمَه وولَدَه، فقال: إنِّي سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((يُنصَبُ لكُلِّ غادِرٍ لواءٌ يومَ القيامةِ))، وإنَّا قد بايعنا هذا الرَّجُلَ على بَيعِ اللهِ ورَسولِه، وإنِّي لا أعلمُ غَدرًا أعظَمَ من أن يُبايَعَ رَجُلٌ على بَيعِ اللهِ ورَسولِه، ثُمَّ يُنصَبَ له القِتالُ، وإنِّي لا أعلمُ أحَدًا منكم خَلعَه، ولا بايعَ في هذا الأمرِ، إلَّا كانت الفيصَلَ بَيني وبَينَه . رواه البخاري (7111).
– وعن هارونَ بنِ رِئابٍ قال: (لمَّا حَضَرت عَبدَ اللهِ بنَ عَمرٍو الوفاةُ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: إنَّه كان خَطَبَ إليَّ ابنَتي رَجُلٌ من قُرَيشٍ، وقد كان مِنِّي إليه شَبيهٌ بالوَعدِ، فواللهِ لا ألقى اللهَ بثُلُثِ النِّفاقِ! اشهَدوا أنِّي قد زوَّجْتُها إيَّاه) . رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الصمت)) (456)، وأبو بكر الفريابي في ((صفة النفاق)) (18، 19).