معركة عقرباء أو حديقة الموت بأرض اليمامة

وهي أخطر معركة قادها المسلمون في حروب الردة بقيادة خالد بن الوليد وفيها قتل مسيلمة الكذاب.

بعد أن رأى الخليفة “أبو بكر” قوة شوكة “مسيلمة الكذاب” قرر أن يرميه بأقوى الألوية الإسلامية، وهو اللواء الذى يقوده الأسد الجسور خالد بن الوليد رضى الله عنه، وبالفعل تحرك لواء “خالد” إلى اليمامة، وصحبه الكثير من الأنصار، وكان يحمل لواء الأنصار “ثابت بن قيس” ويحمل لواء المهاجرين “أبو حذيفة بن عتبة” و”زيد بن الخطاب”.


معركة عقرباء الرهيبة

وصلت الأخبار إلى “بنى حنيفة” و”مسيلمة الكذاب”، فضرب معسكره عند منطقة “عقرباء” ودعا الناس للقدوم إليه، فتقاطر الناس إليه دفاعًا عن العصبية القبلية، وليس إيمانًا بدعوة الكذاب، وكان ممن خرج من “بنى حنيفة” رجل داهية اسمه “مجاعة بن مرارة” فى سرية يطلب ثأرًا لهم من قبيلة “بنى عامر”، فأسره المسلمون وأصحابه فقتلوهم جميعًا، واستبقوا “مجاعة” لمكانته فى “بنى حنيفة”، وخرج مسيلمة بالأموال والنساء، وقام فى “بنى حنيفة” خطيبًا : “يا بنى حنيفة قاتلوا اليوم فإن اليوم يوم الغيرة، فإن انهزمتم تستردف النساء سبيات، وينكحن غير خطيبات، فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم”، وهكذا استطاع مسيلمة أن يلعب على وتر العصبية وصيانة الأعراض، وهى أمور تجعل القتال على أشده، ويجعل الناس يقاتلون حتى الموت، وقد كان.

استقر الأمر على القتال وكان جيش “مسيلمة الكذاب” قد بلغ أربعين ألفًا، فى حين أن المسلمين لا يتجاوز تعدادهم عشرة آلاف مقاتل، واندلع القتال، وكان أول وقود المعركة دم الخائن الكافر الضال “نهار الرجال بن عنفوه” عندما قتله الصحابى زيد بن الخطاب، فكان أول قتيل فى صفوف الكافرين إلى جهنم وبئس المصير، واشتد القتال فى بصورة لم يرها المسلمون فى بداية المعركة، حتى وصل “بنو حنيفة إلى خيمة “خالد بن الوليد” نفسه، وكان مجاعة أسيرًا بها ومعه “أم تميم” زوج “خالد بن الوليد”، وهموا أن يقتلوها فمنعهم مجاعة وأجارها منهم، وشعر المسلمون بالضغط الرهيب فنادى “خالد بن الوليد” فى الناس :”امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حى، ولنعلم من أين نؤتى” .

وهذا من ذكاء القائد المسلم الفطن الذى يستطيع تحفيز جنده وقت الأزمات وإثارة حماستهم وهممهم بطريق مشروع.

بطولات خالدة

وانطلقت بطولات رائعة، وهاكم طائفة من مشاهد المعركة:

كان الصحابى الجليل “ثابت بن قيس” حامل لواء الأنصار قد رأى انهزام المسلمين أمام المرتدين، فحفر لنفسه حفرة حتى وسطه، ولبس كفنه وتحنط، ثم قال: “بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين، اللهم إنى أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء (يعنى المرتدين) وأعتذر إليك مما يصنع هؤلاء (يعنى المسلمين)” ثم قاتل حتى استشهد.

وقال زيد بن الخطاب -أخو عمر بن الخطاب: “لا نحور بعد الرجال، والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو أقتل، فأكلمه بحجتى، غضوا أبصاركم، وعضوا على أضراسكم أيها الناس، واضربوا فى عدوكم، وامضوا قدمًا”، واستمر فى القتال حتى استشهد رحمه الله.

وقال أبو حذيفة بن عتبة: “يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال”، وقاتل حتى استشهد، كما تمنى يوم أن قال للرسول صلى الله عليه وسلم كلمة فى ساعة غضب يوم غزوة بدر، وغضب منها الرسول فاعتذر منها “أبو حذيفة”، ثم قال “ما أنا بآمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ ولا أزال منها خائفًا، إلا أن تكفرها عنى الشهادة” فنالها رحمه الله.

حمل الراية بعده سالم مولى أبي حذيفة فقال له المسلمون: “نخشى أن نؤتى من قبلك” فقال :”بئس حامل القرآن أنا إذًا”، وتقدم وقاتل رضى الله عنه وأرضاه.

اشتد المسلمون فى القتال، ودارت رحاهم على مسيلمة ومن حوله، وتذمرت بنو حنيفة، وقاتلت قتالًا رهيبًا دفاعًا عن العصبية، وعلم “خالد بن الوليد” أن الحرب لا تركد إلا بقتل مسيلمة، ولم تحفل “بنو حنيفة” بمن قتل منها، وقال “خالد” :”هل من مبارز؟” فقام له العديد من الأبطال فبارزهم وقتلهم جميعًا، ثم دعا “خالد”مسيلمة للحوار، وعرض عليه عدة أشياء ليوافق على الصلح، والعودة إلى الحق والإسلام، وكان “لمسيلمة” شيطانه الذى يستشيره فكلما عرض عليه “خالد”شيئًا لوى مسيلمة عنقه ليستشير شيطانه الذى رفض كل العروض، وأثناء الحوار أدرك “خالد أن وراء مسيلمة شيطانًا فلن يقبل أبدًا بأى عرض أو توبة، فانقض “خالد” ومن معه على معسكر مسيلمة، وشد عليهم فى القتال شدة عظيمة جعلت مسيلمة يفر هو و”بنو حنيفة”، وكان يقود “بنو حنيفة” رجل اسمه “محكم اليمامة” فنادى :”محكم اليمامة” فى “بنو حنيفة” قائلًا: “عليكم بالحديقة، عليكم بالحديقة”.

حديقة الموت

كانت أرض اليمامة أرضًا زراعية، بها الكثير من البساتين والحدائق والحقول، وكانت بمثابة ريف الحجاز عمومًا، وكان “لبنى حنيفة” حديقة هائلة، لها أسوار عالية، وأبواب حصينة يلجأون إليها وقت الأزمات، فلما دارت عليهم رحى المسلمين فى الحرب وطعنتهم، وعضهم القتل فروا جميعًا إلى الحديقة، وهناك دارت فصول معركة أشبه بالأساطير، وأطلق على تلك الحديقة بعدها حديقة الموت، لكثرة من قتل بها من “بنى حنيفة”.

عندما دخلت بنو حنيفة الحديقة أغلقوا على أنفسهم الأبواب، وحار المسلمون ماذا يفعلون؟ وكان فى جيش المسلمين رجل من طراز فريد، أشبه ما يكون بالرجل الخارق الغير عادى، وهو الصحابى الجليل مجاب الدعوة البراء بن مالك وكان من الشجاعة والإقدام بمكان لا يوازيه أحد من الناس وقتها، ولا حتى “خالد” أو “الزبير” أو “على”، ومن شدة شجاعته وإقدامه كان الخليفة يوصى ألا يجعلوه على قيادة الجيش حتى لا يهلكهم من شدة إقدامه، فلما وصل المسلمون إلى حديقة الموت قال للمسلمين :”يا معشر المسلمين ألقونى عليهم فى الحديقة” فقالوا: “لا نفعل” فقال: “والله لتطرحنى عليهم”.

ولك يا أيها المسلم أن تتخيل هذا المشهد الفريد من نوعه، الصحابى ” البراء بن مالك” محمول على ظهر ترس على أسنة الرماح، حتى يصل إلى سور الحديقة العالى، ثم ينقض كالصاعقة المحرقة من السماء على المرتدين، وهم فى الحديقة، وعددهم أكثر من ثلاثين ألفًا، وفى يديه سيفان يضرب بهما يمنة ويسرة كالإعصار، حتى فتح الباب للمسلمين.

تلك هى البطولة الحقيقية، والأمجاد التى يجب أن نعلمها ونفخر بها، لا بطولات الوهم والخداع السينمائى التى ألهت بها آلة الإعلام الصهيونية شبابنا وبناتنا عن أمجادهم الخالدة.

دخل المسلمون الحديقة، ودارت رحى حرب طاحنة داخلها، واستمات المرتدون فى القتال، ولكن أنى لهم أن يقفوا أمام أسد الإسلام التى افترستهم، وأنزلت الهزيمة الساحقة عليهم.

وحشي يقتل مسيلمة الكذاب

ونأتى للحظة الخالدة التى كفر فيها وحشي بن حرب العبد الحبشى عن جريمته الشنعاء يوم أن قتل بحربته سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وقد خرج إلى هذه المعركة وهو يضمر هذه النية، وقد تحين الفرصة لقتل “مسيلمة الكذاب” ودخل الحديقة، ورقب موضع مسيلمة حتى رآه، وهز حربته كالمعتاد، حتى رضى عنها، وقذفها كالبرق وقد كتب على نصلها دم هذا الكذاب اللعين، فوقعت فى قلب مسيلمة وخرجت من ظهره، وفى نفس الوقت كان الصحابى أبو دجانة البطل المشهور، صاحب العصابة الحمراء قد ضرب رأس مسيلمة بالسيف، فاشترك الاثنان فى قتله.

وبقتل مسيلمة انهارت قوى “بنى حنيفة” وانهزموا، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب، وأنزل الله بنصره على المؤمنين، وكبت المرتدين، وبعدها تابت بنو حنيفة وعادوا للإسلام مرة أخرى بعد هذه المعركة التى كانت أعنف معركة خاضها المسلمون فى تاريخهم حتى سنة 11هـ وكانت سببًا مباشرًا لجمع القرآن، لكثرة من استشهد فيها من حملة القرآن، وقد قتل من المسلمين يومها ألف رجل معظمهم من المهاجرين والأنصار، فى حين قتل من المرتدين خمسة عشر ألفًا أى أن كل مسلم قتل أمامه خمسة عشر مرتدًا، قال تعالى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة