سُجِّلَت في غزوة (أُحُد) بطولات رائعة، ومواقف كثيرة في الشجاعة والتضحية للصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ، ومنها:
موقف أبي دُجانة ـ رضي الله عنه ـ حين قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من يأخذ هذا السيف؟، فبسطوا أيديهم كلٌّ يقول: أنا، أنا، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: من يأخذهُ بحقه؟، فأحجم (تأخر) القوم، فقال أبو دجانة: أنا آخذهُ بحقه يا رسول الله، فأخذهُ ففلق (شق) به هام (رؤوس) المشركين ) رواه مسلم .
وفي رواية ابن هشام وابن كثير: ” قال سِمَاك بن خرشة أبو دجانة: ( وما حقه يا رسول الله؟، قال: أن تضرب به العدو حتى ينحني، قال: أنا آخذه بحقه، فدفعه إليه وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، أي يمشي مشية المتكبر، وحين رآه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتبختر بين الصفين قال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن ).
قال القرطبي: ” يعني بهذا الحق: أن يقاتل بذلك السيف إلى أن يفتح الله على المسلمين أو يموت ” .
وأَبو دجانة هو سماك بن أوس بنِ خرشة صحابي أنصاري من بني ساعدة، كان ممن أسلم مبكراً من الأنصار، واشتهر أبو دجانة ـ رضي الله عنه ـ ببطولاته في المعارك والغزوات، وكانت له عِصَابَةٌ (ما يُشد به الرأس) حَمْرَاءُ يُعْلَمُ بها عند الحرب، إذا اعتصب بها علم أنّه سيقاتل حتى الموت، وكان الأنصار يسمونها: ” عصابة الموت “.
بدأت معركة أُحُد والتحم الجيشان، واشتد القتال وتعانقت السيوف، واعتصب أبو دجانة ـ رضي الله عنه ـ بعصابة الموت، وتقدم نحو المشركين بسيفه الذي أخذه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فحصد به رؤوسهم وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
والكيول: هي آخر الصفوف.
وذكر ابن هشام في السيرة النبوية: أن أبا دجانة ـ رضي الله عنه : ـ ” أمعن في صفوف المشركين، وجعل لا يلقى أحَدَاً من المشركين إلا قتله، ورأى ـ رضي الله عنه ـ إنسانا يخمش الناس خمشاً شديداً، قال: فصمدت له، فلما حملت عليه بالسيف ولْوَل، فإذا هي امرأة، وهي هند بنت عتبة، قال: فأكرمت سيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أضرب به امرأة ” .
قال الزبير: ” فقلتُ له كلُّ صنيعِك رأيتُه فأعجبني غيرَ أنك لم تقتلِ المرأةَ، قال: فإنها نادت فلم يُجبْها أحدٌ، فكرهتُ أن أضربَ بسيفِ رسولِ الله ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ امرأةً لا ناصرَ لها ” رواه البزار .
وفي أثناء القتال والمعركة تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وهو يقول: ” لا نجوتُ إن نجا “، فنازله الحارث بن الصمة ـ رضي الله عنه ـ فضرب على رجله فأقعده وأخذ منه سلاحه، فأسرع عبد الله بن جابر ـ فارس آخر من المشركين ـ على الحارث بن الصمة فضربه بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون، فانقض أبو دجانة ـ البطل ذو العصابة الحمراء ـ على عبد الله بن جابر المشرك فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه .
وقبل نهاية المعركة وقعت وقعتان تدل على مدى شجاعة وقوة أبي دجانة ـ رضي الله عنه ـ، ووفائه بعهده للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أخذ السيف منه .
أما الوقعة الأولى: حين أقبل عبد اللَّه بن حميد بن زهير يركض بفرسه مُقنَّعاً في الحديد يقول: أنا ابن زهير!، دلوني على محمد، فو اللَّه لأقتلنه أو لأموتن دونه، فقال له أبو دجانة: هَلُمَّ إلى من يقي (يحمي) نفس محمد بنفسه، وضرب رقبة فرسه ثم علاه بالسيف فقتله، ورسول اللَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينظر إليه ويقول: ( اللَّهمّ ارض عن أبي خرشة (أبو دجانة)، كما أنا عنه راض ) .
والثانية: قال ابن كثير في البداية والنهاية: ” قال كعب بن مالك: وخرج رجل من المشركين نحو المسلمين وهو يقول: استوسقوا (اجْتَمعُوا) كما استوسقت جزر الغنم (مَا يذبح من الشَّاء)، وإذا رجل من المسلمين قائم ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدّر المسلم والكافر بنظري، فإذا الكافر أفضلهما عدّة وهيئة، قال: فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف، فبلغت وِرْكيه وانفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟، أنا أبو دجانة ” .
في حياة الصحابة ملامح من نوادر الشجاعة والفروسية والبطولة، وهذه الملامح تلتصق بشخصية صاحبها حيث يُعرف بها، وتظل مذكورة في كتب السيرة والتاريخ، وأبو دجانة ـ رضي الله عنه ـ واحد من أولئك الأبطال، الذين عُرِفوا بالشجاعة واشتُهِرَ بعصابته الحمراء التي كان يربطها على رأسه، وكان الأنصار يسمونها: ” عصابة الموت “.
من الأقوال المشهورة لأبي دجانة ـ رضي الله عنه ـ ما ذكره ابن سعد في الطبقات عن زيد بن أسلم قال: ” دُخل على أبي دجانة ـ رضي الله عنه ـ وهو مريض – وكان وجهه يتهلل -، فقيل له: ما لوجهك يتهلل، فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، أما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً “.