بفاعلية الرعيل الأول دخلت الأمة الإسلامية التاريخ من أوسع أبوابه وكوّنت حضارة متميزة في كافة المستويات، وغرست بتقديرها للعمل وحرصها على النفع وتوجيهها للطاقات نحو عمل الخير منابت المعرفة وتقديس العمل، حتى أصبح مؤشر تفاخرهم في البذل والعطاء والعلم والتعلم.
روى قتادة عن أنس قال: افتخرت الأوس والخزرج، فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة: حنظلة، ومنا الذي حمته الدَّبْر: عاصم بن ثابت ومنا الذي اهتز لموته عرش الرحمن: سعد بن معاذ، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين: خزيمة بن ثابت.
فقال الخزرجيون: منا أربعة نفر قرؤوا القرآن، على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، لم يقرأه غيرهم: زيد بن ثابت، وأبو زيد، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل. يعني بقوله: لم يقرأه كله أحد من الأوس، وأما من غيرهم فقد قرأه على بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد اللّه بن مسعود، في قول، وسالم مولى أبي حذيفة وعبد اللّه بن عمرو بن العاص وغيرهم؛ ذكر هذا أبو عمر. (أسد الغابة في معرفة الصحابة)
صبرهم مدرسة ..
نظرة سريعة إلى الرعيل الأول كافية لحمل النفس إلى التطلع الدائم لاقتفاء أثرهم والسير على طريقهم، فقد تحملوا الأذى البدني المروع الذي صب عليهم من أكابر المجرمين كما ساهم القرآن الكريم، تحملوا خسارة التجارات والأموال، وصبروا على مشقة الجوع والعطش، حتى حوصروا في الشعب، وصبروا على الغربة، حين غادروا الديار، وهجروا الأوطان، وأرخصوا الأهل والمال، فتركوها وراءهم ظهريًا، ورحلوا إلى بلاد بعيدة، وأقوام غرباء عنهم في اللغة والبلاد والعادات، وهذه تضحية جسيمة بالغة الجسامة، إذا ما قيست بحياة العربي الذي كان يحب وطنه وقومه يعيش حرًا، ويلوذ بقبيلته واهله، ويصعب عليه أن يفارقهم إلا ريثما يعود لهم بعد رحلة قصيرة. “أسباب نجاح الدعوة الإسلامية في العهد النبوي”؛ لعبد الله آل موسى (ص:335).
ولقد كان لتحملهم وصبرهم وكفاحهم أعظم الآثار في انتشار الإسلام، ونجاح الدعوة بعد أن علمهم إيمانهم القوي، وعقيدتهم الثابتة. اقتضى الله بحكمته أن يمتحن النفوس ويبتليها، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لإيمانه وكرامته، ومن لا يصلح ومن يقدر على تحمل أعباء الدعوة ومن لا يقدر، وليمحص النفوس التي تصلح لها، ويخلصها بكير الامتحان، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو غشه إلا بالامتحان. ” العهد النبوي”؛ لعبد الله آل موسى (ص:338).
وكان لعلمهم أعظم الآثار في تهذيب النفس، وتقوى الله، واتباع الصراط المستقيم، والبعد عن الشر وأهله، وتعميم الخير وإقامة الحق والعدل، ونشر دعوة الإسلام، عندما كانوا يختلفون إلى مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيصيبون منها علمًا وهدى وفضائل وسجايا وآدابًا وأحكامًا، ما اتسعت لذلك أوقاتهم، وساعدت عليه ظروفهم. “أسباب نجاح الدعوة الإسلامية في العهد النبوي”؛ لعبد الله آل موسى (ص:340).
ولقد كان لتضحياتهم أعظم الآثار في نجاح الدعوة؛ لأن الدعوات لا تقوم إلا بالبذل، ولا تثبت في وجه الأعاصير إلا بالتضحيات الجسام، وحمايتها وحياطتها بكل غال ونفيس من الأنفس والأموال والأهل. “أسباب نجاح الدعوة الإسلامية في العهد النبوي”؛ لعبد الله آل موسى (ص:357).