« إِنَّه فَتَى الكهول، له لسَانُ سؤولٌ، وقَلبٌ عَقول ». [عمر بن الخطاب رضي الله عنه]
هذا الصحابي الجليلُ مَلَكَ المَجْدَ مِنْ أَطْرَافِه، فما فاتَهُ مِنْهُ شَيءٌ: فقد اجتمع له مَجْدُ الصُّحْبَةِ، ولو تأخَّرَ ميلاده قليلاً لَمَا شَرُفَ بِصُحْبَةِ رسول الله. ومجد القرابَةِ، فهو ابنُ عَمِّ نَبِيِّ اللَّهِ صلوات الله وسلامه عليه. ومجد العلم، فهو حَبْرُ أُمَّةِ محمدٍ وبَحْرُ عِلْمِها الزَّاخِرُ. ومجد التَّقَى، فقد كان صَوَّاماً بالنَّهَارِ قَوَّاماً بالليل، مُسْتَغْفِراً بالأسحار، بَكَاءً من خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى خَدَّدَ الدَّمْعُ خدَّيْه. إِنَّهُ عبد اللهِ بنُ عَبَّاس رَبَّانِيُّ أمَّةِ محمد، وأعلَمُها بكتابِ اللهِ، وأفقهها بتأويله، وأقدرُها على النفوذ إلى أَغْوَارِه، وإِدْراكِ مَرَامِيهِ وَأَسْرَارِه. ولد ابنُ عباس قبلَ الهِجْرَةِ بثلاث سنواتٍ، ولما تُوُفِّيَ الرسول، صلواتُ الله وسلامه عليه، كان له ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً فَقَط. ذلك فقد حَفِظَ للمسلمين عن نَبِيّهم ألفاً وستمائة وستين حديثاً أَثْبَتَها ومع البخاري ومسلم في صحيحيهما. ولما وَضَعَتْهُ أُمُّهُ حَمَلَتْهُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَنْكَهُ بِرِيقِهِ، فَكانَ أَوَّلَ ما دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ النبيِّ المبارَكُ الطَّاهِرُ، ودخلتْ مَعَهُ التَّقْوَى وَالحِكْمَهُ ﴿وَمَنْ يؤتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾ وما إن حُلَّتْ عَنِ الغُلامِ الهاشِمِيٌّ تَمائِمُهُ، وَدَخَلَ سِنَّ التمييز حَتَّى لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُلازَمَةَ العين لاخْتِهَا، فكان يُعِدُّ له ماءَ وُضوئه إذا هم أن يتوضأ. وَيُصَلِّي خَلْفَهُ إِذَا وَقَفَ للصَّلاةِ. ويكونُ رَدِيفَهُ إِذا عَزَمَ على السَّفَر. حتى غدا له كَظِلَّهِ يسيرُ مَعَهُ أَنَّى سارٍ، ويَدُورُ فِي فَلَكِهِ كَيْفَمَا دار. وهو في كلِّ ذلك يحمِلُ بين جنبيه قلباً واعِياً، وذِهْناً صَافِياً، وحافِظَةً دُونَها كل آلاتِ التَّسْجِيل التي عَرَفَهَا العَصْرُ الحديث. حَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ قال : هَمَّ رسولُ اللهِ صلوات الله وسلامه عليه بالوضوء ذات مَرَّةٍ؛ فما أَسْرَعَ أَنْ أَعْدَدْتُ له الماءَ، فَسُرَّ بِما صَنَعْتُ ولما هَمَّ بالصلاةِ أَشَارَ إِلَيَّ: أَنْ أَقِفَ بِإِزَائِهِ، فوقفتُ خَلْفَه. فلمَّا انْتَهَتِ الصلاةُ مالَ عليَّ وقال: ( ما مَنَعَكَ أَنْ تكونَ بإزائي يا عبدَ اللَّهِ ؟!) فقلت: أنتَ أجَلُ في عَيْنِي وَأَعَزُّ من أَنْ أَوَازِيَكَ يا رسولَ اللَّهِ. فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلى السماءِ وقال : ( اللَّهُمَّ آتِهِ الحِكْمَةَ ). وقد استجاب الله دعوة نَبيه عليه الصَّلاة والسلام فأتى الغلام الهاشمي من الحكمةِ ما فاقَ به أَسَاطِينَ الحُكَمَاءِ. ولا ريب فى أَنَّكَ تَوَدُّ أنْ تَقِفَ على صورةٍ من صُوَرِ حكمةٍ عبد ابن عباس. فإليك هذا الموقف، ففيه بعضُ مِمَّا تُريد : لمَّا اعْتَزَلَ بعضُ أَصْحَابِ عليٍّ وخَذَلوه فِي نِزَاعِهِ مَعَ مُعاوِيَة رضي عنهما، قال عبدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ لعَلَيَّ رَضِيَ اللَّهُ عنه : ائذَنْ لي، يا أمير المؤمنين، أَنْ آتِيَ الْقَوْمَ وَأَكَلِّمَهُمْ. فقال : إني أتَخَوَّفُ عليك منهم. فقال : كلا إن شاء الله. ثم دَخَلَ عليهم فلم يَرَ قَوْماً قَطُّ أَشَدَّ اجتهاداً منهم في العِبَادَة. فقالوا : مرحباً بك يا بن عباس. ما جاء بك ؟! الله فقال : جئتُ أحدثكم. فقال بعضُهم : لا تحدثوه. وقال بعضُهم : قُلْ نَسْمَعْ مِنْكَ. فقال : أخبِرُوني ما تَنْقِمُونَ علَى ابنِ عَمِّ رسولِ اللَّهِ وَزَوْجِ ابْنَتِهِ، وأَوَّل مَنْ آمَنَ به ؟! قالوا : تَنْقِمُ عليه ثلاثة أمور. قال : وما هي ؟! قالوا : أَوَّلُها : أَنَّهُ حَكَمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ. وثانيها : أَنَّهُ قاتَلَ عائِشَةَ ومُعاوِيَةَ ولم يَأْخُذْ غَنائِمَ وَلا سَبَايَا. وثالثها : أَنَّهُ مَحَا عن نَفْسِهِ لَقَبَ أمير المؤمنين مع أن المسلمين قد بايعوه وأمروه. فقال : أرأيتم إنْ أَسْمَعْتُكم من كتاب الله، وحَدَّثْتُكم من حديث رسولِ اللَّهِ ما لا تُنْكِرُونَهُ، أَفَتَرْجِعُونَ عَمَّا أَنْتُمْ فِيه ؟ قالوا : نعم. قال : أما قَوْلُكم : إِنَّهُ حَكَمَ الرِّجَالَ في دينِ اللَّهِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءً مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ أنْشُدُكُم اللَّهَ، أَفَحُكْمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَصَلَاحٍ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ أَمْ حُكْمُهُم فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبْعُ دِرْهَم ؟! فقالوا : بَلْ فِي حَقْنِ دِمَاءِ المسلمين وصلاح ذاتِ بينهم. فقال : أَخَرَجْنَا من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم.
ثم قال لي : اخْرُجْ فَقُلْ : مَنْ أراد أن يسأل عن تفسير القرآن وتأويله فَلْيَدْخُلْ ، فخرجت فقلتُ لهم. فدخلوا حتَّى مَلأوا البيت والحُجْرَةَ ، فما سألوه عن شيءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُم بِه ، وزادَهُمْ مثل ما سألوا عنه وأَكْثَرَ ، ثم قال لهم : أَفْسِحُوا الطَّريق لإخوانكم ، فخرجوا. ثم قال لي : اخْرُجْ فَقُلْ : مَنْ أرادَ أَن يَسْأَلَ عَنِ الحَلالِ والحَرَامِ وَالْفِقْهِ فَلْيَدْخُلْ. فخرجتُ فقلتُ لهم ، فدخلوا حتَّى مَلأوا البيت والحُجْرَةَ ، فما سألوه عن شيءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِه وزادَهُمْ مِثْلَهُ ، ثم قال : أفسحُوا الطَّرِيقَ لإخوانكم، فخرجوا. ثم قال لي : اخْرُجْ فَقُلْ : مَنْ أرادَ أَن يَسأَلَ عَنِ الْفَرَائِضِ وَمَا أَشْبَهَها فَلْيَدْخُلْ. فخرجت فقلت لهم، فدخلوا حتَّى مَلأوا البَيْتَ وَالحُجْرَةَ، فما سألوه عن شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ به وزادَهُمْ مِثْلَهُ، ثم قال لهم : أَفْسِحُوا الطَّرِيقَ لإخوانكم ، فخرجوا . ثم قال لي : اخْرُجْ فَقُلْ : مَنْ أراد أن يَسأَلَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ والشِّعْرِ وغريب كلام العرب فَلْيَدْخُلْ . فَدَخَلُوا حَتَّى مَلأوا البيت والحُجْرَةَ ، فما سَألوه عن شيءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ ، وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ قال راوِي الخبرِ : فلو أَنَّ قُرَيْشاً كُلَّها فَخَرَتْ بِذلِك لكان ذلك لها فَخْراً وَكَأَنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه رَأَى أَنْ يُوَزِّعَ العلوم على الأَيَّامِ حَتَّى لا يَحْدُتَ على بابه مثل ذلك الزِّحَامِ فصار يجلس في الأسبوع يوماً لا يُذْكَرُ فِيهِ إِلَّا التَّفْسِيرُ . ويوماً لا يُذْكَرُ فِيهِ إِلَّا الْفِقْهُ ويوماً لا تُذْكَرُ فِيهِ إِلَّا الْمَغَازِي. ويوماً لا يُذْكَرُ فِيهِ إِلَّا الشَّعْرُ. ويوماً لا تُذْكَرُ فِيهِ إِلَّا أَيَّامُ الْعَرَبِ. وما جلسَ إِليهِ عالمٌ قَطَّ إِلا خَضَعَ له. وما سَأَلَهُ سَائِلٌ قَطُّ إِلَّا وَجَدَ عِنْدَهُ عِلْماً. وقد غدا ابنُ عَبَّاس ، بِفَضْلِ عِلْمِهِ وَفِقْهِهِ ، مُسْتَشَاراً للخِلافةِ الرَّاشِدَةِ على الرغم من حَدَاثَةِ سِنْهُ. فكان إذا عَرَضَ لِعُمَرَ بنِ الخطاب أمْرٌ أو واجَهَتْهُ مُعْضِلَةٌ دعا جِلَّةَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبَّاس ، فإذا حَضَرَ رَفَعَ مَنْزِلَتَهُ وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ الصحابة ودعا معهم وقال له : فقال : لقد أَعْضَلَ عَلَيْنَا أَمْرٌ أَنْتَ له ولأمْثَالِهِ . وقد عُوتِبَ مَرَّةٌ في تَقْدِيمِهِ له وَجَعْلِهِ مَعَ الشُّيُوخِ ، وهو ما زالَ فَتى ، إِنَّهُ فَتَى الْكُهُولِ ، له لِسَانٌ سَؤولٌ وَقَلْبٌ عَقُولٌ. على أن ابن عباس حينَ انْصَرَفَ إِلى الخاصةِ لِيُعَلِّمَهُمْ وَيُفَقُهَهُمْ ، لَمْ يَنْسَ حَقَّ العَامَّةِ عليه ، فكان يَعْقِدُ لهم مجالس الْوَعْظِ والتذكير. فمن مَواعِظِهِ قوله مخاطباً أَصْحَابَ الذُّنوب : يا صَاحِبَ الذَّنْبِ لا تَأْمَنْ عَاقِبَةَ ذَنْبِكَ ، وَأَعْلَمْ أَنَّ مَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ نَفْسِه. فإِنَّ عَدَمَ اسْتِحْيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى يَمِينِكَ وعلَى شِمَالِكَ وَأَنْتَ تَقْتَرِفُ الذَّنْبَ لا يقل عن الذنب. وَإِنَّ ضَحكَكَ عند الذنب وأنتَ لا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعُ بِكَ أَعْظَمُ مِنَ الذنب. وإِنَّ فَرَحَكَ بالذنبِ إِذا ظَفِرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنَ الذنب. وإِنَّ حُزْنَكَ علَى الذنبِ إِذا فاتَكَ أَعْظَمُ مِنَ الذنب. وإِنَّ خَوْفَكَ منَ الرِّيحِ إِذا حَرَّكَتْ سِتْرَكَ ، وأَنتَ تَرْتَكِبُ الذنب مع كَوْنِكَ لا يَضْطَرِبُ فؤادك من نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْكَ أعْظَمُ مِنَ الذنب . يا صاحِب الذنب : أَتَدْري ما كان ذنب أيوب عليه السلام حين ابتلاه الله عَزَّ وَجَلَّ بِجَسَدِهِ وَمَالِهِ ؟ إِنَّما كان ذَنْبُهُ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بهِ مِسْكِينُ لِيَدْفَعَ عنه الظُّلْمَ فلم يُعِنْهُ. ولم يَكُنِ ابنُ عَبَّاس من الذين يقولون ما لا يَفْعَلُونَ ، ويَنْهَوْنَ الناسَ ولا ينتهون ، وإِنَّما كان صَوَّامَ نَهارٍ قَوَّامَ لَيْل. أخبر عنه عبد الله بن مليكة قال : صَحِبْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مِن مَكَّةَ إِلى المدينةِ ، فَكُنَّا إِذا نَزَلْنا مَنْزِلاً قامَ شَطْرَ اللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ مِن شِدَّةِ التَّعَبِ. ولقد رأيتُه ذاتَ ليلةٍ يقرأ ﴿ وجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾. فَظَلَّ يُكَرِّرُها وَيَنْشِجُ حَتَّ عَلَيْهِ الفَجْرُ. وحَسْبُنَا بعد ذلك كُلِّهِ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ عبد الله بن عباس كان من أَجْمَلِ الناس جمالاً، وأَصْبَحهم وَجْهاً ، فما زال يبكي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ حتَّى أَحْدَثَ الدَّمْعُ الهَتُونُ على خَدَّيْهِ الأسيلين مَجْرَيَيْنِ شَبَّهَهُما بَعْضُهُمْ بِشِرَاكَي النَّعْل. وقد بلغ ابن عباس من مجد العلم غايته. ذلك أن خليفة المسلمين مُعاوية بن أبي سفيانَ خَرَجَ ذَاتَ سَنَةٍ حَاجًا.
وخَرَجَ عبدُ اللَّهِ بنُ عباس حاجًا أَيْضاً ، ولم يكن له صَوْلَةٌ ولا إمارة. فكان لمعاوية مَوْكِبٌ من رجال دولتِهِ. وكان لعبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاس مَوْكِبٌ يفوقُ مَوْكِبَ الخليفة من طُلاب العلم. سنةً مَلا فيها الدُّنيا علماً وفهماً وحِكْمَةً وتقى. عُمر ابن عباس إحْدَى وسبعين فلما أتاه اليقين صَلَّى عليه محمدُ بنُ الحَنَفِيَّةِ. والبَقِيَّةُ البَاقِيَةُ من صَحَابَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجِلَّةُ التابعين. وفيما كانوا يُوَارُونَهُ تُرَابَهُ، سمعوا قارِئَاً يَقْرَأ: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾.
صور من حياة الصحابة | عبدالرحمن رأفت باشا