حياة الفاروق، رضي الله عنه، في الجاهلية
عمر بن الخطاب من بني عدي وهم بطن صغير من قريش، وقد عرف أبوه الخطاب بجلافة طبعه وقسوة قلبه فعرف بعذابه لابن أخيه زيد بن عمرو الذي أنكر على قريش عبادتهم للأصنام مع من أنكر أمثال ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث. وورث عمر عن أبيه هذه الطباع.
ولد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في السنة الثانية والأربعين قبل الهجرة، فكان عمره يوم بعث رسول الله ﷺ تسعة وعشرين عاماً، واستمر بعدها على جاهليته مدة ست سنوات إذ معلوم أنه قد أسلم في السنة السادسة للبعثة، ثم دخل في الإسلام، وبذا يكون قد عاش في الجاهلية خمسة وثلاثين عاماً، وعاش ثلاثين عاما في الإسلام.
عاش عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، خمسة وثلاثين عاماً في الجاهلية لم يكن له فيها مركز ولا شهرة، ولولا الإسلام لما اشتهر، ولما عرفه أحد بعد ذلك. قضى تلك المدة في الجاهلية، وعرف أنه كان سفير قريش بينها وبين القبائل الأخرى فيما إذا وقع بينها خلاف أو حدث قتال. ولم تكن هذه التسمية إلا صورة لأن قريشاً لم تكن قبيلة محاربة، ولم تعرف بالغزو والقتال..
وشع نور الإسلام في مكة وآمنت به جماعات من فئات شتى، وكان من بني عدي أن آمن سعيد بن زيد ابن عم عمر، وزوجه فاطمة بنت الخطاب، أخت عمر، ونُعيم بن عبد الله، من قوم عمر، أما عمر فلم يسلم، وتمسك بجاهليته.. وإذا عمر قد ورث عن أبيه هذه الطباع الصعبة، إلا أنه قد أخذ عن خاله أبي جهل معاداته الصريحة للإسلام، لذا فقد قسى على ابن عمه سعيد بن زيد زوج أخته فاطمة قسوة كبيرة، كما قسا القسوة نفسها على شقيقته فاطمة إذ أسلما دون علمه.
إسلام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه
شعر عمر بن الخطاب بالغضب الشديد، والأسى الكبير، عندما لاحظ تفرّق كلمة قريش بين مسلمها وكافرها، بعد أن وقف وجهاء قريش في وجه الدعوة، وحاولوا منعها. وبينما كان مرة في البيت إذ ذكروا له أن محمداً ﷺ يجتمع مع رهط من أصحابه الذين لم يهاجروا إلى الحبشة أمثال حمزة بن عبد المطلب، وأبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وذلك في بيت عند الصفا فاشتد غضبه، فتوشح سیفه نحوهم، يريد إنهاء هذه المشكلة، وانطلق يبدو على وجهه الغضب، والتقى بالطريق مع نُعيم بن عبد الله، وهو رجل من قومه، ومن الأسرة المسلمة التي يلتقي فيها سعيد بن زيد ابن عم عمر، وزوجه فاطمة أخت عمر … وسأل نعيم عمر، إلى أين يا عمر؟ فقال: أريد محمداً هذا الصابئ، الذي فرق أمر قريش، وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله، فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما، قال نعيم ذلك: خوفاً من انطلاق عمر إلى رسول الله، فلربما حدث ما يكره، ففضل أن ينال سعيد وزوجه فاطمة بعض الأذى وينجو محمد عليه الصلاة والسلام …
اتجه عمر بن الخطاب إلى ابن عمه سعید بن زید، وإلى أخته فاطمة يرى شيئاً عن إسلامهما، وكان عندهما خباب بن الأرت، ومعه صحيفة فيها (سورة طه) يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خبّاب في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل، قال: ما هذه الهمهمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئاً، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زید، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجّها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى ما بأخته من الدم وندم على ما صنع، ورجع، وقال لأخته وقد رقّ قلبه، أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفاً، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، فلما قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذ قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس، على شركك، ولا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها سورة طه.
فقرأها، فلما قرأ صدراً منها، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب خرج إليه، فقال له: یا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم عمرو بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد ﷺ حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله ﷺ وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله ﷺ فنظر من خلل الباب، فرآه متوشحاً السيف، فرجع إلى رسول الله ﷺ وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحاً السيف، فقال رسول الله ﷺ: ائذن له؛ فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله الله ﷺ حتى لقيه في الحجرة، فأخذه بمجمع ردائه، ثم جبذه به جبذة شديدة، وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأؤمن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله، فكبر رسول الله ﷺ تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر قد أسلم.
مع شدة عمر وجلافة طبعه كان رقيقاً طيب القلب، إذا لم توجه إليه كلمات تغضبه أو إذا لم تكن إثارة مباشرة له. فمع ما عرف من عناده للإسلام في جاهليته وشدة إيذائه للمؤمنين فإن قلبه كان يرق عليهم أحياناً، إذ عندما انطلق المهاجرون الأوائل إلى الحبشة، وكان فيهم عامر بن ربيعة، ومعه زوجه ليلى، فمر عليهم عمر بن الخطاب، وهو على شركه، وكان عامر قد مضى لبعض حاجته، فوقف عمر على زوجة عامر، فقال لها: إنه للانطلاق يا أم عبد الله، قالت: نعم والله، لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا مخرجاً، قال: صحبكم الله، ورأت له رقة لم تكن تراها، لقد وجدت حزنه على خروجهم، فلما جاء عامر من حاجته قالت له: يا أبا عبد الله، لو رأيت عمر آنفاً ورقته وحزنه علينا، فقال لها: أطمعت في إسلامه؟ قالت: نعم، فقال: فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب، وذلك يأساً منه. لما كان يرى من غلظته وقسوته على المسلمين.
شعر عمر بن الخطاب بالغضب الشديد، والأسى الكبير، عندما لاحظ تفرّق كلمة قريش بين مسلمها وكافرها، بعد أن وقف وجهاء قريش في وجه الدعوة، وحاولوا منعها. وبينما كان مرة في البيت إذ ذكروا له أن محمداً ﷺ يجتمع مع رهط من أصحابه الذين لم يهاجروا إلى الحبشة أمثال حمزة بن عبد المطلب، وأبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وذلك في بيت عند الصفا فاشتد غضبه، فتوشح سیفه نحوهم، يريد إنهاء هذه المشكلة، وانطلق يبدو على وجهه الغضب، والتقى بالطريق مع نُعيم بن عبد الله، وهو رجل من قومه، ومن الأسرة المسلمة التي يلتقي فيها سعيد بن زيد ابن عم عمر، وزوجه فاطمة أخت عمر … وسأل نعيم عمر، إلى أين يا عمر؟ فقال: أريد محمداً هذا الصابئ، الذي فرق أمر قريش، وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله، فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما، قال نعيم ذلك: خوفاً من انطلاق عمر إلى رسول الله، فلربما حدث ما يكره، ففضل أن ينال سعيد وزوجه فاطمة بعض الأذى وينجو محمد عليه الصلاة والسلام …
اتجه عمر بن الخطاب إلى ابن عمه سعید بن زید، وإلى أخته فاطمة يرى شيئاً عن إسلامهما، وكان عندهما خباب بن الأرت، ومعه صحيفة فيها (سورة طه) يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خبّاب في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل، قال: ما هذه الهمهمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئاً، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زید، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجّها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى ما بأخته من الدم وندم على ما صنع، ورجع، وقال لأخته وقد رقّ قلبه، أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفاً، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، فلما قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذ قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس، على شركك، ولا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها سورة طه.
فقرأها، فلما قرأ صدراً منها، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب خرج إليه، فقال له: یا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم عمرو بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد ﷺ حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله ﷺ وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله ﷺ فنظر من خلل الباب، فرآه متوشحاً السيف، فرجع إلى رسول الله ﷺ وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحاً السيف، فقال رسول الله ﷺ: ائذن له؛ فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله الله ﷺ حتى لقيه في الحجرة، فأخذه بمجمع ردائه، ثم جبذه به جبذة شديدة، وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأؤمن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله، فكبر رسول الله ﷺ تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر قد أسلم.
“إسلام عمر كان فتحا”!
یروی أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لما أسلم قال: أيّ قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. فغدا عليه، حتى جاءه، فقال له: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟ فما راجعه حتى قام يجرّ رداءه، واتبعه عمر، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول الكعبة، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ، ويقول عمر من خلفه كذب، ولكني قد أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.
وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، و أعياه التعب، فقعد وقاموا على رأسه، فقال لهم: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا، وبينما هم على ذلك، إذ أقبل شيخ من قريش، عليه حُلّة حبرة، وقميص موشى، حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، فقال فمه، رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا! خلوا عن الرجل. قال عبد الله بن عمر: فوالله لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه. قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت من الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت، وهم يقاتلونك؟ جزاه الله خيراً. قال يا بني، ذاك العاص بن وائل، لا جزاه الله خيراً.
ویروی أن عمر كان يقول: لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله ﷺ عداوة، حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت، قال: قلت أبو جهل. قال: فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه. قال: فخرج إلي أبو جهل، قال: مرحباً وأهلا بابن أختي، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدّقت بما جاء به، قال : فضرب الباب في وجهي وقال: وقبّح ما جئت به.
وكان عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، يقول: ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة، حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه، وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله ﷺ إلى الحبشة.
وكان عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، يقول أيضاً: إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً، حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه.
ويروى أن عمر بين الخطاب لما أسلم قال لرسول الله ﷺ: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال ﷺ: بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق، إن متم وإن حييتم. قال: ففيم الاختفاء؟ .. فأذن بالإعلان وخرج ﷺ في صفين، عمر في أحدهما، وحمزة في الآخر،.. حتى دخل إلى المسجد.. وسماه رسول الله ﷺ يومئذ الفاروق.
فرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام عمر رضي الله عنه
يروى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: كنت للإسلام مباعداً، وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة، عند دور آل عمر بن عبد بن عمران المخزومي، قال: فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، قال: فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحداً. قال: فقلت: لو أني جئت فلاناً الخمار، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمراً فأشرب منها. قال: فخرجت فلم أجده. قال: فقلت: فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعاً أو سبعين.
قال: فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله ﷺ قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليماني، قال: فقلت حين رأيته، والله لو أني استمعت إلى محمد الليلة حتى أسمع ما يقول! فقلت: لئن دنوت منه أستمع منه لأروعنّه، فجئت من قبل الحجر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويداً، ورسول الله ﷺ يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، قال: فلما سمعت القرآن رق له قلبي، فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائماً في مكاني ذلك، حتى قضى رسول الله ﷺ صلاته، ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين، وكانت طريقه حتى يجزع المسعى، ثم يسلك بين دار عباس بن المطلب، وبين دار ابن أزهر بن عبد عوف الزهري، ثم دار الأخنس بن شريق، حتى يدخل بيته، وكان مسكنه في دار الرقطاء، التي كانت بيد معاوية بن أبي سفيان.
قال عمر، رضي الله عنه: فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس، ودار ابن أزهر، أدركته، فلما سمع رسول الله ﷺ حسي عرفني فظن رسول الله ﷺ أني إنما تبعته لأوذيه، ثم قال: ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟ قلت: جئت لأؤمن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، قال: فحمد الله رسول الله ﷺ ثم قال: قد هداك الله يا عمر، ثم مسح صدري، ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت عن رسول الله ﷺ، ودخل رسول الله ﷺ بيته.
هجرة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه
عمر، لم يكن يجرؤ أحد من قريش على إيذائه، بينما يصيب الأذى المسلمين الآخرين، ولعل هذا كان أكثر ما يزعج عمر، فكان يقول: لا أحب إلا أن يصيبني ما أصاب المسلمين. لذا كان يتعرض لرؤوس الكفر، ويعلن أمامهم إسلامه، بل يذهب إلى بيوتهم، ويطرق أبوابهم ليخبرهم بنبأ إسلامه علهم يقومون بشيء ضده، فيناله ما ينال إخوانه المسلمين، ويستطيع في الوقت نفسه أن ينتقم من تلك الرؤوس. ولم يرد عمر أبدا أن يكون في نعمة ليست للمسلمين، وعندما أعلن إسلامه، وبدأت قريش تقاتله وثب على عتبة بن ربيعة فبرك عليه وجعل يضربه وأدخل إصبعه في عينه، فجعل عتبة يصيح، الأمر الذي جعل الناس يتنحون عن عمر.
واشتد أذى قريش على المسلمين، وكان قد انتشر الإسلام في يثرب، فطلب رسول الله ﷺ من المسلمين أن يهاجروا إلى إخوانهم في المدينة، وابتدأت وفود المسلمين تترك مكة متجهة إلى المدينة وكلها متخفية في هجرتها ،وانتقالها إلا هجرة عمر، فقد روي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة، تقلّد سيفه وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهماً، واختصر عنزته، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف في البيت سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذا المعاطس، من أراد أن يثكّل أمه، أو يوتّم ولده، أو يرمّل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي. قال علي، رضي الله عنه: فما اتبعه إلا قوم من المستضعفين علمهم وأرشدهم ثم مضى لوجهه.
وكان لما عزم على الهجرة قد أخبر صديقيه عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وهشام بن العاص، واتفقوا على الصحبة على أن يجتمعوا في منازل غفار.. فمن تخلف عن الموعد تركوه ورحلوا، فجاء عمر، وعياش، وحُبس هشام في مكة، وفُتن عن دينه، فواصلا حتى وصلا قباء، فنزلا على رفاعة بن عبد المنذر فلحقهما أبو جهل عمرو بن هشام، وأخوه الحارث بن هشام، وهما أخوال عمر، وأبناء عم عياش وأخواه لأمه، أما عمر فلم يخاطباه لما يعلمان من شدته في الحق وصلابته، أما عياش فقد قالا له: إن أمك قد نذرت ألا يظلها سقف، ولا يمس رأسها دهن حتى تراك، فاستشار عمر، فأجابه: والله ما أرادا إلا ردك عن دينك، فاحذرهما ولا تذهب، فوالله لو آذى أمك القمل لادهنت وامتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، إلا أن عياشاً قد مال إلى الذهاب معهما، فبدأ يوجد المبررات لنفسه، فقال: إن لي بمكة مالاً لعلي آخذه فيكون قوة للمسلمين، وأكون قد بررت قسم أمي.
فقال عمر: إنك لتعلم إني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. فأبي عياش إلا أن يخرج معهما، فلما أبى، قال له: أما إذا قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فلما كان بضجنان قال أبو جهل: والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك؟ قال عياش: بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض أوثقاه رباطاً، حتى دخلا به مكة، فقالا: كذا يا أهل مكة فافعلوا بسفهائكم. ثم حبسوه.
مكانة الفاروق، رضي الله عنه، وقوة العقيدة في قلبه
يعد عمر الصحابي الثاني بين المسلمين بعد أبي بكر، رضي الله عنهما، وقد حضر المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ، وكان فيها من الرجال المعدودين بالقوة وشدة البأس، ومن الذين يقفون بجانب رسول الله ﷺ يدافعون عنه، ويحمونه من الأعداء كأبي بكر، ولم يكن من الذين يجولون في الميدان. وكان يتقيد بأوامر رسول الله ﷺ حرفياً، ولم يحاول أن يجتهد ويفسر الأمر من عنده.
وكان يؤثر رغبة رسول الله ﷺ على هوى نفسه، فقد فرح بإسلام العباس بن عبد المطلب عم رسول الله يوم أسلم أكثر من فرحه بإسلام أبيه الخطاب لو أسلم، وذلك لأن إسلام العباس كان أحب إلى رسول الله ﷺ من إسلام الخطاب.
سار رسول الله ﷺ مع المسلمين إلى بدر للتعرض لعير أبي سفيان، إلا أن القافلة قد نجت، .. وكانت إرادة الله في اللقاء، وكانت غزوة بدر الكبرى.
..وكانت هذه أول معركة تدور رحاها بين الإسلام والكفر، وتميزت من أول المطاف أن العقيدة هي الرابطة الوحيدة التي تربط الناس بعضهم إلى بعض، وهي الوشيجة القوية بين المسلمين، وليس هناك من مهادنة مع الكفر مهما كان نوعه. وقد قتل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في هذه المعركة خاله العاص بن هشام ضارباً بالقرابة عرض الحائط أمام رابطة العقيدة، بل كان يفخر في ذلك تأكيداً لهذه الفكرة، ومرّ يوماً عمر بسعيد بن العاص، فوجد منه إعراضاً فقال له: إني أراك كأن في نفسك شيئاً، أراك تظن إني قتلت أباك في بدر، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، وأما أبوك فقد مررت به وهو يبحث بحث الثور فحدت عنه، وقصد له ابن عمه علي فقتله.
موافقة الوحي لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه
كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من الصحابة الذين يستشيرهم رسول الله ﷺ فيما يعرض له من مشكلات، ولربما نزل الوحي بما يؤيد رأي عمر.
شاور رسول الله أصحابه فيما يفعل بالأسرى، وكان ممن استشار أبو بكر، وعمر، وعلي، وعبد الله بن رواحة، فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فإني أرى أن تأخذ منهم فدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة، وعسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عضداً. فقال رسول الله ﷺ: ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال عمر: لا والله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان فأضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، حتى يُعلم أن ليس في قلوبنا هوادة للكفار، هؤلاء صناديدهم، وقادتهم، وأئمتهم، وأيد عمر كل من علي، وعبد الله بن رواحة. وسكت رسول الله ﷺ ولم يجبهم. ودخل بيته. ثم خرج رسول الله ﷺ فقال: إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه، حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه، حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِني وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى، قال: {إن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، ومثلك يا عمر مثل نوح قال: {وَرَبِّ لَا نَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}. ومثلك مثل موسى قال: {رَبَّنَا أَطْمِس عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}، ثم قال رسول الله ﷺ أنتم عالة، فلا يطلقن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق.
قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: فلما أن كان من الغد غدوت إلى النبي ﷺ فإذا هو قاعد وأبو بكر، وإذ هما يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. قال النبي ﷺ: الذي عرض عليّ أصحابك من الفداء، لقد عُرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة (شجرة قريبة)، وأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، ثم أنزل الله بعد ذلك آية: {فإمّا منّا بعد وإما فداء}.
محبة عمر رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم
جاء في فتح الباري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى عن عبيد بن حنين أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما، يحدث أنه قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجعت وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، قال: فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت له: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي ﷺ من أزواجه، فقال: تلك حفصة، وعائشة، قال: فقلت: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل، ما ظنت أن عندي من علم فاسألني، فإن كان لي علم خبرتك به.
قال: ثم قال عمر: والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم، قال: فبينما أنا في أمر أتأمره إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا، قال: فقلت لها: مالك ولم ها هنا، فيما تكلفك في أمر أريده؟ فقالت عجباً لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله ﷺ حتى يظل يومه غضبان.
فقام عمر فأخذ رداءه، وانطلق حتى دخل على حفصة، فقال لها: يا بنية إنك لتراجعين رسول الله ﷺ حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه. فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله، وغضب رسول الله ﷺ. يا بنية لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها حب رسول الله ﷺ إياها – يريد عائشة – قال: ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت أم سلمة: عجباً لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله ﷺ وأزواجه. فأخذتني والله أخذاً كسرتني عن بعض ما كنت أجد فخرجت من عندها، وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر، ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا الأنصاري يدق الباب، فقال: افتح افتح، فقلت: جاء الغساني؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل رسول الله ﷺ أزواجه. فقلت: رغم أنف حفصة، وعائشة، فأخذت ثوبي فخرجت حتى جئت، فإذا رسول الله ﷺ في مَشْرُبةٍ له يرقى عليها بعجلة، وغلام لرسول الله ﷺ أسود على رأس الدرجة، فقلت له: قل: هذا عمر بن الخطاب. فأذن لي.
قال عمر: فقصصت على رسول الله ﷺ هذا الحديث، فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله ﷺ وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قَرَظاً مصبوراً، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟
الفاروق، رضي الله عنه، بين الإسلام والجاهلية
لم يعرف عن عمر أنه بكى في الجاهلية إلا أنه في الإسلام أصبح رقيق القلب شديد العاطفة كثير البكاء، إذ كان يبكي كلما قرأ أو سمع آيات التخويف والوعيد في القرآن الكريم، كما كان يبكي كلما رأى شظف الحياة التي يحياها رسول الله ﷺ، وإذا ذكّر بالله أو قرئ أمامه وكان على درجة من الغضب لا يلبث أن يبكي ويرق قلبه.
وكان صاحب خمر في الجاهلية إلا أنه في الإسلام كان يتمنى دائما أن تحرم الخمرة ويتنزل الوحي في تحريمها، وكان يصرح بهذا الرأي، ويكثر في رغبته تلك، وعندما أنزلت آية: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾،.. وبقي يتمنى تحريماً كلياً، ويسأل الله تعالى أن يبين أمر الخمر بياناً شافياً، فلما أنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) ﴾، وهنا طابت نفس عمر.
وكذلك كان موقفه من الحجاب، فكان يتمنى أن يفرض الحجاب وبخاصة على نساء النبي، وكلم رسول الله ﷺ في ذلك، وطابت نفس عمر
كذلك عندما نزلت آيات الحجاب.
مقتل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه
كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعيد النظر واسع الفكر، يخشى على المجتمع الإسلامي من التلوث، ويخاف عليه من عدم التجانس بوجود عناصر غريبة فيه، تضيع معها الرقابة، وتنتشر آراء متباينة بالاختلاط، وتكثر فيه الإساءة والنيل من مقوماته، يخشى أن يقوم الذي يأتون من خارج المجتمع من المجوس وسبي القتال بأعمال يريدون بها تهديم الكيان الإسلامي، لهذا فإنه منع من احتلم من هؤلاء دخول مدينة الرسول ﷺ..
طلب المغيرة بن شعبة أمير الكوفة من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يسمح لغلامه (فيروز) الذي يُدعى (أبا لؤلؤة) بدخول المدينة للعمل فيها خدمة للمسلمين حيث هو رجل ماهر يجيد عدداً من الصناعات التي تفيد المجتمع وتخدم الدولة، فهو حداد، ونقاش، ونجار، فأذن له عمر.
وكان أبو لؤلؤة خبيثاً ماكراً، يضمر حقداً، وينوي شراً، يحن إلى المجوسية ولا يستطيع إظهارها، وتأخذه العصبية ولا يمكنه إبداءها، فكان إذا نظر إلى السبي الصغار يأتي فيمسح رؤوسهم ويبكي، ويقول: أكل عمر كبدي.
فلما كانت صلاة فجر الثالث والعشرين من ذي الحجة في السنة الثالثة والعشرين من هجرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، وفعل عمر كعادته، فما هو إلا أن كبر حتى سُمع يقول: قتلني الكلب، وقد طعنه أبو لؤلؤة ست طعنات، وهرب العلج بين الصفوف، وبيده سكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً أو شمالاً إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم ما يزيد على النصف، فلما رأى عبد الرحمن بن عوف ذلك ألقى عليه برنسا له، وأحس أبو لؤلؤة أنه مأخوذ لا محالة، لذا فقد أقدم على الانتحار بالسكين ذاتها.
جاء عبد الرحمن بن عوف ليرى ما حلّ بالخليفة فوجده صريعاً، وعليه ملحفة صفراء قد وضعها على جرحه الذي في خاصرته، ويقول: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً). وأخذ عمر بيـد عبد الرحمن فقدمه للصلاة، وفقد عمر بعد ذلك وعيه، أما عبد الرحمن فقد صلى بالناس صلاة خفيفة.
فلما أفاق عمر قال: أصلى الناس؟ وهكذا لم ينقطع تفكيره بالصلاة على الرغم مما حلّ به.
قال عبد الله بن عباس: نعم.
قال عمر: لا إسلام لمن ترك الصلاة. ثم دعا بوضوء فتوضأ وصلى، وإن جرحه لينزف.
ثم احتمل إلى بيته، فقال لابن عباس – وكان معه ـ: اخرج، فسل من قتلني، فخرج فقيل له طعنه عدو الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، ثم طعن رهطاً معه، ثم قتل نفسه. فرجع وأخبر عمر بذلك، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط.
وخشي عمر، رضي الله عنه، أن يكون له ذنب إلى الناس لا يعلمه، وقد طعن من أجله، فدعا ابن عباس وقال له: أحب أن تعلم لي أمر الناس، فخرج إليه ثم رجع فقال يا أمير المؤمنين، ما أتيت على ملأ من المسلمين إلا يبكون، فكأنما فقدوا اليوم أبناءهم.
وجيء له بطبيب من الأنصار فسقاه لبناً فخرج اللبن من الجرح، فاعتقد الطبيب أنه مُنتهِ، فقال: يا أمير المؤمنين اعهد. فبكى القوم لما سمعوا ذلك. فقال عمر: لا تبكوا علينا، من كان باكيا فليخرج، ألم تسمعوا ما قال رسول الله ﷺ: يعذب الميت ببكاء أهله عليه.
شدة الخشية لدى الفاروق، رضي الله عنه
كان عمر، رضي الله عنه، یخشی ما هو قادم عليه، فالمؤمن بين الخوف والرجاء، فيخاف عمر أن يكون قد قصر بحق الرعية ومسؤوليته، ويقول لمن كان حاضراً «وما أصبحت أخاف على نفسي إلا بإمارتكم هذه». وكان ابن عباس، رضي الله عنهما، يريد أن يطمئنه ويخفف عنه، فيذكره بمكانه عند رسول الله ﷺ وعند أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وأن رسول الله قد بشره بالجنة، فكان عمر يقول: «والله لوددت أني نجوت منها كفافاً لا عليّ ولا لي»، «والذي نفسي بيده لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها لا أجر ولا وزر».
وقال له ابن عباس: لقد كان إسلامك عزّاً، وإمارتك فتحاً، ولقد ملأت الأرض عدلاً. فقال عمر: أتشهد لي بذلك يا ابن عباس؟ فقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لابن عباس: قل نعم وأنا معك.
وطلب عمر من ابنه عبد الله أن يفي ما عليه من الديون. ثم أرسله إلى أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، يستأذنها في أن يدفن بجانب صاحبيه، وقال له: قل لها: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه.
فمضى عبد الله فسلم واستأذن، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فسلم عليها وقال: يقرأ عليك عمر السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده (المكان) لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي.
وكان عمر، رضي الله عنه، لا يريد أن يستخلف إلا أن ابنه عبد الله قد أقنعه بذلك… قال عمر: قد رأيت من أصحابي حرصاً شديداً، وإني جاعل هذا الأمر إلى هؤلاء النفر الستة مات رسول الله ﷺ وهو عنهم راض..
قال: المغيرة بن شعبة: أدلك عليه؟ عبد الله بن عمر.
قال: قاتلك الله! والله ما أردت الله بهذا، لا أرب لنا في أموركم وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان شراً فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد ﷺ، أما لقد جهدت نفسي، وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر إني لسعيد.
وجعلها شورى في ستة: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم.
صفات الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه
كان عمر يشعر بالمسؤولية التامة، ويحس بالعبء الثقيل الملقى على عاتقه، لذا كان دائم التفكير بالرعية، يخشى على نفسه من التقصير بواجباته فيكون حسابه عسيراً أمام الله، وهذا ما يخافه ويرهبه، لذا فقد أجهد نفسه فكان قليل النوم، ضئيل الطعام، بسيط اللباس، وأضنى جسمه، وأتعب أهله ومن أتى بعده، وأثقل على ولاته.
فكان مع نفسه شديد البكاء من خشية الله، فكان يمر بالآية وهو يقرأ فتخنقه العبرة فيبكي حتى يسقط، ثم يلزم بيته حتى يعاد، يحسبونه مريضاً. وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء، ويُسمع نشيجه في الصلاة من آخر الصفوف. وكان أكثر الناس صياماً وصلاة.
وقال علي بن أبي طالب: رأيت عمر على قتب يعدو فقلت: يا أمير المؤمنين أين تذهب؟ فقال: بعير ندّ من إبل الصدقة أطلبه. فقلت: لقد أتعبت من بعدك! فقال: فوالذي بعث محمداً ﷺ بالنبوة، لو أن عناقاً (عنزة) ذهبت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة.
وكان يشعر أن الأموال التي جاءته من الفتوح إنما هي ابتلاء له واختبار، وإلا فلماذا لم تأت لرسول الله ﷺ ولا لأبي بكر، لذا كان يبكي ويقول: والذي نفسي بيده ما حبسه عن نبيه ﷺ وعن أبي بكر إرادة الشر لهما، وأعطاه عمر إرادة الخير له.
وكان يريد أن يعرّف نفسه قدرها، فخطب الناس مرة فقال: أيها الناس! لقد رأيتني وأنا أرعى على خالات لي من بني مخزوم فكنت استعذب لهن الماء فيقبض لي القبضة من التمر أو الزبيب. ثم نزل عن المنبر ولم يزد على ذلك. فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما أردت إلى هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: ويحك يا ابن عوف، خلوت بنفسي فقالت لي: أنت أمير المؤمنين، وليس بينك وبين الله أحد، فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها قدرها.
وكان إذا فعل فعلة عاد إلى نفسه فحاسبها على تلك الفعلة فإن راقت قضي الأمر، وإلا بدأ يعاتب نفسه ويقرعها ويبكي على ما فعل.
قال الأحنف بن قيس: كنت مع عمر بن الخطاب فلقيه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعدني على فلان فإنه قد ظلمني. فرفع عمر الدرة فخفق بها رأس الرجل وقال: تدعون أمير المؤمنين وهو معرّض لكم حتى إذا شغل في أمر من أمور المسلمين أتيتموه: أعدني أعدني! فانصرف الرجل وهو يتذمر، فقال عمر: عليّ بالرجل: فألقى إليه المخفقة وقال: امتثل (اضربني كما ضربتك). فقال الرجل: لا والله ولكن أدعها لله ولك. قال عمر: ليس هكذا، إما أن تدعها لله إرادة ما عنده، أو تدعها لي فأعلم ذلك. قال: أدعها لله. فانصرف ثم جاء يمشي حتى دخل منزله ونحن معه، فصلى ركعتين وجلس فقال: يا ابن الخطاب! كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلا فأعزك الله، ثم حملك على رقاب الناس فجاءك رجل يستعديك فضربته، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسه في ذلك معاتبة حتى ظننا أنه خير أهل الأرض.
وكان خشن الطعام لا يأكل إلا أدماً واحداً، ويترك الطيبات والاستمتاع بها في الحياة الدنيا، ويخاف الآية الكريمة: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ ويريد ألا يأكل إلا ما يستطيع أكله فقراء المسلمين…
ودخل على ابنته حفصة أم المؤمنين فقدمت إليه مرقاً بارداً وصبت عليه زيتاً فقال: أدمان في إناء واحد؟ لا آكله حتى ألقى الله عز وجل.
وقدم الشام فصنع له طعام لم ير قبله مثله، فقال: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة. فاغرورقت عينا عمر وقال: لئن كان حظنا في هذا الطعام وذهبوا بالجنة، لقد باينونا بونا بعيداً.
وكانت ثيابه مرقعة ونعله مخصوقة، لا يلبس الخز. لذا كانت حياته على نفسه قاسية..
وكان مع أهله شديداً: فكان إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله فقال لهم: إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل منكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني، فمن شاء منكم فليتقدم، ومن شاء فليتأخر.
ويمنع أهله أن يتدخلوا في أمر من أمور المسلمين، كما يمنعهم في الربح في التجارة إذ يظن أن في ذلك ممالأة لهم لمكانهم منه. ويصلي بالليل حتى إذا انتصف أيقظ أهله ويتلو الآية الكريمة: ﴿وَأَمر أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وأصطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْألكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾.
كان يعاتب الولاة إذا تساهلوا على أهله ويوبخهم أشد التوبيخ، ويقيم الحد على من خالف من أهله حتى ولده، فقد روي عن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، أنه قال يوماً ـ وقد ذكر عمر فترحم عليه ـ: ما رأيت أحداً بعد نبي الله ﷺ وأبي بكر، رضي الله عنه، أخوف الله من عمر، لا يبالي على من وقع الحق، على ولد أو والد.
وكان مع الولاة يختار القوي الأمين منهم فليس المهم أن يكون الوالي صالحاً فقط فإن صلاحه لنفسه وضعفه يعود على الأمة، وإنما يجب أن يكون قوياً فقوته للأمة كلها وعدم صلاحه لنفسه، ولا يعطي الولاية إلا لصحابة رسول الله ﷺ، ويختار القوي منهم ويقول: إني لأتحرج أن استعمل الرجل وأنا أجد أقوى منه.
وقد استعمل المغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان وفي الصحابة من هو أفضل منهم أمثال عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وما ذلك إلا لقوة أولئك في العمل وخبرتهم، ولأن عمر يريد أن يُشرف عليهم، ويريد أن يهابوه،.. وقلما كان يريد أن يستعمل بني هاشم وآل البيت، ويقول لابن عباس: إني رأيت رسول الله ﷺ استعمل الناس وترككم.
وكان يشترط على الولاة حين يستعملهم بأن لا يظلموا أحداً في جسمه ولا في ماله، ولا يستغل منصبه في فائدة خاصة أو مصلحة له أو لأهل بيته..
وكان يراقب الولاة ويتدخل في طعامهم، وشرابهم، ولباسهم، ومسكنهم، أي كانت بيده السلطة كلها، وإضافة إلى ذلك يطلب من عماله أن يوافوه في كل موسم حج. كما يسأل الناس عن ولاتهم، وتمسكهم بالشرع، وحكمهم بالعدل، ويستمع إلى شكوى الناس على أمرائهم.
كان مع الرعية خير أمير إذ كان يمر على النساء اللواتي ذهب رجالهن إلى الجهاد، ويطلب منهن أن يذكرن حاجاتهن في البيع والشراء، ويسير إلى السوق ووراءه أولادهن وجواريهن، ويؤمن لكل صاحبة بيت طلبها. وإذا جاء البريد من الثغور أوصل الرسائل إلى أصحابها، وطلب من يقرأ هذه الرسائل لمن لا تعرف القراءة أو قرأها بنفسه إن أرادت صاحبة العلاقة، وقبل أن ينصرف يخبرهن بسير البريد، ويحدّد لهن الوقت إن كن یردن الكتابة لأزواجهن.
وإذا كان مع قوم في سفر تأخر عنهم يفتش عما نسوه، ويساعد من أبطأت به دابته، أو من أصابه حادث.
وكان يعس بالليل يتفقد من ينزل حول المدينة، ويحرس القوافل، ويسأل أصحاب الحاجات، فيؤمن طلبات ذوي الاستحقاق وما يجد في طريقه، وإذا دعا الأمر عاد إلى بيته فأخذ زوجته لتدخل على النساء اللواتي تستدعي حالتهن مهمة نسائية.
قال أسلم (غلام عمر): خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة (واقم)، حتى إذا كان بـ (صرار) إذا نار تُؤرّث (تؤجج) قال: يا أسلم إني أرى ها هنا ركباناً قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا.
فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان، وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون (يتصايحون) فقال عمر: السلام عليكم يا أهل الضوء. (كره أن يقول: يا أصحاب النار). فقالت: وعليكم السلام.
فقال: أأدنو؟ فقالت: ادن بخير أودع. فدنا منها فقال: ما بالكم؟
قالت: قصر بنا الليل والبرد.
قال: وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟
قالت: الجوع. قال: وأي شيء في هذا القدر؟
قالت: ماء أسكتهم به حتى يناموا. والله ما بيننا وبين عمر . فقال: أي رحمك الله، وما يدري عمر
بكم.
قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا.
فأقبل عليّ، فقال: انطلق بنا.
فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق، وكبة شحم، وقال: احمله عليّ.
قلت: أنا أحمله عنك. قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة لا أُمّ لك!
فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذرّي علي وأنا أحرّ لك. وجعل ينفخ تحت القدر، فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته حتى طبخ لهم. ثم أنزل القدر، وقال: أبغني شيئاً.
فأتته بصفحة فأفرغ القدر فيها، وجعل يقول ها أطعميهم وأنا أسطح لهم (أبرد لهم).
فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك، وقام، وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، كنت بهذا أولى من أمير المؤمنين. فيقول: قولي خيراً، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك – إن شاء الله ـ ثم تنحى ناحية عنها، ثم استقبلها فربض مربضاً، فقلت له: لك شأن غير هذا؟
فلا يكلمني، حتى رأيت الصبية يصطرعون، ثم ناموا، وهدؤوا. فقام يحمد الله ثم أقبل علي فقال: يا أسلم، إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت.
كان عمر يطوف بالأسواق ويقرأ القرآن، ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم. وكان يصلي الصلاة ثم يقعد، فيكلمه من يشاء، وليس علی داره باب ولا حجاب.
وكان مع الجند نعم القائد فهو القائد العام للقوات الإسلامية، يعيّن القائد من الصحابة، ويختاره على هذا الأساس، وقد عيّن أبو عبيد الثقفي لكونه أول من لبى نداء الجهاد، وقد يعزل القائد فيصبح جندياً عادياً في الجيش، ويرقي الجندي فيصبح قائداً كبيراً، وما ذلك إلا لتقدير الشجاعة والإقدام، وحتى لا يطمع القائد في منصبه، ولا يضعف الجندي لمركزه، وقد عزل خالد بن الوليد عن القيادة حتى لا ينسب له النصر، فالله هو الفعال لما يريد، وما النصر إلا من عند الله، وكاد أن يفتن بخالد بعضهم.
وكان يبعث بأوامره وتعليماته إلى القادة بصورة مستمرة، ويسأل عنهم، ويعرف كل شيء من أمرهم حتى كأنه يعيش معهم، ويذكرهم بالله، والخوف منه، والإخلاص له، ويحضّهم على القتال. ويسأل عن نتائج المعارك فإذا أبطأ عليه الخبر، خرج خارج المدينة يسأل الركبان، ويتقصى الأخبار، وإذا عصب الأمر يقرر الخروج بنفسه إلى ساحة القتال، ثم يستشير بذلك الصحابة كعادته عند كل قضية، وينزل عند رأيهم إذا اقتنع به.
وكان يدير المعارك من مكانه الذي هو فيه على الجبهات كلها، ويرسل البريد السريع بالتعليمات وتعيين القادة والطلائع والمقدمة والميمنة والميسرة والساقة، ويرتب الأفراد ويوزع الأمراء على المدن وفي الجهات المقرر التوجه إليه.
وكان يفك أسرى المسلمين من بيت المال، ويقول: لأن استنقذ رجلاً من المسلمين من أيدي الكفار أحب إلي من جزيرة العرب.
وكان مع الذميين نعم الحاكم العادل، كان يفرض على الذميين ألا يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم، وركوبهم، وما عدا ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم إلا في أمور قليلة معروفة، وكان إذا أسلم الذمي سقطت عنه الجزية، وإذا ثبت أن عليه دين يستغرق ماله كله، يعفى من العشر ومن الجزية.
وكتب إلى ولاته يأمرهم أن يمنعوا المسلمين من ظلم أحد من أهل الذمة، وأوصى بأهل الذمة أن يوفى لهم عهدهم، ولا يكلفون فوق طاقتهم.
ومر عمر بسائل شیخ ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟
قال: يهودي.
قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟
قال: أسأل الجزية، والحاجة، والسن.
فأخذ عمر بيده إلى منزله فأعطاه شيئاً من المال. ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال له: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه، أكلنا شبيبته، ثم خذلناه عند الهرم.
التاريخ الإسلامي | الخلفاء الراشدون
التاريخ الإسلامي | الخلفاء الراشدون