عثمان بن عفان، رضي الله عنه: حياته في الجاهلية وإسلامه
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وبذا يلتقي برسول الله ﷺ من ناحية أبيه بعبد مناف أو بالجد الرابع، ويلتقي به من ناحية أمه أيضاً، فأم عثمان هي: أروى بنت كريز، وأم أروى هي البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله ﷺ.
ولد عثمان، رضي الله عنه، في الطائف سنة ٤٧ قبل الهجرة أي أنه أصغر من رسول الله ﷺ بست سنوات تقريباً. وكان أبوه (عفان) ثرياً صاحب تجارة، وقد مات في إحدى رحلاته إلى بلاد الشام من أجل التجارة، وتوفي فيها. وخلف مالاً لابنه عثمان، فأتجر به وربح، وجاد على قومه بما لديه من مال، فأحبه قومه ،وقدموه، وكان وجيهاً بينهم، سيداً في قومه بني أمية، وأحد أعيان قريش كلها.
وهذا كله ما حفظه لنا التاريخ من حياته في الجاهلية شأنه في ذلك شأن بقية الصحابة. ولكن تاريخهم في الإسلام معروف بكامله إذ أن الإسلام هو الذي صنعهم رجالاً من جديد فسجل التاريخ حياتهم كاملة في أنصع صفحاته.
وبعث محمد ﷺ وعثمان في الرابعة والثلاثين من عمره، ولم يلبث أن أسلم وكان من السابقين، إذ كان إسلامه قبل أن يدخل المسلمون دار الأرقم بن أبي الأرقم، بل وكان من العشرة الأوائل.
وتروي الأخبار عن طريقة إسلامه، فيقال: إنه كان عائداً من الشام في تجارة له مع طلحة بن عبيد الله فسمع وهو بين النائم واليقظان منادياً يخبر ببعثة محمد ﷺ في مكة.
وروى ابن حجر في الإصابة: أن سعدى بنت كريز خالة عثمان بن عفان – وكانت تتكهن في الجاهلية – أخبرته بمبعث النبي ﷺ قال عثمان: فوقع كلامها من قلبي، فجعلت أفكر فيه، وكان لي مجلس عند أبي بكر، فأصبته في مجلس ليس عنده أحد فجلست إليه فرآني مفكراً، فسألني أمري، وكان رجلاً متأنياً، فأخبرته بما سمعت من خالتي، فقال: ويحك يا عثمان! إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا؟ أليست من حجارة صم، لا تسمع ولا تبصر؟
قلت : بلى، إنها كذلك، فقال: والله لقد صدقتك خالتك، هذا رسول الله محمد بن عبد الله قد بعثه الله برسالته إلى خلقه، فهل لك أن تأتيه لتسمع منه؟ قلت: لا، فمر رسول الله ﷺ ومعه علي بن أبي طالب، فقام إليه أبو بكر، فساره في أذنه بشيء، فأقبل عليّ رسول الله ﷺ فقال: يا عثمان، أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك، وإلى خلقه، فما تمالكت نفسي حين سمعت قوله أن أسلمت.
ثبات عثمان، رضي الله عنه، على الإسلام وصفاته الحميدة
تأثرت قريش تأثراً كبيراً بإسلام عثمان إذ كان محبوباً من أفرادها، وله مكان بين أبنائها. وحاول عمه الحكم بن أبي العاص أن يثنيه عن إسلامه فلم يفلح، وعذبه عذاباً شديداً، ولكن ذلك لم يغير شيئاً من عزمه، ولما رآه ثابتاً على عقيدته، ماضياً في طريقه تركه وشأنه. وحاولت أمه أروى بنت كريز أيضاً أن تقنعه بالعدول عن رأيه، وتبديل خطه لكنها باءت بالفشل، واستمر هو على النهج الذي رسمه لنفسه.
وامتاز سيدنا عثمان، رضي الله عنه، بناحيتين مهمتين جداً وهما: الحياء، فما كان يعرف إنسان أشد حياءً منه، حتى كان رسول الله ﷺ يستحي منه وحتى قال: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة»، وروى ابن عساكر أن النبي ﷺ قال: «عثمان حيي تستحي منه الملائكة».
أما الناحية الثانية فهي الكرم، فكان جواداً إذا لم يكن في قريش من هو أكثر منه جوداً، بل لا يوجد آنذاك من يعادله في السخاء والبذل.
هجرة عثمان، رضي الله عنه، وزواجه
تزوج رضي الله عنه رقية بنت رسول الله ﷺ، وأنجب منها ولداً اسمه عبد الله، ولكنه لم يعش طويلاً، وتوفي وعمره ست سنوات.
ولما اشتد أذى قريش على المسلمين وهاجر بعضهم إلى الحبشة، استأذن عثمان رسول الله ﷺ في أن يهاجر مع زوجه رقية فأذن له، وهاجر، ثم عاد إلى بلده مكة.
وعندما بدأ المسلمون يهاجرون إلى المدينة بعد بيعة العقبة، هاجر بن عفان إليها مع زوجه رقية بنت رسول الله ﷺ. وعندما حدثت معركة بدر الكبرى بين المسلمين وقريش لم يشهدها سيدنا عثمان، إذ كانت زوجه مريضة فبقي بجانبها يمرضها بإذن من رسول الله ﷺ، وعدّه رسول الله من البدريين، وأسهم له بينهم.
وما رجع المسلمون من تلك الغزوة حتى كانت رقية رضي الله عنها قد توفيت، فحزن عليها عثمان أشد الحزن. وكان في الجاهلية يُكنّى بأبي عمرو، فلما أنجبت له رقية ابنه عبد الله أصبح يكنى به، ولكنه توفي صغيراً ـ كما ذكرنا ـ وتزوج بعد رقية أختها أم كلثوم، ولكنها لم تنجب له، وتوفيت أيضاً.
وتزوج فاختة بنت غزوان، وأنجبت له عبد الله الأصغر، وقد هلك. وتزوج أم عمرو بنت جندب فولدت له عمراً، وخالداً، وأبان، وعمر، ومريم. وتزوج فاطمة بنت الوليد المخزومية فولدت له سعيداً، والوليد، وأم سعيد، وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية فولدت له عبد الملك إلا أنه هلك، وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة فولدت له عائشة، وأم أبان، وأم عمرو، ولم تنجب له ذكوراً. وتزوج نائلة بنت الفرافصة فولدت له مریم. وبهذا يكون قد تزوج ثمان زوجات، واستشهد وعنده ثلاث هن: أم البنين بنت عيينة، وفاختة، ونائلة.
وولد له ٩ أولاد مات ثلاثة منهم صغارا، وهم عبد الله وعبد الله الأصغر، وعبد الملك، وعاش الباقون وهم: عمرو، وخالد، وأبان، وعمر، والوليد، وسعيد. كما ولد له ست بنات وهن: مريم، وأم سعيد، وعائشة، وأم أبان، وأم عمرو، ومريم الصغرى.
بيعة الرضوان تتم من أجل عثمان رضي الله عنه
شهد عثمان رضي الله عنه، المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ، وفي السنة السادسة سار رسول الله مع المسلمين إلى مكة ليزور البيت، ويؤدي مناسك العمرة، إلا أن قريشاً قد اعترضت سبيله وظنت أنه قد جاء غازياً على حين أنه قد ذهب زائراً للبيت ومعظماً له.
وعلى الرغم من أن عدداً من زعماء قريش قد أقروا بذلك، ومع هذا فقد أصرّت قريش على تعنتها ورفضها، ورأى رسول الله أن يرسل أحد صحابته ليفهم قريشاً ما أتى المسلمون من أجله لتخلي بينهم وبين ما أرادوا.
ودعا رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ أشراف قريش ما جاء به، فقال عمر : يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعزّ بها مني: عثمان بن عفان.
فدعا رسول الله ﷺ عثمان بن عفان وبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته.انطلق عثمان بن عفان إلى مكة ووصل إلى أشراف قريش، فقالوا له: إن شئت أن تطوف بالبيت، فطف. فأجابهم رضي الله عنه: «ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله».
وأبلغ عثمان قريشاً ما جاء من أجله، إلا أن قريشاً استمرت على إصرارها بمنع المسلمين من زيارة البيت، و احتبست عثمان بمكة حتى طال لبثه بها على رسول الله والمسلمين، وترامى إليهم أن قريشاً غدرت به فقال رسول الله ﷺ: «لا نبرح حتى نناجز القوم».
وأخذ رسول الله في مبايعة أصحابه، فتمت بيعة الرضوان من أجل عثمان بن عفان، رضي الله عنه. وبايع رسول الله عن عثمان بإحدى يديه الأخرى.
كرم ذو النورين، عثمان رضي الله عنه:
كان في عهد أبي بكر يعدّ الكاتب الأول للخليفة، ويعد ثاني اثنين في تسيير شؤون الدولة بعد عمر بن الخطاب. وكان أصاب الناس في ذلك العهد قحط، فلما اشتد بهم الأمر جاءوا إلى أبي بكر، فقالوا: يا خليفة رسول الله، إن السماء لم تمطر، والأرض لم تنبت، وقد توقع الناس الهلاك، فماذا تصنع؟ قال: انصرفوا واصبروا فإني أرجو الله ألا تمسوا حتى يفرّج الله عنكم.
فلما كان آخر النهار ورد الخبر بأن عيراً لعثمان جاءت من الشام، وتصبح في المدينة فلما جاءت خرج الناس يتلقونها، فإذا هي ألف بعير موسوقة برا، وزيتا، وزبيبا، فأناخت بباب عثمان، رضى الله عنه، فلما جعلها في داره جاء التجار، فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: إنك لتعلم ما نريد، بعنا من هذا الذي وصل إليك؛ فإنك تعلم ضرورة الناس، قال: حبا وكرامة كم تربحوني على شرائي؟ قالوا: الدرهم درهمين، قال: أعطيت زيادة على هذا، قالوا: أربعة، قال: أعطيت زيادة على هذا، قالوا: خمسة، قال: أعطيت أكثر من هذا، قالوا: يا أبا عمرو، ما بقي في المدينة تجار غيرنا، وما سبقنا إليك أحد، فمن الذي أعطاك؟
قال: إن الله أعطاني بكل درهم عشرة أعندكم زيادة؟ قالوا: لا، قال: فإني أشهد الله أني جعلت ما حملت هذه العير صدقة لله على المساكين وفقراء المسلمين.
مبايعة الصحابة لعثمان رضي الله عنه
كان عثمان في عهد عمر الرجل الثاني في الدولة، فإذا أراد الناس أن يسألوا عمر شيئا لاذوا بعثمان لمكانه منه. فهو الذي أشار على عمر بتسجيل الناس في سجلات خاصة وإنشاء الدواوين، وهو الذي أشار عليه بكتابة التاريخ الهجري بدءا من شهر المحرم؛ وكان لين عثمان مع شدة عمر تعادل شدة عمر مع لين أبي بكر، لذا فلم يتغير شيء في شؤون الدولة لين مع حزم وشدة مع عطف.
لما دفن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعد أن صلى عليه صهيب، جمع المقداد بن عمرو أصحاب الشورى في بيت المسور بن مخرمة؛ وكانوا خمسة وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، ومعهم عبد الله بن عمر، وطلحة بن عبيد الله غائب، وكان أبو طلحة الأنصاري يحرسهم، ويحجبهم من أن يدخل الناس إليهم.
تداول القوم الأمر، وتكلم كل منهم بكلمة تبيّن الإشفاق على الأمة والخوف من الفرقة. ثم قال عبد الرحمن بن عوف وقد كان في البداية أول المتكلمين «أيكم يخرج منها نفسه، ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟» فلم يجبه أحد، فقال: فأنا أنخلع منها؛ فقال عثمان: أنا أول من رضي، فإني سمعت رسول الله يقول: «أمين في الأرض أمين في السماء»؛ فقال القوم: قد رضينا – وعلي ساكت- فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أعطني موثقا لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألو الأمة!
فقال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدّل وغيّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، على ميثاق ألا أخص ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين. فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله، فقال لعلي: إنك تقول: إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك، وسابقتك، وحسن أثرك في الدين ولم تبعد، ولكن أرأيت لو صُرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر؟ قال: عثمان.
وخلا بعثمان؛ فقال: تقول: شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله، وابن عمه، لي سابقة وفضل – لم تبعد- فلن يصرف هذا الأمر عني، ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط أحق به؟ قال: علي. ثم خلا بالزبير فكلمه بمثل ما كلم به عليا وعثمان، فقال: علي. ثم خلا بسعد، فكلمه، فقال: عثمان، وهكذا حصر الأمر بين علي وعثمان، ولم يرد عبد الرحمن بن عوف أن يختار هو فيرجح الكفة، ويُنظر إليه أنه هو الذي اختار أو عين، فقد كانوا، رضي الله عنهم، يريدون أن يبتعدوا عن مثل هذه المواقف والمواطن.
ودار عبد الرحمن يلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم، فكان أكثرهم يشير إلى عثمان، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الاجل، وهو ثلاثة أيام، أتى منزل المسور بن مخرمة..، فأيقظه فقال: ألا أراك نائما ولم أذق هذه الليلة كثير غمض! انطلق فادع الزبير، وسعدا. ويبدو أن عبد الرحمن رغب أن ينهي القضية بين أصحاب الشورى بالذات بالمناقشة، وأن يدع رأي من استشار خارجهم..
وبعد اجتماعه بالزبير ثم بسعد رأى أن رأيهما لا يزال كالسابق، عندها حزم رأيه أن يأخذ البيعة لأحدهما أمام الصحابة حتى تكون أقوى وحتى لا تكون محاباة -معاذ الله- وحتى لا يستطيع أحدهما أن يعترض أو يظن شيئا.
وبعد أن صلى المسلمون الفجر في المسجد، جمع عبد الرحمن أصحاب الشورى… فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا، ودعا عليا، فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال: نعم، فبايعه، وبايع الناس جميعا.
وهكذا استطاع عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، ألا يجعل خلافا ولا فرقة، وألا يدخل رأي غير أصحاب الشورى الذين كانوا بجانب عثمان، وألا يقف بجانب واحد من الرجلين وقد تساوت الآراء وتعادلت الأصوات، لقد استطاع هذا بمعرفة طبيعة الصحابيين الجليلين، رضي الله عنهما.
بيعة عثمان رضي الله عنه
في اليوم الذي بويع فيه عثمان قدم طلحة بن عبيد الله أحد رجال الشورى – وقد كان غائباً ـ فقيل له: بايع عثمان، فقال: أكل قريش راض به؟ قال: نعم، قال: أكل الناس بايعوك؟ قال: نعم، قال: قد رضيت، لا أرغب عما قد أجمعوا عليه، وبايعه.
وقد أكثر الرواة في ذكر رجال الشورى وما دار بينهم في هذه الأيام الثلاثة، وظهرت التناقضات بين الرواة، كما بدا الخلاف بين الصحابة حتى إن القارئ ليشعر أولئك النخبة المختارة قد تنافسوا على الإمارة تنافس أهل هذا الزمن إن لم نقل إنهم قد سبقوهم في ذلك، وما هذا بطبيعتهم، كما لا يتفق هذا مع إيمانهم وخوفهم في تحمل التبعة وفتنة الدنيا. والواقع أن بيعة سيدنا عثمان لا تعقيد فيها ولا منافسة، لذا لم يتخلف رجل عن البيعة، ولم يعقبها أية حادثة تدعو إلى الشقاق أو يؤول بها إلى ذلك.
وصعد عثمان بعد بيعته المنبر وهو أكثر أهل الشورى كآبة، وتكلم كلمة قصيرة نصح فيها الناس وذكرهم بالآخرة، وحذرهم من فتنة الدنيا.
وكانت بيعته، رضي الله عنه، في الأيام الأخيرة من شهر ذي الحجة إلى غرة المحرم من السنة الرابعة والعشرين من هجرة رسول الله ﷺ.
الفتوحات في عهد عثمان رضي الله عنه
لقد كان عهد عثمان رضي الله عنه، مليئاً بالفتوحات، وهي تتمة لما كان أيام الخليفة السابق له وهو عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولقد استمرت هذه الفتوحات في البر والبحر مدة عشرة أعوام إلا أن ما حدث في العامين التاليين لها من فتنة، قد جعلها تنسى فطغت الفتنة حتى حسب الناس أن عهد عثمان لم يكن سوى فتنة واختلاف نشأت من بيعته ودامت بقية حياته التي انتهت باستشهاده.
كان أمير الشام معاوية بن أبي سفيان قد قام بغزو الروم ووصل إلى – عمورية قريباً من انقرة اليوم.
لقد فتح المسلمون مناطق واسعة وكان عدد جندهم قليلاً بالنسبة إلى تلك الأراضي الشاسعة وبالنسبة إلى أعداد أعدائهم الكبيرة، وهذا ما جعلهم لا يتركون في المناطق التي يصالحونها إلا الجند القليل، ولا يبقون في البقاع التي يفتحونها إلا العدد الضئيل، وبخاصة أنه كانت هناك جبهات مفتوحة، وثغور يجب حمايتها ومراكز يجب الدفاع عنها والتجمع فيها للإمدادات في الأوقات اللازمة.
كل هذا جعل عدد المسلمين قليلاً في البلاد المفتوحة حديثاً، وجعل أهلها يشحون في دفع الجزية، ويظنون أن بمقدورهم هزيمة المسلمين وقتالهم، وأن ما حدث معهم في المرة الأولى لم يكن سوى أخطاء ارتكبوها وقد عرفوها فيما بعد، ثم يتحسرون على عزهم الزائل وأيام مجدهم الخالية، لذا كانوا يتحينون الفرص للانقضاض على المسلمين ونقض عهودهم معهم – هكذا النفس البشرية – ومن هنا كان نقض العهد كثيراً.
وقد انتهز الفرس والروم في المناطق التي دخلها المسلمون وفاة خليفتهم عمر بن الخطاب ونقضوا العهد، وظنوا أن أمر المسلمين قد ضعف ولكنهم فوجئوا بأن قوة المسلمين على ما هي عليه لم تختلف أيام عمر عن أيام عثمان الخليفة الجديد، وقد أدب المسلمون خصومهم مرة ثانية.
..وهكذا فقد كانت الفتوحات أيام سيدنا عثمان بن عفان واسعة إذ أضافت بلاداً جديدة في إفريقية وقبرص وأرمينيا وأجبرت من نقض العهد إلى الصلح من جديد في فارس وخراسان وباب الأبواب، وضمت هناك إضافة إلى ذلك فتوحات جديدة في بلاد السند، وكابل، وفرغانة.
استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه
بدأت الفتنة عندما أشعلها عبد الله بن سبأ (ابن السوداء)، وهو من يهود صنعاء، وكانت أمه سوداء، لذا عُرف بذلك، وقد أسلم أيام عثمان ليستطيع التأثير على نفوس أولئك الأعراب والبداة والذين دانوا حديثاً بالإسلام من سكان الأمصار، إذا تنقل في بلدان المسلمين… وكان في كل مكان يحلّ فيه يتصل بالأشخاص ويتحدث إليهم ويبدي تفهمه للإسلام، ويُظهر معرفته، ويقف موقف العالم، فيقول: عجيب من يزعم عيسى يرجع، ويكذب بأن محمداً يرجع، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد﴾. فمحمد أحق بالعودة والرجوع من عيسى. وهكذا بدأ بالتشكيك في العقيدة، والناس على فطرتهم حديثو العهد بالإسلام في الأمصار…
.. ورأى هذا اليهودي أن علي بن أبي طالب على رأس الصحابة الذين بقوا من حيث الاحترام والتقدير، بل يعد الشخص الثاني بعد الخليفة، وله عند الشيخين مركز ووزن يستشار في كل أمر، ويدعى في كل معضلة، ويؤخذ رأيه في كل مشكلة هذا بالإضافة إلى قرابته من رسول الله ﷺ وعلمه وفهمه، لذا رأى هذا الخبيث أن يركز على هذا الصحابي الجليل وأن يدعو له لا حباً به وتقديراً، وإنما لبذر الفتنة في المجتمع، وحتى لا يُعرف مخططه فيظهر أنه يدعو للشك والريبة، فدعوته لأحد البارزين من الصحابة تخفي ما يضمر، وتقربه من نفوس بعض الرجال الذين يعرفون قدر علي. فكان يقول: إن علياً هو وصي محمد ﷺ، فإن لكل نبي وصياً. ثم انتقل بعد بذر الفتنة وإلقاء جذور البلاء في المجتمع يطعن بالخليفة نفسه وبولاته وأمرائه وأنهم دون الصحابة الأجلاء، وأنهم لم يحتلوا هذه المراكز إلا لكونهم من ذوي رحم الخليفة الذي بلغ من العمر عتياً…
ظهرت بذور الشر أول ما ظهرت في الكوفة إذ بدأ الحديث عن الوالي سعيد بن العاص حتى وصل إلى الخليفة، وذلك على ألسنة العوام وأولئك البداة والذين دانوا بالإسلام… وكان ذلك في أواخر عهد سيدنا عثمان وبعد مرور عشر سنوات على تسلمه الخلافة، وفي عام ٣٤هـ ، سُيّر هؤلاء المنحرفون من الكوفة إلى الشام، إلا أنهم ردّوا مرة ثانية إلى الكوفة، فقالوا إن الكوفة والشام ليستا لنا بدار، فاتجهوا إلى الجزيرة، فشدد عليهم واليها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد…
جمع الخليفة عثمان بن عفان أمراء الأمصار في موسم الحج عام ٣٤هـ… واستشارهم في أمر هؤلاء المنحرفين، وما يتكلمون به، فأشير عليه بأن ينقل هؤلاء المنحرفين إلى الثغور فينشغلوا بأنفسهم كما اقترح عليه عدم إعطائهم الأعطيات حتى يرضخوا للأمر ويُطيعوا. ولكنه لم ير هذا الرأي ولا ذلك.
ولما كثر الكلام عن سعيد بن العاص أمير الكوفة والمطالبة بأبي موسى الأشعري بدلاً عنه استجاب الخليفة للطلب فعزل سعيداً وولّى أبا موسى مکانه…
لم تفد المخربين أعمال الخليفة ولينه لهم بل استمروا في تصرفاتهم وكلامهم…
وجاء وفد من مصر في رجب عام ٣٥هـ إلى الحجاز يظهرون أنهم يريدون العمرة، وفي نيتهم مناظرة الخليفة ومناقشته في المدينة لبلبلة الآراء وإشعال نار الفتنة، وتمت مقابلة الخليفة، وأبدى رأيه، وأقنع الوفد خارج المدينة بنفسه أو بواسطة بعض الصحابة منهم علي بن أبي طالب، ومحمد بن مسلمة، ودخل بعضهم المدينة، وحضر خطبة للخليفة أثنى فيها على الوفد، واستغفر الله، وبكى وأبكى الناس، وانصرف المصريون راجعين إلى بلادهم.
إلا أن أهل مصر عندما رجعوا بدؤوا يحرّضون الأمصار على التوجه إلى المدينة وإظهار الشكوى والتأفف من العمال والأوضاع العامة لأن المدينة أحرى بالفوضى أن تؤثر فيها…
وانطلق أهل مصر وعددهم ٦٠٠ – ١٠٠٠ رجل، وفي الوقت نفسه انطلق أهل الكوفة، وأهل البصرة، وقد خرجت كل جماعة على شكل فرق أربع، وعلى كل فرقة أمير، وعلى الجميع أمير، فالأمر يبدو على تخطيط وتنظيم واحد دقيق…
وبمسيرهم مع الحجاج لم يعلم الأمراء عدد الناقمين، ولم يكونوا ليتصوروا أن هذه الشرذمة قادرة أو تفكر بقتل الخليفة أو تجرؤ على القيام بهذا العمل في دار الهجرة، لذا لم يبذلوا جهداً بإرسال قوة تحول دون خروجهم، أو تسير إلى المدينة لتمنع أمير المؤمنين…
..وحدّث الخليفة علياً في أن يركب ويركب معه المسلمون ليمنعوا المنحرفين من دخول المدينة عنوة ففعل وخرج معه طلحة، والزبير، ومحمد بن مسلمة، وكبار الصحابة، ولما رأى المنحرفون استعداد الصحابة للدفاع عن دار الهجرة وقع الخوف في نفوسهم، فعندما كلمهم علي أظهروا الطاعة والخضوع، وأبدوا الرغبة في العودة إلى أمصارهم والهدوء فيها، وبالفعل فقد رجعوا أدراجهم، وظنّ علي والمسلمون أن الخطر قد زال عن دار الهجرة فعادوا إليها، ولم يستقروا فيها حتى أروعهم التكبير داخل أزقتها…
كان حصار دار عثمان يسيراً حيث كان يخرج الخليفة ويصلي بالناس، ويأتي الصحابة إليه، ويأتي إليهم. ثم بعث إلى العمال في الأمصار يأمرهم أن يرسلوا إليه الجند لينصروه، ويخرجوا من المدينة هؤلاء الطارئين، وعندما عرف المنحرفون هذا الخبر، وأن حبيب بن مسلمة قد سار من الشام، ومعاوية بن حديج من مصر، والقعقاع بن عمرو من الكوفة، ومجاشع السلمي من البصرة، وكل على رأس قوة لنصرة الخليفة تغيّر حصار الدار واشتد عمل المنحرفين.
وخرج عثمان كعادته إلى الصلاة يوم الجمعة، وخطب، وخاطب المخربين، فقام محمد بن مسلمة فشهد على قوله فأسكته حكيم بن جبلة، وتكلم زيد بن ثابت فأسكته محمد بن أبي قتيرة، وثار الناس، وحصب بعضهم بعضاً، وأصيب عثمان، وأغمي عليه، ونقل إلى داره، وثار الصحابة وأبناؤهم… وأرادوا قتال المنحرفين إلا أن الخليفة قد منعهم، وأراد ألا يحدث شيء بسببه، وزار بعد ذلك عثمان كلا من علي، وطلحة، والزبير، ثم عاد فدخل بيته، وشدّد عليه الحصار فلم يعد يخرج أبدا حتى كان يوم استشهاده رضي الله عنه.
أقام المنحرفون رجلاً منهم يصلي بالناس، وهو زعيم المصريين الغافقي بن حرب العكي، وإذا وجد علي أو طلحة صلى بالناس أحدهما. ومنع الماء عن الخليفة، فأرسل إلى علي، وطلحة، والزبير، وعائشة، وأمهات المؤمنين فأسعفه علي، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان. وزجر علي الثائرين فلم يرعووا، وكان بين الحين والآخر يطل الخليفة بنفسه على أولئك المنحرفين المحاصرين له فيعظهم، ولكن لا يأبهون لأحد حتى أن أم حبيبة لم تستطع الوصول إليه لإسعافه بالماء، إذا ضربوا وجه بغلتها وكادت تسقط عنها، وهذا ما ألزم الناس بيوتهم لا يخرج منهم أحد إلا ومعه سيفه، إذ اختل نظام الأمن في دار الهجرة، ودخل دار عثمان بعض أبناء الصحابة فيهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسن، والحسين ابنا علي، ومحمد بن طلحة وغيرهم، وطلب منهم عثمان ألا يقاتلوا وعزم عليهم في ذلك أشد العزيمة.
وصلت الأخبار إلى المدينة بأن الأمداد قد دنت من المدينة، وأن من جاء منها من الشام قد وصل إلى وادي القرى فخاف المنحرفون، وأرادوا دخول الدار على عثمان فمنعهم من فيها: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص وغيرهم، فتسوروا الدار من خوخة… ثم أحرقوا باب الدار، وسيدنا عثمان يقسم على أبناء الصحابة أن يلقوا سيوفهم حتى ألقاها بعضهم، وهجم المنحرفون على الخليفة، فضربه الغافقي بن حرب العكي
بحديدة، ثم ضرب قتيرة بن حمران زوج الخليفة نائلة التي رفعت يدها تدافع عن زوجها فقطع أصابعها، ثم ضرب الخليفة أخوه سودان بن حمران السكوني، وكذلك كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي فقتل رضي الله عنه، وقيل بل قتله عمرو بن الحمق..
ونُهبت الدار، كما نُهب بيت المال، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. وكان قتل الخليفة الراشدي الثالث سيدنا عثمان بن عفان، رضي الله عنه، في ۱۸ ذي الحجة من عام ٣٥ من هجرة المصطفى، وبذا تكون مدة خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، وكان عمره إذ ذاك اثنتين وثمانين سنة.
وسيدنا عثمان هو الذي اشترى بئر أرومة وجعلها للمسلمين، وجمع القرآن الكريم، وأول من وسع مسجد رسول الله ﷺ، استجابة لرغبة رسول الله حين ضاق المسجد بأهله وله من الفضائل الكثيرة رضي الله عنه.
التاريخ الإسلامي | الخلفاء الراشدون
التاريخ الإسلامي: الخلفاء الراشدون.