أَعْطَاهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم سَيْفَهُ، وآثَرَهُ بِهِ عَلَى شُيُوخِ الْمُهَاجِرِينَ وَفُرْسَانِ الْأَنْصَارِ.
هَذِهِ مَدِينَةُ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ صلى الله عليه وسلم يَمُوجُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ ؛ تَأَهُبًا لِلقَاءِ العدو وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ ؛ يَرُوحُونَ وَيَغْدُونَ فِي دُرُوعِ الْحَدِيدِ كَأُسْدِ الشَّرَى … وَهُمْ يَتَوَهَّجُونَ شَوْقًا إِلَى نَيْلِ الشَّهَادَةِ، وَالظَّفَرِ بِرِضْوَانِ اللَّهِ. وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ إِلَى النَّاسِ لَابِسًا لَأُمَتَهُ؛ مستعدًا لِلقَاءِ عدو اللهِ وَعَدُوه. فَمَا إِنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ عُيُونُ الْمُسْلِمِينَ ؛ حَتَّى اشْتَعَلَتْ صُدُورُهُمْ بِنِيرَانِ الْحَمِيَّةِ واتَّقَدَتْ أَفْئِدَتُهُمْ بِالْعَزِيمَةِ وَالْبَأْسِ … وَمَا هُمْ أُولَاءِ الْفِتْيَةُ الْيَافِعُونَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؛ يُقْبِلُونَ عَلَى الرَّسُولِ الكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ جَاوَزَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ… وَهُمْ يَشُدُّونَ قَامَاتِهِمُ الْقَصِيرَةَ، وَيَنْفُحُونَ صُدُورَهُمُ الْغَضَّةَ… لِيَظْهَرُوا بِمَظَاهِرِ الرِّجَالِ أَمَامَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ أَمَلًا فِي أَنْ يُجِيزَهُمْ، وَيُتِيحَ لَهُمْ فُرْصَةَ الْقِتَالِ تَحْتَ رَايَتِهِ …وَالِاسْتِشْهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ قَرِيبًا مِنْهُ. وَمَا إِنِ اكْتَمَلَتِ الْجُمُوعُ ؛ حَتَّى رَفَعَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ سَيْفَهُ بِيَدِهِ ، وَقَالَ: ( مَنْ يَأْخُذُ سَيْفِي هَذَا ؟ ). فَامْتَدَّتْ إِلَيْهِ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ ؛ كُلُّهَا تُرِيدُ أَنْ تَظْفَرَ بِسَيْفِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، وَتَحْفَىٰ بِهِ .. فَرَدَّهُ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: ( مَنْ يَأْخُذُ سَيْفِي
هَذَا بِحَقِّهِ ؟! ). فَقَامَ إِلَيْهِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَغَيْرُهُمَا فَأَمْسَكَهُ ؛ حَتَّى قَامَ إِلَيْهِ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَخُو بَنِي سَاعِدٍ ؛ الْمُكَنَّى بِأَبِي دُجَانَةَ وَقَالَ : وَمَا حَقٌّ سَيْفِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم (تُقَاتِلُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ أَوْ تُقْتَلَ ). فَقَالَ : أَنَا أَخُذُهُ بِحَقِّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. عِنْدَ ذَلِكَ أَشْرَأَبَتِ الْأَعْنَاقُ إِلَى أَبِي دُجَانَةَ؛ الَّذِي مَنَحَهُ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ سَيْفَهُ. وَآثَرَهُ بِهِ عَلَى شُيُوخِ الْمُهَاجِرِينَ ، وَفُرْسَانِ الْأَنْصَارِ. لَمْ يَكُنْ أَبُو دُجَانَةَ مَجْهُولَ الْمَكَانِ فِي الْحَرْبِ عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، أَوْ مَغْمُورَ الْمَقَامِ …فَهُمْ جَمِيعًا يُقِرُّونَ لَهُ بِأَنَّهُ كَمِيٌّ شُجَاعٌ ؛ لَا يَهَابُ الْمَوْتَ…وَهُمْ جَمِيعًا يَعْرِفُونَ عِصَابَتْهُ الْحَمْرَاءَ الَّتِي يَعْصِبُ بِهَا رَأْسَهُ ؛ إِذَا حَمِى الْوَطِيسُ، وَالْتَقَى الْجَمْعَانِ … وَيُطْلِقُونَ عَلَيْهَا «عِصَابَةَ الْمَوْتِ » وَهُمْ جَمِيعًا يَعْجَبُونَ مِنْ مِشْيَتِهِ الَّتِي يَخْتَالُ بِهَا بَيْنَ الصُّفُوفِ ؛ لِمُبَارَزَةِ الأَقْرَانِ وَمَعَ ذَلِكَ ؛ فَقَدْ نَفِسَ عَلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ الَّتِي خَصَّهُ بِهَا الرَّسُولُ الْأَعْظَمُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ. فلنترُكِ الْكَلَامَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ؛ لِيُحَدِّثَنَا عَنْ خَبَرِ أَبِي دُجَانَةَ هَذَا ، وَوَقْعِهِ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ لَقَدْ وَجَدْتُ فِي نَفْسِي ؛ حِينَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِينِي سَيْفَهُ ؛ فَمَنَعَنِي إِيَّاهُ ، وَأَعْطَاهُ أَبَا دُجَانَةً وَقُلْتُ : أنا ابْنُ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ عَمَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام وَإِنِّي أَقَعُ فِي الذُّرْوَةِ مِنْ قُرَيْشٍ حَسَبًا وَمَجْدًا وَلَقَدْ قُمْتُ إِلَيْهِ وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُعْطِينِي السَّيْفَ قَبْلَهُ؛فَأَعْرَضَ عَنِّي ، وَأَعْطَاهُ إياه!! وَاللَّهِ لَأَنْظُرَنَّ مَا يَصْنَعُ بِهِ …ثُمَّ مَضَى ؛ فَتَبِعْتُهُ ، وَمَضَيْتُ فِي إِثْرِهِ فَلَمَّا غَدًا قُبَالَةَ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ ، أَخْرَجَ عِصَابَتَهُ الْحَمْرَاءَ وَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ ؛ فَلَمَّا رَآهُ الْأَنْصَارُ؛ الْتَفَتَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَقَالُوا : شَدَّ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةَ الْمَوْتِ عَلَى رَأْسِهِ.
وَهَكَذَا كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ ؛ إِذَا تَعَصَّبَ بِهَا امْتَشَقَ سَيْفَ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ ،وطفق يَمْشِي بِهِ مُخْتَالًا مُتَبَخْتِرًا بَيْنَ الصُّفُوفِ…فَنَظَرَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَقَالَ ( هَذِهِ مِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ) [ أَيْ مَوْطِنِ لِقَاءِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم]. ثُمَّ انْطَلَقَ أَبُو دُجَانَةَ وَهُوَ يُنْشِدُ نَشِيدًا يَهُزُّ الْقُلُوبَ هَزَّا ، وَيُفْعِمُ الصُّدُورَ حَمِيَّةٌ وَشَهَامَةٌ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَصُولُ بَيْنَ صُفُوفِهِمْ وَيَجُولُ ؛ فَمَا لَقِيَ أَحَدًا إلا قتله وَكَانَ فِي عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ دَأَبَ عَلَى تَتَبُّعِ جَرْحَىٰ الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِجْهَازِ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا بَعْدَ آخَرَ. فَرَأَيْتُ أَبَا دُجَانَةَ يَتَّجِهُ نَحْوَهُ .. وَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَدْنُو مِنْ أَبِي دُجَانَةَ … فَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، وَأَنْ يَجْعَلَ مَصْرَعَ هَذَا الْكَافِرِ عَلَىٰ يَدَيْ أبي دُجَانَةَ. فَمَا لَبِثَا أَنِ الْتَقَيَا ، وَتَبَادَلَا ضَرْبَتَيْنِ بِسَيْفَيْهِمَا فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ … فَتَلَقَّى أَبُو دُجَانَةَ ضَرْبَةً خَصْمِهِ بِتُرْسِهِ ؛ فَقَدَّتِ التَّرْسَ قَدَّا … أَمَّا ضَرْبَةُ أَبِي دُجَانَةَ فَقَدْ أَصَابَتْ مِنَ الْمُشْرِكِ مَقْتَلًا ؛ فَخَلَّفَهُ وَرَاءَهُ يَسْبَحُ فِي دِمَائِهِ … وَمَضَى يَقْتَحِمُ الصُّفُوفَ ذَائِدًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا بِسَيْفِهِ ؛ مُتَصَدِّيًا لأعدائه فَكُنْتُ أَرَاهُ تَارَةً عَنْ يَمِينِهِ ، وَتَارَةٌ عَنْ شِمَالِهِ ، وَتَارَهُ قُدَّامَهُ أَوْ خَلْفَهُ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا دُجَانَةَ رَأَى شَحْصًا يَجُولُ بَيْنَ صُفُوفِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ يُثِيرُ حَمَاسَتَهُمْ ، وَيُؤَلِّبُهُمْ عَلَى قَتْلِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ، وَأَهْوَىٰ عَلَىٰ رَأْسِهِ بِسَيْفِهِ. لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ أَنْ حَرَفَ السَّيْفَ عَنْهُ … فَاقْتَرَبْتُ مِنْهُ وَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ؛ فَقَالَ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ اللَّوَاتِي جَاءَ بِهِنَّ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ مَعَهُ إِلَى الْمَعْرَكَةِ … فَأَكْرَمْتُ سَيْفَ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْتُلَ بِهِ امْرَأَةٌ. عِنْدَ ذَلِكَ عَرَفْتُ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَدْ وَضَعَ سَيْفَهُ فِي مَوْضِعِهِ … وَقُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. ظَلَّ أَبُو دُجَانَةَ يُنَافِحُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِسَيْفِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا دَامَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ. فَلَمَّا لَحِقَ الرَّسُولُ الْأَعْظَمُ الله بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى ؛ وَضَعَ أَبُو دُجَانَةَ نَفْسَهُ وَسَيْفَهُ فِي طَاعَةِ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَمَّا ارْتَدَّ بَنُو حَنِيفَةَ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ. وَطَفِقُوا يَخْرُجُونَ مِنْ دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَتَبِعُوا الْمُتَنَبِّى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ ؛ جَهَّزَ لَهُمُ الصِّدِّيقُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ جَيْشًا كَبِيرًا … حَشَدَ فِيهِ وُجُوهَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَكَانَ في مُقَدَّمَتِهِمْ أَبُو دُجَانَةَ صَاحِبُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ عَقَدَ لِوَاءَ الْجَيْشِ لِسَيْفِ اللَّهِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. انْصَبَّ جُنْدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ انْصِبَابَ الْهَوْلِ … وَصَمَدَ لَهُمْ مُسَيْلِمَةً وَمَنْ مَعَهُ صُمُودَ الْجِبَالِ. وَدَارَتْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ رَحَى مَعَارِكَ تَشِيبُ مِنْ هَوْلِهَا الْوِلْدَانُ … وَكَثُرَ الْقَتْلُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ ؛ فَمَا زَادَتْهُمَا كَثْرَةُ الْقَتْلَى إِلَّا حَمِيَّةٌ وَحِدَّةً
وَضَرَاوَةٌ … ثُمَّ مَا لَبِثَتْ أَنْ رَجَحَتْ كِفَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى كِفَّةِ عَدُوِّهِمْ بَعْدَ طُولِ بَلَاءِ، وَشِدَّةِ عَنَاءٍ … فَانْحَازَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ وَالْآلَافُ الْمُؤلَّفَةُ مِنْ جُنْدِهِ ؛ إِلَى الْحَدِيقَةِ الَّتِي عُرِفَتْ – بَعْدَ ذَلِكَ ـ بِاسْمِ : حَدِيقَةِ الْمَوْتِ. فَتَحَصَّنُوا وَرَاءَ جُدْرَانِهَا الْمُمَنَّعَةِ. وَتَتَرَّسُوا خَلْفَ أَبْوَابِهَا الْمُوصَدَةِ.
وَلَمَّا أَعْيَتِ الْمُسْلِمِينَ الْحِيَلُ ؛ قَامَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكِ الْأَنْصَارِيُّ بِأَجْرَ! عَمَلٍ بُطُولِي عَرَفَهُ تَارِيحُ الْفِدَاءِ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ… حَيْثُ اسْتَطَاعَ أَنْ يَفْتَحَ أَبْوَابَ الْحَدِيقَةِ فِي وَجْهِ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ … فَهَبَّ صَحَابَةُ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يَتَدَفَّقُونَ عَلَى « حَدِيقَةِ الْمَوْتِ» ، تَدَفُّقَ السَّيْلِ … وَيَنْصَبُونَ عَلَى مَنْ فِيهَا انْصِبَابَ الْمَنُونِ … فَبَعْضُهُمْ ؛ دَخَلَ الْحَدِيقَةَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَبَعْضُهُمُ الْآخَرُ ؛ رَمَى بِنَفْسِهِ عَلَيْهَا مِنْ فَوْقِ جُدْرَانِهَا. وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ. أَلْقَى أَبُو دُجَانَةَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْحَدِيقَةِ مِنْ فَوْقِ أَحَدٍ جُدْرَانِهَا الْعَالِيَةِ. فَلَمَّا سَقَطَ عَلَى أَرْضِهَا ، كُسِرَتْ سَاقُهُ ؛ فَلَمْ يُبَالِ بِهَا وَلَمْ يَأْبَهُ لَهَا وَإِنَّمَا انْتَضَى سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ يَشُقُ بِهِ الصُّفُوفَ ؛ مُعْتَمِدًا عَلَى رِجْلِهِ الصَّحِيحَةِ حَتَّى بَلَغَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ. فَأَهْوَى عَلَيْهِ بِضَرْبَةٍ مِنْ سَيْفِهِ … وَذَلِكَ فِي اللَّحْظَةِ الَّتِي سَدَّدَ إِلَيْهِ فِيهَا وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ طَعْنَةٌ مِنْ فَخَرَّ الْمُتَنَبِّئُ الْكَذَّابُ بَيْنَهُمَا صَرِيعًا يَخُوضُ فِي دِمَائِهِ. عِنْدَ ذَلِكَ ؛ كَرَّ أَصْحَابُ مُسَيْلِمَةَ عَلَى الْفَارِسِ الَّذِي يُحَارِبُ بِرِجُلٍ وَاحِدَةٍ ؛ يُرِيدُونَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ …فَمَا زَالَ يُجَالِدُهُمْ وَيُجَالِدُونَهُ ؛ حَتَّى كَلَّتْ قَدَمُه … وَتَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ ضَرَبَاتُ السُّيُوفِ وَطَعَنَاتُ الرَّمَاحِ … فَخَرَّ صَرِيعًا شَهِيدًا. لَكِنَّ أَبَا دُجَانَةً لَمْ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ غَمْضَتَهَا الْأَخِيرَةِ … إِلَّا بَعْدَ أَنْ رَأَىٰ جُنُودَ الْمُسْلِمِينَ؛ يَرْفَعُونَ عَلَى أَرْضِ الْيَمَامَةِ رَايَاتِ الْإِسْلَامِ.
صور من حياة الصحابة | عبدالرحمن رأفت باشا