«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ كُلَّ مَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ صَدٌ عَنْ سَبِيلِكَ»
[مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ]
سِيرَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مَلْحَمَةٌ مَجِيدَةُ الْفُصُولِ تَبْتَدِى بِالْعَصَبِيَّةِ وَالْبُطُولَةِ. وَتَنْتَهِي بِالْإِيمَانِ وَالرُّجُولَةِ. كَانَ خَالِدٌ مِنْ مَحْزُومِ … وَكَانَتْ مَحْزُومٌ فِي الذُّرْوَةِ مِنْ قُرَيْشٍ. وَكَانَتْ نَشْأَتُهُ فِي أَعْرَقِ بُيُوتِهَا نَسَبًا وَأَشْرَفِهَا حَسَبًا
وَأَكْثَرِهَا مَالًا وَنَشَبًا كَانَ عَمُّهُ هِشَامٌ قَائِدَ بَنِي مَحْزُومٍ يَوْمَ حَرْبِ الْفِجَارِ وَبِوَفَاتِهِ أَرْحَتِ الْعَرَبُ كَمَا تُؤَرِّجُ بِالْأَحْدَاثِ الْعِظَامِ …وَلَمْ تُقِمْ قُرَيْسٌ سُوفًا بِمَكَّةَ ثَلَاثًا لِحُزْنِهَا عَلَيْهِ. وَكَانَ عَمُّهُ الْفَاكِهُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَكْرَمِ الْعَرَبِ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ لَهُ بَيْتٌ ضّيَافَةِ يَأْوِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ اسْتِئذَانٍ. أَمَّا أَبُوهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ؛ فَقَدْ كَانَ أغنى أبناء زمانه… يَمْلِكُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْبَسَاتِينِ وَالْكُرُومِ وَالتِّجَارَةِ، وَالْخدَمِ وَالْجَوَارِي وَالرَّقِيقِ؛ مَا لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ سِوَاهُ فَقَدْ كَانَ أَبُوهُ يَكْسُو الْكَعْبَةَ وَحْدَهُ سَنَةٌ وَتَكْسُوهَا قُرَيْشُ كُلُّهَا سَنَةً أُخْرَى وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ دُعِيَ بِالْوَحِيدِ وَلُقِّبَ بِرَيْحَانَةِ قُرَيْشٍ. وَهْوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ﴾ وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ لِفَرْطِ جُودِهِ؛ يَأْنَفُ أَنْ تُوقَدَ نَارٌ غَيْرُ نَارِهِ فِي مِنِّى لِإِطْعَامِ الحجيج. وَكَانَ يَزْعُمُ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِالنُّبُوَّةِ وَبِنُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ…وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَـذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عظيم ﴾ في هَذَا الْبَيْتِ السَّرِيِّ الْغَنِيِّ الْوَجِيهِ؛ وُلِدَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَنَةَ أَرْبَعِ وَثَلَاثِينَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. كَانَ خَالِدٌ طَوِيلًا بَائِنَ الطُّولِ…مَدِيدَ الْقَامَةِ؛ عَظِيمَ الْهَامَةِ مهيب الطلعة. يَمِيلُ إِلَى الْبَيَاضِ. وَكَانَ شَدِيدَ الشَّبَهِ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ حَتَّى كَانَ ضِعَافُ الْبَصَرِ كَثِيرًا مَا يَخْلِطُونَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ. وَلَمَّا أَظْهَرَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ الله دَعْوَتَهُ ؛ كَانَ خَالِدٌ فَتًى نَاشِئا فَنَفَرَ مِنْهَا لِأَنَّهُ رَأَى فِيهَا زَعَامَةٌ جَدِيدَةٌ ؛ تُنَاهِضُ زَعَامَةً أُسْرَتِهِ…وَسِيَادَةٌ مُحْدَثَةٌ ؛ تَقِفُ فِي وَجْهِ سِيَادَةِ أَبِيهِ…فَتَصَدَّى لَهَا هُوَ وَأَخُوهُ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ. أَمَّا عُمَارَةُ ؛ فَقَدْ خَاضَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ ، وَوَقَعَ فِي أَسْرِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ طَالَ الْكَلَامُ فِي أَمْرِ فِدَائِهِ لِفَرْطِ غِنَاهُ ، وَشِدَّةِ عَدَاوَةِ أَهْلِهِ لِلْإِسْلَامِ …فَطَلَبَ آسِرُهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ دِرْهَم. وَأَوْصَى النَّبِيُّ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَلَّا يَقْبَلُوا لَهُ فِدْيَةٌ؛ غَيْرَ دِرْعِ أَبِيهِ تفَضْفَاضَة، وَسَيْفِهِ وَيَنْضَتِهِ وَطَالَتِ الْمُسَاوَمَةُ ؛ وَالرَّجُلُ بَاقٍ عَلَى دِينِهِ فِي أَسْرِ الْمُسْلِمِينَ….فَلَمَّا تَمَّ فِدَاؤُهُ وَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ … أَعْلَنَ إِسْلَامَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى الرَّغْمِ مِنْهُمْ وَهُمْ كَارِهُونَ. وَعَجِبَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ فِعْلِهِ، وَسَأَلُوهُ : هَلَّا أَسْلَمْتَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَدَى؟! فَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يُقَالَ إِنِّي جَزِعْتُ مِنَ الْإِسَارِ. وَأَمَّا خَالِدٌ ؛ فَظَلَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَفِي أحدٍ ؛ عَقَدَتْ قُرَيْضٌ لَهُ لِوَاءَ الْمَيْمَنَةِ. فَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ الْهَجْمَةَ الَّتِي رَبَّحَتْ كِفَّةَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَقَدْ كَرَّ بِالْخَيْلِ عَلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاخْتَلَّتْ صُفُوفُهُمْ وَاخْتَلَطَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ … حَتَّى مَا عَادُوا يَفْرِقُونَ بَيْنَ شِيعَتِهِمْ وَعَدُوِّهِمْ … فَاسْتَطَارَ أَبُو سُفْيَانَ فَرَحًا … وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ بِيَوْم بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ. وَفِي يَوْم الْخَنْدَقِ ؛ اقْتَسَمَ الْمُشْرِكُونَ كَتَائِبَهُمْ ، وَخَصُّوا كُلَّ كَتِيبَةٍ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَذْهَمُهَا عِنْدَ الصَّبَاحِ.
وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ هُوَ الْمُوَكَّلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ وَكَادَ يَظْفَرُ خَالِدٌ بِالرَّسُولِ الْكَرِيمِ لَوْلَا يَقَظَةُ حَرَسِ النبي صلى الله عليه وسلم وَقَائِدِهِمْ أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَفِي سَنَةِ الْحُدَيْبِيَّةِ ؛ خَرَجَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَىٰ مَكَّةَ معتمراً في نَحْوِ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا يَحْمِلُونَ سِلَاحًا غَيْرَ السُّيُوفِ فِي أَغْمَادِهَا فَأَوْجَسَ الْمُشْرِكُونَ خِيفَةً مِنْ ذَلِكَ ، وَنَدَبُوا خَالِدًا لِلقَاءِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم في مِائَتَيْ فَارِسٍ ، واسْتِطلاع أَمْرِهِ … فَدَنَا خَالِدٌ حَتَّى نَظَرَ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ حَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ ؛ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَهَمَّ خَالِدٌ أَنْ يُغِيرَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. فَصَدَّتْهُ سَكِينَةُ الْمُسْلِمِينَ …وَرَهْبَةُ الصَّلَاةِ … وَنَخوَةُ الْفَارِسِ الَّتِي تَأْتِي الْغَدْرَ. وَسَرَى فِي رُوعِهِ أَنَّ لِمُحَمَّدٍ سِرًّا ، وَأَنَّ الرَّجُلَ مَمْنُوعٌ. وَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ عَاطِفَةٍ عَطَفَتْهُ نَحْوَ الْإِسْلَامِ. جَاءَتْهُ رِسَالَةٌ مِنْ أَخِيهِ الْوَلِيدِ الَّذِي أَسْلَمَ بَعْدَ بَدْرٍ ؛ يَحْمِلُ لَهُ فِيهَا كَلَامًا مِنَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ سَبَبًا فِي أنْ يُخْرِجَهُ اللَّهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وَلْنترُكُ لِخَالِدٍ نَفْسِهِ أَنْ يَقُصَّ عَلَيْنَا قِصَّةَ إِسْلَامِهِ ؛ قَالَ : لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِي مِنَ الْخَيْرِ مَا أَرَادَ؛ قَذَفَ فِي قَلْبِي حُبَّ الْإِسْلَامِ، وَحَضَرَنِي رُشْدِي وَقُلْتُ شَهِدْتُ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَكُنْتُ كُلَّمَا انْصَرَفْتُ مِنْ مَوْطِنٍ أَجِدُنِي عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ … وَأَجِدُ أَنَّ مُحَمَّدًا سَيَظْهَرُ. ثُمَّ أَرْدَفَ يَقُولُ : وَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ كَتَبَ إِلَيَّ أَخِي كِتَابًا ؛ فَإِذَا فِيهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ … أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ … وَعَقْلُكَ عَقْلُك …. وَمِثْلُ الْإِسْلَامِ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ. وَقَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ الله عَنْكَ ؛ فَقَالَ: ( أَيْنَ خَالِدٌ ؟ ). فَقُلْتُ يَأْتي الله به. فَقَالَ : (مَا مِثْلُ خَالِدٍ يَجْهَلُ الْإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ … وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ ). فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا فَاتَكَ مِنْهُ؛ فَقَدْ فَاتَتْكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ. ثُمَّ أَتْبَعَ خَالِدٌ يَقُولُ : فَلَمَّا جَاءَني كِتابُهُ ؛ نَشَطْتُ لِلْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَسَرَّتْنِي مَقَالَهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنِّي فِي بِلَادٍ ضَيِّقَةٍ جَدْبَةٍ … فَخَرَجْتُ إِلَى بَلَدٍ خْضَرَ وَاسِع ؛ فَقُلْتُ : إِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا حَقٌّ.
فَلَمَّا عَزَمْتُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ : مَنْ أُصَاحِبُ مَعِي إِلَى مُحَمَّدٍ ؟ فَلَقِيتُ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ؛ فَقُلْتُ : أَمَا تَرَىٰ يَا أَبَا وَهَبٍ مَا نَحْنُ فِيهِ ؛ لَقَدْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ..
فَلَوْ قَدِمْنَا عَلَيْهِ ؛ فَاتَّبَعْنَاهُ … فَإِنَّ شَرَفَ مُحَمَّدٍ شَرَفٌ لَنَا فَأَتِي عَلَيَّ أَشَدَّ الْإِبَاءِ ، وَقَالَ : لَوْ لَمْ يَبْقَ غَيْرِي مِنْ قُرَيْشٍ مَا تَبِعْتُهُ أَبَدًا ؛ فَافْتَرَقْنَا ، وَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ مَوْتُورٌ يَطْلُبُ ثَأْرًا ؛ فَقَدْ قُتِلَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ فِي بَدْرٍ. ثُمَّ تَابَعَ خَالِدٌ قِصَّةَ إِسْلَامِهِ ؛ فَقَالَ :
تَرَكْتُ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وَلَقِيتُ عِكْرِمَةِ بْنَ أَبِي جَهْلٍ؛ فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ ما قُلْتُ لِصَفْوَانَ. فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَهُ صَفْوَانُ. فَقُلْتُ لَهُ اطْوِ مَا ذَكَرْتُ لَكَ. وَخَرَجْتُ إِلَى مَنْزِلِي؛ فَأَمَرْتُ بِرَاحِلَتِي أَنْ تُعَدَّ لِي إِلَى أَنْ أَلْقَى عُثْمَانَ بْنَ أَبِي طَلْحَة، وَهُوَ صَدِيقٌ لِي أَذْكُرُ لَهُ مَا أُرِيدُ. ثُمَّ تَذَكَّرْتُ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِ؛ فَكَرِهْتُ ذَلِكَ ثُمَّ قُلْتُ: وَمَا عَلَيَّ أَن أَلْقَاهُ وَأَنَا رَاحِلٌ مِنْ سَاعَتِي ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ مَا صَارَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ ، وَقُلْتُ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قُلْتُهُ لِصَاحِبَيْهِ.
فَأَسْرَعَ الْإِجَابَةَ ، وَأَدْلَجْنَا بِسُحْرَةٍ وَفِيمَا نَحْنُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ الْتَقَيْنَا بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ؛ فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ. قُلْنَا وَبِكَ. فَقَالَ : أَيْنَ سَيْرُكُمْ ؟ قُلْنَا : مَا أَخْرَجَكَ أَنْتَ ؟ قَالَ : بَلْ مَا أَخْرَجَكُمْ أَنْتُمْ ؟ قُلْنَا : الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَاتَّبَاعُ مُحَمَّدٍ. قَالَ : وَذَاكَ الَّذِي أَقْدَمَنِي. فَاصْطَحَبْنَا جَمِيعًا حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ؛ فَلَقِيَنِي أَخِي ؛ فَقَالَ : أَسْرِعْ ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لا أُخْبِرَ بِقُدُومِكَ ؛ فَسُرَّ … وَهُوَ يَنْتَظِرُكُمْ. فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ فَطَلَعْتُ عَلَيْهِ ؛ فَمَا زَالَ يَبْتَسِمُ إِلَيَّ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَيْهِ. فَسَلِّمْتُ بِالنُّبُوَّةِ … فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِوَجْهِ طَلْقٍ. فَقُلْتُ : إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ … فَقَالَ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا وَرَجَوْتُ أَلَّا يُسْلِمَكَ إِلَّا لِلْخَيْرِ ) وَمُنْذُ ذَلِكَ اليَومِ أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِقَلْبِهِ وَلُبهِ. وَجَعَلَ يَنْدَمُ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْ أَيَّامِهِ السَّالِفَةِ ؛ فَقَالَ ذَاتَ مَرَّةٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَدْ رَأَيْتَ مَا كُنْتُ أَشْهَدُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ مُعَانِدًا عَنِ الْحَقِّ؛ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَهَا لِي فَأَجَابَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : ( إِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ). فَعَادَ خَالِدٌ يُؤَكُدُ رَجَاءَهُ … فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ رَبَّهُ ؛ فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ كُلِّ مَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ صَدٌ عَنْ سَبِيلِكَ ). فرَضِيَ خَالِدٌ بِذلِك وَاسْتَرَاحَتْ نَفْسُهُ وَلَمَّا عَزَمَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ؛ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا وَهُوَ يَقُودُ كَتِيبَتَهُ الْخَضْراء. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ … والزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ عَلَى الْمَيْمَنَةِ … وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى الْمَيْسَرَةِ. وَبِذَلِكَ عَادَ خَالِدٌ إِلَى مَكَّةَ قَائِدًا ، وَلَمْ يَمْضِ عَلَى إِسْلَامِهِ إِلَّا بِضْعَةٌ أشهر. كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم حِينَ عَقَدَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِحْدَىٰ رَايَاتِهِ يَوْمَ دُخُولِ مَكَّةَ؛ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ حَدَاثَةِ إِسْلَامِهِ … يَنْظُرُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ إِلَىٰ مَا سَيَكُونُ لِخَالِدٍ مِنْ شَأْنٍ فِي نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ ، وَإِعْلَاءِ رَايَاتِ الْقُرْآنِ. وَلَمَّا لَحِقَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم علا بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى ، وَآلَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ … شَهِدَ خَالِدٌ فِي عَهْدِهِ حُرُوبَ الرَّدَّةِ مِنْ أَوَائِلِهَا إِلَىٰ نِهَايَتِهَا ، وَكَانَ لَهُ النَّصِيبُ الْأَوْفَرُ فِي أَهَمِّ وَقَائِعِهَا ، وَأَعْصَبِ أَوْقَاتِهَا ، وَعَلَىٰ رَأْسِهَا وَقْعَةُ الْيَمَامَةِ. وَلَمَّا اتَّجَهَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى فَتْحِ فَارِسٍ ؛ كَانَ لِخَالِدٍ فِي هَذَا الميدان ما لم يَكُنْ لِرَجُلٍ سِوَاهُ … فَقَدْ لَقِيَ الْفُرْسَ وَأَنْصَارَهُمْ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ وَقْعَةٌ. لَمْ يُهْزَم فِي أَيَّةٍ مِنْهَا ، وَلَمْ يُخْطِئ ، وَلَمْ يُخْفِقْ … وَلَمَّا قَصَدَ الْمُسْلِمُونَ حَرْبَ الرُّوم ؛ كَانَ لِخَالِدٍ شَرَفُ قِيَادَةِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ ؛ كُبْرَى مَعَارِكِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ بَلَغَ خَالِدٌ ذُرْوَةَ عَظَمَتِهِ ؛ يَوْمَ أَتَاهُ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعَزْلِهِ عَن الْقِيَادَةِ ، وَهُوَ فِي قِمَّةِ انْتِصَارَاتِهِ جَيْشِ فَصَدَعَ بِالْأَمْرِ وَأَسْلَمَ الْقِيَادَةَ لِخَلْفِهِ. وَبِنَفْسٍ رَاضِيَةٍ ؛ تَحَوَّلَ الْمُنْتَصِرُ الْكَبِيرُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى جُنْدِيٌّ فِي جيش الْمُسْلِمِينَ … بَعْدَ أَنْ كَانَ قَائِدًا لِهَذَا الْجَيْش. رحم اللهُ أَبَا سُلَيْمَانَ. فَقَدْ كَانَ طِرَازًا فَرِيدًا بَيْنَ النَّاسِ.
صور من حياة الصحابة | عبدالرحمن رأفت باشا