( أبو سفيان بن الحارث سيد فِتْيان الجَنَّةِ )
[ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ]
قَلْ أن اتَّصَلَتِ الأسْبَابُ بين شَحْصَيْن وتوثقَتِ العُرَى بين اثنين كما اتَّصَلَتْ وتَوَثَقَتْ بين محمد بن عبدِ اللَّهِ صَلَواتُ الله وسلامه عليه، وبَيْنَ أبي سُفيان بن الحارث: فقد كان أبو سُفْيانَ لِدةً من لِدات رسول الله صلى الله عليه وسلم وترباً من أترابه، فقد ولدا في زَمَنِ مُتَقارِبٍ وَنَشَا فِي أَسْرَةٍ واحِدَةٍ. وكان ابنَ عَمِّ النبيِّ اللَّصِيقَ، فأبوه الحارِثُ وعبد الله والد الرسول صلوات الله عليه أخَوانِ يَنْحَدِران من صُلْبِ عَبدِ الْمُطَّلِب. ثم إنه كان أخاً للنبي من الرِّضاع، فَقَدْ غَذَّتهما السيدَةُ حليمَةُ السَّعْدِيَّةُ من تديها معاً. وكان بعد ذلك كُلِّهِ صَدِيقاً حميماً للرسول صلواتُ اللهِ عليه قَبْلَ النبوة، وأَشَدَّ الناسِ شَبَهاً به. فهل رأيت أَوْ سَمِعْتَ قرابَةً أقرب أواصِرَ أَمْتَنَ من هذا الذي كان بَيْن محمد بن عبد الله وأبي سفيان بن الحارث؟ لذا فقد كان المَظْنون بأبي سُفْيانَ أنْ يكونَ أَسْبَقَ النَّاسِ إِلَى تَلْبِيَةِ دَعْوَةِ الرسول صلوات الله عليه وأَسْرَعَهُمْ مُبَادَرَةً إلى اتِّباعه. لكن الأمر جاء على خلاف كُلُّ ما يَتَوَقَّعه المُتَوَقِّعون. إذ ما كاد الرسولُ عليه الصلاة والسلامُ يُظهِرُ دَعْوَتَه، ويُنْذِرُ عَشِيرَتَه حَتَّى شَبَّتْ نارُ الصَّغينَةِ في نَفْسٍ أَبي سُفْيانَ على الرسول صلوات الله عليه؛ فاسْتَحالَتِ الصَّداقَةُ إِلى عَداوَةٍ، والرَّحِمُ إلى قطيعة، والأخوة إلى صَدَّ وإعراض. ولقد كان أبو سُفْيانَ بنُ الحَارِثِ يَوْمَ صَدَعَ الرَّسُولُ بِأَمْرِ رَبِّه فارِساً من أَنْبَهِ فُرْسانِ قُرَيش ذِكْراً، وشاعراً من أعلى شعرائِهِم كَعْباً، فَوَضَعَ سِنَانَه ولسانه في محارَبَةِ الرُّسولِ وَمُعَاداةِ دَعْوَتِه، وجَنَّدَ طاقاتِه كُلَّها للنكاية بالإسلام والمسلمين. فما خاضت قريْشُ حَرْباً ضِدَّ النَّبِيِّ إِلا كان مسعرها، ولا أوقعت بالمسلمين أذىً إِلَّا كان له فيه نصيبٌ كبيرٌ. ولقد أيقظ أبو سُفْيانَ شيطانَ شِعْرِه وأطْلَقَ لسانه في هجاء الرسول صلوات الله عليه وسلامه، فقال فيه كلاماً مُقْذِعاً فاحِشاً موجعاً. وطالَتْ عَدَاوَةُ أبي سُفْيَانَ للنَّبِيِّ عليه الصلاةُ والسلام حتى قارَبَتْ عِشْرِينَ عاماً، لم يترك خلالها ضَرْباً من ضروب الكَيْدِ للرسول إلا فَعَلَه، ولا صنفاً من صنوف الأذى للمسلمين إِلَّا اجْتَرَحَه وباءَ بإثمه. وقبيلَ فَتح مَكَّةَ بِقليل كُتِبَ لأبي سفيانَ أَنْ يُسْلِمَ، وكان لإِسْلامِه قِصة مثيرة وعتها كتبُ السِّيرِ وتَناقَلَتْها أَسْفَارُ التاريخ. فَلْتَترُك للرَّجُل نَفْسِه الحديث عن قصة إسلامه. فَشعوره بها أعمق ووَصْفه لها أدق وأصْدَق. قال: لما استقام أَمْرُ الإِسْلامِ وقَرَّ قراره، وشَاعَتْ أَخبارُ تَوَجُهِ الرَّسول إلى مكَّةَ لِيَفْتَحَها ضاقَتْ عَلَيَّ الأَرضُ بما رَحُبَتْ وقلت: إلى أين أذهب؟ ومَنْ أَصْحَب؟! ومع مَنْ أكون؟! ثم جِنْتُ زَوْجَتي وأولادي وقلتُ: تَهَيَّؤوا لِلْخُروج مِنْ مَكَّةَ فقد أَوْشَكَ وصول محمد، وإِنِّي لَمَقْتُولُ لا محالةَ إِن أَدْرَكَنِي المسلمون. فقالوا لي: أما آنَ لكَ أنْ تُبْصِرَ أَنَّ العَرَبَ والعجم قد دانَتْ لمحمد بالطَّاعة، واعتنقتْ دينَه، وأنتَ ما تزالُ مُصِرّاً على عَداوَتِه، وكُنْتَ أَوْلَى النَّاسِ بتأييده ونصره؟! وما زالوا بي يَعْطِفُونَني على دين محمدٍ ويُرَغْبونَني فيه حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صدري للإسلام. قمتُ من تَوي، وقلتُ لغلامي « مَذكور » هيءُ لنا نُوقاً وفرساً، وأَخَذْتُ معي ابني جَعْفَراً، وجَعَلْنَا نُعِذُ السَّيْرَ نحو « الأبواء » بَينَ مَكَّةَ والمدينةِ؛ فقد بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّداً نَزَلَ فيها. ولَمَّا اقْتَرَبْتُ مِنْهَا تَنَكَّرْتُ حَتَّى لا يعرفني أَحَدٌ فَأَقْتل قبلَ أَنْ أُصِلَ إلى النبي وأَعْلِنَ إِسْلامي بينَ يَدَيْهِ. ومضيتُ أمشي على قَدَمَيَّ نحواً من ميل وطلائع المسلمين تَمْضِي مُيَممَةً شَطْرَ مكة جماعةً إِثْرَ جَماعةٍ، فَكُنْتُ أَتَنحى عن طريقهم فَرَقاً منهم وخوفاً من أَنْ يَعْرِفَنِي أَحدٌ من أَصْحَابِ محمد. وفيما أنا كذلك إذ طَلَعَ الرسولُ في مَوكِيهِ، فَتَصَديتُ له وقَفْتُ تِلْقَاءَه وحَسَرْتُ عن وجهي، فما إِنْ مَلَّا عَيْنِيهِ مِنِّي، وَعَرَفَنِي حَتى أَعْرَضَ عَنِّي إلى النَّاحِيَةِ الأخرى، فَتَحَوَّلَتُ إلى ناحِيَةِ وَجْهِهِ، فَأَعْرَضَ عَنِّي وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، فَتَحَوَّلْتُ إلى ناحِيَةِ وَجْهِهِ، حَتَّى فعل ذلك مراراً. كنتُ لا أشك – وأنا مُقْبِل على النبيِّ – أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سَيَفْرَحُ بإسلامي، وأَنَّ أَصْحَابَه سَيَفْرَحُونَ لِفَرَحِه. لكن المسلمين حين رأوا إعراض رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِّي تَجَهموا وأعرضوا عَنِّي جميعاً: لقد لقيني أبو بكر، فأعرض عنِّي أشدَّ الإعراض،
ونَظَرْتُ إلى عمر بن الخَطَّاب نَظْرَةً أَسْتَلين بها قَلْبَه فَوَجَدَتهُ أَشَدَّ إعراضاً من صاحبه. بل إِنَّهُ أغْرَى بي أحدَ الأَنْصَارِ، فقال لي الأنصاري: يا عَدُوَّ الله، أنتَ الذي كنتَ تُؤْذِي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتُؤْذِي أصْحَابَه، وقد بلغت في عداوة النبي مشارق الأرض ومغاربها. وما زال الأنْصَارِيُّ يَسْتَطِيلُ عليَّ ويَرْفَعُ صَوْتَه والمسلمون يقتحمونني بِعُيُونِهم، ويُسَرُّونَ مِمَّا أُلاقي. عند ذلك أبْصَرْتُ عَمِّيَ العَبَّاسَ فَلُذْتُ به، وقلتُ: يا عم، قد كُنتُ أَرْجُو أَنْ يَفْرَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إسْلامِي لِقَرابَتِي منه، وشَرَفي في قَوْمِي، وقد كان مِنْهُ ما تَعْلَمُ، فَكَلَّمْهُ فِي لِيَرْضَى عَنّى، فقال: لا والله لا أكلمه كلمةً أبداً بَعْدَ الذي رأيته من إعراضه عَنْكَ إِلَّا إِنْ سَنَحَت فُرْصَةً؛ فإنِّي أُجِلُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهابه. فقلت: يا عم، إلى مَنْ تَكِلُّني إذن؟! فقال: ليس لك عندي غير ما سمعت. فتملكني الهم وركبني الحزن، ولم ألبَث أَنْ رأيتُ ابْنَ عمي عليَّ بنَ أبي طالب، فكلمتُه في أمري، فقال لي مثل مقالة عمنا العباس. عند ذلك رجعت إلى عمي العباس وقلت: يا عم، إذا كنت لا تستطيع أن عني تعطف عليَّ قَلبَ الرسول، فَكُفَّ ذلك الرجل الذي يَشْتِمُني ويُغري الناس بشتمي، فقال: صفه لي؛ فوصفته له، فقال: ذلك نُعيمانُ بن الحارث النَّجارِيُّ، فأَرْسَلَ إليه وقال له: يا نُعيمانُ، إِنَّ أَبا سُفْيانَ ابْنُ عَمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن أخي، وإِنْ يَكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سـاخـطـا عليـه الـيـوم فسيرضى عنه يوماً، فَكُفَّ عنه، وما زالَ به حتى رَضيَ بأَنْ يَكُفَّ عني، وقال لا أعرض له بعد الساعة. ولما نَزَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة جلستُ على باب منزله، ومعي جعفر قائماً، فلما رآني – وهو خارج من منزله ـ أشاح عَني بوجهه، فلم أَيأس من استرضائه، وجَعَلْتُ كلَّما نَزِلَ فِي مَنْزِل أَجْلِسُ على بابه، وأَقِيمُ ابني جَعفراً واقفاً بإزائي، فكان إذا أَبْصَرَنِي أَعْرَضَ عني. وبقيتُ على ذلك زماناً، فلما اشْتَدَّ عليَّ الأَمْرُ وضَاقَ؛ قلت لِزَوْجَتِي: والله لَيَرْضَيَنَّ عَنِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو لأخُذَنَّ بِيَدَي ابني هذا، ثم لَنَذْهَبَنَّ هائمين على وَجْهَيْنا في الأَرْضِ حَتَّى نموت جوعاً وعطشاً، فلما بَلَغَ ذلك رسول الله الله رق لي … ولما خَرج من قيَّتِهِ نَظَرَ إِلَيَّ نَظَراً أَلْيَنَ مِنَ النَّظَرِ الأول، وكُنْتُ أَرْجو أن يبتسم. ثُمَّ دَخَلَ الرسولُ عليه الصلاة والسلامُ مَكَّةَ فَدَخَلْتُ فِي رِكابه، وخَرَجَ إِلَى المَسْجِد فَخَرَجْتُ أسعى بين يَدَيْهِ لا أُفَارِقُه على حَالٍ. ولما كانَ يومُ حُنَيْنٍ جَمَعَتِ العَرَبُ لِحَرْبِ النبي عليه الصلاة والسلامُ ما لَمْ تَجْمَع قَط، وأَعَدَّتْ لِلقائه ما لم تُعِدَّ من قبل، وعَزَمَت على أن تَجْعَلها القاضِيَة على الإسلام والمسلمين. وخرج الرسول صلوات الله عليه للقائهم في جموع من أصحابه، فَخَرَجْتُ مَعَهُ، ولَمَّا رأيتُ جموع المشركين الكبيرة قلت: والله لأكَفِّرَنَّ اليَوْمَ عن كُلِّ ما سَلَفَ مِني من عداوة رسول الله، ولَيْرَيَنَّ النبيُّ من أَثَرِي مَا يُرْضِي الله ويُرضيه. ولما التقى الجَمْعان اشْتَدَّت وَطأة المُشرِكين على المسلمين؛ فَدَبَّ فيهم الوَهَنُ والفَشَل، وجَعَلَ الناسُ يَتَفَرَّقُون عن النبي، وكادت تحلّ بنا الهزيمة المُنكَرَة. فإذا بالرسول – فداه أبي وأُمِّي – يَثْبُتُ في قَلْبِ المعركة على بَعْلَتِهِ الشَّهْباءِ كَأَنَّه الطَّوْدُ الراسِخُ، ويُجَرِّدُ سَيْفَه، ويجالِدُ عن نَفْسِهِ وعَمَّن حَوْلَه كَأَنَّهُ اللَّيْث عادياً. عند ذلك وَثَبِّتُ عن فَرَسي، وكَسَرْتُ غِمْدَ سَيْفِي، واللَّهُ يَعْلَمُ أني أريدُ الموت دون رسول الله. وأَخَذَ عمِّي العَبَّاسُ بِلِجامِ بَغْلَةِ النبيِّ وَوَقَفَ بجانبه. وأخَذْتُ أنا مكاني من الجانب الآخر، وفي يميني سيفي أذود به عن رسول الله، أما شمالي فكانت مُمسكةً بركابه. فلما نظر النبي إلى حُسنِ بلائي قال لعمي العباس: من هذا؟ فقال: هذا أخوك وابنُ عَمِّكَ أبو سفيان بن الحارث، فارْضَ عنه أي رسول الله، فقال: ( قد فَعَلْتُ وغَفَرَ اللَّهُ له كل عَدَاوَةٍ عادانيها). فاستَطارَ فؤادي فَرَحاً بِرضَى رسولِ اللَّهِ عَنِّي، وقَبَّلْتُ رِجْلَه في الركاب ثم التَفَتَ إِلَيَّ فقال: ( أخي لَعَمْرِي، تَقَدَّمْ فَضارِبٌ ). ألهَبَتْ كلماتُ الرسول صلواتُ اللهِ عليه حماستي، فَحَمَلْتُ على المشركين حَمْلَةً أزالَتْهُمْ عن مواضِعِهِم، وحَمَل معي المسلمونَ حَتَّى طَرَدْناهُمْ قَدْرَ فَرْسَخ، وفَرَّقْناهُمْ فِي كُلِّ وَجْهِ.
ظَلَّ أبو سفيان بن الحارث منذ « حُنَيْنٍ » يَنْعُمُ بجميل رضى النبي عَنْهُ ويَسْعَدُ بكريم صُحْبَتِه، ولكنه لم يرفع نَظَرَه إِليه أبداً ولم يثبِّتْ بَصَرَه في وجهه حياء منه، وخجلاً ماضيه معه. وقد جَعَلَ أَبو سُفْيانَ يَعَضُّ بَنانَ الندم على الأيام السود التي قضاها الجاهلية محجوباً عن نور الله، محروماً من كتابه؛ فَأَكَبْ على القرآن ليله ونهاره يتلو آياته، ويتفقه في أحكامه ويَتَمَلَّى من عِظاتِه. وأعْرَضَ عن الدنيا وزَهْرَتِها وأَقْبَلَ على الله بِكُلِّ جَارِحَةٍ من جوارحه حَتَّى إنَّ الرسول صلوات الله وسلامه عليه رآه ذات مَرَّةٍ يَدْخُلُ المَسْجِدَ فقال لعائِشَةَ رضي الله عنها: ( أتدرين من هذا يا عائشة ؟!). قالت: لا يا رسول الله قال: (إنَّهُ ابنُ عَمِّي أبو سفيان بن الحارث انظري إنَّه أَوَّلُ من يَدْخُلُ المَسْجِدَ وآخِرُ من يَخْرُج منه، ولا يفارِقُ بَصَرُه شِرَاكَ نَعْلِهِ). ولما لحق الرسول صلواتُ الله وسلامه عليه بالرفيق الأعلى حَزِنَ عليه أبو سفيان بن الحارث حُزْنَ الأم على وحيدها، وبكاه بكاء الحبيب على حبيبه، ورثاه بقصيدة من غُرَرِ المراثي تَفِيضُ لَوْعَةً وشجوناً، وتَذُوبُ حَسْرَةً وأنيناً. وفي خلافة الفاروق رضي الله عنه أَحَسٌ أبو سفيان بدنو أجله؛ فَحَفَرَ لِنَفْسِه قَبْرَه بيديه. ولم يَمْض على ذلك غير ثلاثةِ أيامٍ حَتَّى حَضَرَتْه الوفاة كأَنَّه مع الموت على ميعاد؛ فالتفت إلى زوجته وأَوْلادِه وأَهْلِهِ وقال: لا تبكوا علي فو الله ما تَعَلَّقْتُ بخطيئَةٍ منذ أسلمت. ثم فاضت روحه الطاهرة، فصلى عليه الفاروقُ رِضوان الله عليه وحزن لفقده هو والصحابة الكرام. وعَدُّوا موته رُزءاً جَلَلاً حَلَّ بالإسلام وأَهْلِه.
صور من حياة الصحابة | عبدالرحمن رأفت باشا