اضطجع (أبو بكر) ودعا بعثمان، فقال له: اكتب، بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما دعا به أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني أستخلف عليكم بعدي… وأخذته غشية قبل أن يسمي أحداً. فكتب عثمان، رضي الله عنه: إني أستخلف عليكم بعدي عمر بن الخطاب… ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي ما كتبت فقرأ عليه ذكر عمر، فكبر أبو بكر، وقال: أراك خفت أن تذهب نفسي في غشيتي تلك فيختلف الناس، فجزاك الله عن الإسلام خيراً، والله إن كنت لها لأهلاً. ثم أمره أن يتمم فأملى عليه: فاسمعوا وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب {وسيعلمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثم أمره فختم الكتاب وخرج به مختوماً، ومعه عمر بن الخطاب، وأسيد بن حضير. وأشرف أبو بكر على الناس من كوته فقال: أيها الناس إني قد عهدت عهداً، أفترضونه؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله ﷺ، فقام علي، رضي الله عنه، فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر.
فأقروا بذلك جميعاً، ورضوا به، ثم بايعوا، فرفع أبو بكر، رضي الله عنه، يديه فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعلمت فيهم ما أنت أعلم به، واجتهدت لهم رأيي، فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليه، وأحرصهم على ما أرشدهم. وقد حضرني من أول ما حضر، فاخلفني فيهم، فهم عبادك ونواصيهم بيدك، فأصلح لهم أميرهم، واجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدي نبي الرحمة، وهدي الصالحين بعده، وأصلح له رعيته، ثم دعاه فأوصاه.
التاريخ الإسلامي | الخلفاء الراشدون – محمود شاكر
لله دُرّ عثمان، لقد تجلّت حكمته عند احتضار الصديق وتجلّى حسن معرفته برغبة صاحبه وما يدور في خلده حتى في أشد اللحظات وأصعب المواقف وأحلك الظروف.
لقد كانت مكانة عثمان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما كمكانة الوزير من الخليفة، وإن شئت فقل: هي مكانة عمر من أبي بكر في خلافته. وقد صنع الله لأبي بكر بوزارة عمر لخلافته ما يصنعه لخير أهله، وصنع لعمر بوزارة عثمان لخلافته ما يصنعه لخير أهله، فقد كان أبو بكر الصديق أرحم الناس بالناس، وكان عمر أشدهم في الحق، فمزج الله رحمة الصديق بشدة عمر، فكانت منها خلافة الصدق وسياسة العدل، وقوم الحزم. وكان عثمان رضي الله عنه أشبه بالصديق في رحمته، وكان عمر على سننه في شدته، فلما تولى بعد أبي بكر جعل الله له في وزارة عثمان لخلافته عوضًا من رحمة الصديق ورفقه، فكان منهما تلك الأمثال المضروبة في أنظمة الحكم وسياسة الأمة أحكم سياسة وأعدلها.