نشأت أم المؤمنين في بيت الطهر وانتقالها إلى بيت الهدى والنور
نَشَأْتَ عَائِشَةُ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا مَا فِي بَيْتِ الظُّهْرِ وَالإِيمَانِ وَالعَفَافِ، فِي بَيْتِ وَالدِهَا أبي بَكْرِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهُ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ إِلَى أَطْهَرِ إِنْسَانٍ عَرَفَتْهُ الدُّنْيَا، وَعَاشَتْ فِي رِحَابِ إِمَامِ الهُدَى وَالنُّورِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامْ يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ.
بِالوَحْيِ وَهُوَ فِي رِحَابِهَا، يَقُولُ لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا: (لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ؛ فَإِنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي تَوبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ ).
وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اخْتَارَ لِنَبِيِّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَشْرَفَ النِّسَاءِ وَأَطْهَرَهُنَّ.
أمرّ الافتراءات وأعظم المصائب
وَمِنْ فَعَائِلِ المُنَافِقِينَ الدَّنِيةِ إِشَاعَةُ فِرْيَةٍ عَظِيمَةٍ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ الطَّاهِرَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهُمَا، فَحَادِثَةُ الْإِفْكِ الَّتِي كَانَ الْمُنَافِقُونَ أَسَاسَ افْتِرَائِهَا وَالتَّرويج لَهَا تُعَدُّ مِنْ أَمَرَ الافْتِرَاءَاتِ، وَأَعْظَمِ المَصَائِبِ، وَأَكْبَرِ النَّوَازِلِ عَلَى المُصْطَفَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وَعَلَى زَوْجِهِ الطَّاهِرَةِ عَائِشَةَ، وَعَلَى وَالِدَيْهَا رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهُمْ، وَعَلَى المُؤْمِنِينَ، وَقَدْ رَوَت رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا التَّفَاصِيلَ المُؤْلِـمَةَ لِتِلْكَ الفِرْيَةِ العَظِيمَةِ وَالتَّهْمَةِ الشَّنِيعَةِ.
غزوة المريسيع وبداية القصة كما ترويها أم المؤمنين
فَكَانَ مِنْ خَيْرِهَا رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فِي غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ، وَفِي عَوْدَتِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعْدَ أَنْ دَنَوا مِنْهَا، بَاتُوا لَيْلَتَهُمْ، ثُمَّ نَادَى فِيهِمْ مُنَادِي الرَّحِيلِ، وَفِي خِضَمُ الزَّحَامِ وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَجَلَبَةِ الْجَيْشِ رَفَعُوا هَوْدَجَ عَائِشَةَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا عَلَى البَعِيرِ وَهُمْ يَظُنُّونَهَا فِيهِ؛ لِخِفَّةِ جِسْمِهَا، بَيْنَمَا كَانَتْ هِيَ تَبْحَثُ عَنْ عِقْدٍ لَهَا سَقَطَ مِنْهَا، فَمَضَى الجَيْشُ وَتَرَكَهَا، تَقُولُ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا: فَلَمْ يستنكرِ القَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الهَوْدَجِ، فَاحْتَمَلُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةً السِّنِّ، فَبَعَثُوا الجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي، فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ.
صفوان بن المعطل وراءالجيش
فَبَيْنَمَا هِيَ فِي حَالٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالهَمِّ والفزع، وَقَدْ أَخَذَهَا الإِعْيَاءُ وَالتَّعْبُ، إِذَا بِرَجُلٍ مِنْ خِيرَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، وَهُوَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُ الَّذِي كَانَ وَرَاءَ الجَيْشِ لِطَبيعَةِ مُهِمَّتِهِ فِي تَفَقَدِ مَتَاعِ الجَيْشِ، يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُ : كَانَ صَفْوَانُ بْنُ مُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ يَتَخَلَّفُ عَنِ النَّاسِ، فَيُصِيبُ القَدَحَ وَالْحِرَابَ والإِداوَةَ، فَإِذَا بِهِ يُفَاجَأُ بِعَائِشَةَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ ذَهَبَ الرَّكْبُ وَتَرَكَهَا. تَقُولُ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا عَنْ تِلْكَ اللَّحْظَةِ: وَوَاللَّهِ، مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ، وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، وَهَوَى حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا، فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَرَكِبْتُهَا ، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الجَيْش.
–
«استرجَاعُهُ» أَي: قَوْلُهُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
فَوَطِيَ عَلَى يَدِهَا وَطَّأَهَا وَأَنَاخَهَا، لِيَسْهُلَ الرُّكُوبُ عَلَيْهَا.
فَاسْتَغَلُّ المُنَافِقُونَ المَوْقِفَ لِمُواصَلَةِ مَكْرِهِمْ، وَمُحَاوَلَةِ قَلْبِهِمْ فِي عِرْضِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَفِي دَعْوَةِ الإِسْلَامِ، وَأَشَاعُوا تِلْكَ الفِرْيَةَ المَقِيتَةَ، وَذَلِكَ الاتِّهَامَ الحَاقِدَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ أَنَّ المُنَافِقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي هُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ.
“وَاللَّهِ، لَئِنْ حَلَفْتُ لَا تُصَدِّقُونِي، وَلَئِنِ اعْتَذَرْتُ لَا تَعْذِرُونِي، فَمَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ”
فَزِعَتْ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا عِنْدَمَا سَمِعَتِ الْخَبَرَ ، فَعَنْ مَسْرُوقِ قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ رُومَانَ -وَهِيَ أُمُّ عَائِشَةَ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا- عَمَّا قِيلَ فِيهَا مَا قِيلَ، قَالَتْ: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ عَائِشَةَ جَالِسَتَانِ، إِذْ وَلَجَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةُ مِنَ الأَنْصَارِ وَهِيَ تَقُولُ: فَعَلَ اللَّهُ بِفُلَانٍ وَفَعَلَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: لِمَ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ نَمَى ذِكْرَ الحَدِيثِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا: أَيُّ حَدِيثٍ؟ فَأَخْبَرَتْهَا. قَالَتْ: فَسَمِعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَمَا أَفَاقَتْ إِلَّا وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فَقَالَ: «مَا لِهَذِهِ؟»، قُلْتُ: حُمَّى أَخَذَتْهَا مِنْ أَجْلِ حَدِيثٍ تُحُدِّثَ بِهِ، فَقَعَدَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ، لَئِنْ حَلَفْتُ لَا تُصَدِّقُونِي، وَلَئِنِ اعْتَذَرْتُ لَا تَعْذِرُونِي، فَمَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ. وَكَانَتْ تَبْكِي رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا حَتَّى ظَنَّتْ أَنَّ البُكَاءَ يَصْدَعُ كَبِدَهَا.
وَتَصْفُ حَالَهَا رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا فَتَقُولُ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعُ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَايَ، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ البُكَاءَ فَالِقُ كَبِدِي.
سُبْحَانَ اللَّهِ! وَاللَّهِ، مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِِ الذَّهَبِ الأَحْمَرِ وَاللَّهِ، لَعَائِشَةُ أَطْيَبُ مِنْ طَيِّبِ الذَّهَبِ، وَلَكِنَّهَا تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ فَتَأْكُلُ عَجِينَهَا،
“الجارية الحبشية بريرة.”
لَقَدْ كَانَتْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا منها فِي سِنَّ مِنَ البَرَاءَةِ وَسَلَامَةِ النَّفْسِ، وَانْظُرْ إِلَى وَصْفِ جَارِيَتِهَا بَرِيرَةَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا لَهَا حَيْثُ سَأَلَهَا النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : يَا بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِبيُكِ؟»، فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةً حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنِ العَجِينِ، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ وفي رِوَايَةٍ وَاللهِ، مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا عَيْبًا، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشاةُ، فَتَأْكُلَ خَمِيرَهَا -أَوْ : عَجِينَهَا-. وَلَقَدْ وَصَفَتْهَا بَرِيرَةُ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا بِوَصْفٍ آخَرَ وَهِيَ تُدَافِعُ عَنْهَا وَتَتَحَدَّثُ عَنْ طُهْرِهَا وَنَقَائِهَا رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَاللَّهِ، مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا : إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِِ الذَّهَبِ الأَحْمَرِ. وَفِي رِوَايَةٍ : وَقَدْ سَأَلَ الجَارِيَةَ الحَبَشِيَّةَ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ، لَعَائِشَةُ أَطْيَبُ مِنْ طَيِّبِ الذَّهَبِ، وَلَكِنَّهَا تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ فَتَأْكُلُ عَجِينَهَا، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ النَّاسُ حَقًّا لَيُخْبِرَنَّكَ اللهُ. فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ فِقْهِهَا.
وَبَرِيرَةُ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِصِدْقِهَا وَحُسْنِ تَدَيُّنِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيُّ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : سَلِِ الْجَارِيَةَ [يَعْنِي: بَرِيرَةَ] تَصَدُقَكَ.
وَعِندَمَا اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَهْلُكَ، وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: «يَا زَيْنَبُ، مَا عَلِمْتِ مَا رَأَيْتِ؟»، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْرًا.»
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتَ تُسَامِينِي، فَعَصَمَهَا اللهُ بِالوَرَع. وَأَنكَرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ هَذِهِ الفِرْيَةَ الشَّنِيعَةَ، فَقَالَ: سُبْحَانَكَ! مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ تَتَكَلَّمَ بِهَذَا، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانُ عَظِيمٌ.
صفوان بن المعطل رضي الله عنه:
“سُبْحَانَ اللَّهِ! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا كَشَفْتُ عَنْ كَتَفِ أُنْثَى قَطُّ.”
لَقَدْ عَاشَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَعَاشَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا شَهْرًا كَامِلًا مِنْ أَشَدَّ الأَيَّامِ وَأَشَقَّهَا، وَلَقَدْ قَامَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَشَكُو مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَذَاهُمْ، وَيَقُولُ: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ،مَنْ يَعْدِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قد بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا ، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي) وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: ( مَا تُشِيرُونَ عَلَيَّ فِي قَوْم يَسُبُّونَ أَهْلِي؟مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُوءٍ قَطُّ) وَلَقَدْ فَزِعَ صَفْوَانُ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُ لِهَذِهِ التَّهْمَةِ البَغِيضَةِ، وَقَالَ: “سُبْحَانَ اللَّهِ! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا كَشَفْتُ عَنْ كَتَفِ أُنْثَى قَطُّ.”
أَمَّا أَمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ فَوَضَتْ أَمْرَهَا إِلَى اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ، مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾
تبرئة الله عزّ وجل لأم المؤمنين
ثُمَّ جَاءَ الفَرَجُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ عَزَّ وَجَلَّ، تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ وَاصْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةً، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّنِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللهِ مَا كُنتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلُ فِي شَأْنِي وَحَيَا يُتْلَى، لَشَأْنِي في نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِي بِأَمْرِ، وَلَكِن كُنتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا. وَإِذَا بِالنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اللهِ يُقْبِلُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ تَهَلَّلَ وَجْهُهُ الشَّرِيفُ بِالْبُشْرَى وَيَقُولُ: «يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ». وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا : بِحَمْدِ اللَّهِ، لَا بِحَمْدِ أَحَدً. لَقَدْ تَنَزَّلَ القرآنُ الكَرِيمُ يُبْطِلُ ذَلِكَ الْإِفْكَ، وَيُبَرِّئُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا وَيُخَلِّدُ طُهْرَهَا وَبَرَاءَتَهَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ؛ قال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِي مِنْهُم مَّا أَكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كَبَرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِنَّكَ مُّبِينٌ ﴾[النور:١١،١٢].
لَا يُذْكَرُ الطَّهَرُ إِلَّا قِيلَ: عَائِشَةُ
رَمَزُ لَهُ وَهُوَ نُورُ فِي مُحَيَّاهَا
نُحِلُّهَا نُطْرِبُ الدُّنْيا بِرَوْعَتِها
إِذَا انْبَرَى بِكَلَامِ السُّوءِ أَشْقَاهَا
مَا مِنْ فُؤَادٍ نَقِيٌّ طَاهِرٍ عَطِرٍ
بِفَاحِشِ الْقَوْلِ فِي أَيِّ امْرِئٍ فَاهَا
فَكَيْفَ بِالنَّيْلِ مِنْ عِرْضِ النَّبِيِّ وَمِنْ
أَبَرٌ مَنْ تَعْرِفُ الدُّنْيَا وَأَتْقَاهَا
تَقَدَّسَ اللَّهُ أَنْ يَرْضَى لِصَفْوَتِهِ
مِنْ خَلْقِهِ زَوْجَةً لِلسُّوءِ مَمْشَاهَا
بَلْ وَارْتَضَى بَيْتَهَا قَبْرًا لَهُ فَإِلَى
أَعْتَابِهِ تَعْشَقُ الْأَرْوَاحُ مَسْرَاهَا
يَبْقَى شَذَا عِلْمِهَا الزَّاكِي وَعِفَّتِهَا
عِطْرًا يُجَدِّدُ فِي الْأَرْواحِ ذِكْرَاهَا
حَبِيبَةُ الْمُصْطَفَى بُشْرَى لِمَنْ صَدَقُوا
فِي حُبِّهَا وَتَوَلَّوْا مَنْ تَوَلَّاهَا
مِنْ قَصِيدَةِ «حَبِيبَةُ الْمُصْطَفَى»
عَائِشَةُ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا وَ قِصَّةُ الإِفْكِ
حَصَانُ رَزَانُ:
كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهُ رَواهُ مِمَّنِ ابْتُلِيَ بِالْخَوْضِ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، فَتَابَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا عَفَتْ عَنْهُ، وَكَانَتْ تَأْذَنُ لَهُ بِزِيَارَتِهَا تَقْدِيرًا لِمُنَافَحَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، عَنْ مَسْرُوقِ رحمه اللَّهِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا وَعِندَهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهُ يُنشِدُهَا شِعْرًا، يُشَبِّبُ بِأَبْيَاتٍ لَهُ، وَقَالَ:
حَصَانُ رَزَانُ مَا تُزَنُّ بريبةٍ
وَتُصْبِحُ غَرَثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا: لَكِنَّكَ لَسْتَ كَذَلِكَ، قَالَ مَسْرُوقُ: فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَأْذَنِينَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكِ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: “وَالَّذِي تَوَلَّى كَبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عظيم” [النور:١١ ]؟!
فَقَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى؟! قَالَتْ لَهُ: إِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ -أَوْ : يُهَاجِي- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ ٱللَّٰهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذَاكَ، وَتَلَا -تَعْنِي: الْقُرْآنَ-، فَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَةِ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ.
شِدَّةُ وَقْعِ الْإِفْكِ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا:
لَمْ يَكُنْ وَقْعُ قِصَّةِ الإِفْكِ بِالأَمْرِ اليَسِيرِ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا، بَلْ مَرَّتْ بأشَقِّ الأَيَّامِ، وَتَعَرَّضَتْ لِأَصْعَبِ الأَزَمَاتِ، وَبَكَتْ حَتَّى كَادَ البُكَاءُ يُفَتِّتُ كَبِدَهَا، وَحَزِنَتْ حَتَّى أَشْرَفَتْ عَلَى الهَلَاكِ، وَوَصَلَ بِهَا الْهَمَّ وَالْحُزْنُ وَالْقَهْرُ إِلَى أَنَّهَا فَكَرَتْ فِي الانْتِحَارِ لَوْلَا مَخَافَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا بَلَغَنِي مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ هَمَمْتُ أَنْ آتِيَ قَلِيبًا فَأَطْرَحُ نَفْسِي فِيهِ.
[ كتاب | عائشة أم المؤمنين بستان العلم الدّين ]
هذا أبو أيُّوبَ خالِدُ بنُ زيدٍ قالت له امرأتُه أمُّ أيُّوبَ: يا أبا أيُّوبَ، ألا تسمَعُ ما يقولُ النَّاسُ في عائشةَ؟ قال: بلى، وذلك الكَذِبُ. أكنتِ أنتِ يا أمَّ أيُّوبَ فاعِلةً ذلك؟ قالت: لا واللهِ ما كنتُ لأفعَلَه! قال: فعائشةُ واللهِ خيرٌ منك .
(وهكذا المُؤمِنون الأطهارُ الأخيارُ، يبنون أمورَهم على حُسْنِ الظَّنِّ بالنَّاسِ)