لم يَشْهَدْ بدراً، لأنه كان يومئذ صغيراً جدًا، ولم يُكْتَبْ له شَرَفُ الإسهام في أحدٍ، لأنَّه كان ما يَزالُ دونَ حَمْلِ السلاح.
لكِنَّه شَهِدَ بَعْدَ ذلك المشاهِدَ كُلَّها مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكان له في كُلِّ منها راية عز، وصحيفة مجد، ومَوْقِفُ فداء.
غير أن هذه المشاهِدَ على عَظَمَتِها وَرَوْعَتِها لم تكن في حقيقتها سوى إعدادٍ ضَخْم لِلْمَوْقِفِ الكبير الذي سَنَسوق لك حديثه، والذي سَيَهزُّ ضميرك في عُنْفٍ، كما هَزَّ ضمائر ملايين المسلمينَ مُنْذُ عَصْرِ النبوَّة إلى يومنا الذي نحن فيه، والذي سَتَروعُك قِصَّتُه كما راعَتْهُمْ على مر العصور؛ فتعالَ نَسْتَمِعُ إلى قصته منذ بدايتها.
” حبيب بن زيــد رضي الله عنه”
في بيتٍ تَتَضَوَّعُ طُيوبُ الإِيمَانِ فِي كلِّ رُكْنٍ من أَرْكَانِه، وتلوحُ صور التضحية والفداء على جبين كلِّ ساكِنٍ من سكانه، نشأ حبيب بن زيد الأنصاري ودَرَجَ.
فأبوه هو زيد بن عاصم طليعة المسلمين في يَثْرِبَ ، وأَحَدُ السبعين الذين شهدوا العقبة، وشدُّوا على يَدَيْ رسولِ اللهِ مُبايعين ومعه زوجته وولداه .
وأمه هي أم عَمارَةَ نَسِيبَةُ المازِنِيَّةُ، أول امرأةٍ حَمَلَتْ السلاحَ دِفاعاً عن دينِ الله، وذياداً عن محمد رسول الله.
وأخوه هو عَبْدُ اللهِ بن زيد، الذي جَعَلَ نَحْرَه دونَ نَحْرِ النبيِّ وصَدْرَه دونَ صَدْرِه يومَ أُحُدٍ.
حتى قال فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه: ( بارَكَ اللهُ عليكم مِنْ أهل بيت، رحمَكُمُ اللَّهُ مِنْ أهل بيت ).
نفذ النور الإلهي إلى قلبِ حبيب بن زيد وهو غض طري فاسْتَقَرَّ فيه وتَمَكَّن منه، وكتب له أن يمضي مع أمه وأبيه وخالته وأخيه إلى مَكَّةَ لِيُسْهِمَ مع النَّفَرِ السبعين من الغُرِّ الميامين في صُنْعِ تاريخ الإسلام؛ حيث مَدَّ يَدَهُ الصغيرة وبايع رسول الله تحت جنح الظلام بيعةَ العَقَبَةِ.
ومنذ ذلك اليوم غدا رسولُ اللهِ صلوات الله وسلامه عليه أحب إليه من أمه وأبيه، وأصبحَ الإسلامُ أعْلَى عِنْدَه من نَفْسِه التي بين جنبيه.
لم يَشْهَدْ حبيب بن زيد بدراً، لأنه كان يومئذ صغيراً جدًا، ولم يُكْتَبْ له شَرَفُ الإسهام في أحدٍ، لأنَّه كان ما يَزالُ دونَ حَمْلِ السلاح.
لكِنَّه شَهِدَ بَعْدَ ذلك المشاهِدَ كُلَّها مع رسولِ اللهِ، فكان له في كُلِّ منها راية عز، وصحيفة مجد، ومَوْقِفُ فداء.
غير أن هذه المشاهِدَ على عَظَمَتِها وَرَوْعَتِها لم تكن في حقيقتها سوى إعدادٍ ضَخْم لِلْمَوْقِفِ الكبير الذي سَنَسوق لك حديثه، والذي سَيَهزُّ ضميرك في عُنْفٍ، كما هَزَّ ضمائر ملايين المسلمينَ مُنْذُ عَصْرِ النبوَّة إلى يومنا الذي
نحن فيه، والذي سَتَروعُك قِصَّتُه كما راعَتْهُمْ على مر العصور؛ فتعالَ نَسْتَمِعُ إلى هذه القصة العنيفة من بدايتها.
في السنة التاسعة للهِجْرَةِ كان الإسلامُ قد صَلُبَ عوده، وقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ وَرَسَخَتْ دَعائِمه، فطَفِقَتْ وفود العرب تَشُدُّ الرحال من أنحاء الجزيرة إلى يَثْرِبَ لِلقاءِ رسول اللهِ صلوات الله وسلامه عليه، وإعلان إسلامها بينَ يديه، ومبايَعَتِهِ على السَّمْعِ والطَّاعة.
وكان في جُمْلَةِ هذه الوفود وفد بني حنيفَةَ القَادِمُ مِنْ أَعالي نَجْدٍ.
أناخ الوفد جماله في حواشي مدينة رسول الله ﷺ ، وخلَّفَ على رحاله رجلًا منهم يُدعى مُسيلِمَةَ بن حبيب الحنفي، ومَضَى إلى النبي ﷺ وأعلن إسلامه وإسلام قومِه بَيْنَ يديه؛ فأكرم الرسول صلوات الله وسلامه عليه وَفادَتَهُم، وأمَرَ لِكُلِّ منهم بِعَطِيَّةٍ، وأمَرَ لصاحبهم الذي خَلَّفُوه في رِحَالِهِم بِمِثْلِ ما أَمَرَ لهم به.
لم يكد يَبْلُغُ الوَفْدُ مَنَازِلَه في نجدٍ حَتَّى ارتَدَّ مُسَيْلِمَةُ بن حبيبٍ عن الإسلام ، وقام في الناس يُعلن لهم أَنَّه نبي مُرْسَلٌ أرسله اللهُ إلى بني حنيفة، كما أرْسَلَ محمد بن عبدِ الله إِلَى قريش، فَطَفِقَ قَوْمُه يَلْتَفُون حوله مدفوعين إلى ذلك بِدَوافِعَ شَتَّى كَان أَهَمُّها العَصَبِيَّة؛ حتى إن رجلا من رجالاتهم قال:
أَشْهَدُ أنَّ محمداً لصادق وأنَّ مُسَيْلَمةَ لكذَّابٌ، ولكنَّ كذَّابَ ربيعة أَحبُّ إليَّ من صادِقِ مُضَر .
ولما قَوِيَ ساعِدُ مُسيلمة وغَلُظَ أمره كَتَبَ إِلى رسولِ الله ﷺ كتاباً جاء فيه:
من مُسَيْلِمَةَ رسولِ الله إلى محمد رسول الله سلام عليك
أما بَعْدُ:
(فإنّي قد أُشْرِكْتُ في الأَمْرِ مَعَكَ، وإِنَّ لَنا نِصْفَ الأَرضِ و لقُرَيْشٍ نصف الأرض، ولكن قريشاً قومٌ يَعْتَدون).
وبَعَثَ الكِتَابَ مع رَجُلَيْنِ من رجاله فلما قُرىء الكتاب للنبي عليه الصلاة والسلام
قال للرجلين: وما تقولان أنتما؟
فأجابا: نقولُ كما قال.
فقال لهما: أمَا وَ الله لولا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لضربتُ عُنُقِيكُما، ثم كتب إلى مسيلمة رسالة جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
( من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السّلامُ على من اتَّبَع الهُدَى، أَمَّا بعدُ: فإِنَّ الأرضَ للهِ يُورِثُها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)
وبَعَثَ الرسَالةَ مع الرجلين.
ازدادَ شَرٌّ مسيلمة الكذابِ واسْتَشْرى فساده، فَرَأَى الرسول صلوات الله عليه أن يَبْعَثَ إليه برسالةٍ يَزْجُرُه فيها عن غَيَّه، ونَدَبَ لِحَمْل الرسالة بطل قصَّتنا حبيب بن زيد.
وكان يومئذٍ شاباً ناضِرَ الشَّبابِ، مُكْتَمِلَ الفَتَاءِ، مُؤْمِناً مِن قِمَّةِ رَأْسِهِ إِلى أخمص قدميه.
مَضَى حبيب بن زيد إلى ما أمَرَه رسولُ اللهِ ﷺ غَيْرَ وَانٍ ولا مُتَرَيب، تَرْفَعُهُ النّجادُ وتَحُطُّهُ الوِهادُ، حتى بلغ ديار بني حنيفة في أعالي نجد، ودَفَعَ الرسالة إلى مسيلمة؛
فما كاد مسيلمةُ يَقِفُ على ما جاء فيها حتى انْتَفَحَ صَدْرُه ضغينَةً وحِقْداً، و بدا الشر والغَدْرُ على قَسَماتِ وجهه الدميم الأصْفَرِ، وأَمر بحبيب بن زيد أن يُقيَّد، وأن يُؤتى به إليه ضُحَى اليوم التالي.
فلما كانَ الغَدُ تَصدَّر مُسَيْلِمَةُ مَجْلِسَهُ، وجَعَل عن يمينه وعن شماله الطَّوَاغِيتَ من كبار أتباعه، وأذِنَ للعامة بالدخول عليه، ثم أمر بحبيبِ بنِ زيد فجيء به إليه وهو يَرْسُفُ في قيوده.
وقف حبيب بن زيدٍ وَسْطَ هذه الجموع الحاشِدَةِ الحاقدة مشدود القامةِ، مرفوع الهامة، شامِخَ الأنف، وانتَصَبَ بَيْنَهم كَرُمْح سَمْهَرِيّ، أَحْكَمَ المُتَقْفُونَ تَقويمه.
فالتفت إليه مسيلمة وقال: أَتَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسولُ الله؟
فقال: نعم أشهد أن محمداً رسول الله.
فَتَمَيَّز مسيلمة غَيْظاً وقال: وتَشْهَدُ أني رسولُ اللهِ؟
فقال حبيب في سُخْرِيَةٍ لاذِعَةٍ: إِنَّ فِي أُذُنَيَّ صمماً عن سماع ما تقولُ .
فامْتُقِع وجه مسيلمة، وارتَجَفَتْ شفتاه حَنَقاً وقال لجلادِه:
اقطع قطعةً من جَسَدِه
فَأَهْوَى الجلاد على حبيبٍ بسيفه وبتر قطعة من جسده فتدحرجت على الأرض؛
ثم أعاد مسيلمة عليه السؤالَ نَفْسَه: أَتشْهَدُ أَنَّ محمداً رسولُ الله؟
قال: نعم أَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسولُ الله.
قال: وتَشْهَدُ أَني رسولُ الله؟
قال: قلت لك: إن في أذني صمماً عن سماع ما تقول.
فأمر بأنْ تُقْطَعَ من جَسَدِهِ قِطْعَةٌ أُخْرَى فَقُطِعَتْ، وتَدَحرَجَتْ على الأرض حتى استَوَتْ إلى جانب أُخْتِها، والناسُ شاخصون بأبصارهم إليه، مذهولون من تَصْمِيمِه وعِنَادِه.
ومَضَى مسيلمة يَسْأَلُ، والجلاد يقطعُ، وحبيب يقول:
أشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله، حتى صار نحو من نِصْفِهِ بِضَعاً مُقَطَّعَةً منثورةً على الأرض، ونصفه الآخرُ كُتلة تتكلم.
ثم فاضت روحه، وعلى شفتيه الطاهِرَتين اسم النبي الذي بايعه ليلةَ العقبة، اسم محمد رسول الله ﷺ.
نعى الناعي حبيب بن زيدٍ إلى أمه نسيبة المازنية فما زادَتْ على أن قالت:
من أجل مِثْلِ هذا المَوْقَفِ أَعْدَدْته، وعند الله احتَسَبتُه.
لقد بايع الرسول ﷺ ليلة العقبة صغيرًا، وَوَفَّى له اليوم كبيراً، ولَئن أمكنني اللهُ من مُسَيْلِمَةَ لأَجْعَلَن بناتِه يَلْطِمْنَ الخدود عليه.
لم يبطء اليوم الذي تَمَنَّتْه نسيبة كثيراً،
حيث أذن مؤذن أبي بكر في المدينةِ أَنْ حَيَّ على قتال المتنبىء الكذَّابِ مسيلمة.
فمضى المسلمون يَحُدُّون الخُطى إلى لقائه، وكان في الجيش نسيبة المازِنِيَّةُ وولدها عبد الله بن زيد.
وفي يوم اليمامَةِ الأغْرِّ، شوهِدَت نسيبَةُ تَشُقُّ الصفوف كاللبؤة الثائِرَةِ وهي تنادي:
أين عدو الله؟ دلوني على عدو الله.
فلما انتهت إليه، وَجَدَتْه مُجَدَّل على الأرْضِ وسيوفُ المسلمينَ تَنْهَلُ من دمائه؛ فطابت نفساً، وقرت عيناً.
ولم لا؟!
ألم ينتقم اللهُ جَلَّ وعزَّ لفتاها البَرِّ التَّقِيِّ من قاتله الباغي الشَّقي؟!
بَلَى
لقد مَضَى كلٌّ منهما إلى رَبِّه ولكِنْ!
فريق في الجنَّة، وفريق في السعير.
صور من حياة الصحابة | عبدالرحمن رأفت باشا